بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى رسول الله:
(المتن)
يقول الإمام أبو داود رحمه الله في سننه:
باب إذا أسلم أحد الزوجين.
2238- حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، «أن رجلًا جاء مسلمًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاءت امرأته مسلمة بعده، فقال: يا رسول الله إنها قد كانت أسلمت معي، فردها علي».
(الشرح)
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أما بعد:
قَالَ المؤلف رحمه الله: (باب إذا أسلم أحد الزوجين) لم يجزم المؤلف بالحكم لوجود الخلاف, يَعْنِي: إذا أسلم أحد الزوجين ثم أسلم الآخر بعده فهل يبقى النكاح أو ينفسخ ويحتاج إِلَى تجديد عقد؟ ذكر المؤلف رحمه الله حديث اِبْن عباس: «أن رجلًا جاء مسلمًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاءت امرأته مسلمة بعده، فقال: يا رسول الله قد كانت أسلمت معي، فردها علي» فردها عليه, هذا الحديث أخرجه الترمذي وقال: حسنٌ صحيح, لَكِنْ الحديث فيهِ سماك عن عكرمة, ورواية سماك عن عكرمة فيها ضعف, وَلَكِن قد يتقوى بالشواهد ولهذا حسنه الترمذي رحمه الله ولعله تحسينه إياه من جهة الشواهد.
فالحديث دليل عَلَى أن الزوجين إذا أسلما معًا فهما عَلَى نكاحهما ولا يُسأل عن كيفية وقوعه قبل الإسلام هل وقع صحيحًا أم لا؟ إذا أسلم الزوجان معًا فهما عَلَى نكاحهما ويبقى النكاح ولا يُسأل عن كيفية وقوعه قبل الإسلام هل وقع صحيحًا أم لا؟ ما لم يكن المبطل قائمًا كما إذا أسلما وقد نكحها وكانت هي محرمًا له, نكحها لَكِنْ وجدنا أنها أخته من النسب أو من الرضاع هنا المبطل قائم لابد من التفريق بينهما, أو أسلما وكانت عمته مثلًا, فإذا كَانَ المبطل قائمًا فهذا يُفرق بينهما, أما إذا لم يكن المبطل قائمًا فَإِنَّهُ يبقى النكاح, قد أسلم جم غفير في حجة الوداع في مكة وأبقى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى نكاحهم ولم يجدد العقد، بل بقي النكاح.
قوله: «فجاء زوجها» يَعْنِي: زوجها الأول, هذا الرجل جاء مسلمًا عَلَى عهد النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثم جاءت امرأته مسلمة بعده, فَقَالَ: يا رسول الله ردها إنها كانت قد أسلمت معي, فردها عليه, هنا ليس فيهِ أنها تزوجت, لَكِنْ في الحديث الذي بعده أنها تزوجت رجلًا آخر.
(المتن)
2239- حدثنا نصر بن علي، قال: أخبرني أبو أحمد، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: «أسلمت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجت، فجاء زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني قد كنت أسلمت، وعلمت بإسلامي، فانتزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجها الآخر، وردها إلى زوجها الأول».
(الشرح)
هذا الحديث أخرجه اِبْن ماجة, وهو دليل عَلَى أَنَّه إذا أسلم الزوج قبل انقضاء عدة الزوجة المسلمة فهي في عقد النكاح, إذا أسلمت امرأة فإنها تبقى في العدة فَإِن أسلم الزوج قبل انتهاء العدة فهي امرأته والعقد باقي, أما إذا خرجت من العدة ففيه كلام لأهل العلم وسيأتي إن شاء الله في الحديث الذي بعده.
