بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
قال الإمام أبو داود رحمه الله في سننه:
باب إذا أنكح الوليان.
2088- حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام، ح وحدثنا محمد بن كثير، أخبرنا همام، ح وحدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد المعنى، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما، وأيما رجل باع بيعًا من رجلين فهو للأول منهما».
(الشرح)
قَالَ المؤلف رحمه الله تعالى: (بابٌ إذا أنكح الوليان) يَعْنِي: إذا عقد اثنان من الأولياء عَلَى امرأة فأيهما يكون الولي؟ إذا زوج وليان وكانا متساويين كالإخوة أو الأبناء مثلًا أيهما تزويجه معتبر؟ المؤلف رحمه الله لم يجزم بالحكم لوجود كلام لأهل العلم, والحديث سمرة هذا أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة, قَالَ الترمذي: هذا حديث حسن.
والحديث فيهِ: «أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما، وأيما رجل باع بيعًا من رجلين فهو للأول منهما» السابق هو المعتبر, هذا إذا كَانَا متساويين في الدرجة, كالإخوة, أبناء الإخوة, الأعمام, أبناء الأعمام, فلو كَانَ امرأة وليها ابناها الاثنان أو أخواها الاثنان أو أبناء أخيها, أو ابني عمها وزوجاها فَإِن العبرة بالسابق ما دام متساويين في الدرجة, أما إذا كَانُوا ليسوا في درجة واحدة, يزوج اِبْن الأخ مع وجود الأخ فلا يعتبر اِبْن الأخ, الأخ مقدم الأخ مع وجود الأب فلا يعتبر تزويج الأخ مع وجود الأب؛ لِأَنَّهُ أسبق منه في الدرجة, لَكِنْ إذا كَانُوا متساويين في الدرجة كلهم إخوة أشقاء فاثنان زوجا امرأة عقد هذا وعقد هذا فالعبرة بالأول, الأول هو الذي يصح عقده والثاني نكاحه باطل, وَكَذَلِكَ إذا باع سلعة من رجلين فهي للأول منهما والثاني بيعه باطل.
الذي دل عليه الحديث معناه صحيح لَكِنْ الحديث هذا ضعيف السند لِأَنّ فيهِ عنعنة قتادة, وفيه سماع الحسن عن سمرة, والمشهور أن الحسن لم يسمع من سمرة إِلَّا حديث العقيقة, في خلاف:
قيل: سمع منه مطلقًا.
وقيل: لم يسمع منه مطلقًا.
وقيل: سمع منه حديث العقيقة.
فالحديث ضعيف السند لَكِنْ معناه صحيح وهذا هو الذي عليه العمل عند أهل العلم, ومن قَالَ ذلك الترمذي رحمه الله لما أخرج الحديث قَالَ: والعمل عليه عند أهل العلم لا نعلم بينهم في ذلك اختلافًا, فإذا زوج أحد الوليين قبل الآخر فنكاح الأول جائز ونكاح الآخر منسوخ, وإذا زوجا جميعًا فنكاحهما جميعًا منسوخ, لو زوجا في وقت واحد يكون باطل, وهو قول الثوري, وأحمد, وإسحاق؛ هذا كلام الترمذي رحمه الله وهذا هو الصحيح.
فإذا مثلًا زوج العم وابن العم امرأة فالعبرة بتزويج العم, وإذا زوج الأخ الشقيق والأخ لأب فالعبرة للأخ الشقيق, لَكِنْ إذا كانا في درجة واحدة كلهم إخوة أشقاء أو كلهم أبناء أو كلهم أبناء أخ أو أبناء عم, فالأول هو الذي نكاحه صحيح والثاني نكاحه باطل؛ فهذا هو الذي دلت عليه نصوص الشريعة وهو الذي اجمع عليه أهل العلم, أما الحديث هذا فسنده ضعيف.
(المتن)
باب قوله تعالى {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن}[النساء/19].
2089 -حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا الشيباني، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الشيباني، وذكره عطاء أبو الحسن السوائي، ولا أظنه إلا عن ابن عباس، في هذه الآية {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن}[النساء/19] قال: «كان الرجل إذا مات كان أولياؤه أحقَ بامرأته من ولي نفسها: إن شاء بعضهم زوجها أو زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها فنزلت هذه الآية في ذلك».
2090- حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي، حدثني علي بن حسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة}[النساء/19] «وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها، فأحكم الله عن ذلك ونهى عن ذلك».
