بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
يقول الإمام أبو داود رحمه الله تعالى في سننه:
بابٌ في البكر يزوجها أبوها ولا يستأمرها.
2096- حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا حسين بن محمد، حدثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، «أن جارية بكرًا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم».
2097- حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث. قال أبو داود: لم يذكر ابن عباس وكذلك رواه الناس مرسلًا معروف.
(الشرح)
قَالَ المؤلف رحمه الله: (بابٌ في البكر يزوجها أبوها ولا يستأمرها) ذكر حديث اِبْن عباس: «أن جارية بكرًا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم» هذا الحديث أخرجه اِبْن ماجة وأبو داود مرسلًا, لهذا قَالَ المؤلف: (حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث) عن عكرمة وليس فيهِ اِبْن عباس, فهو مرسل, قال أبو داود: (لم يذكر ابن عباس) يَعْنِي: أسقط اِبْن عباس فيكون الحديث مرسل عن عكرمة, (وكذلك رواه الناس مرسلًا معروف) أي إرساله معروف, فالمؤلف جزم بأن الحديث مرسل والمرسل ضعيف.
ورواية جرير بْنُ حازم عن أيوب مرفوع, ورواية محمد بْنُ عبيد مرسل, والمؤلف قَالَ: هكذا رواه الناس مرسلًا, والمؤلف جرى عَلَى المتقدمين وأنه إذا كَانَ الحديث مرسلًا ومرفوعًا فَإِنَّهُ يقدم قول الأحفظ, وأما المتأخرون كالحافظ بْنُ حجر وغيره فإنهم يقولون: إن الزيادة من الثقة مقبولة, فيقولون: إن الحديث هذا صحيح والإعلان بالإرسال يقولون: لا وجه له؛ لِأَنّ من وصل مقدمٌ عَلَى من أرسل؛ لِأَنّ معه زيادة علم خفيت عَلَى من أرسله, ولأن الزيادة من الثقة مقبولة, هكذا المتأخرون كالخطيب البغدادي والحافظ بْنُ حجر كذلك في النخبة قَالَ الحافظ بْنُ حجر: وزيادة راويهما مقبولة ما لم تقع منافية لمن هو أوثق, أما إذا لم تكن منافية فتكن مقبولة وزيادة علم, كما لو كَانَ حديثًا مستقلًا.
أما المتقدمون كأبي داود والنسائي وغيرهم فإنهم ينظرون في الزيادة ولا يقبلونها عَلَى كل حال, الزيادة قد تكون شاذة إذا انفرد ولو كَانَ ثقة, وهي أخذ بقول الأحفظ أو الأكثر أو الأعلم, وهذا الحديث اُستدل بِهِ عَلَى أن الأب إذا زوج ابنته وهي كارهة ولو كانت بكرًا فَإِن لها خيار, وهذا الحديث أخرجه اِبْن ماجة وأبو داود, ففيه دليل عَلَى تحريم إجبار الأب لابنته البكر عَلَى النكاح, وأنه لا يجوز له أن يُكرهها عَلَى النكاح وغيره من الأولياء من باب أولى, إذا كَانَ الأب لا يُكرهها فغيره من باب أولى, فلا يجوز للأخ ولا للعم ولا لابن الأخ أن يزوجها بدون رضاها, إِنَّمَا الخلاف في الأب, وهذا مذهب الأحناف بهذا الحديث, قالوا: لا يجوز ولا يصح النكاح إذا زوجها وهي كارهة؛ بهذا الحديث, ولهذا خيرها النَّبِيِّ r.
والحديث الآخر: «والبكر يستأمرها أبوها» كما سيأتي, وذهب الجمهور أحمد وإسحاق والشافعي إِلَى أن الأب له أن يُجبر ابنته البكر البالغة عَلَى النكاح, قالوا: لِأَنّ الأب كامل الشفقة وهذا خاص بالأب وخاص بالبكر, أما الثيب ليس لأحد أن يجبرها لا الأب ولا غيره, وَكَذَلِكَ غير الأب ليس له أن يجبر البكر لَكِنْ الخلاف في الأب, قالوا: أن الأب له أن يُجبر ابنته البكر البالغة عَلَى النكاح عملًا بمفهوم حديث: «الثيب أحق بنفسها من وليها» قالوا: فَإِنَّهُ يدل بمفهومه عَلَى أن البكر بخلافها وأن الولي أحق بها من نفسها, فدل عَلَى أن الأب له أن يجبر البكر؛ هكذا استدلوا.
