بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إِلَى يوم الدين؛ أما بعد:
(المتن)
يقول الإمام أبو داود رحمه الله في سننه:
بابٌ في ضرب النساء.
2145- حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن أبي حرة الرقاشي، عن عمه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فإن خفتم نشوزهن فاهجروهن في المضاجع» قال حماد: يعني النكاح.
(الشرح)
قَالَ المؤلف رحمه الله: (بابٌ في ضرب النساء) يَعْنِي: ما جاء في ضرب النساء من الحكم الشرعي, ما حكمه؟ هل هو جائز أو ممنوع؟ ذكر أن النَّبِيِّ r قرأ الآية: «فإن خفتم نشوزهن فاهجروهن في المضاجع» والآية: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}[النساء/34].
الآية فيها: أن المرأة إذا نشزت فَإِن الزوج يعمل بهذه الأمور المرتبة: الوعظ, الهجر, الضرب, والنشوز معناه: الارتفاع, نشوز المرأة: هو بغضها لزوجها وترفعها عن طاعته والتكبر عليه, في هَذِه الحالة إذا نشزت وتكبرت عن طاعته وامتنعت فَإِنَّهُ يعظها أولًا فَإِن قبلت فالحمد لله وإلا فَإِنَّهُ يهجرها في المضجع ما شاء وفي الكلام ثلاثة أيام فَإِن لم يُفد ضربها ضرب تأديب غير مبرح ليشعرها بأنها مخطئة, وليس المراد الضرب المبرح, فَقَالَ بَعْضُهُم: مثل ضربها بالسواك وما أشبه لك.
بعض العلماء ذكر أن الهجر يكون أن لا يدخل عليها ولا يقم عندها عَلَى ظاهر الآية وهو من الهجر والبعد, وقال بَعْضُهُم: إنه يضاجعها ويوليها دبره, وقيل: يمتنع من جماعها, وقيل: الهجران مشتق من الهجر وهو الكلام, وَلَكِن الأقرب أن الهجر يكون في المضجع ما شاء وفي الكلام ثلاثة أيام, الحديث الذي فيهِ: «لا يهجر اَلْمُسْلِم أخاه فوق ثلاث».
وقال حماد بْنُ سلمة تفسيرًا لقوله: «فاهجروهن في المضاجع» يَعْنِي النكاح, يَعْنِي: الوطء, والحديث فيهِ ضعف في سنده علي بْنُ زيد بْنُ جدعان وهو ضعيف وَلَكِن الآية واضحة في الترتيب وأن الزوج يرتب هَذِه الأمور: الوعظ, الهجر, الضرب.
(المتن)
2146- حدثنا أحمد بن أبي خلف، وأحمد بن عمرو بن السرح، قالا: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عبد الله بن عبد الله، قال ابن السرح عبيد الله بن عبد الله: عن إياس بن عبد الله بن أبي ذباب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تضربوا إماء الله, فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذئرن النساء على أزواجهن، فرخص في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم».
(الشرح)
الحديث أخرجه النسائي وابن ماجة, فيهِ عبد الله بْنُ أبي ذباب, قَالَ أبو القاسم البغوي: لا ألعم روى إياس بْنُ عبد الله غير هذا الحديث, وذكر البخاري هذا الحدث في تاريخه وقال: لا يًعرف لإياس بِهِ صحبة, قَالَ اِبْن أبي حاتم: إياس بْنُ عبد الله الدوسي مدني له صحبة, قَالَ: سمعت أبي وأبا زرعة يقولان ذلك.
قَالَ: «لا تضربوا إماء الله» الإماء جمع أمة يَعْنِي زوجاتكم, فإنهن إماء الله يَعْنِي جواريه كما أن الرجال عبيد الله فالنساء إماء الله, «فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذئرن النساء على أزواجهن» يَعْنِي اجترأن ونشزن, ذئرن: عَلَى اللغة القليلة تسمى لغة آكلون البراغيث الأصل أن يقول: ذئر النساء, فَقَالَ: جمع بين الظاهر والمضمر, وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}[الأنبياء/3]؛ هَذِه لغة لَكِنْ قليلة.