2091- حدثنا أحمد بن شبويه المروزي، حدثنا عبد الله بن عثمان، عن عيسى بن عبيد، عن عبيد الله، مولى عمر، عن الضحاك بمعناه قال: فوعظ الله ذلك.
(الشرح)
هَذِه الترجمة في تفسير هَذِه الآية باب قول الله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ}[النساء/19].
ذكر المؤلف حديث: (عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الشيباني، وذكره عطاء أبو الحسن السوائي، ولا أظنه إلا عن ابن عباس) في هذه الآية {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ}[النساء/19]؛ قال: «كان الرجل إذا مات كان أولياؤه أحقَ بامرأته من ولي نفسها: إن شاء بعضهم زوجها أو زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها فنزلت هذه الآية في ذلك».
الحديث صحيح أخرجه البخاري والنسائي, وهذا الحديث للشيباني فيهِ طريقين:
أحدهما: موصولة عن عكرمة عن اِبْن عباس.
الثانية: مشكوك في وصلها, وهي عطاء أبو الحسن السوائي عن اِبْن عباس.
أبو الحسن كنيته عطاء, وفيه: بيان ما كَانُوا عليه في الجاهلية وفي أول الإسلام, قَالَ: «كان الرجل إذا مات كان أولياؤه أحقَ بامرأته من ولي نفسها: إن شاء بعضهم زوجها أو زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها فنزلت هذه الآية في ذلك».
وفي الحديث الذي بعده أيضًا عن اِبْن عباس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}[النساء/19].
«وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها، فأحكم الله عن ذلك ونهى عن ذلك».
وفي الرواية الَّتِي بعدها: (حدثنا أحمد بن شبويه المروزي، حدثنا عبد الله بن عثمان، عن عيسى بن عبيد، عن عبيد الله، مولى عمر، عن الضحاك بمعناه) قال: «فوعظ الله ذلك» وذلك أنهم كَانُوا في الجاهلية يعضلون النساء, فكان الرجل إذا مات كَانَ أولياء الرجل أحق بالمرأة من نفسها ومن أوليائها فيرثونها, يرثون زوجة المتوفى, إن شاء بَعْضُهُم تزوجها إن كَانَ جميلة وإن لم يزوجوها عضلوها, فيتركوها حتى تموت أو ترد إليهم الصداق, فالله تعالى نهى عن ذلك في هَذِه الآية قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}[النساء/19].
«فوعظ الله ذلك» المراد بالوعظ: النهي, أي نهى عن ذلك, والخطاب للأولياء, قوله: {أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ} يَعْنِي: أموال النساء, قَالَ بَعْضُهُم: إن الخطاب للأزواج لِأَنَّهُ رُئي أن الرجل كَانَ إذا لم يكن له في المرأة غرض أمسكها حتى تموت فيرثها أو تفتدي بمالها إن لم تمت, وقيل: الخطاب للأولياء, الأولياء: أقرباء الميت, «فأحكم الله عن ذلك» أي منعه, أحكمت: أي منعت.
قوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} يَعْنِي: عن النكاح إن كَانَ الخطاب للأولياء, أو لا تعضلوهن من الطلاق إن كَانَ الخطاب للأزواج.
قوله: {لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}[النساء/19]؛ فكانوا في الجاهلية هكذا يظلمون المرأة ويعضلونها فإذا مات الزوج استولى عليها أوليائه, وكان بَعْضُهُم في الجاهلية إذا مات الزوج جاء أحد أوليائه ووضع عليها ثوبًا كأنه يحميها فيكون أحق بها من نفسها أو من وليها إن شاء تزوجها, وإن شاء زوجها, وإن شاء عضلها, إن كانت جميلة تزوجها, وإن كانت ذميمة تركها, وإن كانت ذات مال كذلك يتركها حتى تموت أو تفتدي منه, فهذا ظلم, وكان هذا في أول الإسلام حتى أنزل الله هَذِه الآية.
«فأحكم الله عَلَى ذلك ونهى عنه» وأنقذ الله تعالى المرأة من ظلم الجاهلية وكرمها وجعلها حرة هي أولى بنفسها وترجع إِلَى أوليائها, فإذا مات الزوج كانت هي أحق بنفسها ولم يرث بضعها أحد, وليس البضع كالمال فينتقل بالميراث.
استنبط بعض العلماء كما قَالَ اِبْن القيم من الآية أَنَّه لا يحل للرجل أن يُمسك امرأته ولا أرب له فيها طمعًا أن تموت فيرث مالها.
