شعار الموقع

شرح كتاب الطلاق من سنن أبي داود_14

00:00
00:00
تحميل
119

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى رسول الله: 

(المتن) 

يقول الإمام أبو داود رحمه الله في سننه: 

بابٌ في اللعان. 

2245- حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، أن سهل بن سعد الساعدي أخبره، «أن عويمر بن أشقر العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي، فقال له: يا عاصم أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا، أيقتله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ سل لي يا عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجع عاصم إلى أهله، جاءه عويمر، فقال له: يا عاصم، ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عاصم: لم تأتني بخير، قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة التي سألته عنها، فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها، فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو وسط الناس، فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أُنزل فيك وفي صاحبتك قرآن، فاذهب فأت بها, قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغًا، قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها عويمر ثلاثًا، قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم»، قال ابن شهاب: فكانت تلك سنة المتلاعنين. 

(الشرح) 

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: 

قَالَ المؤلف رحمه الله: (بابٌ في اللعان) يَعْنِي: باب ما جاء في اللعان من الأحاديث والسنة في هذا, واللعان مأخوذ من اللعن, والمصدر: لاعن يلاعن ملاعنة؛ لِأَنّ الملاعن يقول في الخامسة: إن لعنة الله عليه إن كَانَ من الكاذبين, واُختير لفظ اللعن دون الغضب في التسمية؛ لِأَنَّهُ قول الرجل, هو الذي يلعن وهو الذي يُبدأ بِهِ في الآية, وقيل: سمي لعانًا؛ لِأَنّ اللعن هو الطرد والإبعاد مشترك بينهما, وخُصت المرأة بلفظ الغضب لعظم الذنب بالنسبة إليها, واللعان مشروع وهذا بالإجماع أن اللعان مشروع إذا قذف رجل امرأته بالفاحشة والعياذ بالله وليس عنده بينة فَإِنَّهُ يلاعن لإسقاط الحد إِلَّا إذا اعترفت هي فَإِنَّهُ يُقام عليها الحد. 

ذكر المؤلف رحمه الله حديث سهل بْنُ سعد وهو حديث صحيح أخرجه الشيخان البخاري ومسلم وابن ماجة, وفيه: «أن عويمر بن أشقر العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي، وقال له: يا عاصم أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا، أيقتله فتقتلونه» يَعْنِي: أخبرني عن حكم رجل وجد مع امرأته رجلًا يَعْنِي: فعل بها الفاحشة وزنا بها, «أيقتله فتقتلونه» يَعْنِي: قصاصًا, «أم كيف يفعل؟». 

قَالَ النووي رحمه الله: اختلفوا فيمن قتل رجلًا قد جزم بأنه زنا بامرأته فَقَالَ جمهور العلماء: يُقتل إِلَّا أن يقيم عَلَى ذلك بينة, أو يعترف ورثة القتيل, أما فيما بينه وبين الله فَإِن كَانَ صادقًا فلا شيء عليه. 

«فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها» يَعْنِي: كره المسائل الَّتِي لا يُحتاج إليها ولاسيما ما كَانَ منها هتك سِتر مسلم أو إشاعة الفاحشة, هذا هو الذي كرهه النَّبِيِّ r, وليس المراد المسائل المحتاج إِلَيها إذا وقعت, قد كَانَ المسلمون يسألون عن النوازل فيجيبهم النَّبِيِّ r بغير كراهة. 

 «حتى كبر على عاصم» يعني: حتى شق عليه هذا الْأَمْرِ, كبر معناها عظم وزنًا ومعنًا, «فلما رجع عاصم إلى أهله، جاءه عويمر، فقال له: يا عاصم، ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عاصم: لم تأتني بخير، قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة التي سألته عنها، فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها» لِأَنّ عويمر مبتلىً بِذَلِكَ والعياذ بالله والبلاء موكلٌ بالمنطق. 

«فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو وسط الناس، فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه» يَعْنِي: قصاصًا, «أم كيف يفعل؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أُنزل فيك وفي صاحبتك قرآن، فاذهب فأتِ بها, قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم» ففي هذا الحديث من الفوائد: مشروعية اللعان إذا قذف الرجل امرأته بالزنا وأنكرت ذلك, واللعان كما ذكر الله تعالى في الْقُرْآن الكريم وكما سيأتي في الأحاديث أَنَّه يشهد أربع شهادات لله, يقول: اشهد بالله لقد زنت زوجتي هَذِه, ثم في الخامسة يقول: إن لعنة الله عليه إن كَانَ من الكاذبين, ثم هنا سقط عنه حد القذف ثم تُوجه الأيمان إِلَى المرأة فَإِن تلكأت أو امتنعن أُقيم عليها الحد, وإن أتت بالأيمان سقط عنها الحد: تشهد أربع شهادات بالله تقول: أشهد بالله لقد كذب عليَ زوجي فيما رماني بِهِ من الزنا, ثم تقول الخامسة: إن لعنة الله عليها إن كَانَ من الصادقين, ثم يُفرق بينهما تفريقًا مؤبدًا. 

ومن نكل منهما عن اللعان أقيم عليه الحد, حد القذف, إن نكل الزوج وامتنع من اللعان أقيم عليه حد القذف ثمانين جلدة, وإن نكلت المرأة عن اللعان أقيم عليها الحد بالرجم بالحجارة حتى تموت, وإذا تم اللعان فُرق بين الزوجين تفريقًا مؤبدًا, وإذا كَانَ هناك حمل أو ولد ولاعن الزوج ونفى الولد وقال ليس مني فَإِنَّهُ يُنتفى الولد ويُنسب إِلَى المرأة, ولا عبرة بالشبه بعد أيمان اللعان كما سيأتي في الأحاديث, فلو جاءت بالولد عَلَى صفة الزاني وشِبهه فلا يُقام عليها الحد؛ لِأَنّ أيمان اللعان كافية, ولهذا في بعض روايات الحديث أن النَّبِيِّ r قَالَ: «لولا الأيمان لَكِان لي ولها شأن». 

قال ابن شهاب: (فكانت تلك سنة المتلاعنين) يَعْنِي: السنة أن يشهد عَلَى نفسه أربع شهادات ثم يشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كَانَ من الكاذبين, ثم المرأة تشهد أربع شهادات أَنَّه كاذب والخامسة أن لعنة الله عليها إن كَانَ من الصادقين. 

« قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها عويمر ثلاثًا، قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم» لما فرغ عويمر وزوجته عن التلاعن قَالَ: «كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها» يَعْنِي: أمسكتها في نكاحي, «فطلقها عويمر ثلاثًا » طلقها لِأَنَّهُ ظن أن اللعان لا يحرمها عليه, فأراد تحريمها بالطلاق, والصواب كما سيأتي: أن اللعان فُرقة فيُفرق بينهما وأن التفريق يكون باللعان ولا يحتاج طلاق, وسيأتي الكلام في هذا والأحاديث الآتية. 

من العلماء من قَالَ: إن الفرقة تكون بالطلاق احتجاجًا بهذا الحديث, وَلَكِن الصواب: أن التفريق إِنَّمَا هو باللعان كما سيأتي أن النَّبِيِّ r فرق بينهما فرقة مؤبدة, وأما هذا كونه طلقها ثلاثًا هذا ظنٌ منه أنها تحتاج إِلَى طلاق. 

قوله: «كذبت عليها إن أمسكتها» هَذِه طوطئة, يَعْنِي: إن أمسكت هَذِه المرأة في نكاحي ولم أطلقها يلزم كأني كذبت فيما قذفتها؛ لِأَنّ الإمساك ينافي كونها زانية فلو أمسكت فكأني قلت: هي عفيفة, فطلقها ثلاثًا. 

لهذا قال ابن شهاب رضي الله عنه: (فكانت تلك سنة المتلاعنين) تلك يَعْنِي: الفرقة بين المتلاعنين. 

(المتن) 

2246- حدثنا عبد العزيز بن يحيى، قال: حدثني محمد يعني ابن سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عباس بن سهل، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعاصم بن عدي: «أمسك المرأة عندك حتى تلد». 

(الشرح) 

فيهِ جواز لعان الحامل؛ لِأَنَّهَا حامل, وأنه يلاعن لنفي الولد هنا, ولهذا لعن الولد فلا يُنسب إليه. 

(المتن) 

2247- حدثنا أحمد بن صالح، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد الساعدي، قال: «حضرت لعانهما عند النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن خمس عشرة سنة، وساق الحديث، قال فيه: ثم خرجت حاملًا فكان الولد يدعى إلى أمه». 