فالحديث دليل عَلَى أَنَّه إذا أسلم الزوج قبل انقضاء عدة الزوجة المسلمة فهي في عقد النكاح, فَإِن تزوجت فهو زواجٌ باطل وتُنتزع من الزوج الآخر, إذا أسلمت المرأة فإنها تبقى في العدة ويبقى عقدها أو نكاحها موقوفًا عَلَى إسلام الزوج, فَإِن أسلم الزوج في العدة فهي امرأته, وإن خرجت من العدة ففيه كلام سيأتي أنها لها أن تتزوج ولها أن تنتظر, فَإِن تزوجت في العدة فهو تزوج باطل وتُنتزع من الزوج الآخر كما في هذا الحديث: «أن هذه المرأة أسلمت فتزوجت، فجاء زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني قد كنت أسلمت، وعلمت بإسلامي، فانتزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجها الآخر، وردها إلى زوجها الأول».
فالحديث دليل عَلَى أَنَّه إذا اسلم الزوج وعلمت امرأته بإسلامه فهي في عقد نكاحه, وإن تزوجت فهو تزوج باطل وتُنتزع من الزوج الآخر, فإذا أسلم قبل انقضاء العدة ثبت النكاح بينهما سواء كَانَا عَلَى دين واحد كالكتابيين أو الوثنيين أو كَانَ أحدهما عَلَى دين والآخر عَلَى دين آخر, سواءٌ كَانَ في دار الإسلام أو في دار الحرب, أو كَانَ احدهما في دار الإسلام والآخر في دار الحرب؛ هذا هو الذي عليه الجمهور وإلى هذا ذهب الإمام الشافعي والإمام أحمد رحمه الله.
وأما أبو حنيفة رحمه الله فَإِنَّهُ يفصل يقول: أن تحصل فرقة بينهما بأحد ثلاثة أمور:
الأول: انقضاء العدة, إذا انقضت العدة فُرق بينهما.
الثاني: أو عُرض الإسلام عَلَى الآخر مع الامتناع منه فإنها تحصل الفرقة.
الثالث: أو بنقل أحدهما من دار الإسلام إِلَى دار الحرب, وسواءٌ كَانَ عنده الإسلام قبل الدخول أو بعده.
(المتن)
باب إلى متى ترد عليه امرأته إذا أسلم بعدها؟.
2240- حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، قال: حدثنا محمد بن سلمة، ح وحدثنا محمد بن عمرو الرازي، قال: حدثنا سلمة يعني ابن الفضل، ح وحدثنا الحسن بن علي، قال: حدثنا يزيد، المعنى، كلهم عن ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: «رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على أبي العاص بالنكاح الأول، لم يحدث شَيْئًا»، قال محمد بن عمرو، في حديثه: بعد ست سنين، وقال الحسن بن علي: بعد سنتين.
(الشرح)
هذا الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجة, وقال الترمذي: ليس بإسناده بأس, والحديث احتج بِهِ العلماء عَلَى أن الزوجة إذا أسلمت وزوجها لم يُسلم فَإِن نكاحها موقوف, فَإِن أسلم الزوج قبل انقضاء العدة فهي زوجته تُرد إليه بالنكاح الأول, إذا أسلمت المرأة وزوجها لم يُسلم فَإِن نكاحها موقوف, فَإِن أسلم الزوج قبل انقضاء العدة فهي زوجته تُرد إليه بالنكاح الأول, وإن انقضت العدة فلها أن تنكح إن شاءت وإن أحبت انتظرته حتى يُسلم فإذا أسلم كانت زوجته من غير حاجة إِلَى تجديد النكاح ولا تجديد مهر.
وذهب جمهور العلماء إِلَى أَنَّه إذا انتهت العدة لابد من تجديد العقد ولابد من مهر جديدين, احتجوا بحديث عمر بْنُ شعيب عن أبيه عن جده: «أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رد ابنته عَلَى أبي العاص بْنُ الربيع بمهر جديد ونكاح جديد» وعلى هذا إذا أسلمت الزوجة ولم يُسلم الزوج فيبقى النكاح موقوف فَإِن أسلم في العدة فهي امرأته, وإن لم يُسلم في العدة وجلست تنتظره فإنها تُرد عليه بالنكاح الأول كما في هذا الحديث لابن عباس وهو حديث صحيح.