من الآثار أيضًا الذي رواه الطبري عن اِبْن عباس: كَانَ الرجل إذا مات وترك امرأة ألقى عليها ثوبًا فمنعها من الناس, فَإِن كانت جميلة تزوجها, وإن كانت ذميمة حبسها حتى تموت ويرثها, رواه الطبري أيضًا من طريق الحسن, قَالَ: كَانَ الرجل يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه الصداق, وزاد السُدي: إن سبق الوارث فألقى عليها ثوبه كَانَ أحق بها, وإن سبقت هي إِلَى أهلها فهي أحق بنفسها, كل هذا من الآصار والأغلال والظلم الذي كَانَ عليه أهل الجاهلية.
(المتن)
باب في الاستئمار.
2092- حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا أبان، حدثنا يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنكح الثيب حتى تُستأمر، ولا البكر إلا بإذنها, قالوا: يا رسول الله، وما إذنها قال: أن تسكت».
(الشرح)
قَالَ المؤلف رحمه الله: (بابٌ في الاستئمار) يَعْنِي: أخذ الْأَمْرِ من المرأة الَّتِي يُراد تزويجها, ذكر المؤلف حديث أبي هريرة أن النَّبِيِّ r قَالَ: «لا تنكح الثيب حتى تُستأمر، ولا البكر إلا بإذنها, قالوا: يا رسول الله، وما إذنها قال: أن تسكت».
هذا الحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم, والترمذي والنسائي وابن ماجة, قوله: «لا تنكح الثيب» قيل: للنهي, وقيل للنفي, ولا منافاة بينهما, الثيب: هي الَّتِي فارق زوجها بموت أو طلاق, والبكر: هي الَّتِي لم يسبق لها زواج, وفي رواية البخاري: «لا تُنكح الأيم» بدل الثيب.
قوله: «حتى تُستأمر» يَعْنِي: طلب الْأَمْرِ, المعنى: لا يثعقد عليها حتى يُطلب الْأَمْرِ منها ويؤخذ من قوله: لا تُستأمر أَنَّه لا يُعقد إِلَّا بعد أن تأمر بِذَلِكَ, وليس فيهِ دليل عَلَى عدم اشتراط الولي في حقها بل فيهِ إشعار اشتراطه, «ولا البكر إلا بإذنها» يَعْنِي: لا تنكح البكر أيضًا إِلَّا بإذنها, في البخاري: «لا تُنكح البكر حتى تُستأذن» يؤخذ من الحديث أن هناك فرقٌ بين البكر والثيب من جهة أن الاستئمار الثيب قَالَ: «حتى تُستأمر» والاستئمار يدل عَلَى تأكيد المشاورة وجعل الْأَمْرِ إِلَى المستأمرة, وهذا يحتاج إِلَى صريح إذنها في العقد لابد أن تصرح, فإذا صرحت بالمنع امتنع اتفاقًا, والبكر بخلاف ذلك.
قوله: «والبكر إِلَّا بإذنها» والإذن دائرٌ بين القول وبين السكوت, بخلاف الْأَمْرِ فَإِنَّهُ صريح في القول, الثيب: لابد من القول, وأما البكر فلابد من الإذن والإذن دائرٌ بين القول وبين السكوت, فَإِن تكلمت وقالت: أوافق, هذا لا بأس بِهِ, وإن سكتت فالسكوت هو إذن, لِأَنّ البكر تستحي أن تفصح, ولهذا قَالَ في البخاري: «قالوا: يا رسول الله، كيف إذنها؟ قال: أن تسكت».
وهنا قَالَ: «قالوا: يا رسول الله، وما إذنها؟ قال: أن تسكت» أي إذنها سكوتها.
(المتن)
2093- حدثنا أبو كامل، حدثنا يزيد يعني ابن زريع، ح وحدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد المعنى، حدثني محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها» والإخبار في حديث يزيد. قال أبو داود: وكذلك رواه أبو خالد سليمان بن حيان، ومعاذ بن معاذ، عن محمد بن عمرو.
2094- حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا ابن إدريس، عن محمد بن عمرو، بهذا الحديث بإسناده زاد فيه قال: «فإن بكت أو سكتت» زاد بكت قال أبو داود: وليس بكت بمحفوظ وهو وهم في الحديث الوهم من ابن إدريس أو من محمد بن العلاء. قال أبو داود: ورواه أبو عمرو ذكوان، عن عائشة قالت: «يا رسول الله، إن البكر تستحي أن تتكلم؟ قال: سكاتها إقرارها».