(الشرح) 

سهل اِبْن سعد حضر لعان وهو اِبْن خمسة عشر سنة, شاب صغير, قَالَ: «ثم خرجت حاملًا فكان الولد يدعى إلى أمه» لِأَنّ عويمر لاعن ونفى الولد فَلَمّا نفى الولد كَانَ الولد يُنسب إِلَى أمه دون الزوج, والتوارث بينه وبين أمه فلا يُنسب إلى أب, وَلَكِن لا يجوز قذفه, من قذفها أو قذفه بعد ذلك يُقام عليه الحد كما سيأتي. 

(المتن) 

2248- حدثنا محمد بن جعفر الوركاني، قال: أخبرنا إبراهيم يعني ابن سعد، عن الزهري، عن سهل بن سعد، في خبر المتلاعنين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبصروها فإن جاءت به أدعج العينين عظيم الأليتين فلا أراه إلا قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة، فلا أراه إلا كاذبًا» قال: فجاءت به على النعت المكروه. 

(الشرح) 

النبي r قال: «أبصروها» يَعْنِي: انظروا المرأة الملاعنة, «فإن جاءت بِهِ» يَعْنِي: بالولد, «أدعج العينين» يَعْنِي: سواد في العين, «عظيم الأليتين» الألية العجيزة, كَانَ الرجل الذي نُسب إليه الزنا موصوف بهذه الصفات, «فلا أراه إلا قد صدق» يَعْنِي: لا أظن عويمر إِلَّا قد صدق, يَعْنِي: تكلم بصدق, «وإن جاءت به أحيمر» تصغير أحمر, «كأنه وحرة» قيل: أنها دويبة حمراء بالأرض, «فلا أراه إلا كاذبًا» فَإِن عويمر كَانَ أحمر, قال: «فجاءت به على النعت المكروه» يَعْنِي: جاءت بِهِ عَلَى صفة ما رُميت بِهِ, ومع ذلك أيمان اللعان كافية, ولهذا لما قيل للنبي r أَنَّه جاء عَلَى الصدق, قَالَ: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» فالأيمان كافية ولا يُنظر بعد ذلك إلى الشبه. 

(المتن) 

2249- حدثنا محمود بن خالد الدمشقي، قال: حدثنا الفريابي، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن سهل بن سعد الساعدي، بهذا الخبر قال: فكان يدعى يعني الولد لأمه. 

(الشرح) 

(فكان يدعى يعني الولد لأمه ) يَعْنِي: يُنسب إِلَى أمه ولا يُنسب إِلَى أبيه لِأَنَّهُ نفاه باللعان. 

شيخنا بالنسبة للحامل الملاعنة هل ليس لها ؟  

الحامل التي تلاعن لإسقاط الحد عنها، وهو يلاعن لإسقاط الولد، نفي الولد حتى لا ينسب إليه. 

(المتن) 

2250- حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، قال: حدثنا ابن وهب، عن عياض بن عبد الله الفهري، وغيره عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد، في هذا الخبر، قال: «فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ما صنع عند النبي صلى الله عليه وسلم سنة، قال سهل: حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدًا». 

(الشرح) 

هذا الحديث تحدث عنه المنذري, وقوله: «فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم» اختلف العلماء في هذا قيل: أن المراد أنفذه رسول الله r يَعْنِي: أنفذ إيقاع الطلاق, وهذا عَلَى قول من يقول: إن اللعان لا يوجب الفرقة, وأن فراقه لامرأته إِنَّمَا كَانَ بالطلاق, وهذا قول جماعة من السلف ويُنسب إلى أبي حنيفة, وإلى قول عثمان البتي. 

القول الثاني: أن التفريق إِنَّمَا يكون باللعان, وهو بمعنى هنا إنفاذ الفرقة الدائمة المؤبدة, أنفذه: يَعْنِي: أنفذ الفرقة المؤبدة, وهذا عَلَى قول من يقول: إن التفريق إنما هو باللعان ولو أكذب نفسه فيما رماها بِهِ فالفرقة مؤبدة, وإلى هذا ذهب جمهور العلماء: مالك, الشافعي, الأوزاعي, الثوري, يعقوب وأحمد, وجماعة, وإسحاق, كلهم يرون أن التفريق يكون باللعان, ويشهد لذلك قوله: «ثم لا يجتمعان أبدًا». 

