بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم, والصلاة والسلام عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد.
(المتن)
قَالَ المؤلف رحمنا الله وأياه:
باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث
2195 - حدثنا أحمد بن محمد المروزي، حدثني علي بن حسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}[البقرة/228]؛ الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته، فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثًا، فنسخ ذلك، فقال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}[البقرة/229] الآية.
(الشرح)
قَالَ رحمه الله تعالى: (باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث), وَذَلِكَ أَنَّهُ في الجاهلية كَانَ الرجل يطلق ما شاء, بغير حد, ثُمَّ لما جاء الإسلام نسخ الله ذَلِكَ وجعل للرجل حدًا في الطلاق, وأنزل الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}[البقرة/229].
ولهذا بوب المؤلف قَالَ: (باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث), يَعْنِي نسخ ما كَانَ عليه النَّاس في الجاهلية من عدم تحديد مرات الطلاق.
ذكر المؤلف حديث عكرمة بن عباس قَالَ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}[البقرة/228]؛ الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته، فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثًا، فنسخ ذلك، قال الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}[البقرة/229] الآية.
نسخ بهذه الآية الحديث ضعيف في إسناده علي بن الحسين بن واقد, فِيهِ مقال, لكن معنى الحديث صحيح, نسخ المراجع بَعْدَ التطليقات الثلاث ثابت في الآية, لكن الحديث سنده ضعيف؛ لِأَنَّ علي بن الحسين بن واقد هَذَا ضعيف.
ولكن هَذَا المعنى صحيح أن نسخ المراجع بَعْدَ التطليقات الثلاث ثابت في الآية الكريمة نص الآية, {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}[البقرة/229].
كَانُوا في الجاهلية يطلق الرجل إِلَى غير عدد, وَكَانَ إِذَا أراد أن يضر المرأة طلقها, فَإِذَا قربت العدة أن تنتهي راجعها, ثُمَّ طلقها, فَإِذَا قاربت أن تنتهي راجعها وهكذا يضارها, فحصل بِذَلِكَ ضرر عظيم, فَلَمَّا جاء الإسلام نسخ الله ذَلِكَ وجعل للرجل مرتان وَبَعْدَ الثلاثة لا تحل له إِلَّا بَعْدَ زوج.
ومعنى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ}؛ يَعْنِي ينتظرن {بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}, والقروء جمع قرء, يطلق عَلَى الطهر وَعَلَى الحيض, وَعِنْد الحنابلة القرء هُوَ الحيض, وَعِنْد الشافعي هُوَ الطهر, وهؤلاء لهم أدلة وهؤلاء لهم أدلة, لكن الأقرب أن المراد بالقرء الحيض, لأدلة دلت عَلَى أن القرء هُوَ الحيض.
وفي آخر الآية: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}[البقرة/228], والمعنى فَهُوَ أحق بمراجعتها وإن طلقها ثلاثًا, يَعْنِي قوله: «وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته، فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثًا»، يَعْنِي مهما طلقها فَهُوَ أحق بمراجعتها, ولو طلقها ثلاثًا «فنسخ ذَلِكَ», يَعْنِي كون الرجل أحق برجعة امرأته «وإن طلقها ثلاثًا», نسخ بالآية, ولهذا قَالَ الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}[البقرة/229]؛ يَعْنِي التطليق الشرعي مرةً بَعْدَ مرة, عَلَى التفريق دون الجمع (.....) .
وَهَذَا الحديث أخرجه النسائي وفي رواية النسائي{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}[البقرة/229], يَعْنِي فعليكم إمساكهن بَعْدَ تطليقتين, بأن تراجعهن, من غير إضرار, أو تسرحهن بإحسان.
وَنَسْخَ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ هذا إِذَا كَانَتْ مُفَرَّقَةً فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ.
يَعْنِي يطلقها ثُمَّ يراجعها, ثُمَّ يطلقها ثُمَّ يراجعها, أَمَّا إِذَا كَانَ في مجلس واحد هَذَا سيأتي الخلاف, في مجلس واحد أو في كلمة واحدة قَالَ: بالثلاث, يأتي الخلاف والكلام في الأحاديث خلاف قوي في المسألة, وسيأتي حديث ابن عباس عِنْد مسلم: «كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةٌ»رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَأَنَّهُ كَانَ في أول الْأَمْرِ يَجُوزُ للرجل أن يراجع امرأته بعد ما طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بكلمة واحدة, كما يجوز له الرجعة بَعْدَمَا طلقها مرة واحدة, فَلَمَّا كَانَ في زمن عمر رضي الله عنه وتتايع النَّاس في الطلاق أمضاه عَلَيْهِمْ من باب التعزير, وأخذ الجمهور بِذَلِكَ, فصار الطلاق بكلمة واحدة ثلاثًا يمضى ثلاثًا.