لَكِنْ نجيب بأن هذا مفهوم لا يقاوم المنطوق, المنطوق مقدم: «البكر يستأمرها أبوها» ومن العلماء من قَالَ: يبقى النكاح موقوف معلق فَإِن أجازته صح وإلا لم يصح.
(المتن)
باب في الثيب.
2098- حدثنا أحمد بن يونس، وعبد الله بن مسلمة، قالا: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن الفضل، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تُستأذن في نفسها، وإذنها صماتها». وهذا لفظ القعنبي.
2099- حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا سفيان، عن زياد بن سعد، عن عبد الله بن الفضل، بإسناده ومعناه، قال: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر يستأمرها أبوها». قال أبو داود: أبوها ليس بمحفوظ.
(الشرح)
هذا الباب عقده المؤلف: (بابٌ في الثيب) ذكر المؤلف حديث اِبْن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تُستأذن في نفسها، وإذنها صماتها» وهذا لفظ القعنبي؛ هذا الحديث أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة.
وذكر المؤلف رحمه الله طريق أخرى لأحمد اِبْن حنبل حدثنا سفيان، عن زياد بن سعد، عن عبد الله بن الفضل، بإسناده ومعناه، قال: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر يستأمرها أبوها» هذا الحديث أخرجه مسلم والنسائي, والحديث دليل عَلَى أن البكر تُستأذن وأن سكوتها إذن وأن الثيب لابد في إذنها من نطقها, الحديث دليل عَلَى أن الثيب لابد من نطقها الكلام, إذنها يكون بالكلام, وأما البكر فإنها تُستأذن وسكوتها هو الإذن, إذا سكتت فهو إذن, وذلك أن البكر تستحي بخلاف الثيب.
الحديث دليل عَلَى أَنَّه لا يجوز للأب أن يزوج البكر البالغة بغير إذنها, فَإِن زوجها فالنكاح لا يصح أو يبقى موقوفًا عَلَى إجازتها, وهذا مذهب الأحناف أَنَّه إذا زوج البكر بغير إذنها فالنكاح لا يصح, وقال آخرون: بل يبقى موقوفًا عَلَى إجازتها فَإِن أجازته صح وإلا فلا, وأما الجمهور فقالوا: يجوز للأب أن يزوجها ولو كانت بالغًا بغير استئذان منها عملًا بمفهوم هذا الحديث: «الثيب أحق بنفسها من وليها» فمفهومه أن البكر وليها أحق بنفسها منها.
قال أبو داود: (أبوها ليس بمحفوظ), وقد أخرج هَذِه الزيادة مسلم والنسائي, يَعْنِي قوله: «والبكر يستأمرها أبوها».
هنا «الأيم» في الحديث السابق, «الأيم أحق بنفسها من وليها» اختلف العلماء في المراد بالأيم فَقَالَ الجمهور المراد بها الثيب واستدلوا بأنه جاء مفسرًا في الرواية الأخرى الثيب, وبأنها جُعلت مقابلة للبكر, وبأن أكثر استعمالها في اللغة الثيب, وذهب الكوفيون إِلَى أن الأيم هنا: كل امرأة لا زوج لها بكرًا كانت أو ثيبًا, قالوا: وهذا هو الذي تقضيه اللغة, كل امرأة بلغت فهي أحق بنفسها من وليها وعقدها عَلَى نفسها النكاح فهو صحيح؛ هذا مذهب الأحناف.
الأحناف قالوا: هي أحق بنفسها من وليها في الإذن والعقد.
الجمهور قالوا: أحق بنفسها من وليها في الإذن لا في العقد.
والخلاف بينهم: في اشتراط الولي, فالأحناف لا يشترطون ولي, «أحق بنفسها من وليها» يَعْنِي: في الإذن والعقد لها أن تعقد عَلَى نفسها وهذا باطل, في الحديث: «لا تزوج المرأة نفسها ولا تزوج المرأةُ المرأة فَإِن الزانية هي الَّتِي تزوج نفسها»
(المتن)
2100- حدثنا الحسن بن علي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن صالح بن كيسان، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس للولي مع الثيب أمر، واليتيمة تُستأمر، وصمتها إقرارها».