ولهذا قَالَ سهل: «حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدًا» هذا يؤيد أن الفرقة إِنَّمَا هي باللعان لا بالطلاق, أبو حنيفة وجماعة يرون أن الفرقة بالطلاق, وكونه هنا طلقها ثلاثًا: هذا ظنًا منه أَنَّه لا يكون التفريق إِلَّا بالطلاق, ما أمره الرسول r, ولهذا قَالَ: «طلقها ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله r» ما أمره الرسول بالطلاق, إِنَّمَا هذا فعله من نفسه هو, طلقها ثلاثًا لشدة نفرته منها, ظنًا منه أنها تلزمه بعد ذلك فأراد أن يطلق حتى يضمن في نفسه أَنَّه انقطاع دائم, ظن أَنَّه لابد من الطلاق فلذا طلقها ثلاثًا حتى لا يعود إليها مرة أخرى, والفرقة حاصلة باللعان. 

حتى قَالَ الشافعي: إذا كانت الزوجة أمة ثم لاعنها, متى يتزوج الأمة؟ إذا لم يجد ثمن الحرة وخاف عَلَى نفسه الزنا تزوج أمة, تزوجها ثم بعد ذلك أغناه الله واشترى الأمة بَعْدَمَا لاعنها لا تحل له, لا تحل له إصابتها بعد ذلك ولو اشتراها؛ لِأَنّ اللعان فرقة مؤبدة, فصارت كحرمة الرضاع. 

وذهب الإمام أبو حنيفة ومحمد بْنُ حسن أَنَّه إذا أكذب نفسه بعد اللعان ارتفع تحريم العقد وكان للزوج نكاحها, مثال ذلك: إذا أكذب نفسه بدل اللعان ثبت النسب ولحقه الولد وهذا بعيد ومخالف لما جاءت عليه الأحاديث, وَكَذَلِكَ إذا اكذب نفسه يثبت النسب ويلحقه الولد, وهذا بعيد. 

فإن قيل: ألا يقام عليه الحد لو أكذب نفسه؟. 

لا خلاص, الأيمان كافية, قَالَ r: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن». 

 فإن قيل: اللعان عقاب؟. 

اللعان حكم شرعي خاص بالزوجين, الرجل إذا رمى امرأته بالزنا والعياذ بالله حتى يسلم من إقامة الحد, لو كَانَ غيره لأقيم عليه الحد, غير الزوج ما في إِلَّا الحد. 

قوله: «ثم لا يجتمعان أبدًا» دليل عَلَى تأبيد الفرقة وأن الفرقة مؤبدة حتى لو أكذب نفسه, والأدلة الصحيحة الصريحة قاضية بالتحريم المؤبد, ذلك أقوال الصحابة تدل عَلَى أن التفريق مؤبد وهو الذي يقتضي حكم اللعان؛ لِأَنّ لعنة الله وغضبه قد حلت بأحدهما وقد وقع الخلاف بين العلماء: هل اللعان فسخ أو طلاق؟ الجمهور قالوا: إنه فسخ, وأبو حنيفة ورواية عن محمد بْنُ حسن أَنَّه طلاق, والصواب: أَنَّه فسخ, أَنَّه فرقة مؤبدة ليس بالطلاق.  

(المتن) 

2251- حدثنا مسدد، ووهب بن بيان، وأحمد بن عمرو بن السرح، وعمرو بن عثمان، قالوا: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن سهل بن سعد، قال مسدد: قال: «شهدت المتلاعنين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن خمس عشرة ففرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تلاعنا»، وتم حديث مسدد، وقال الآخرون: «إنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين، فقال الرجل: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها» قال أبو داود: لم يقل بَعْضُهُم: عليها، قال أبو داود: لم يتابع ابن عيينة أحد على أنه فرق بين المتلاعنين. 

(الشرح) 

قوله: (قال مسدد) يَعْنِي: في روايته, (وتم حديث مسدد، وقال الآخرون) يَعْنِي: وهب بْنُ بيان وأحمد بْنُ عمرو, وعمرو بْنُ عثمان, لم يقل لفظة: عليها, يعني قوله: (لم يتابع ابن عيينة) يَعْنِي: المراد أن سفيان بْنُ عيينة قد تفرد في حديث سهل بلفظة: «فرق بين المتلاعنين» ولم يتابعه عليها أحد. 

قَالَ المنذري: قَالَ البيهقي بِذَلِكَ في حديث الزهري عن سهل بْنُ سعد, ذكر البيهقي حديث اِبْن عمر: «فرق رسول الله r بين أخوي بني عجلان» والمراد أن الفرقة لم تقع بالطلاق, قَالَ: ومعنى التفريق؛ تبيينه r الحكم بإيقاع الفراق. 

فإن قيل: هنا أبو داود لم يتابع اِبْن عيينة عَلَى هَذِه العبارة؟. 