(المتن)
2196 - حدثنا أحمد بن صالح، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، أخبرني بعض بني أبي رافع، مولى النبي صلى الله عليه وسلم، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: طلق عبد يزيد أبو ركانة، وإخوته أم ركانة، ونكح امرأة من مزينة، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة، لشعرة أخذتها من رأسها، ففرق بيني وبينه، فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية، فدعا بركانة، وإخوته، ثم قال لجلسائه: «أترون فلانًا يشبه منه كذا وكذا؟، من عبد يزيد، وفلانًا يشبه منه كذا وكذا؟» قالوا: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد: «طلقها» ففعل، قال: «راجع امرأتك أم ركانة وإخوته؟» قال: إني طلقتها ثلاثًا يا رسول الله، قال: «قد علمت راجعها» وتلا: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}[الطلاق/1].
قال أبو داود: وحديث نافع بن عجير، وعبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة، عن أبيه، عن جده، أن ركانة، طلق امرأته البتة، فردها إليه النبي صلى الله عليه وسلم «أصح، لأنهم ولد الرجل، وأهله أعلم به، إن ركانة إنما طلق امرأته البتة، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم واحدة».
(الشرح)
وَهَذَا الحديث هُوَ حديث ابن عباس في طلاق عبد يزيد أبو ركانة امرأته, وكون النَّبِيّ ردها عَلَيْهِ وجعلها واحدة هَذَا الحديث ضعيف؛ لِأَنَّ فِيهِ ابن جريج قَالَ: أخبرني بعض بني أبي, فابن جريج رواه عَنْ بعض بني أبي رافع وَلَمْ يسم, ففيه مجهولون، المجهول لا تقوم به الحجة, هُوَ ضعيف للجهالة, جهالة بعض بني أب رافع, من هُوَ هَذَا البعض؟ ما هُم معروفون, مجهول.
«أخبرنا ابن جريج، أخبرني بعض بني أبي رافع»، فيكون هَذَا ضعيف لِأَنَّ ابن جريج رواه عَنْ بعض بني أبي رافع وَلَمْ يسمه, وفي هَذَا الحديث أَنَّهُ قَالَ: «طلق عبد يزيد أبو ركانة، وإخوته أم ركانة»، أخوته معطوف عَلَى ركانة, يَعْنِي أبو أخوة ركانة, عبد يزيد هُوَ أبو ركانه وأبو أخوته, ركانة وأخوته معطوف عَلَيْهِ, يَعْنِي ركانة له أخوة وعبد يزيد أبوهم جميعا أبو لركانة وأبو لأخوته ««طلق عبد يزيد أبو ركانة، وإخوته أم ركانة», طلق عبد يزيد أم ركانة, وَهُوَ يقال له: أبو ركانة, أبو لركانه وله أخوة ركانة, أبو لركانة وأخوته.
«ونكح امرأة من مزينة، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة، لشعرة أخذتها من رأسها»، تعني أَنَّهُ عنين لا ينتشر ذكره «ففرق بيني وبينه»، يَعْنِي تريد أن ترجع إِلَى ركانة «فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية، فدعا بركانة، وإخوته، ثم قال لجلسائه: أترون فلانًا يشبه منه كذا وكذا؟، من عبد يزيد، وفلانًا يشبه منه كذا وكذا؟ قالوا: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد: طلقها», طلق هَذِهِ المرأة الَّتِي نكحها من مزينة وراجع امرأتك أم ركانة «ففعل، ثم قال: راجع امرأتك أم ركانة وإخوته؟ قال: إني طلقتها ثلاثًا يا رسول الله»، طلقت أم ركانة ثلاث كيف أراجعها؟ قال: «قد علمت راجعها وتلا: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}[الطلاق/1]», يَعْنِي أَنَّهُ طلقها ثلاثًا بكلمة واحدة, واعتبرها النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم طلقة, لكن الحديث ضعيف كما سمعتم.