لَكِنْ قَالَ البخاري: حديث اِبْن عباس أصح, حديث اِبْن عباس هذا الذي معنا أصح في هذا الباب, أصح من حديث عمرو بْنُ شعيب عن أبيه عن جده, وقال الدارقطني: حديث عمرو بْنُ شعيب عن أبيه عن جده لا يثبت والصواب حديث اِبْن عباس, أنها تُرد إليه بعقد جديد, ولهذا قَالَ محمد بن عمرو، في حديثه: (بعد ست سنين ردها عليه) يَعْنِي: جلست تنتظره, وقال الحسن بن علي: (بعد سنتين).
قَالَ الخطابي رحمه الله: إِنَّمَا ضعفوا حديث عمرو بْنُ شعيب من قِبل الحجاج بْنُ أرطأة لِأَنَّهُ في سنده وهو معروف بالتدليس, وحكى محمد بْنُ عقيل قَالَ: أن يحي بْنُ سعيد قَالَ: لم يسمع حجاج من عمرو, وقال الحافظ بْنُ حجر رحمه الله: أحسن المسالك في تقرير الحديثين؛ يَعْنِي: حديث اِبْن عباس وحديث عمرو بْنُ شعيب, ترجيح حديث اِبْن عباس كما رجحه الأئمة, وأنها تُرد إليه بالعقد السابق ولا يحتاج تجديد العقد.
وقال الحافظ بْنُ حجر رحمه الله: أحسن المسالك في تقرير الحديثين؛ يَعْنِي: حديث اِبْن عباس وحديث عمرو بْنُ شعيب, ترجيح حديث اِبْن عباس كما رجحه الأئمة, وحمله عَلَى تطاول العدة فيما بين نزول آية التحريم وإسلام أبي العاص بْنُ الربيع, ولا مانع من ذلك, تطول المدة يَعْنِي: إنها ما خرجت من العدة لأنها تأخر عنها الحيض هَذِه المدة مدة سنتين أو ست سنوات, ولم تنزل آية التحريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}[الممتحنة/10].
هَذِه الآية نزلت متأخرة وكانوا قبل ذلك تبقى المرأة مع زوجها, فتطاولت العدة فيما بين نزول آية التحريم, ولهذا ردها النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أبي العاص, أو أنها جلست تنتظر إسلامه ولو بعد خروج العدة كما أقر ذلك اِبْن القيم وغيره, وحديث اِبْن عباس أصح من حديث عمرو بْنُ شعيب عن أبيه عن جده, والحديث لا بأس بِهِ, قَالَ الترمذي: ليس بإسناده بأس.
وحُكي عن يزيد بْنُ هارون أَنَّه ذكر حديث عمرو بْنُ شعيب عن أبيه عن جده: «أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رد ابنته عَلَى أبي العاص بمهر جديد ونكاح جديد» قَالَ: حديث اِبْن عباس أجود إسنادًا والعمل عَلَى حديث عمرو بْنُ شعيب, الخطابي يقول: العمل عَلَى حديث اِبْن عباس هذا أصح لِأَنَّهُ يحتمل أن تكون عدتها قد تطاولت حتى بلغت المدة المذكورة في الحديث إما الطول منها وإما القصر, إِلَّا أن حديث داود بْنُ حصين عن عكرمة عن اِبْن عباس أصح,,
وقال بَعْضُهُم: ردها عَلَى النكاح الأول: يَعْنِي عَلَى مثل النكاح الأول؛ تأويل, أي عَلَى مثل النكاح الأول في الصداق والحباء ولم يُحدث زيادة عَلَى ذلك من شرطٍ ولا غيره, يَعْنِي: عقدها بنكاح آخر مثل النكاح الأول ومثل الصداق الأول وليس هناك زيادة عَلَى العقد الأول لا مهر ولا شرط, البخاري قَالَ: حديث اِبْن عباس أصح في هذا الباب من حديث عمرو بْنُ شعيب, والدارقطني يقول: حديث عمرو بْنُ شعيب لا يثبت والصواب حديث اِبْن عباس.