(الشرح)
هذا الحديث أخرجه الترمذي والنسائي, وقال الترمذي: حديث حسن, الحديث في اليتيمة, هل تُستأمر اليتيمة في نفسها؟ واليتيمة هي الصغيرة الَّتِي لا أب لها, والمراد هنا: البكر البالغة, سماها يتيمة باعتبار ما كانت في قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ}[النساء/2]؛ وإلا فلا يمكن أن تزوج اليتيمة التي فقدت أباها وهي دون البلوغ, لا تزوج حتى تبلغ وتُستأمر؛ لِأَنَّهَا إذا كانت صغيرة كيف تُستأمر!
والسبب في التسمية مراعاة حقها والشفقة عليها في تحري النكاح والصلاح؛ لان اليتيم مظنة الرأفة والرحمة, ثم هي قبل البلوغ لا معنى لإرادتها ولا إيمائها, كونها أبت أو وافقت قبل البلوغ لا يعتبر؛ لِأَنَّهَا غير مكلفة, ولا يجوز لوليها أن يزوجها دون البلوغ هذا خاص بالأب أن يزوج الصغيرة إذا خشي فوات الكفء, أما غير الأب من الأولياء ليس لها أب ولها أخ فلا يجوز أن يزوجها حتى تبلغ ويأخذ إذنها, كما في هَذِه الأحاديث: «تستأمر اليتيمة في نفسها» يَعْنِي: يؤخذ أمرها, «فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها».
فكأن النَّبِيِّ r شرط بلوغها, ومعناه: لا تُنكح حتى تبلغ فتُستأمر, يَعْنِي: تُستأذن, «وإن أبت فلا جواز عليها» يَعْنِي: فلا تعدي عليها, ولا إجبار, قَالَ الخطابي: اليتيمة هنا هي البكر البالغة الَّتِي مات أبوها قبل بلوغها, فلزمها اسم اليتم فدُعيت بِهِ وهي بالغة, والعرب ربما دعت الشيء باسمه الأول الذي سمي بِهِ لمعنى متقدم ثم ينقطع.
وقد اختلف العلماء في جواز إنكاح غير الأب للصغيرة:
قَالَ الشافعي: لا يزوجها غير الأب والجد, ولا يزوجها الأخ ولا العم ولا الوصي.
وقال الثوري: لا يزوجها الوصي.
وقال حماد ومالك بْنُ أنس: للوصي أن يزوج اليتيمة قبل البلوغ, وروي ذلك عن شريح لَكِنْ هذا ضعيف.
وقال أصحاب الرأي: لا يزوجها الوصي حتى يكون وليًا لها, وللولي أن يزوجها وإن لم يكن وصيًا.
الترمذي رحمه الله حذا اختلاف العلماء في هذا الحديث قَالَ بعد إخراج هذا الحديث: اختلف أهل العلم في تزويج اليتيمة فرأى بعض أهل العلم أن اليتيمة إذا زُوجت فالنكاح موقوف حتى تبلغ, يَعْنِي: لو زوجها غير الأب فإنها يبقى النكاح موقوفًا, فَإِن أحبت النكاح مضى وإلا فُسخ.
قَالَ: فالنكاح موقوف حتى تبلغ فإذا بلغت فلها الخيار في إيجاز النكاح أو فسخه, وهو قول بعض التابعين وغيرهم, وقال بَعْضُهُم: لا يجوز نكاح اليتيمة حتى تبلغ, ولا يجوز لها الخيار في النكاح وهو قول سفيان الثوري والشافعي وغيرهما من أهل العلم, قَالَ أحمد وإسحاق: إذا بلغت اليتيمة تسع سنين فزُوجت فرضيت فالنكاح جائز ولا خيار لها أدركت, واحتج بحديث عائشة: «أن النَّبِيِّ r بنى بها وهي بنت تسع سنين» قد قالت عائشة رضي الله عنها: «إذا بلغت تسع سنين فهي امرأة» هذا كلام الترمذي, حكى الخلاف في هذا والخلاف أيضًا في غير اليتيمة كما في الحديث الآخر: «لا تُنكح الأيم حتى تُستأمر ولا البكر حتى تُستأذن».
نقل الخطابي في معالم السنن الخلاف لأهل العلم قَالَ: ظاهر الحديث يدل عَلَى أن البكر إذا أُنكحت قبل أن تُستأذن فتصمت أن النكاح باطل, كما يبطل نكاح الثيب قبل أن تُستأمر فتأذن بالقول, وإلى هذا ذهب الأوزاعي, وسفيان الثوري, وهو قول أصحاب الرأي, وقال مالك بْنُ أنس وابن أبي ليلي والشافعي وأحمد وإسحاق: نكاح الأب للبكر البالغ جائز إن لم تُستأذن, ومعنى استئذانها إِنَّمَا هو عندهم عَلَى استطابة النفس دون الوجوب كما جاء في الحديث باستئمار أمهاتهن وليس ذلك بشرط بصحة العقد.