(الشرح)
هذا الحديث أخرجه النسائي, قوله: «ليس للولي مع الثيب أمر» يَعْنِي: إن لم ترضى لما سلف من الدليل عَلَى اعتبار رضاها وعلى أن العقد للولي, «واليتيمة تُستأمر، وصمتها إقرارها» أي سكوتها, فدل عَلَى أن اليتيمة هي الَّتِي ليس لها أب ويزوجها من بعد الأب وليس المراد باليتيمة الصغيرة بل المراد الكبيرة وسميت يتيمة باعتبار ما مضى ولا تُزوج إلا بعد البلوغ؛ لِأَنّ الذي يزوجها غير أبيها, مات أبوها يزوجها أخوها إن كَانَ لها أخ لَكِنْ بعد البلوغ, وسميت يتيمة باعتبار ما سبق وما مضى فلابد أن يستأمرها ويطلب إذنها وإذنها هو السكوت, ولهذا قَالَ: «وصمتها إقرارها».
(المتن)
2101- حدثنا القعنبي، عن مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عبد الرحمن، ومجمع ابني يزيد الأنصاريين، عن خنساء بنت خذام الأنصارية، «أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فرد نكاحها».
(الشرح)
هذا الحديث أخرجه البخاري والنسائي وابن ماجة, قوله: (مجمع) بكسر الميم الثقيلة بصيغة التثنية, صفة لعبد الرحمن, وهذا الحديث دليل عَلَى أَنَّه لا يجوز تزويج الثيب بغير إذنها ويُرد النكاح إذا وقع, ولهذا رد النَّبِيِّ r نكاح خنساء بنت خذام لما زوجها أباها وهي رافضة وكانت ثيب, دل عَلَى أَنَّه لا يجوز للأب أن يجبر الثيب وهذا بالاتفاق, لَكِنْ الخلاف في البكر, فالحديث دليل عَلَى أَنَّه لا يجوز تزويج الثيب بغير إذنها.
قَالَ بَعْضُهُم: اتفق أئمة الفتوى عَلَى أن الأب إذا زوج ابنته الثيب بغير رضاها فَإِنَّهُ لا يجوز ويُرد, واحتجوا بهذا الحديث, لَكِنْ شذ الحسن البصري والنخعي فَقَالَ الحسن: نكاح الأب جائز عَلَى ابنته بكرًا كانت أو ثيبًا, كرهت أو لم تكره؛ هذا شاذ مخالف لهذه الأحاديث, والنخعي فسر قَالَ: إن كانت الابنة في عياله زوجها ولم يستأمرها وإن لم تكن في عياله وكانت نائية عنه استأمرها, يَعْنِي: لو كانت البكر عنده في البيت ويعتبرها من عياله فلا يأخذ إذنها, وإن كانت ليست عنده وَلَكِن في بيت مستقل فلابد أن يستأذنها وهذا كله لا وجه له.
فإن قيل: الراجح بالنسبة للبكر؟.
أنها لابد أن تُستأذن, اِبْن القيم يقول: هذا هو الذي ندين الله بِهِ, وظاهر الحديث أَنَّه ليس له أن يُجبرها والجمهور أخذوا بمفهومه.
فإن قيل: هل يفرق بين البكر إذا كانت صغيرة أو كبيرة؟.
لو دون البلوغ هذا يجوز للأب أن يزوجها بحالة خاصة وهي إذا خشي أن يفوت الكفء, لِأَنّ الأب كامل الشقة والدليل عَلَى هذا أن أبو بكر زوج عائشة رضي الله عنها من النَّبِيِّ r, قَالَ بعض السلف: تزوج بنتًا وأمها في النفاس, كانت صغيرة, فقيل له: قَالَ ابنة فلان معروف أصلها إن عشت فهي امرأتي وإن مت ورثتني أو إن ماتت ورثتها.
«أَنَّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَخْ» فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْإِجْبَارِ لِلْأَبِ لِابْنَتِهِ الْبِكْرِ عَلَى النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ بَالْأَوْلَى وَإِلَى عَدَمِ جَوَازِ إِجْبَارِ الْأَبِ ذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَلِحَدِيثِ وَالْبِكْرُ يَسْتَأْمِرُهَا أَبُوهَا وَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ وَذَهَبَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ لِلْأَبِ إِجْبَارَ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ عَلَى النِّكَاحِ عَمَلًا بِمَفْهُومِ حَدِيثِ: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْبِكْرَ بِخِلَافِهَا وَأَنَّ الْوَلِيَّ أَحَقُّ بِهَا.
وَيُرَدُّ بِأَنَّهُ مَفْهُومٌ لَا يُقَاوِمُ الْمَنْطُوقَ وَبِأَنَّهُ لَوْ أُخِذَ بِعُمُومِهِ لَزِمَ فِي حَقِّ غَيْرِ الْأَبِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَأَنْ لَا يُخَصَّ بِجَوَازِ الْإِجْبَارِ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي تَقْوِيَةِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ: إن حديث بن عَبَّاسٍ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ زَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ, قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: جَوَابُ الْبَيْهَقِيِّ هُوَ الْمُعْتَمَدُ لِأَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ فَلَا يثبت الحكم بها تعميميًا.
يَعْنِي يقوي مذهب الجمهور يقول: هَذِه القصة هو يريد يزوجها بغير كفء ولذلك النَّبِيِّ r رد نكاحها لا لِأَنَّهَا بكر, قَالَ: لِأَنَّهُ غير كفء.
قَالَ الْعَلَّامَةُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَمِيرُ فِي سُبُلِ السَّلَامِ كَلَامٌ لِهَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ يَعْنِي الْبَيْهَقِيَّ وَالْحَافِظَ مُحَامَاةٌ عَلَى كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبِهِمْ وَإِلَّا فَتَأْوِيلُ الْبَيْهَقِيِّ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَذَكَرَتْهُ الْمَرْأَةُ بَلْ إِنَّمَا قَالَتْ إِنَّهُ زَوَّجهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ فَالْعِلَّةُ كَرَاهَتُهَا فَعَلَيْهَا عُلِّقَ التَّخْيِيرُ لِأَنَّهَا الْمَذْكُورَةُ فَكَأَنَّهُ قَالَ r: إِذَا كُنْتِ كَارِهَةً فَأَنْتِ بَالْخِيَارِ, وَقَوْلُ الْحَافِظِ إِنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ كَلَامٌ غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ حُكْمٌ عَامٌّ لِعُمُومِ عِلَّتِهِ فَأَيْنَمَا وُجِدَتِ الْكَرَاهَةُ تُثْبِتُ الْحُكْمَ؛ انتهى.
يَعْنِي رد عَلَى الحافظ: قَالَ أنهم قالوا هذا تعصبًا للمذهب, والحديث: وهي كارهة.
قال المنذري وأخرجه بن مَاجَه, قَالَ أَبُو دَاوُدَ لَمْ يَذْكُرْ أَيْ محمد بن عبيد بن عَبَّاسٍ بَالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ, وَهَكَذَا أَيْ بِغَيْرِ ذكر بن عَبَّاسٍ رَوَاهُ النَّاسُ مُرْسَلًا.
«الأيم أحق بنفسها من وليها» قَالَ القاضي: اختلف العلماء في المراد بالأيم هاهنا فَقَالَ علماء الحجاز والفقهاء كافة المراد الثيب واستدلوا بأنه جاء مفسرًا في الرواية الأخرى بالثيب، وبأنها جعلت مقابلة للبكر، وبأن أكثر استعمالها في اللغة للثيب.
وقال الكوفيون وزفر: الأيم هاهنا كل امرأة لا زوج لها بكرًا كانت أو ثيبًا كما هو مقتضاه في اللغة، قالوا فكل امرأة بلغت فهي أحق بنفسها من وليها، وعقدها على نفسها نكاح صحيح, يَعْنِي: ما يُشترط الولي لَكِنْ هذا ليس بصحيح, المراد أحق بنفسها في الإذن وليس في العقد, العقد لابد منه ودل عليه الحديث: «لا نكاح إِلَّا بولي».
وبه قَالَ الشعبي والزهري قالوا وليس الولي من أركان صحة النكاح بل من تمامه؛ الصواب: أَنَّه من الأركان وأنه لا يصح النكاح إِلَّا بوجود أربعة: الزوج, الولي, وشاهدان.