وابن القيم رحمه الله أطال الكلام في هذا وذكر أقوال لأهل العلم في هذا وقال: إن الناس لهم مسالك ولهم طرق في هذا, وقال: إن تضعيف حديث داود بْنُ حصين ممن لا يثبت, وحمله عَلَى تطاول العدة لا يخفى بعده, وحمله عَلَى أَنَّه ردها بنكاح جديد مثل الأول في غاية البعد, وَكَذَلِكَ رده بكون خلاف الإجماع فاسد إذ أَنَّه ليس بالمسألة إجماع, وليس القول في هذا الحديث إِلَّا أحد قولين:
الأول: إما قول إبراهيم النخعي أنها تُرد إِلَى زوجها وإن طالت المدة.
الثاني: وإما قول من يقول أن التحريم لم يكن ثابتًا إِلَى حين نزول الممتحنة, فكانت الزوجية مستمرة قبل ذلك؛ لِأَنَّهَا ما نزلت آية التحريم إِلَّا بعد ذلك, والآية تأخرت نزولها فردها عليه بالنكاح الأول لِأَنّ النكاح مستمر ما مُنع من ردها عليه, ردها عليه ولو قبل أن يُسلم, يقول: فهذان المسلكان أجود ما سُلك في الحديث.
(المتن)
باب في من أسلم وعنده نساء أكثر من أربع أو أختان.
2241- حدثنا مسدد، قال: حدثنا هشيم، ح وحدثنا وهب بن بقية، قال: أخبرنا هشيم، عن ابن أبي ليلى، عن حميضة بن الشمردل، عن الحارث بن قيس، قال مسدد: ابن عميرة وقال وهب: الأسدي قال: «أسلمت وعندي ثمان نسوة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اختر منهن أربعًا»، قال أبو داود: وحدثنا به أحمد بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، بهذا الحديث فقال: قيس بن الحارث، مكان الحارث بن قيس، قال أحمد بن إبراهيم: «هذا هو الصواب يعني قيس بن الحارث».
2242- حدثنا أحمد بن إبراهيم، قال: حدثنا بكر بن عبد الرحمن، قاضي الكوفة، عن عيسى بن المختار، عن ابن أبي ليلى، عن حميضة بن الشمردل، عن قيس بن الحارث بمعناه.
(الشرح)
هذا الباب عقده المؤلف: (باب في من أسلم وعنده نساء أكثر من أربع أو أختان) والحديث في سنده الحارث بْنُ قيس, يقال: حارث بْنُ قيس أو قيس بْنُ الحارث, قال مسدد: قيس بْنُ الحارث بن عميرة وقال وهب بْنُ بقية: الحارث بْنُ قيس الأسدي, والحارث بْنُ قيس ضعفه بعض المحدثين لَكِنْ يشهد له الحديث الذي بعده, والحديث دليل عَلَى أن من أسلم وعنده أكثر من أربعة نسوة فَإِنَّهُ يختار منهن أربعًا ويفرق سائرهن.
قَالَ الحارث بْنُ قيس: «أسلمت وعندي ثمان نسوة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اختر منهن أربعًا» ظاهره يدل عَلَى أن الاختيار في ذلك إليه وأن يُمسك من شاء منهن سواءٌ كَانَ عقد عليهن كلهن في عقد واحد أو لا؛ لِأَنّ الْأَمْرِ قد فوض إليه من الاختيار من غير استفصال, ما قَالَ: اختار الأولات ولا الآخرات, اختر أربعًا ويطلق الباقي, سواء عقد عليهن كلهن في عقدٍ واحد أو لا؛ لِأَنّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فوض الْأَمْرِ إليه وإلى هذا ذهب الجمهور: مالك, والشافعي, وأحمد.
وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري: فيهِ تفصيل: إن نكحهن في عقد واحد فُرق بينه وبينهن, وإن كَانَ نكح واحدةً بعد الأخرى حبس أربعًا منهن: الأولى فالأولى ويترك سائرهن, إذا كَانَ عنده ثمان يختار الأولى الَّتِي عقد عليها أولًا ثم الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة, وأما المتأخرات في العقد فيفارقهن.