ولهذا قَالَ أبو داود رحمه الله المؤلف: (وحديث نافع بن عجير، وعبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة، عن أبيه، عن جده، أن ركانة، طلق امرأته البتة، فردها إليه النبي صلى الله عليه وسلم أصح)، يشير إِلَى حديث النافع بن عجير سيأتي في الباب الَّذِي بَعْدَ هَذَا في باب طلاق البتة, وحديث عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عَنْ أبيه عَنْ جده, وَفِيهِ: «أن ركانة إنما طلق امرأته البتة»، يَعْنِي طلقها ثلاثًا, البتة يَعْنِي ثلاثًا, فردها إليه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أصح من هَذَا الحديث, يَعْنِي يقول المؤلف: حديث نافع بن عجير وحديث عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة أصح من حديث ابن عباس هَذَا حديث الباب.
لِأَنَّهُم ولد الرجل, وأهله أعلم به, حديث نافع بن عجير وحديث عبد الله بن علي بن يزيد أخبروا عَنْ أبيهم أَنَّهُ طلق أمهم وأن النَّبِيّ ردها إليه, فهم ولد الرجل وأهله أعلم به.
«إن ركانة إِنَّمَا طلق امرأته البتة», يَعْنِي ثلاثًا, البتة يَعْنِي لا ردة له «فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم واحدة».
يَعْنِي طلقها ثلاثًا بكلمة واحدة, قَالَ: أنت طلاق بالثلاث, فجعلها النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم واحدة, حديث نافع بن عجير يَقُولُ المؤلف: أصح من حديث ابن جريج هَذَا وحديث ابن عباس كما قال ابو داوود, لكنه مع كونه أصح فَهُوَ ضعيف أَيْضًا, مَعَ كون حديث نافع بن عجير وحديث عبد الله بن يزيد هُوَ أصح لكن أَيْضًا ضعيف.
يَعْنِي حديث نافع بن عجير ضعيف وكذا حديث عبد الله بن علي بن يزيد أَيْضًا ضعيف سيأتيان في باب في البتة, والبتة يَعْنِي طلاق الثلاث, وَكُلّ واحد من حديث نافع بن عجير وحديث عبد الله بن علي بن يزيد فِيهِ ضعف واضطراب, إِلَّا أنهما أحسن حال من حديث ابن جريج حديث الباب, وَكُلّ الأحاديث في هَذَا ضعيفة, والمؤلف رحمه الله يعيد كلامه هَذَا بَعْدَ ذكر حديث (.....) في باب البتة.
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ مَقَالٌ لِأَنَّ بن جُرَيْجٍ إِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ بَعْضِ بَنِي أَبِي رَافِعٍ وَلَمْ يُسَمِّهِ وَالْمَجْهُولُ لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ.
وَحُكِيَ أَيْضًا أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رحمه الله كَانَ يُضَعِّفُ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ كُلَّهَا.
(المتن)
2197 - حدثنا حميد بن مسعدة، أخبرنا إسماعيل، أنبأنأ أيوب، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل، فقال: إنه طلق امرأته ثلاثًا، قال: فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم، فيركب الحموقة ثم يَقُولُ" يا ابن عباس، يا ابن عباس، وإن الله قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}[الطلاق/2]؛ وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجًا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، وإن الله قال: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ}[الطلاق/1]؛ في قبل عدتهن.
قال أبو داود: روى هذا الحديث حميد الأعرج، وغيره عن مجاهد، عن ابن عباس، ورواه شعبة، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وأيوب، وابن جريج، جميعا عن عكرمة بن خالد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وابن جريج، عن عبد الحميد بن رافع، عن عطاء، عن ابن عباس، ورواه الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن ابن عباس، وابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس كلهم قالوا: في الطلاق الثلاث أنه أجازها، قال: وبانت منك نحو حديث إسماعيل، عن أيوب، عن عبد الله بن كثير قال أبو داود: وروى حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، إذا قال: «أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة»، ورواه إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن عكرمة، هذا قوله ولم يذكر ابن عباس، وجعله قول عكرمة.
2198 – قال أبو داود: وصار قول ابن عباس فيما حدثنا أحمد بن صالح، ومحمد بن يحيى وهذا حديث أحمد - قالا: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن محمد بن إياس، أن ابن عباس، وأبا هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، سئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثًا؟ فكلهم قال: «لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره».
