بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
قَالَ الإمام أبو داود رحمه الله تعالى في سننه:
باب في الأكفاء.
2102- حدثنا عبد الواحد بن غياث، حدثنا حماد، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، «أن أبا هند حجم النبي صلى الله عليه وسلم في اليافوخ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا بني بياضة أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه» وقال: «وإن كان في شيء مما تداوون به خير فالحجامة».
(الشرح)
قَالَ المؤلف رحمه الله: (بابٌ في الأكفاء) الأكفاء: جمع كفء بضم أوله وسكون الفاء وهو المثل والنظير, والمراد: الأكفاء في الزواج والنكاح من اختيار الكفء للمرأة, يُختار لها من كَانَ كفءً, وذكر المؤلف رحمه الله حديث أبا هريرة: «أن أبا هند» كَانَ مولى من الموالي, «حجم النبي صلى الله عليه وسلم في اليافوخ» هذا مقدم الرأس, العظم الذي يلتقي مقدم الرأس مع مؤخره, والنبي r احتجم مرات.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا بني بياضة أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه» أنكحوا أبا هند: يَعْنِي زوجوه بناتكم, أنكحوا إليه: اخطبوا بناته ولا تتركوها, حجامه مولى, وكانت العرب يثرون أن الحجامة مهنة رديئة ما يتولاها الأشراف ولهذا النَّبِيِّ r أمرهم ألا يمنعهم هذا, لكنها ليست محرمة, الحديث الآخر يقول: «كسب الحجام خبيث ومهر البغي خبيث وحلوان الكاهن خبيث» والحديث صحيح.
مهر البغي يَعْنِي: المهر الَّتِي يُعطاها من أجل زناها؛ هذا حرام, «وثمن الكلب خبيث» هذا حرام, وأما «كسب الحجام» المراد: المراد بالخبث هنا يَعْنِي: رديء, كسب رديء وليس حرامًا؛ لِأَنّ النَّبِيِّ r احتجم وأعطى الحجام أجرته, في بعضه: «أَنَّه أعطاه مدين من شعير وأمر أهله أن يخففوا عنه» فهو كسبٌ رديء, قَالَ العلماء: يُجعل في أشياء, كسبه مثلًا يُجعل في: الحطب, الغاز, يجعله في الأكل لِأَنَّهُ كسبق رديء وليس بحرام بخلاف كسب مهر البغي وحلوان الكاهن, يَعْنِي: أجرة الكهانة, سمي حلوان؛ لِأَنَّهُ يأكله حلوًا بدون تعب.
فالنبي r قَالَ لبني بياضة: «يا بني بياضة أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه» أنكحوا أبا هند: يَعْنِي زوجوه بناتكم, أنكحوا إليه: اخطبوا بناته ولا تتركوها, ولا يمنعكم ذلك من كونه حجام.
قوله: «وإن كان في شيء مما تداوون به خير فالحجامة» يَعْنِي: الحجامة دواء وعلاء, الحديث الآخر في البخاري: «الشفاء في ثلاث: شرطة مِحجم وشربة عسل وكية نار وما أحب أن أكتوي» فالحجامة نوع من العلاج يعرفها أهل الخبرة ولهذا قَالَ: «وإن كان في شيء مما تداوون به خير فالحجامة» وإن تُستعمل للتأكيد لتأكيد الحق بالجزاء, كما يقال لمن يعلم أن له صديقًا: إن كَانَ لك صديق فهو زيد.
وهذا الحديث سكت عنه المؤلف المنذري والحافظ في تلخيص الحديث قَالَ: إسناده حسن, وقال المحقق: حديث حسن وليس عنده غيره من الستة.
وهذا الحديث حجة للإمام مالك رحمه الله ومن ذهب مذهب إِلَى أن الكفاءة تكون بالدين وحده دون غيره فيجوز لغير العربي أن يتزوج العربية, ويجوز لغير القرشي أن يتزوج القرشية, والكفاءة إِنَّمَا هو في الدين, وجمهور العلماء يرون أن الكفاءة تكون في غير الدين وتكون في النسب أيضًا, ولهذا هند مولى بني بياضة ليس منهم, ليس من أنفسهم هو مولى لهم ومع ذلك قَالَ النَّبِيِّ r: «يا بني بياضة أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه».