يَعْنِي: لم يتابع عليها قوله: «ثم فرق بين المتلاعنين» هَذِه اللفظة لم يتابعه عليها أحد وتفرد بها اِبْن عيينة. 

(المتن) 

2252- حدثنا سليمان بن داود العتكي، قال: حدثنا فليح، عن الزهري، عن سهل بن سعد، في هذا الحديث، «وكانت حاملًا فأنكر حملها فكان ابنها يُدعى إليها، ثم جرت السنة في الميراث: أن يرثها وترث منه ما فرض الله عز وجل لها». 

(الشرح) 

وهذا فيهِ أن الملاعنة عَلَى الحمل, «وكانت حاملًا فأنكر حملها» يَعْنِي: الزوج لاعن ونفى الولد وأنكر أن يكون منه, «فكان ابنها يُدعى إليها» يُنسب إليها ولا يُنسب إِلَى أبيه, قال: «ثم جرت السنة في الميراث: أن يرثها وترث منه ما فرض الله عز وجل لها». 

فالولد يرث أمه وأمه ترثه فقط, وأما الأب ليس له علاقة الآن, لا يُنسب إلى الأب ولا الأب يُنسب إليه, فالعلاقة مع أمه, ترث أمه ما فرض الله لها إذا مات, وإن ماتت هي ورثها هو, والملاعنة هنا عَلَى الحمل. 

فإن قيل: ترث المال كله؟. 

ترث ما ترث الأم, يَعْنِي: إذا كَانَ تزوج وله أولاد ترث السدس, ولو لم يكن له أولاد ترث الثلث والباقي إِلَى أولى رجل ذكر, فَإِن لم يوجد أحد ترثه فرضًا وردًا. 

فإن قيل: وفي حالة ماتت قبله ثم هو مات ولم يكن له أولاد, من يرث عصبتها هي؟. 

عصبة الأم؛ لِأَنَّهُم عصبته الآن. 

(المتن) 

2253- حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود قال: «إنا لليلة جمعة في المسجد، إذ دخل رجل من الأنصار في المسجد، فقال: لو أن رجلًا وجد مع امرأته رجلا فتكلم به جلدتموه، أو قتل قتلتموه؟ فإن سكت سكت على غيظ، والله لأسألن عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان من الغد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال: لو أن رجلًا وجد مع امرأته رجلا فتكلم به جلدتموه، أو قتل قتلتموه أو سكت سكت على غيظ؟ فقال: اللهم افتح، وجعل يدعو، فنزلت آية اللعان: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ}[النور/6] هذه الآية، فابتلي به ذلك الرجل من بين الناس، فجاء هو وامرأته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاعنا: فشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، ثم لعن الخامسة عليه إن كان من الكاذبين، قال: فذهبت لتلتعن، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: مه، فأبت، ففعلت، فلما أدبرا، قال: لعلها أن تجيء به أسود جعدًا, فجاءت به أسود جعدًا». 

(الشرح) 

هذا الحديث أخرجه مسلم وابن ماجة وهو حديث صحيح, وفيه: الملاعنة عَلَى الحمل, قوله «فتكلم به جلدتموه» يَعْنِي: بحد القذف, «أو قتل قتلتموه؟» يَعْنِي: بالقصاص, فَقَالَ: «اللهم افتح» يَعْنِي: احكم بيننا, وبين لنا الحكم, والفتاح هو الحاكم, قَالَ الله تعالى: {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ}[سبأ/26].  

«ثم لعن الرجل نفسه الخامسة» يَعْنِي: في المرة الخامسة, «فذهبت لتلتعن» أي تلاعن, فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «مه» كلمة زجر فأبت أن تنزجر، فلما تلاعنا, « قال: لعلها أن تجيء به أسود جعدًا» يَعْنِي: ليس سبط الشعر, ولكنه جعد الشعر, وهذا دليل عَلَى أن المرأة كانت حاملًا وأن اللعان وقع عَلَى الحمل, وهذا هو قول الجمهور: أن الرجل يلاعن لنفي الحمل, وذهب إِلَى هذا مالك والشافعي وجماعة, وأما أبو حنيفة قَالَ: لا تلاعن بالحمل لِأَنَّهُ لا يدري لعله ريح, وهذا قولٌ مرجوح, الحديث صريح في أَنَّه لعن لنفي الولد. 