هَذِه المسألة عند الشافعية والحنابلة: أن الأب له أن يزوج البكر ولو لم يستأذنها, قالوا: لِأَنَّهُ كامل الشفقة, وأما غيره من الأولياء فلابد من الاستئذان, وحملوا قوله عَلَى الاستئذان عَلَى استطابة النفس, وَلَكِن ظاهر الحديث أَنَّه لابد من استئذان البكر سواء من الأب أو غيره.
قَالَ اِبْن القيم رحمه الله: وهذا هو الذي ندين الله بِهِ؛ وهو صريح الحديث: «لا تُنكح الثيب حتى تُستأمر ولا البكر حتى تُستأذن» واليتيمة كما في الحديث الذي بعده كذلك ليس لوليها أن يزوجها حتى يبلغ ويستأمرها.
قوله: حدثنا ابن إدريس، عن محمد بن عمرو، بهذا الحديث بإسناده زاد فيه قال: «فإن بكت أو سكتت» زاد بكت قال أبو داود: (وليس بكت بمحفوظ وهو وهم في الحديث الوهم من ابن إدريس أو من محمد بن العلاء) هذا هو الصواب؛ لِأَنّ البكاء ليس إذنًا بل هو امتناع, الصواب: كما قَالَ أبو داود.
قال أبو داود: ورواه أبو عمرو ذكوان، عن عائشة قالت: «يا رسول الله، إن البكر تستحي أن تتكلم؟ قال: سكاتها إقرارها» هذا ذكره معلقًا وقد أخرجه البخاري ومسلم والنسائي مسندًا.
فإن قيل: (...)؟.
إذا خطبها الخاطب يخبرها عن الخاطب ومن هو, ويبين صفاته ويشير عليها لَكِنْ لا يلزمها فَإِن وافقت عقد عليها.
(المتن)
2095- حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن إسماعيل بن أمية، حدثني الثقة، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آمروا النساء في بناتهن».
(الشرح)
هذا الحديث ضعيف؛ لِأَنّ فيهِ مجهول قَالَ: (حدثني الثقة) ومعنى: «آمروا النساء في بناتهن» يَعْنِي: شاوروهن في تزويجهن, الأم يشاورها الأب, الأب هو الذي يزوج والأم تشاور, فهذا لو صح فمعناه من باب استطابة النفس فهو يشاورها وهو أدعى إِلَى الألفة حتى لا يقع هناك خلاف بينه وبين أمها ثم يصل الخلاف بينه وبين زوجها, فَإِن الأم إذا لم ترضى قد تغير ابنتها عَلَى زوجها, فهذا من باب استطابة النفس لو صح ومعناه حسن وإن كَانَ الحديث ضعيف؛ لِأَنّ البنات إِلَى الأمهات أميل وتسمع قول أمها أكثر, فلهذا الاستطابة مطلوبة وينبغي أن يكون هناك مشاورة بين الأب والأم ولا يكون هناك استبداد من الأب, وَلَكِن ليس معنى ذلك أن الأب يرضخ لقول أمها إذا كانت لا تريد مثلًا من يُرضى دينه وخُلقه, الكلمة للأب كما قَالَ النَّبِيِّ r: «إذا أتاكم من ترضون دينه وخُلقه فزوجوه».
ولأن الأم أيضًا تعلم من حال ابنتها ما لا يعلمه الأب, قد يكون هناك أمرٌ لا يصلح معه النكاح من علة تكون بها أو سبب يمنع من الوفاء بحقوق النكاح فلابد من المشاورة.
الثيب لا إشكال في أنها تُستأذن, والبكر هي الَّتِي فيها الخلاف, يَعْنِي: لا يجوز للأب ولا لغيره أن يزوج الثيب إِلَّا بإذنها, وأما البكر ففيها الخلاف, والجمهور عَلَى أن البكر كذلك لابد من استئذانها, والحنابلة والشافعية يقولون: الأب كامل الشفقة له أن يزوج البكر ولو لم يستأذنها, اِبْن القيم رحمه الله في زاد المعاد أطال في هذا وقال: هذا خلاف سنة, والذين ندين الله بِهِ أَنَّه لا يجوز للأب أن يزوج البكر إِلَّا بإذنها, عملًا بحديث النَّبِيِّ r.