اللغة الثانية: وأسر النجوى, لما نهى النَّبِيِّ r عن ضرب النساء جاء عمر وقال: «يا رسول الله ذئرن النساء عَلَى أزاجهن» يَعْنِي: ترفعن ونشزن واجترأنا علينا لما علموا أَنَّه ليس هناك ضرب صارت تتعالى عَلَى زوجها, «فرخص في ضربهن, فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن» أطاف بالهمزة: يَعْنِي ألم, يَعْنِي: جاء إِلَى بيوت النَّبِيِّ r نساء يشكون أزواجهم, قوله: أطاف؛ هَذِه لغة وفي آخر الحديث: لقد طاف.
«بآل النَّبِيِّ r» يَعْنِي: ببيوت أزواجه, فيهِ: دليل عَلَى أن الآل يشمل أمهات الْمُؤْمِنِينَ, فإذا قلت: "اللهم صلي عَلَى محمد وعلى آل محمد" يدخل أزواج النَّبِيِّ r في آله, هؤلاء النسوة يشكون أزواجهن, فالنبي r خطب الناس وقال: «لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم» ليس أُولَئِكَ الرجال الذين يضربون نسائهم بخياركم, بل خياركم من لا يضربهن, ويتحمل أذاهم ويصبر عَلَيْهِمْ ولا يضربهن, إما أن يضربهن ضربًا شديدًا يؤدي إِلَى الشكاية أو لا يضربهن مطلقًا.
وهنا الآية الكريمة فيها: {َاضْرِبُوهُنَّ} وهنا في الحديث نهى النَّبِيِّ عن الضرب, فيحتمل أن نهي النَّبِيِّ r عن ضربهن قبل نزول الآية, ثم لما نزلت الآية أذن في ضربهن ونزل الْقُرْآن موافقًا له, ثم لما بالغوا في الضرب أخبر النَّبِيِّ r أن الضرب وإن كَانَ مباحًا لأجل سوء خلق المرأة فالتحمل والصبر على سوء أخلاقهن وترك الرب أفضل وأجمل, الحديث فيهِ من الفقه أن ضرب الناس في منع حقوق النكاح مباح ونزل الْقُرْآن موافقًا له, قَالَ تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}[النساء/34].
(المتن)
2147- حدثنا زهير بن حرب، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا أبو عوانة، عن داود بن عبد الله الأودي، عن عبد الرحمن المسلي، عن الأشعث بن قيس، عن عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُسأل الرجل فيما ضرب امرأته».
(الشرح)
(المسلي) نسبة إِلَى مسلية من كنانة, الحديث أخرجه النسائي وابن ماجة, وفيه: رفع الحرج والإثم عن الرجل في ضرب امرأته إذا راعى شروط الضرب وحدوده, قَالَ تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}[النساء/34]؛ النصوص ضم بعضها إِلَى بعض, أما إذا لم يراعي الحدود يعني: ضرب ضربًا مبرحًا فهذا ممنوع, يكسر عظمًا أو يجرح هذا ممنوع, وَلَكِن المراد ضرب تأديب ليشعرها أنها مخطأة, كما أن الصبي كذلك الذي يضربه المعلم يكون ضرب تأديب لا ضرب إيذاء وتشفي فلا يكسر عظمًا ولا يجرح جسدًا, ولهذا قَالَ: «لا يُسأل الرجل فيما ضرب امرأته» يَعْنِي: إذا راعى شروط الضرب وحدوده.
قوله: «لا يُسأل» عبارة عن عدم التحرج والإثم.
(المتن)
باب ما يؤمر به من غض البصر.
2148- حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، حدثني يونس بن عبيد، عن عمرو بن سعيد، عن أبي زرعة، عن جرير، قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة؟ فقال: اصرف بصرك».