وقال الأوزاعي وأبو يوسف ومحمد : تتوقف صحة النكاح على إجازة الولي؛ هذا قول وسط قالوا: إن أجازها الوليب صح وإلا فلا.
قال القاضي: واختلفوا أيضًا في قوله r «أحق من وليها» هل أحق بالإذن فقط أو بالإذن والعقد على نفسها. فعند الجمهور بالإذن فقط، وعند هؤلاء بهما جميعًا.
الجمهور يقولون: أحق بنفسها في الإذن, يَعْنِي: لابد تأذن لَكِنْ الولي لابد منه, والأحناف قالوا: أحق بالإذن والعقد فهي تعقد عَلَى نفسها لَكِنْ هذا باطل لِأَنّ أحاديث الولي كلها دلت عَلَى أن العقد للولي.
وقوله r «أحق بنفسها» يحتمل من حيث اللفظ أن المراد أحق من وليها في كل شيء من عقد وغيره كما قاله أبو حنيفة وداود، ويحتمل أنها أحق بالرضى أي لا تزوج حتى تنطق بالإذن بخلاف البكر، ولكن لما صح قولهr:» لا نكاح إلا بولي» مع غيره من الأحاديث الدالة على اشتراط الولي يتعين الاحتمال الثاني؛ يَعْنِي: أنها أحق بالرضى فلا تتزوج إِلَّا برضاها, واعلم أن لفظة أحق هاهنا للمشاركة معناه أن لها في نفسها في النكاح حقا ولوليها حقا وحقها أوكد من حقه فإنه لو أراد تزويجها كفؤا وامتنعت لم يجبر، ولو أرادت أن تزوج كفؤا فامتنع الولي أجبر، فإن أصر زوجها القاضي، فدل على تأكد حقها ورجحانه. كذا قال النووي .
« والبكر تُستأمر في نفسها»: أي تستأذن في أمر نكاحها «وإذنها صماتها»: بضم الصاد أي سكوتها يعني لا تحتاج إلى إذن صريح منها بل يكتفى بسكوتها لكثرة حيائها. قال النووي: ظاهره العموم في كل بكر وكل ولي وأن سكوتها يكفي مطلقا وهذا هو الصحيح.
اِبْن حزم يقول: لو تكلمت البكر وقالت: أريده, قَالَ: ما يصح النكاح لابد أن تسكت, وَكَذَلِكَ أيضًا قَالَ في الحديث: «لا يبولن أحدكم في الماء الراكد الذي لا يجري ثم يغتسل منه» يقول: لو بال في إناء وصبه صح, الرسول يقول: يبولن, هذا جمود عَلَى اللفظ, هذا تجمد عَلَى الألفاظ هنا وَلَكِن في مسائل الاعتقاد والصفات تأول, يقول: «إذنها صماتها» لو تكلمت ما يعتبر إذن لابد تسكت.
وقال بعض أصحابنا إن كان الولي أبًا أو جدًا فاستئذانه مستحب ويكفي فيه سكوتها، وإن كان غيرهما فلابد من نطقها لأنها تستحيي من الأب والجد أكثر من غيرهما. والصحيح الذي عليه الجمهور أن السكوت كاف في جميع الأولياء لعموم الحديث ولوجود الحياء. وأما الثيب فلابد فيها من النطق بلا خلاف سواء كان الولي أبا أو غيره لأنه زال كمال حيائها بممارسة الرجال، وسواء زالت بكارتها بنكاح صحيح أو فاسد أو بوطء شبهة أو بزنى، ولو زالت بكارتها بوثبة أو بإصبع أو بطول المكث أو وطئت في دبرها فلها حكم الثيب على الأصح، وقيل حكم البكر والله أعلم
قال المنذري: وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة وهذا لفظ القعنبي: هو عبد الله بن مسلمة. «والبكر يستأمرها أبوها»: ظاهره حجة على من ذهب إلى أنه يجوز للأب أن يزوج البكر البالغة بغير استئذانها .
قال الحافظ في الفتح: واختلفوا في الأب يزوج البكر البالغ بغير إذنها فقال الأوزاعي والثوري والحنفية ووافقهم أبو ثور: يشترط استئذانها ، فلو عقد عليها بغير استئذان لم يصح. وقال الآخرون: يجوز للأب أن يزوجها ولو كانت بالغًا بغير استئذان وهو قول ابن أبي ليلى ومالك والليث والشافعي وأحمد وإسحاق.