قال أبو داود: وروى مالك، عن يحيى بن سعيد، عن بكير بن الأشج، عن معاوية بن أبي عياش، أنه شهد هذه القصة حين جاء محمد بن إياس بن البكير، إلى ابن الزبير، وعاصم بن عمر فسألهما عن ذلك، فقالا: اذهب إلى ابن عباس، وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة رضي الله عنها، ثم ساق هذا الخبر، قال أبو داود: " وقول ابن عباس هو: أن الطلاق الثلاث تبين من زوجها مدخولًا بها، أو غير مدخول بها، لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، هذا مثل خبر الصرف، قال فيه: ثم إنه رجع عنه يعني ابن عباس .
(الشرح)
هكذا المؤلف رحمه الله ذكر هَذَا الحديث وأتى بالمتابعات والآثار المتداخلة الطويلة, وَهَذَا الحديث أَيْضًا عَنْ ابن عباس كالحديث السابق, قَالَ: « حدثنا حميد بن مسعدة، أخبرنا إسماعيل، أنبأنا أيوب، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل، فقال: إنه طلق امرأته ثلاثًا»، يَعْنِي بكلمة واحدة قَالَ: أنت طالق بالثلاث, هَذَا هُوَ محل الخلاف, أَمَّا لو طلقها ثُمَّ راجعها, ثُمَّ بَعْدَ فترة طلقها ثُمَّ راجعها, ثُمَّ بَعْدَ فترة أخرى طلقها, هَذَا ما فِيهِ خلاف, هَذَا بالإجماع لا تحل له إِلَّا بَعْدَ زوج, لكن البحث وحديث الباب فيما لو طلقها بكلمة واحدة قَالَ: أنت طالق بالثلاث, هَذَا محل الخلاف.
لكن لو طلقها ثُمَّ راجعها, ثُمَّ بَعْدَ فترة طلقها ثُمَّ راجعها, ثُمَّ طلقها هَذَا بالإجماع لا تحل له إِلَّا بَعْدَ زوج, هَذَا بإجماع الْمُسْلِمِين ما في خلاف.
الخلاف إِذَا طلقها بكلمة واحدة, هَلْ تكون طالق بالثلاث؟ هَذَا هُوَ الَّذِي في حديث ابن عباس عِنْد مسلم: «كَانَ طلاق الثلاث عَلَى عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر كَانَ واحدًا», رواه مسلم .
ثُمَّ في عهد عمر بَعْدَ أن مر سنتين تتابع النَّاس في الطلاق, أكثر النَّاس من الطلاق فأمضاه عَلَيْهِمْ, تعزيرًا من باب التعزير, وأجمع عَلَيْهِ الصَّحَابَة والعلماء وأخذ به الجمهور, قَالُوا: إِذَا طلق بالثلاث تقع الثلاث من باب التعزير, ردعًا للناس حَتَّى لا يتساهلون في الطلاق, وَهُوَ قول الجماهير.
مجاهد قَالَ: «كنت عِنْد ابن عباس فجاءه رجل فقال: إِنَّهُ طلق امرأته ثلاثًا», يَعْنِي بكلمة واحدة «قال: فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه»، يَعْنِي ظننت أن ابن عباس يريد أن يرد المرأة إِلَى زوجها الَّذِي طلقها ثلاثًا, سكت حَتَّى ظن مجاهد أَنَّهُ سيردها عَلَيْهِ, ثُمَّ قَالَ موبخًا لهذا الرجل: «ينطلق أحدكم، فيركب الحموقة ثم يَقُولُ: يا ابن عباس، يا ابن عباس»، يركب الحموقة ثُمَّ يَقُولُ يا ابن عباس تعالى افتني «وإن الله قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}[الطلاق/2]؛ وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجًا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك»، فابن عباس ظاهر هَذَا أَنَّهُ يوبخ هَذَا, يَعْنِي يوبخ هَذَا الرجل الَّذِي طلقها ثلاثًا.
«ينطلق أحدكم فيركب الحموقة», يَعْنِي يفعل فعل الأحمق, ثُمَّ يجيئ يَقُولُ: يا ابن عباس يا ابن عباس هاتلي مخرج, ما أجد لك مخرج, عصيت ربك وبانت منك امرأتك, عصيت ربك بتطليقها الثلاثة دفعة واحدة, وبانت منك امرأتك.