وجمهور العلماء يعتبرون الكفاءة في أمور غير الدين: في النسب, في الحرية, في الصناعة, في الغنى, فيقولون مثلًا: العبد ليس له أن يتزوج الحرة وليس كفءً لها, والقرشية أو الهاشمية لا يتزوجها غير الهاشمي لِأَنَّهُ ليس كفءً لها, ومنهم معروف الآن عند القبيلي والخضيري كلها أثر من هذا: الدين, الحرية, والنسب, والصناعة, بَعْضُهُم أيضًا اعتبر السلامة من العيوب؛ فتكون هَذِه الأمور يعتبرها الجمهور.
ولهذا قَالَ أبو حنيفة: قريش أكفاء بَعْضُهُم لبعض, قرشي يتزوج القرشية, أما غير القرشي فليس كفءً, والعرب كذلك, العربي يتزوج العربية, وغير العربي ليس كفءً عندهم, وليس أحدٌ من العرب كفءً لقريش كما ليس أحدٌ من غير العرب كفءً للعرب وهذا أيضًا عند الشافعية, وعندهم قالوا: الصحيح تقديم بني هاشم والمطلب عَلَى غيرهم, ومن عدا هؤلاء أكفاء بَعْضُهُم لبعض.
وقال الثوري: إذا نكح المولى العربية يُفسخ النكاح لِأَنَّهُ ليس كفءً, يَعْنِي: غير العربي ولو كَانَ مسلم فهو ليس كفءً عندهم, وهذا أيضًا قَالَ بِهِ الإمام أحمد في رواية وتوسط الإمام الشافعي قَالَ: ليس نكاح غير الأكفاء حرامًا فأرد بِهِ النكاح وَإِنَّمَا هو تقصير من المرأة والأولياء, فإذا رضوا صح ويكون حقًا لهم تركوه فلو رضوا إِلَّا واحدًا فله فسخه, وذكر أن المعنى في اشتراط الولاية: النكاح, قيل: تضيع المرأة نفسها بغير كفء, وليس هناك دليل باعتبار الكفاءة بالنسب حديث صحيح.
جاء في حديث أخرجه البزار وذكره الشارح من حديث معاذ: «العرب بَعْضُهُم أكفاء بعض والموالي بَعْضُهُم أكفاء بعض» لَكِنْ الحديث إسناده ضعيف, وكذا روى الحاكم عن اِبْن عمر رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله r: «العرب بَعْضُهُم أكفاء بعض والموالي بَعْضُهُم أكفاء بعض إِلَّا حائكًا أو حجامًا» لكنه ضعيف, بل هو باطل والحديث لا أصل له, سأل اِبْن أبي حاتم عنه أباه فَقَالَ: هذا كذب لا أصل له, وقال في موضع آخر: هو باطل, ورواه اِبْن عبد البر في التمهيد من طريق بقية عن زُرعة عن اِبْن أبي الفضل عن نافع عن اِبْن عمر قَالَ الدار قطني في العين: لا يصح, وقال اِبْن حبان: عمران بْنُ أبي الفضل يروي الموضوعات عن الثقات, وقال اِبْن أبي حاتم: «سألت أبي عنه فَقَالَ: منكر قد حديث بِهِ هشام بْنُ عُبيد الله الرازي, قَالَ: «العرب بَعْضُهُم أكفاء بعض والموالي بَعْضُهُم أكفاء بعض إِلَّا حائكًا أو حجامًا» وزاد: «أو دباغ» قَالَ: فاجتمع عليه الدباغون وهموا بِهِ, هموا أن يقتلوه.
قَالَ اِبْن عبد البر: هذا حديث منكر موضوع ذكره اِبْن الجوزي في العلل المتناهية, ولهذا ذهب الإمام مالك رحمه الله إِلَى أن الكفاءة مختصة بالدين وهذا هو الصحيح ودلت عليه النصوص, الكفاءة مختصة بالدين فإذا كَانَ دينه سليم فله أن يتزوج ما دام مسلم يتزوج مسلمة سواءٌ كَانَ عربي أو غير عربي, قبيلي أو غير قبيلي, خضيري أو غير خضيري لَكِنْ إذا خشي الإنسان من المفسدة فيمتنع درأً للمفسدة لا لِأَنَّهُ لا يجوز, ولهذا بعض القبائل عندهم تعصب, بعض القبائل زوج قبيلي خضيرية فاجتمع أهل القبيلة كلهم وفسخوها بالقوة, قالوا: ما يمكن, فهذا يُمنع درأً للمفسدة, وإلا فلا بأس بِهِ, المقداد بْنُ الأسود مولى تزوج صفية بنت عبد المطلب القرشية, وأبو حذيفة زوج بنت أخيه سالم, وعبد الرحمن اِبْن عوف زوج أخته بلال وهو حبشي, فهذه النصوص تدل عَلَى أنت الكفاءة إِنَّمَا هي في الدين كما ذهب الإمام مالك.