(الشرح)
هذا الحديث أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وهو حديث صحيح, وفيه: عن جرير، قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة؟» يقال: الفجأة والفُجاءة, بالضم والمد,أو الفتح الفَجَاءة,والمراد: البغتة, قوله: فاجأه الْأَمْرِ وفجأه إذا جاءه بغتة من غير تقدم مسبق, المعنى: أن الإنسان معفوٌ عنه في النظرة الأولى الَّتِي تفاجئه فيها المرأة من دون سابق رؤية.
قوله: «فقال: اصرف بصرك» يَعْنِي: لا تنظر مرة ثانية, ولهذا في الحديث الذي بعده: «فإن لك الأولى وليست لك الآخرة».
(المتن)
2149- حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري، أخبرنا شريك، عن أبي ربيعة الإيادي، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: «يا علي لا تُتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة».
(الشرح)
لِأَنّ الأولى إذا لم تكن بالاختيار فهو معفوٌ عنها فَإِن أدام النظر ونظر نظرة ثانية أثم وعليه قول الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}[النور/30].
القاضي عياض من المالكة استدل بهذا الحديث عَلَى أن المرأة لا يَجِبُ عليها ستر وجهها, وَإِنَّمَا ذلك سنة مستحبة لها, ويجب عَلَى الرجال غض البصر عنها في جميع الأحوال إِلَّا لغرض صريح شرعي وهذا استنباط ضعيف جدًا وليس بصحيح, كيف لا يَجِبُ عَلَى المرأة ستر وجهها؟! من أين هذا؟ أخذ هذا من كون الرجل مأمور بألا يتبع النظرة النظرة.
قوله: «يا علي لا تُتبع النظرة النظرة» دليل عَلَى أَنَّه لا يَجِبُ عليها ستر وجهها, لو كانت تستر وجهها لما احتاج إِلَى أن ينظر مرة ثانية لَكِنْ هذا باطل مخالف للنصوص, النصوص ومن نظر إِلَى هذا الحديث وفهم فهمًا خاطئًا وترك النصوص الأخرى, النصوص الأخرى يقول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}[الأحزاب/53]؛ والحجاب: ما يحجب المرأة عن الرجل, قد يكون باب, قد يكون غطاء عَلَى الوجه, ستارة.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ}[الأحزاب/59]؛ معنى ذلك أن المرأة تنزل من الخمار الذي عَلَى رأسها وتستر بِهِ صدرها؛ هذا دليل عَلَى الحجاب, وحديث عائشة في صحيح البخاري ومن أصح الأحاديث قالت: «فخمرت وجهي بجلبابي وكان يعرفني قبل الحجاب» في قصة صفوان بْنُ المعطل السُلمي, فنظر القاضي عياض لهذا الحديث وترك النصوص الأخرى وفهم هذا الفهم الضعيف؛ أَنَّه لا يَجِبُ عَلَى المرأة ستر وجهها وَإِنَّمَا ذلك سنة مستحبة لها؛ لِأَنّ الرجال أُمروا بغض البصر, فيجب عَلَى الرجال غض البصر وهي تبقى مكشوفة الوجه, وإذا كَانَ الرجال فساق لا يغضون البصر ماذا نعمل؟!
قَالَ الخطابي في المعالم: ويروى أطلق بصرك, قَالَ: والإطلاق أن يُقبل البصر إلى وجهه, وصرفًا يصرفه للشق الآخر والناحية الأخرى.
قوله: «لا تُتبع النظرة» يَعْنِي: من الإتباع أي لا تعقبها إياها ولا تجعل الأخرى بعد الأولى فَإِن لك النظرة الأولى إذا كانت من غير قصد وليست لك النظرة الآخرة لِأَنَّهَا باختيارك فتكون عليك.
(المتن)
2150- حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تباشر المرأة المرأة، لتنعتها لزوجها كأنما ينظر إليها».