يَعْنِي خرجت من العدة, هَذِهِ إحدى الروايات عَنْ ابن عباس, في من طلق امرأته ثلاثًا بكلمة واحدة أَنَّهَا تحسب ثلاث تطليقات وتبين امرأته منه, وَهَذِهِ الرواية هِيَ الموافقة لمذهب الجمهور, وأورد المصنف أبو داود هنا لهذه الرواية ولهذه الفتوى, عدة متابعات, فقال: (قال أبو داود: روى هذا الحديث حميد الأعرج، وغيره عن مجاهد، عن ابن عباس)، هَذِهِ المتابعة الأولى, ثُمَّ قَالَ: (ورواه شعبة، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس)، الرواية الثانية عَنْ ابن عباس يَعْنِي هَذِهِ المتابعة الثانية (وأيوب، وابن جريج، جميعًا عن عكرمة بن خالد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس)، هَذِهِ المتابعة الثالثة (وابن جريج، عن عبد الحميد بن رافع، عن عطاء، عن ابن عباس)، متابعة رابعة (ورواه الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن ابن عباس)، متابعة خامسة (وابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس كلهم قالوا: في الطلاق الثلاث أنه أجازها)، يَعْنِي أمضاها وَلَمْ يجعلها واحدة, كلهم قَالُوا: ابن عباس أجازها يَعْنِي أمضاها وَلَمْ يجعلها واحدة.
(قال: وبانت منك نحو حديث إسماعيل، وأيوب، عن عبد الله بن كثير), هَذِهِ الرواية الأولى الرواية الثانية عَنْ ابن عباس: أن طلاق الثلاث بكلمة واحدة أو بفم واحد تحسب طلقة واحدة, وَهَذَا هُوَ الموافق لحديث ابن عباس عِنْد مسلم وأبي داود وغيرهما, كَانَ الطَّلَاق الثَّلَاث عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر وَاحِدَة.
يَعْنِي هَذِهِ رواية ابن عباس قَدْ رواها عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم, والعبرة بما رواه الراوي لا برأيه, واختار هَذَا القول الأخير أن طلاق الثلاث بكلمة واحدة جمع من أهل العلم منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم, وَهُوَ اختيار شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله, واختيار كَذَلِكَ الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله, أن طلاق الثلاث بكلمة واحدة يكون واحد.
وَعَلَى هَذَا يكون ابن عباس له روايتين رواية توافق الجمهور وَهُوَ حديث أبي داود, والرواية الثانية توافق الحديث الَّذِي رواه ابن عباس, فكأن ابن عباس روى حديث وله رأي يخالف ما رواه, فأيهما يؤخذ؟ العلماء يَقُولُونَ: العبرة بما روى لا بما رأى, لا باجتهاده, قَالَ عَنْ اجتهاده الثلاث تقع ثلاث كما هُوَ اجتهاد عمر رضي الله عنه وَالصَّحَابَة.
ولهذا ذكر الرواية الثانية هَذِهِ عَنْ ابن عباس قَالَ: «قال أبو داود: وروى حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، إذا قال: أنت طالق ثلاثًا بفم واحد فهي واحدة»، هَذِهِ رواية ابن عباس تختلف عَنْ الرواية الأولى, وَهِيَ الموافقة لما رواه, يَعْنِي هَذِهِ الرواية الثانية عَنْ ابن عباس أن طلاق الثلاث بكلمة واحدة وبفم واحد تحسب بطلقة واحدة.
(ورواه إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن عكرمة، هَذَا), يَعْنِي أن عكرمة يفتي بما يفتى به ابن عباس من أَنَّهُ طلاق الثلاث بكلمة واحدة تحسب واحدة.
قَالَ: (لم يذكر ابن عباس، وجعله قول عكرمة).
قَالَ أبو داود: «وصار قول ابن عباس فيما حدثنا أحمد بن صالح، ومحمد بن يحيى وهذا حديث أحمد - قالا: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن محمد بن إياس، أن ابن عباس، وأبا هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، سئلوا عن البكر», يَعْنِي المرأة البكر «يطلقها زوجها ثلاثًا؟ فكلهم قالوا: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره».
والحديث سكت عنه المنذري والمعنى أن ابن عباس ترك الإفتاء بكون الثلاث واحدة, وصار قائلاً: بأن المرأة لا تحل بَعْدَ الثلاث بكلمة واحدة؛ حَتَّى تنكح زوجًا غيره.