وأنكحة الكفار صحيحة إذا أسلموا لا يؤمرون بتجديد النكاح إِلَّا إن كَانَ في نكاحهم من لا يجوز الجمع بينهن من النساء, وفيه: أَنَّه لا يجوز أكثر من أربعة نسوة, وأنه إذا قَالَ: اخترت فلانة وفلانة للنكاح ثبت نكاحهن وتحصل الفرقة بينه وبين ما سوى الأربع من غير أن يطلقهن؛ لِأَنّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اختر أربعًا وفارق سائرهن».
وأما محمد بْنُ الحسن قَالَ في موطئه: بهذا نأخذ أَنَّه يختار منهن أربعًا أيتهن شاء ويفارق ما بقي, وأما أبو حنيفة رحمه الله فَقَالَ: الأربع الأول جائز ونكاح من بقي منهن باطل, ذهب إِلَى هذا إبراهيم النخعي.
قال أبو داود: (وحدثنا به أحمد بن إبراهيم، حدثنا هشيم، بهذا الحديث فقال: قيس بن الحارث، مكان الحارث بن قيس، قال أحمد بن إبراهيم: هذا هو الصواب يعني قيس بن الحارث) يَعْنِي: في اسم الراوي, ولذلك ذكر الحافظ التقريب أَنَّه قَالَ يقال: قيس بْنُ الحارث الأسدي, ويقال: حارث بْنُ قيس.
وأما الحديث الثاني الحديث الذي بعده: (حدثنا أحمد بن إبراهيم، قال: حدثنا بكر بن عبد الرحمن، قاضي الكوفة، عن عيسى بن المختار، عن ابن أبي ليلى، عن حميضة بن الشمردل، عن قيس بن الحارث بمعناه) يَعْنِي: بمعنى الحديث الآخر, وهذا الحديث ضعيف؛ لِأَنّ في سنده محمد بْنُ عبد الرحمن بْنُ أبي ليلى, وضعفه غير واحد من الأئمة كما قَالَ المنذري, لَكِنْ الحديث يشهد له الحديث السابق.
قَالَ: (أبو عمر ليس له إِلَّا حديث واحد) يَعْنِي: حديث قيس, (ولم يأتي من وجه صحيح) عَلَى كل حال الحديث ضعيف لَكِنْ يشهد له الحديث السابق, والسابق يشهد له الحديث هذا فيشد بعضهما بعضًا, وهو دليل عَلَى أن من أسلم وتحته أكثر من أربعة نسوة فَإِنَّهُ يختار أربعًا ويفارق سائرهن, وإن كانا أختان فَإِنَّهُ يُفرق بينهما, والقرآن الكريم دل عَلَى هذا في قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}[النساء/23].
(المتن)
2243- حدثنا يحيى بن معين، قال: حدثنا وهب بن جرير، عن أبيه، قال: سمعت يحيى بن أيوب، يحدث عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي وهب الجيشاني، عن الضحاك بن فيروز، عن أبيه قال: قلت: «يا رسول الله، إني أسلمت وتحتي أختان؟، قال: طلق أيتهما شئت».
(الشرح)
هذا الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجة, وقال الترمذي: حديث حسن صحيح, والحديث في سنده أبو وهب الجيشاني وشيخه الضحاك وهما مجهولان, وفيه أيضًا يحي بْنُ أيوب وهو ضعيف, فالحديث ضعيف لَكِنْ معناه صحيح, وقد دل عليه الْقُرْآن الكريم من النهي عن الجمع بين الأختين, فإذا أسلم وتحته أختان فلابد وأن يطلق إحداهما لقول الله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}[النساء/23]؛ فالحديث وإن كَانَ فيهِ ضعف لَكِنْ الْقُرْآن الكريم دل عَلَى أَنَّه لا يجوز الجمع بين الأختين, العمدة عَلَى ما دل عليه الْقُرْآن الكريم وإلا الحديث فيهِ ثلاثة ضعفاء متكلمٌ فيهم.