أما الفقهاء الآن عندهم تفسيرات في هذا: الكفاءة في النسب, القرشي يكون كفء للقرشية وغير القرشية ليست كفءً لغير القرشي, الهاشمية ليست كفءً للقرشي, وهكذا, لَكِنْ إذا كَانَ الإنسان يخشى مفسدة فتُدرأ المفسدة.
والجمهور يعتبرون الكفاءة في النسب؛ جمهور العلماء, الإمام مالك يرى الكفاءة إِنَّمَا هي في الدين.
(المتن)
باب في تزويج من لم يولد.
2103- حدثنا الحسن بن علي، ومحمد بن المثنى المعنى، قالا: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا عبد الله بن يزيد بن مِقسم الثقفي، من أهل الطائف، حدثتني سارة بنت مِقسم، أنها سمعت ميمونة بنت كردم، قالت: «خرجت مع أبي في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فدنا إليه أبي وهو على ناقة له فوقف له واستمع منه ومعه درة كدرة الكتاب، فسمعت الأعراب والناس وهم يقولون: الطبطبية الطبطبية الطبطبية، فدنا إليه أبي، فأخذ بقدمه، فأقر له، ووقف عليه، واستمع منه، فقال: إني حضرت جيش عثران، قال ابن المثنى: جيش غثران، فقال طارق بن المرقع: من يعطيني رمحًا بثوابه؟ قلت: وما ثوابه؟ قال: أزوجه أول بنت تكون لي، فأعطيته رمحي، ثم غبت عنه، حتى علمت أنه قد ولد له جارية وبلغت، ثم جئته فقلت له: أهلي جهزهن إلي، فحلف أن لا يفعل حتى أصدقه صداقًا جديدًا غير الذي كان بيني وبينه، وحلفت لا أصدق غير الذي أعطيته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وبقرن أي النساء هي اليوم, قال: قد رأت القتير، قال: أرى أن تتركها, قال: فراعني ذلك، ونظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى ذلك مني قال: لا تأثم، ولا يأثم صاحبك». قال أبو داود: القتير الشيب.
2104- حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني إبراهيم بن ميسرة، «أن خالته أخبرته عن امرأة، قالت: هي مصدقة امرأة صدق، قالت: بينا أبي في غزاة في الجاهلية إذ رمضوا، فقال رجل: من يعطيني نعليه وأنكحه أول بنت تولد لي؟ فخلع أبي نعليه فألقاهما إليه، فولدت له جارية فبلغت» وذكر نحوه، لم يذكر قصة القتير.
(الشرح)
هذا خبر عجيب غريب, فيهِ ميمونة بنت كردم قَالَ: (حدثتني سارة بنت مِقسم) هَذِه مجهولة غير معروفة, (أنها سمعت ميمونة بنت كردم) أيضًا كذلك مجهولة, قالت: «خرجت مع أبي في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم» يَعْنِي: بنت مِقسم تحدث عن ميمونة بنت كردم تقول: أنها خرجت مع والدها في حجة الوداع.
«فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فدنا إليه أبي وهو على ناقة له فوقف له واستمع منه ومعه درة كدرة الكتاب» والدرة: هي الَّتِي يُضرب بها, وهي الدرة الَّتِي كانت لعمر, شيء من جلد يُفتل كَانَ عمر يؤدب بِهِ, يقال: الدِرة بالكسر وهي العصا الَّتِي يثضرب بها, أما الدُرة: فهي الجوهرة الَّتِي تستخرج من البحر.
قولها: «ومعه درة كدرة الكتاب» يَعْنِي: مثل العصا الَّتِي مع الصبيان يؤدب بها الصبيان.
«فسمعت الأعراب والناس وهم يقولون: الطبطبية الطبطبية الطبطبية» كأن هَذِه العبارة بَعْضُهُم قَالَ: يحتمل أن المراد يَعْنِي: وقع أرجلهم, طب طب طب, والوجه الثاني: كناية عن الدرة لِأَنَّهَا إذا ضُرب بها حكت صوت طب طب وهي منصوبة عَلَى التحذير كقولك: الأسد الأسد, أي احذر الطبطبية.