ووافق ابن عباس في هَذِهِ الفتوى الأخيرة أبا هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص, كلهم سئلوا عَنْ البكر يطلقها زوجها ثلاثًا, فكلهم قَال: لا تحل له حَتَّى تنكح زوجًا غيره, فيكون ابن عباس ترك الإفتاء بكون الثلاث واحدة, وصار قائلاً بأن المرأة لا تحل بَعْدَ الثلاث بكلمة واحدة؛ حَتَّى تنكح زوجًا غيره, ووافق ابن عباس في هَذِهِ الفتوى الأخيرة, وافقه أبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص.
(قال أبو داود: روى مالك)، يَعْنِي في الموطأ (عن يحيى بن سعيد، عن بكير بن الأشج، عن معاوية بن أبي عياش، أنه شهد هذه القصة حين جاء محمد بن إياس بن البكير ، إلى ابن الزبير، وعاصم بن عمر فسألهما عن ذلك، فقالا: اذهب إلى ابن عباس، وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة رضي الله عنها، ثم ساق هذا الخبر)، يَعْنِي أن ابن عباس وأبا هريرة قَالا ما سبق في الخبر الَّذِي قبله؛ لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره, أيْ بَعْدَ طلاق الثلاث بكلمة واحدة.
قال أبو داود: (وقول ابن عباس هو: أن الطلاق الثلاث تبين من زوجها مدخولًا بها، أو غير مدخول بها، لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، هذا مثل خبر الصرف، قال فيه: ثم إنه رجع عنه يعني ابن عباس).
يَعْنِي يَقُولُ: ابن عباس كونه يفتي بأن طلاق الثلاث يكون ثلاثًا, فلا تحل له إِلَّا بَعْدَ الزوج, مثل خبر الصرف يَعْنِي لما أباح ربا الفضل, وأجاز ربا الفضل يجوز للإنسان أن يأخذ دينار بدينارين, كَانَ يبيحه أولًا ثُمَّ رجع عنه.
فكذلك طلاق الثلاث كَانَ يقولوها ثُمَّ رجع عنها, فتوى ابن عباس الطلاق الثلاث لا تحل إِلَّا بَعْدَ زوج, مثل فتواه في جواز صرف الربا الدينار بدينار, هَذِهِ رجع عنها وَهَذِهِ رجع عنها, كلٌ منهما رجع عنه.
قال أبو داود: (وقول ابن عباس هو: أن الطلاق الثلاث تبين من زوجها مدخولًا بها، أو غير مدخول بها)، يَعْنِي إِذَا كَانَ بكلمة واحدة (لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، هذا مثل خبر الصرف، قال فيه: قال إنه يجوز ثم إنه رجع عنه يعني ابن عباس).
يَعْنِي مثل إباحته ربا الفضل رجع عنه, وَكَذَلِكَ الطلاق الثلاث رجع عنه, والصرف يَعْنِي دفع ذَهَبَ وأخذ فضة وعكسه.
قَالَ الحافظ: والأولى في تعريف الصرف أَنَّهُ يقال هُوَ بيع النقود والأثمان بجنسها.
قَالَ الشارح: واعلم أن ابن عباس كَانَ يعتقد أولًا أَنَّهُ لا ربا فيما كَانَ يدًا بيد, وَأَنَّهُ يجوز بيع درهم بدرهمين ودينارًا بدينارين وصاعا تمر بصاع تمر, وَكَذَلِكَ الحنطة وسائر الربويات.
وَكَانَ معتمده حديث أسامة بن زيد «إِنَّمَا الربا في النسيئة», ثُمَّ رجع عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: بتحريم بيع الجنس بعضه ببعض, حين بلغه حديث أبي سعيد, كما ذكره مسلم في صحيحه.
وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَيَّانَ الْعَدَوِيِّ سَأَلْتُ أَبَا مِجْلَزَ عَنِ الصَّرْفِ فَقَالَ: كَانَ ابن عَبَّاسٍ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا زَمَانًا مِنْ عُمْرِهِ مَا كَانَ مِنْهُ عَيْنًا بِعَيْنٍ يَدًا بِيَدٍ, وَكَانَ يَقُولُ إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ فَلَقِيَهُ أَبُو سَعِيدٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ.