أما كلام العلماء, فذهب الجمهور الشافعي ومالك وأحمد إِلَى أنه لو أسلم رجل وتحته أختان وأسلمتا معه كَانَ له أن يختار إحداهما ويطلق الأخرى, سواء كانت المختارة تزوجها أولًا أو آخرًا, قَالَ أبو حنيفة: إن تزوجهما معًا لا يجوز له أن يختار واحدة منهما, وإن تزوجهما متعاقبتين له أن يختار الأولى منهما دون الأخيرة, أبو حنيفة دائمًا ما يكون في خلاف مع الجمهور.
لَكِنْ الصواب ما ذهب إليه الجمهور؛ لِأَنّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ما فصل, قَالَ: «اختر أيتهما» ولهذا ذهب الخطابي قَالَ: الحديث فيهِ حجة لمن ذهب إِلَى أن اختياره لهما لا يكون فسخًا لنكاح الأخرى حتى يطلقها.
قَالَ المنذري: أخرجه الترمذي وابن ماجة وقال الترمذي حديث حسن, في لفظ الترمذي: «اختر أيتهما شئت» ولفظ اِبْن ماجة: «طلق أيتهما شئت».
فإن قيل: عندي أبو وهب الجيشاني, قَالَ: بفتح الجيم واسمه: ديلم بْنُ هوشع, وقال اِبْن يونس: عبيدٌ شرحبيل مقبول؟.
معروف الجيشاني بفتح الجيم اسمه ديلم بْنُ هوشع وقيل: هو عُبيد بْنُ شرحبيل, مقبول من الرابعة, والضحاك بن فيروز عن أبيه من أبناء فارس وفد عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وهو قاتل الأسود العنسي الكذاب الذي ادعى النبوة باليمن, فالضحاك مقبول لَكِنْ الحديث بِهِ ثلاثة ضعفاء لَكِنْ العمدة عَلَى الْقُرْآن وما دل عليه الْقُرْآن من قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}[النساء/23].
(المتن)
باب إذا أسلم أحد الأبوين، مع من يكون الولد؟.
2244- حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي، قال: أخبرنا عيسى، قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر، قال: أخبرني أبي، عن جدي رافع بن سنان، «أنه أسلم، وأبت امرأته أن تُسلم، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ابنتي وهي فطيم أو شبهه، وقال رافع: ابنتي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اقعد ناحية، وقال لها: اقعدي ناحية، قال: وأقعد الصبية بينهما، ثم قال ادعواها، فمالت الصبية إلى أمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اهدها، فمالت الصبية إلى أبيها، فأخذها».
(الشرح)
هذا الحديث أخرجه النسائي والترجمة: (إذا أسلم أحد الأبوين ولم يُسلم الآخر مع من يكون الولد) ذكر حديث رافع بْنُ سنان: «أنه أسلم، وأبت امرأته أن تُسلم، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ابنتي وهي فطيم أو شبهه» يَعْنِي: في سن الفطام صغيرة وتريد أن تأخذها, وقال رافع: «ابنتي يا رسول الله، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: اقعد ناحية، وقال لها: اقعدي ناحية، قال: وأقعد الصبية بينهما، ثم قال ادعواها، فمالت الصبية إلى أمها» وهي غير مسلمة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اهدها، فمالت الصبية إلى أبيها، فأخذها» وأبوها مسلم.
قولها: «أو شبهه» يَعْنِي: شبه الفطيم.
وهذا الحديث فيهِ أَنَّه إذا أسلم أحد الزوجين يُخير الولد فإذا اختار أحدهما فَإِنَّهُ يأخذه, واحتج بِهِ الخطابي وجماعة قالوا: إن الولد الصغير إذا كَانَ بين اَلْمُسْلِم والكافر فَإِن اَلْمُسْلِم أحق بِهِ, وإلى هذا ذهب الشافعي, ولهذا لما مال إِلَى أمه قَالَ: «اللهم اهده» فمال إِلَى أبيه.
وقال أصحاب الرأي وهم الأحناف في الزوجين يفترقان بطلاق والزوجة ذمية إن الأم أحق بولدها ما لم تتزوج ولا فرق في ذلك بين المسلمة والذمية.