ومن حجتهم مفهوم حديث الباب لأنه جعل الثيب أحق بنفسها من وليها، فدل على أن ولي البكر أحق بها منها.
قال العلامة الشوكاني: يجاب عنه بأن المفهوم لا ينتهض للتمسك به في مقابلة المنطوق. قال الحافظ: واحتج بعضهم بحديث يونس بن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى مرفوعًا «تُستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فهو إذنها» قال فقيد ذلك باليتيمة فيحمل المطلق عليه، وفيه نظر لحديث ابن عباس الذي ذكرته بلفظ »يستأذنها أبوها» فنص على ذكر الأب.
وأجاب الشافعي بأن المؤامرة قد تكون عن استطابة النفس ويؤيده حديث ابن عمر رفعه «وآمروا النساء في بناتهن» أخرجه أبو داود.
قال الشافعي: لا خلاف أنه ليس للأم أمر لكنه على معنى استطابة النفس. وقال البيهقي: زيادة ذكر الأب في حديث ابن عباس غير محفوظ؛ يَعْنِي: «في البكر يستأمرها أبوها» أبوها غير محفوظ.
قال الشافعي: زادها ابن عيينة في حديثه، وكان ابن عمر والقاسم وسالم يزوجون الأبكار لا يستأمرونهن. قال البيهقي :والمحفوظ في حديث ابن عباس «البكر تُستأمر» ورواه صالح بن كيسان بلفظ «واليتيمة تُستأمر» وكذلك رواه أبو بردة عن أبي موسى ومحمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة, فدل على أن المراد بالبكر اليتيمة. قلت: وهذا لا يدفع زيادة الثقة الحافظ بلفظ الأب. ولو قال قائل بل المراد باليتيمة البكر لم يُدفع وتُستأمر بضم أوله يدخل فيه الأب وغيره فلا تعارض بين الروايات ويبقى النظر في أن الاستئمار هل هو شرط في صحة العقد أو مستحب على معنى استطابة النفس كما قَالَ الشافعي كلا الأمرين محتمل انتهى كلام الحافظ.
(وهي ثيب) وقع في بعض الروايات: قالت أنكحني أبي وأنا كارهة وأنا بكر، والصحيح الأول كما حققه الحافظ في الفتح, (فكرهت ذلك): أي ذلك النكاح أو ذلك الرجل الذي زوجها منه أبوها, (فرد نكاحها): أي تزويج الأب أو تزوج الزوج . وفي الحديث دليل على أنه لا يجوز تزويج الثيب بغير إذنها.
قال المنذري: وأخرجه البخاري والنسائي وابن ماجه. قال بعضهم: اتفق أئمة الفتوى بالأمصار على أن الأب إذا زوج ابنته الثيب بغير رضاها أنه لا يجوز ويُرد، واحتجوا بحديث الخنساء, وشذ الحسن البصري والنخعي فقال الحسن نكاح الأب جائز على ابنته بكرًا كانت أو ثيبًا كرهت أو لم تكره. وقال النخعي: إن كانت الابنة في عياله زوجها ولم يستأمرها وإن لم تكن في عياله وكانت نائية عنه استأمرها، وقال ما خالف السنة فهو مردود؛ انتهى .
قال الحافظ شمس الدين ابن القيم رحمه الله:
وعلى طريقة البيهقي وأكثر الفقهاء وجميع أهل الأصول هذا حديث صحيح، لأن جرير بن حازم ثقة ثبت، وقد وصله وهم يقولون: زيادة الثقة مقبولة، فما بالها تقبل في موضع، بل في أكثر المواضع التي توافق مذهب المقلد، وتُرد في موضع يخالف مذهبه؟! وقد قبلوا زيادة الثقة في أكثر من مائتين من الأحاديث رفعًا ووصلًا، وزيادة لفظ ونحوه، وهذا لو انفرد به جرير، فكيف وقد تابعه على رفعه عن أيوب: زيد بن حبان، ذكره ابن ماجه في سننه.