(الشرح)
هذا الحديث أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وهو حديث صحيح, زاد النسائي: «لا تباشر المرأة في الثوب الواحد» والمباشرة بمعنى المخالطة وأصله من لمس البشرة, «لتنعتها» يَعْنِي: تصفها لزوجها, تصف نعومة بدنها ولينه كأنما ينظر إليها فيتعلق قلبه بها ويقع بِذَلِكَ الفتنة, ووهي منهية في الحقيقة عن الوصف وليس المراد أنها منهية عن لمس المرأة, وقال الطيبي: المعنى في الحديث: النظر مع اللمس, فتنظر إِلَى ظاهرها من الوجه والكفين فتدس باطنها باللمس وتقف عَلَى نعومتها فتنعتها, فالنفي منصبٌ عليهما؛ عَلَى الاثنين, ويجوز المباشرة بغير توصيف؛ يَعْنِي: المرأة إذا باشرت المرأة لا إشكال لَكِنْ المنهي عنه هو الوصف.
(المتن)
2151- حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام، عن أبي الزبير، عن جابر، «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فدخل على زينب بنت جحش فقضى حاجته منها، ثم خرج إلى أصحابه فقال لهم: إن المرأة تقبل في صورة شيطان، فمن وجد من ذلك شيئًا فليأت أهله فإنه يُضمر ما في نفسه».
(الشرح)
هذا الحديث أخرجه مسلم والترمذي والنسائي, المعنى: «إن المرأة تقبل في صورة شيطان» شبهها بالشيطان لصفة الوسوسة والإضلال؛ لِأَنّ رؤيتها من جميع الجهات داعية للفساد, «فإنه يُضمر ما في نفسه» يَعْنِي: يضعفه ويقلله, من الضمور والضعف.
قَالَ النووي: قَالَ العلماء معناه الإشارة إِلَى الهوى والدعاء إِلَى الفتنة لما جعل الله تعالى في نفوس الرجال من الميل إِلَى النساء والتلذذ بالنظر إليهن وما يتعلق بهن, فهي شبيهة بالشيطان في دعاءه إِلَى الشر بوسوسته وتزيينه له, ويٌستنبط من هذا أَنَّه ينبغي لها ألا تخرج إِلَّا لضرورة ولا تلبس ثيابًا فاخرة, وينبغي للرجل ألا ينظر إليها ولا إِلَى ثيابها, وفيه من الفوائد: أَنَّه لا بأس بالرجل أن يطلب امرأته للوطء في النهار وإن كانت مشتغلة بما يمكن تركه لِأَنَّهُ ربما غلبت عَلَى الرجل شهوته فيتضرر بالتأخير في بدنه أو قلبه.
(المتن)
2152- حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا ابن ثور، عن معمر، أخبرنا ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: ما رأيت شيئًا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك ويكذبه».
2153- حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل ابن آدم حظه من الزنا» بهذه القصة قال: «واليدان تزنيان فزناهما البطش، والرجلان تزنيان فزناهما المشي، والفم يزني فزناه القُبَل».
2154- حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذه القصة قال: «والأذن زناها الاستماع».
(الشرح)
هذا حديث اِبْن عباس قَالَ: (ما رأيت شيئًا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة) اللمم يَعْنِي: ما عفا الله عنه من صغار الذنوب, وهو معنى قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}[النجم/32]؛ وهو ما يلم بِهِ الإنسان من صغار الذنوب الَّتِي لا يكاد يسلم منها إِلَّا من عصم الله, وصغار الذنوب تُكفر بفعل الفرائض وترك الكبائر, فإذا فعل الإنسان الفرائض وترك الكبائر فَإِن الله تعالى يكفر عنه الصغائر فضلًا منه وإحسانًا, قَالَ الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}[النساء/31]؛ بمعنى: الصغائر.
وقال r في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: «الصلوات الخمس, والجمعة إِلَى الجمعة, ورمضان إِلَى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اُجتنبت الكبائر» فهذه النصوص تدل عَلَى أن الصغائر تُكفر بفعل الفرائض واجتناب الكبائر, قوله: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا» يَعْنِي: كتب في اللوح المحفوظ, حظه: نصيبه من الزنا, والمراد بالزنا هنا يَعْنِي: مقدمات الزنا من التمني والتخطي والتكلم والنظر واللمس والتخلي, وقيل المراد: سببه وهو الشهوة والميل إِلَى النساء, خلق فيهِ العينين والقلب والفرج ولذلك تجد لذة الزنا.