(المتن) 

2254- حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، قال: أخبرنا هشام بن حسان، قال: حدثني عكرمة، عن ابن عباس، «أن هلال بن أمية قذف امرأته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: البينة أو حدٌ في ظهرك, قال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا رجلًا على امرأته يلتمس البينة؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: البينة وإلا فحدٌ في ظهرك, فقال هلال: والذي بعثك بالحق نبيًا، إني لصادق، ولينزلن الله في أمري ما يبرئ به ظهري من الحد, فنزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ}[النور/6]، فقرأ حتى بلغ {لَمِنَ الصَّادِقِينَ} فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليهما، فجاءا، فقام هلال بن أمية، فشهد، والنبي صلى الله عليه وسلم، يقول: الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب؟ ثم قامت فشهدت، فلما كان عند الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، وقالوا لها: إنها موجبة، فقال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها سترجع، فقالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، خدلج الساقين، فهو لشريك بن سحماء»، فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا ما مضى من كتاب الله، لكان لي ولها شأن» قال أبو داود: «وهذا مما تفرد به أهل المدينة حديث ابن بشار حديث هلال». 

(الشرح) 

وهذا الحديث صحيح أخرجه البخاري والترمذي وابن ماجة, وفيه: «أن هلال بن أمية» وهو أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وتاب الله عَلَيْهِمْ, قَالَ تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا}[التوبة/118]؛ هو أحدهم.  

 «قذف امرأته» يَعْنِي: نسبها إِلَى الزنا, «بشريك بن سحماء», يعني قذفها بهذا الرجل شريك بن سحماء، «فقال النبي صلى الله عليه وسلم: البينة أو حدٌ في ظهرك» يَعْنِي: عَلَى ظهرك, وفي رواية أَنَّه قَالَ: «ينطلق أحدنا يلتمس البينة» وجعل يقول: إنه صادق وإن الله سيبرئني. 

وفيه أن: «النبي قال: الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب؟» يَعْنِي: فيهِ عرض التوبة عَلَى المتلاعنين قبل اللعان, ولكنه ظاهر الحديث أن هذا بعد فراغهما من اللعان, فيؤخذ منه عرض التوبة عَلَى المذنب ولو بطريق الإجمال؛ وأَنَّهُ يلزم من كذبه التوبة. 

قوله: «إنها الموجبة عند الخامسة» يَعْنِي: يُشرع أن يقال: إنها الموجبة, أي موجبة للعذاب إن كنتِ كاذبة, ويُسن أن يقال هذا للرجل والمرأة, إذا شهد أربع شهادات كما سيأتي أيضا في الحديث: «أن يأتي رجل ويضع يده عَلَى فمه ويقول: اتقِ الله فإنها الموجبة, والمرأة تَأْتِيَ امرأة وتضع يدها عَلَى فمها وتقول: اتقِ الله إنها الموجبة, أي: الموجبة للعذاب, لعلهما يتوبا». 

المرأة لما جاءت الخامسة: «فتلكأت ونكصت» أي توقفت, منه يقال: تلكأ في الْأَمْرِ إذا تبطأ فيهِ وتوقف, نكصت: يَعْنِي: رجعت وتأخرت؛ حتى ظُن أنها سترجع ثم قالت: «لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت» يَعْنِي: تلكأت في أول الْأَمْرِ ثم مضت وشهدت الشهادات. 

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أبصروها» يَعْنِي: انظروا وتأملوا فيما تَأْتِيَ من ولدها بالحمل, «فإن جاءت به أكحل العينين» يَعْنِي: الذي يعلي جفون عينيه سواد مثل الكحل, «سابغ الأليتين» يَعْنِي: عظيمهما, «خدلج الساقين،» يَعْنِي: سمين, «فهو –أي الولد- لشريك بن سحماء» لِأَنّ هذا وصف الذي قُذفت به، «فجاءت به كذلك» جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين، «فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لولا ما مضى من كتاب الله، لكان لي ولها شأن» يَعْنِي: الأيمان كافية ولولا الأيمان لأقام عليها الحد لَكِنْ الأيمان كافية. 

قال أبو داود: (وهذا مما تفرد به أهل المدينة) مثل عكرمة وابن عباس لِأَنَّهُم من أهل المدينة, أي ما روى هَذِه القصة غير أهل المدينة, (حديث ابن بشار حديث هلال). 