وأما حديث جابر فهو حديث يرويه شعيب بن إسحاق عن الأوزاعي عن عطاء عن جابر «أن رجلًا زوج ابنته وهي بكر من غير أمرها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ففرق بينهما» رواه النسائي، ورواه أيضًا من حديث أبي حفص التنيسي: سمعت الأوزاعي قال : حدثني إبراهيم بن مرة ، عن عطاء بن أبي رباح قال : «زوج رجل ابنته وهي بكر» وساق الحديث وهذا الإرسال لا يدل على أن الموصول خطأ بمجرده .
وأما حديث جرير الذي أشار البيهقي إلى أنه أخطأ فيه على أيوب، فرواه النسائي أيضًا من حديث جرير عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس:« أن جارية بكرًا أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبي زوجني ، وهي كارهة، فرد النبي صلى الله عليه وسلم نكاحها» ورجاله محتج بهم في الصحيح.
وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تُنكح البكر إلا بإذنها» وهذا نهي صريح في المنع فحمله على الاستحباب بعيد جدًا. وفي حديث ابن عباس : «والبكر يستأمرها أبوها» رواه مسلم وسيأتي ، فهذا خبر في معنى الأمر على إحدى الطريقتين، أو خبر محض ، ويكون خبرًا عن حكم الشرع، لا خبرًا عن الواقع, وهي طريقة المحققين, فقد توافق أمره صلى الله عليه وسلم وخبره ونهيه على أن البكر لا تزوج إلا بإذنها ومثل هذا يقرب من القاطع ويبعد كل البعد حمله على الاستحباب.
هكذا يكون اِبْن القيم رجح مذهب الأحناف في هذا وأنه لا يجوز للأب أن يجبر البكر.
وروى النسائي من حديث عكرمة عن ابن عباس قال: «أنكح رجل من بني المنذر ابنته وهي كارهة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها»، وروى أيضًا من حديث عبد الله بن بريدة عن عائشة: أن فتاة دخلت عليها فقالت: «إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتى يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأرسل إلى أبيها فدعاه، فجعل الأمر إليها، فقالت : يا رسول الله قد اخترت ما صنع أبي، ولكني أردت أن أعلم أن للنساء من الأمر شيئا؟» وروي أيضًا عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة قال: «أنكح رجل من بني المنذر ابنته وهي كارهة ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها».
وحمل هذه القضايا وأشباهها على الثيب دون البكر خلاف مقتضاها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل عن ذلك، ولا استفصل ، ولو كان الحكم يختلف بذلك لاستفصل وسأل عنه، والشافعي ينزل هذا منزلة العموم، ويحتج به كثيرًا .
وذكر أبو محمد بن حزم من طريق قاسم بن أصبغ عن ابن عمر: «أن رجلًا زوج ابنته بكرًا فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها» وذكر الدارقطني، هذا الحديث في سننه وفي كتاب العلل، وأعله برواية من روى «أن عمها زوجها بعد وفاة أبيها، وزوجها من عبيد الله بن عمر، وهي بنت عثمان بن مظعون، وعمها قدامة ، فكرهته، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، فتزوجها المغيرة بن شعبة». قال: وهذا أصح من قول من قال زوجها أبوها، والله أعلم .
قال الحافظ شمس الدين ابن القيم رحمه الله: وقد اختلف في خنساء هذه، هل كانت بكرًا أو ثيبًا؟ فقال مالك: هي ثيب، وكذلك ذكره البخاري في صحيحه، من حديث مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عبد الرحمن ومجمع ابني يزيد بن جرير عن خنساء.
وخالف مالكًا سفيان الثوري، فرواه عن عبد الرحمن بن القاسم عن عبد الله بن يزيد عن خنساء قالت: «أنكحني أبي وأنا كارهة، وأنا بكر، فشكوت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال : لا تُنكحها وهي كارهة» رواه النسائي من حديث ابن المبارك عن سفيان.
قال عبد الحق: روي أنها كانت بكرًا، ووقع ذلك في كتاب أبي داود والنسائي، والصحيح أنها كانت ثيبًا .
ويتبين بهذا أن الخلاف بين الجمهور وبين الأحناف في البكر هل يجوز أن يجبرها أبوها أو لا يجوز؟ الأحناف يقولون: ليس له أن يجبرها, والجمهور يقولون: يجوز, قول الأحناف هو الصواب والذي رجحه اِبْن القيم رحمه الله والذي عليه النصوص.