قُلْتُ: رُجُوعُهُ فِي مَسْأَلَةِ الصَّرْفِ بِبَلُوغِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ واستغفاره عما أفتى أولا ونهيه عند أَشَدَّ النَّهْيِ ظَاهِرةٌ لَا سُتْرَةَ فِيهِ, وَأَمَّا رُجُوعُهُ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ فَفِيهِ خَفَاءٌ, كَيْفَ وَلَمْ يَثْبُتْ لَا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ رِوَايَةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسِخَةٌ لِرِوَايَتِهِ الْآتِيَةِ مُوجِبَةٌ لِرُجُوعِهِ عَنْهَا, وَكَذَا لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ اسْتَغْفَرَ عَنْ جَعْلِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً, أَوْ نَهَى عَنْهُ أَحَدًا وَأَمْرُ الطَّلَاقِ أَشَدُّ من أمر الربا.
وإفتائه فيه بِخِلَافِ رِوَايَتِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَلَى وُجُودِ نَاسِخٍ لِرِوَايَتِهِ.
قال ابن عَبَّاسٍ: بَلَى كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا إِلَى قَوْلِهِ قَدْ تَتَايعُوا عليه, أَيْ فِي التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً,
وَقَوْلُهُ: «تَتَابَعُوا», يَعْنِي أسرع في التطليقات الثلاث.
عَلَى كُلّ حال ابن عباس في هَذَا له روايتان, رواية تتمشى مَعَ الحديث الرواة وَهُوَ أَنَّهَا واحدة, ورواية تتمشى مَعَ الجمهور أَنَّهَا تقع ثلاثًا.
شوف كلام ابن القيم هنا عَلَى الحديث الأول, قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه: لَمْ يَذْكُر أَبُو دَاوُدَ فِي النُّسَخ غَيْر هَذَيْنَ, وَفِيهِ أَحَادِيث أَصَحّ وَأَصْرَح مِنْهَا مِنْهَا حَدِيث مَالِك عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ الرَّجُل إِذَا طَلَّقَ اِمْرَأَته ثُمَّ اِرْتَجَعَهَا قَبْل أَنْ تَنْقَضِي عِدَّتهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ, وَإِنْ طَلَّقَهَا أَلْف مَرَّة فَعَمَد رَجُل إِلَى اِمْرَأَةٍ لَهُ فَطَلَّقَهَا ثُمَّ أَمْهَلَهَا؛ حَتَّى إِذَا شَارَفَتْ اِنْقِضَاء عِدَّتهَا اِرْتَجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَقَالَ وَاَللَّه لَا آوِيك إِلَيَّ وَلَا تَحِلِّينَ أَبَدًا, فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ {الطَّلَاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}؛ فَاسْتَقْبَلَ النَّاس الطَّلَاق جَدِيدًا مِنْ يَوْمئِذٍ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ طَلَّقَ أَوْ لَمْ يُطَلِّق, ورواه الترمذي متصلا عن عائشة ثم قَالَ: وَالْمُرْسَل أَصَحّ. @@33.52
وَفِي حَدِيث عَائِشَة فِي اِمْرَأَة رِفَاعَة وَقَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَته وَيَذُوق عُسَيْلَتك», وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهُوَ صَرِيح فِي تَحْرِيمهَا عَلَيْهِ بَعْد الطَّلْقَة الثَّالِثَة.
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله: والحديث الذي رجحه أَبُو دَاوُدَ هُوَ حَدِيث نَافِع بْن عُجَيْر أَنَّ رُكَانَة بْن عُبَيْد طَلَّقَ اِمْرَأَته سُهْمَةِ الْبَتَّة –اسمها سهمة- فَأُخْبِر بِذَلِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ وَاَللَّه مَا أَرَدْت إِلَّا وَاحِدَة, فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاَللَّه مَا أَرَدْت إِلَّا وَاحِدَة فَقَالَ رُكَانَة: وَاَللَّه مَا أَرَدْت إِلَّا وَاحِدَة فَرَدَّهَا إِلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» - يَعْنِي يستحلفه النَّبِيّ r- فَطَلَّقَهَا الثَّانِيَة فِي زَمَن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَالثَّالِثَة فِي زَمَن عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ, قَالَ أبو داود: وهذا أصح من حديث بن جُرَيْج يَعْنِي الْحَدِيث الَّذِي قَبْل هَذَا تَمَّ كَلَامه.
يَعْنِي الحديث الثاني أصح من حديث ابن جريج وكلاهما ضعيف.