قالت: «فدنا إليه أبي، فأخذ بقدمه، فأقر له، ووقف عليه، واستمع منه» يَعْنِي: أقر برسالته واعترف بها, «فقال: إني حضرت جيش عثران، قال ابن المثنى: جيش غثران» وكان هذا الجيش في الجاهلية, «فقال طارق بن المرقع: من يعطيني رمحًا بثوابه؟ قلت: وما ثوابه؟» يَعْنِي: ما ثمنه؟ «قال: أزوجه أول بنت تكون لي» يَعْنِي: أول بنت تولد لي, «فأعطيته رمحي، ثم غبت عنه، حتى علمت أنه قد وُلد له جارية وبلغت، ثم جئته فقلت له: أهلي جهزهن إلي» أعطيتك الرمح في الأول قبل أن تولد.
«فحلف أن لا يفعل حتى أصدقه صداقًا جديدًا غير الذي كان بيني وبينه» حلف أَنَّه ما يجهزها حتى يعطيه مهرًا جديد غير الرمح الأول, «وحلفت لا أصدق غير الذي أعطيته» وحلف الآخر ما أعطيك غير الرمح وما عندي لك غير الرمح اللي أعطيتك إياه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وبقرن أي النساء هي اليوم» يَعْنِي: بسن أي النساء هَذِه المرأة, والقِرن: بنو السن الواحد يقال: هذا قرن زمان, «قال: قد رأت القتير» قد رأت الشيب, يَعْنِي: المرأة كبرت حتى رأت الشيب, كيف يقول في الأول: حتى بلغت وهنا يقول: وصلت الشيب؟!
قال: «أرى أن تتركها, قال: فراعني ذلك» يَعْنِي: تأثر, «ونظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى ذلك مني قال: لا تأثم، ولا يأثم صاحبك» قال أبو داود: (القتير الشيب).
وفي الخبر الثاني الذي بعده: أخبرني إبراهيم بن ميسرة «أن خالته أخبرته عن امرأة، قالت: هي مصدقة امرأة صدق، قالت: بينا أبي في غزاة في الجاهلية إذ رمضوا، فقال رجل: من يعطيني نعليه وأُنكحه أول بنت تولد لي؟ فخلع أبي نعليه فألقاهما إليه، فولدت له جارية فبلغت» وذكر نحوه، لم يذكر قصة القتير.
قَالَ الخطابي في المعالم عَلَى هذا الحديث: يشبه أن يكون النَّبِيِّ r إِنَّمَا أشار عليه بتركها؛ لِأَنّ عقد النكاح عَلَى معدوم فاسد, وَإِنَّمَا كَانَ ذلك منه موعدًا له, فَلَمّا رأى أن ذلك لا يفي بما وعد وأن هذا لا يُقلع عما طلب أشار عليه بتركها, هذا يطلب زوجته وهذا يقول: لا, تعطيني صداق جديد, وهذا يقول: ما عندي إِلَّا الصداق الأول, فَلَمّا رأى أن ذلك لا يفي بما وعد وأن هذا لا يُقلع عما طلب أشار عليه بتركها, لما خاف عليه من الإثم أن يتنازعا ويتخاصما, كل واحدٌ منهما قد حلف ألا يفعل غير ما حلف عليه صاحبه.
وتلطف النَّبِيِّ r في صرفه عنها بالمسألة عن سنها, قَالَ: كم سنها؟ قَالَ: وصلت الشيب الآن, وأقر أنها قد وصلت الشيب وأنه لا حظ له في نكاحها, قَالَ الخطابي: فيهِ دليل عَلَى أن للحاكم أن يُشير عَلَى أحد الخصمين بما هو أدعى إِلَى الصلاح وأقرب إِلَى التقوى, يَعْنِي: هذا إشارة من النَّبِيِّ r عَلَى الصلاح قَالَ: اتركها, هذا لو صح لَكِنْ الحديث لا يصح سندًا, والحديث باطل سندًا ومتنًا, هذا ضعيف السند ومنكر المتن, السند فيهِ سارة بنت مِقسم مجهولة وَكَذَلِكَ ميمونة بنت كردم, وَكَذَلِكَ الثاني فيهِ: خالة إبراهيم بْنُ ميسرة مبهمة والتي روت عنها أيضًا مجهولة, فهو ضعيف السند والمتن منكر فيهِ تزويج المعدوم, فالحديث لا يصح.