وعلى كل حال يحتاج هذا الْأَمْرِ إِلَى جمع ما ورد في هذا من الأحاديث والنظر في كلام العلماء ولا يكفي الحديث هذا, ولهذا المؤلف ما جزم, في الترجمة قَالَ: (باب إذا أسلم أحد الأبوين، مع من يكون الولد؟.).
فإن قيل: الحديث هذا صحيح؟.
محل نظر في صحته؛ لِأَنَّهُ لو كَانَ صحيح لجزم بالترجمة, والأقرب أَنَّه فيهِ كلام لأهل العلم, وسيُنظر للأحاديث الأخرى هل له شواهد أم لا.
فإن قيل: لماذا قَالَ أبو حنيفة هي أحق بها؟.
عَلَى سبيل أنها هي الَّتِي تقوم برعايته, بخلاف الأب فَإِنَّهُ لا يستطيع أن يقوم بحضانته, وَلَكِن إذا كانت غير مسلمة فهي لا تؤمن أن تنشئه عَلَى دينها.
قَالَ الحافظ شمس الدين اِبْن القيم رحمه الله: هذا الحديث يرويه أبو وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز عن أبيه.
قال البخاري: في إسناد هذا الحديث نظر. ووجه قوله: أن أبا وهب والضحاك مجهول حالهما, وفيه يحيى ابن أيوب, ضعيف. وقوله: «طلق أيتهما شئت؟» دليل على أنه إذا طلق واحدة لم يكن اختيارًا لها كما قال أصحابنا وأصحاب الشافعي, قالوا: لأن الطلاق إنما يكون للزوجة لا للأجنبية, فإذا طلقها كان دليلًا على استبقاء نكاحها, وهذا ضعيف جدًا, فإن طلاقه لها إنما هو رغبة عنها, وقطع لنكاحها, فكيف يكون اختيارا لها؟ وهو لو قال: طلقت هذه وأمسكت هذه, أو اخترت هذه: جعلتم التي اختار إمساكها مفارقة والتي اختار طلاقها مختارة! وهذا معلوم أنه ضد مقصوده.
وأقصى ما في الباب أنه استعمل لفظ الطلاق في مفارقتها والنبي صلى الله عليه وسلم قال له: «فارق سائرهن» والمفارقة أيضًا من صرائح الطلاق عندكم, فإذا قال: فارقت هذه, كان اختيارا لها! وهذا أحد الوجهين لهم, وإنما يكون مفارقًا لها إذا قال: فسخت نكاح هؤلاء أو اخترت هؤلاء ونحوه.
وصاحب الشرع قد أمره بالفراق, وإذا أتى باللفظ الذي أمره بِهِ, كان ذلك فراقًا لا اختيارًا.
وأما قولهم: إن الطلاق لا يكون إلا في زوجة. قلنا :هذا ينتقض بالفسخ, وإنكم قد قلتم: لو فسخ نكاح إحداهن كان اختيارًا للباقيات, ومعلوم أن الفسخ لا يكون إلا في زوجة, فما هو جوابكم في الفسخ هو الجواب في الطلاق.
وأيضًا فالطلاق جعل عبارة عن الفسخ, وإخراجا للمطلقة, واستبقاء للأخرى, فكأنه قال: أرسلت هذه وسيبتها ونحوه, وأمسكت هَذِه, وأيضًا فإن النكاح لم تزل أحكامه كلها بالإسلام, ولهذا قلتم: إن عدة المفارقات من حين الاختيار, لا من حين الإسلام على الصحيح, وعللتم ذلك بأنهن إنما بِنَّ منه بالاختيار لا بالإسلام, فالطلاق أثر في قطع أحكام النكاح وإزالتها, وأيضًا فإن العبرة بالقصد والنية, وهو لم يرد قط بقوله: "طلقت هذه" اختيارها, بل هذا قلب للحقائق! وأيضًا فإن لفظ الطلاق لم يوضع للاختيار لغة ولا شرعًا ولا عرفًا ولا هو اصطلاح خاص له يريده بكلامه, فحمله على الاختيار ممتنع .