أو المعنى: قدر في الأزل, أن يجري عليه الزنا في الجملة, «أدرك ذلك لا محالة» يَعْنِي: أصاب اِبْن آدم ووجد ذلك, أي ما كتبه الله وقدره وقضاه, «لا محالة» يَعْنِي: لابد له ولا فرار ولا احتيال منه فهو واقع, ثم بين قَالَ: «فزنا العينين النظر» يَعْنِي: حظها النظر عَلَى قصد الشهوة, «وزنا اللسان المنطق» يَعْنِي: التكلم عَلَى وجه الحرمة كالمواعدة, «والنفس» يَعْنِي: القلب, «تمنى» الأصل تتمنى, «وتشتهي» أي زنا النفس تمنيها واشتهاها وقوع الزنا, «والفرج يصدق ذلك ويكذبه».
قَالَ الطيبي: سمى هَذِه الأشياء باسم الزنا لِأَنَّهَا مقدمات له مؤذنة بوقوعه, ونسب التصديق والتكذيب إِلَى الفرج لِأَنّ منشأه ومكانه أن يصدقه بالإتيان بما هو المراد منه, ويكذبه بالكف عنه, فقيل المعنى: إن فعل بالفرج ما هو المقصود من ذلك فقد صار فرجه مصدقًا لتلك الأعضاء, وإن ترك ما هو المقصود من ذلك صار الفرج مكذبًا, وقيل معنى: «كُتب عَلَى اِبْن آدم حظه من الزنا» يَعْنِي: خلق له الحواس الَّتِي يذوق بها لذة ذلك الشيء وأعطاه القوى الَّتِي بها يقدر عَلَى ذلك الفعل, من العينين ومت رُكب فيهما من قوة الباصرة تجد لذة النظر, وليس المعنى: أن الله ألجأه وأجبره كما يقوله الجبرية, بل المعنى: ركز في جبلته حب الشهوات ثم إنه تعالى برحمته وفضله يعصم من يشاء؛ هذا الحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم والنسائي.
الحديث الثاني قَالَ: «لكل ابن آدم حظه من الزنا» فيحتمل أن الخواص معصومون عن الزنا ومقدماته فيحتمل أَنَّه يبقى عَلَى عمومه, فيقال: كتب الله عَلَى كل فرد من بني آدم صدور نفس الزنا, فمن عصمه الله بفضله صدر عنه من مقدماته الظاهرة, ومن عصمه بمزيد فضله ورحمته عن صدور المقدمات وهم الخواص من عباده, وليس ذلك بمقتضى الجبلة وهي تمني النفس واشتهاؤها.
قوله: «واليدان تزنيان فزناهما البطش» في الحديث الأول ذكر العينين, واللسان, والنفس, وهنا ذكر اليدان قَالَ: «واليدان تزنيان فزناهما البطش, والرجلان تزنيان فزناهما المشي، والفم يزني فزناه القُبَل» جمع قُبلة وهو التقبيل بالفم, والبطش معناه: الأخذ واللمس ويدخل فيهِ الكتابة كونه يكتب لها ورمي الحصى, والآن بالجوالات والمغازلات هذا من زنا اليد, يرمي لها رقم الجوال في ورقة؛ هذا من زنا اليد, في السابق يرمي عليها الحصاة؛ وهذا الحديث أخرجه مسلم.
الحديث الثالث: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذه القصة قال: «والأذن زناها الاستماع» يَعْنِي: زناهما الاستماع إِلَى كلام الزانية أو الواسطة, كونه يستمع بأذنيه فهذا نوع من الزنا؛ والحديث أخرجه مسلم, ففيه التحذير وأن الإنسان ينبغي له كف هَذِه الجوارح؛ لِأَنّ هَذِه الجوارح وسيلة إِلَى الزنا, فإذا كفها ومنعها وجاهد نفسه فَإِنَّهُ يبعد عن الوصول إِلَى الغاية, أما إذا أطلق هَذِه الجوارح فإنها توصله للغاية وهي الزنا الحقيقي بالفرج.