وَهَذَا هُوَ الْحَدِيث الَّذِي ضَعَّفَهُ الْإِمَام أَحْمَد وَالنَّاس؛ فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَة عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ بْن السَّائِب عَنْ نَافِع بْن عُجَيْر عَنْ رُكَانَة وَمِنْ رِوَايَة الزُّبَيْر بْن سَعِيد عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ بْن يَزِيد بْن رُكَانَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه وَكُلّهمْ ضُعَفَاء وَالزُّبَيْر أَضْعَفهمْ, وَضَعَّفَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا هَذَا الْحَدِيث قَالَ: عَلِيّ بْن يَزِيد بْن رُكَانَة عَنْ أَبِيهِ لَمْ يَصِحّ حَدِيثه.
وَأَمَّا قَوْل أَبِي دَاوُدَ: إِنَّهُ أَصَحّ مِنْ حديث بن جريج فلأن بن جُرَيْج رَوَاهُ عَنْ بَعْض بَنِي رَافِع مَوْلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عِكْرِمَة عن ابن عَبَّاس, وَلِأَبِي رَافِع بَنُونَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يُحْتَجّ بِهِ إِلَّا عُبَيْد اللَّه بْن رَافِع, وَلَا نَعْلَم هَلْ هُوَ هَذَا أَوْ غَيْره.
وَلِهَذَا وَاَللَّه أَعْلَم رَجَّحَ أَبُو دَاوُدَ حَدِيث نافع بن عُجَيْر عَلَيْهِ, وَلَكِنْ قَدْ رَوَاهُ الْإِمَام أَحْمَد في مسنده من حديث بن إِسْحَاق, قَالَ: حَدَّثَنِي دَاوُدَ بْن الْحُصَيْن عَنْ عِكْرِمَة عن بن عَبَّاس, وَهَذَا أَصَحّ مِنْ حَدِيث نَافِع بْن عجير ومن حديث بن جُرَيْج.
وَقَدْ صَحَّحَ الْإِمَام أَحْمَد هَذَا السَّنَد فِي قِصَّة رَدّ زَيْنَب اِبْنَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بن الربيع, وَقَالَ: الصحيح حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ رَدَّهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّل, وهو بهذا الإسناد بعينه من رواية بن إِسْحَاق عَنْ دَاوُدَ بْن الحصين عَنْ عِكْرِمَة عن بن عَبَّاس.
وَهَكَذَا ذَكَر الثَّوْرِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ أَنَّ رِوَايَة بن إِسْحَاق هِيَ الصَّوَاب
وَحَكَمُوا لَهُ عَلَى رِوَايَة حَجَّاج بْن أَرْطَأةَ عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ, وَحَجَّاج بْن أَرْطَأةَ أَعْرَف مِنْ نَافِع بْن عُجَيْر وَمَنْ مَعَهُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَأَبُو دَاوُدَ لَمْ يَتَعَرَّض لِحَدِيثِ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق وَلَا ذَكَره والله أعلم.
وَعَلَى كُلّ حال الأحاديث الَّتِي في الباب كلها ضعيف والخلاف مشهور, قول الجمهور: أَنَّهَا تقع الثلاث؛ لِأَنَّهُم أخذوا بقول عمر وأجمع الصَّحَابَة عَلَى هَذَا, وَهُوَ مذهب الأئمة الأربعة وَهُوَ الآن يعمل به في المحاكم.
الجمهور أخذوا بأنه إِذَا طلق الثلاث يقع ثلاث؛ لِأَنَّ عمر أمضاه عَلَيْهِمْ من باب التعزير وأخذ به الجمهور والأئمة الأربعة.
ومن العلماء من أخذ بحديث ابن عباس كشيخ الإسلام وغيره؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرِ عَلَى عهد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى عهد أبي بكر, وصدر من خلافة عمر.
ولهذا كَانَ النَّاس في القديم إِذَا أتوا إِلَى المحاكم يلزمونهم بالثلاثة, وَإِذَا ذهبوا إِلَى الشيخ رحمه الله أفتاهم بأنها واحدة.
والمؤلف أطال في هَذَا رحمه الله وسيأتي في بقية الباب أطال الأقوال في هَذَا والروايات المتداخلة.
سيأتي إن شاء الله في البقية نفصل هَذَا في تفسيره, وَأَنَّهُ إِذَا قَالَ: أنت طالق بكلمة واحدة ثلاثًا, أَمَّا إِذَا كررها تقع عِنْد الجمهور إِلَّا عِنْد شيخ الإسلام, عِنْد شيخ الإسلام ولو كررها, وَأَمَّا غير شيخ الإسلام فَإِنَّهُمْ يفصلون, وسيأتي إن شاء الله تفصيل هَذِهِ المسألة.