وهذه الأحاديث فيها أن الملاعن هلال بْنُ أمية, والأحاديث السابقة فيها أن الملاعن عويمر العجلاني, وأن الآية نزلت في هلال, وقيل: أنها نزلت في عويمر, هذا الحديث يدل عَلَى أن هلالًا هو الملاعن والآية نزلت فيهِ والولد شابهه, واختلف العلماء في نزول آية اللعان هل هي بسبب عويمر أو بسبب هلال, فالجمهور عَلَى أنها نزلت في هلال, وأما قول النَّبِيِّ r في الحديث السابق في حديث عويمر: «قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك» قالوا: معناه الإشارة إِلَى ما نزل في قصة هلال, وأن الأصل هو هلال بْنُ أمية؛ لِأَنّ ذلك حكمٌ عام لجميع الناس فيشمل عويمر. 

وذهب بعض العلماء إِلَى أنها نزلت فيهما جميعًا, فلعلهما سألا في وقتين متقاربين, سأل هلال في وقت وسأل عويمر في وقت قريب منه, فنزلت والأقرب: أنها نزلت في هلال اِبْن أمية لِأَنَّهُ هو السابق, ثم بعد ذلك حصل لعويمر فكان دأبه دأب هلال. 

نزلت في هلال بن أمية؟ 

الجمهور على أنه هلال بن أمية هو الأصل، ثم قال قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك لعويمر يعني كما سبق في هلال، ومنهم من قال نزلت فيهما جميعا، وكل منهما سأل في وقت متقارب. 

(المتن) 

2255- حدثنا مخلد بن خالد الشعيري، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلًا حين أمر المتلاعنين، أن يتلاعنا أن يضع يده على فيه عند الخامسة، يقول: إنها موجبة». 

(الشرح) 

يَعْنِي: بَعْدَمَا يشهد أربع شهادات أمر رجلًا أن يضع يده عَلَى فم الرجل قبل الخامسة ويقول: «إنها الموجبة» يَعْنِي: الموجبة للعذاب, والمرأة تضع امرأة يدها عَلَى فمها، أو غيرها وتقول: «إنها الموجبة» أي: الموجبة لغضب الله وعقابه, والحديث أخرجه النسائي. 

(المتن) 

2256- حدثنا الحسن بن علي، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا عباد بن منصور، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: «جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة، الذين تاب الله عليهم، فجاء من أرضه عشيا فوجد عند أهله رجلًا، فرأى بعينه وسمع بأذنه، فلم يهجه حتى أصبح، ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني جئت أهلي عشاء، فوجدت عندهم رجلًا، فرأيت بعيني، وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به، واشتد عليه، فنزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ}[النور/6] الآيتين كلتيهما، فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أبشر يا هلال، قد جعل الله عز وجل لك فرجًا ومخرجًا، قال هلال: قد كنت أرجو ذلك من ربي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلوا إليها، فجاءت فتلاها عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، فقال هلال: والله لقد صدقت عليها، فقالت: قد كذب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاعنوا بينهما، فقيل لهلال: اشهد، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فلما كانت الخامسة قيل له يا هلال: اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فقال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها، فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم قيل لها: اشهدي، فشهدت أربع شهادات بالله، إنه لمن الكاذبين، فلما كانت الخامسة قيل لها: اتقي الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة، ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقضى أن لا يدعى ولدها لأب، ولا ترمى، ولا يرمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد، وقضى أن لا بيت لها عليه، ولا قوت من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق، ولا متوفى عنها، وقال: إن جاءت به أصيهب أريصح أثيبج حمش الساقين فهو لهلال، وإن جاءت به أورق جعدًا جماليًا خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو للذي رميت به، فجاءت به أورق جعدًا جماليًا خدلج الساقين سابغ الأليتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا الأيمان لكان لي ولها شأن»، قال عكرمة: «فكان بعد ذلك أميرًا على مصر وما يدعى لأب». 

(الشرح) 

هلال اِبْن أمية هو أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك, قوله: «لم يهجه» يَعْنِي: لم ينفره, وتركه حتى جاء الفجر, «سري عن رسول الله» يَعْنِي: الرسول كره هذا واشتد عليه فَلَمّا نزل الوحي سُري عن رسول الله, يعني كشف الوحي، فقال: «أبشر يا هلال، قد جعل الله عز وجل لك فرجًا ومخرجًا». 

قوله: «تلكأت» يَعْنِي: توقفت, قضى النبي صلى الله عليه وسلم أنها «لا ترمى» بعد ذلك يعني لا تُقذف المرأة بالزنا, «ولا يرمى ولدها» لا يقال لولدها: إنه ولد زنا, «ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد» يكفي الأيمان, يَعْنِي: هي بعد ذلك لا تُرمى ومن رماها بالزنا بعد اللعان يُقام عليه الحد ثمانين جلدة, ومن رمى ولدها كذلك يُقام عليه الحد. 

«ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما» تفريقًا مؤبدًا, ودليل عَلَى أن التفريق إِنَّمَا هو باللعان, «وقضى ألا يُدعى ولدها لأب» ولدها ليس له أب, يُنسب إِلَى أمه، ولا تُرمى ولا يُرمى ولدها. هذه أحكامه: 

أولا: التفريق باللعان. 

الحكم الثاني: ألا يُدعى ولدها لأب, ليس له أب وَإِنَّمَا يُنسب إِلَى أمه. 

الحكم الثالث: لا تُرمى هي بالزنا ومن رماها أقيم عليه الحد. 

الحكم الرابع: لا يُرمى ولدها, ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد. 

وفيه دليل عَلَى أَنَّه يَجِبُ الحد عَلَى من رمى المرأة الَّتِي لاعنها زوجها. 

الحكم الخامس: أن لا بيت لها, ليس لها بيت خلاص, ليس لها سكنى. 

الحكم السادس: ليس لها قوت, ليس لها نفقة من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق, المطلقة هي الَّتِي لها نفقة ولها كسوة وهذه غير مطلقة ولا متوفى عنها. 

وقال النبي: «انظروا إليه؟ إن جاءت به أصيهب أريصح أثيبج» هَذِه أوصاف للولد, أصيهب: أشقر الذي يخالط بياضه حمرة, أريصح: خفيف الأليتين, أثيبج: يَعْنِي من الثبج وهو ما بين الكاهل ووسط الظهر, «حمش الساقين» دقيق الساقين فهو لهلال. 

«أورق» يَعْنِي: أسمر, «جعدًا» جعد الشعر خلاف السبط, «جماليًا» تام الأوصاف كأنه جمل, «خدلج الساقين» خلاف حمش الساقين, فحمش الساقين خفيف، وخدلج ممتلئ الساقين وعظيمهما, «سابغ الأليتين» عظيمهما, فجاءت بِهِ عَلَى وصف الرجل الذي رُميت بِهِ وهو شريك بْنُ سحماء, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» لولا الأيمان: يَعْنِي: الشهادات, واستدل بِهِ من قَالَ: إن اللعان يمين وإلى هذا ذهب الجمهور والشافعي, وذهب أبو حنيفة إِلَى أَنَّه شهادة وليست أيمان. 

قال عكرمة: (فكان بعد ذلك أميرًا على مصر وما يدعى لأب) يَعْنِي: كَانَ هذا الولد الذي لاعن عليه هلال اِبْن أمية كبر وتعلم، وصار له مكانة حتى صار أمير عَلَى مصرٍ من الأمصار, يَعْنِي: عَلَى بلد من البلدان وما يُدعى لأب, صار أمير وليس له أب, مثل زياد بْنُ أبيه أمير العراق يسمى زياد بْنُ أبيه لِأَنَّهُ ليس له أب, وهذا صار عَلَى مصر وليس له أب ومع ذلك صار أمير عَلَى الناس. 

فإن قيل: ما الحكمة من أوصاف النَّبِيِّ r، ما دام اللعان خلاص, كونه قَالَ: إن جاءت بِهِ كذا وكذا فهو لكذا؟. 

الله أعلم, يمكن الحكمة قد يقال: بيان أَنَّه لا عبرة بالشبه وأن الأيمان كافي؛ لِأَنَّهُ قد يأتي بعد ذلك لو لم يبين النَّبِيِّ الآن جاءت الأوصاف عَلَى المرأة لابد أن نقيم عليها الحد, فالنبي بين أَنَّه لا عبرة بالشبه, والأيمان كافية لهذا قَالَ: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن». 

(المتن) 

2257- حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: سمع عمرو، سعيد بن جبير يقول: «سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين: حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها، قال: يا رسول الله، مالي؟ قال: لا مال لك، إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك». 

(الشرح) 

هذا الحديث أخرجه الشيخان والنسائي, قوله: «حسابكما» يَعْنِي: محاسبتكما ومجازاتكما عَلَى الله, «أحدكما كاذب» في نفس الْأَمْرِ, أما نحن نحكم بالظاهر فقط, «لا سبيل لك عليها» يَعْنِي: لا يجوز أن تكون معك بل حرمت عليك تحريمًا مؤبدًا, استدل بِهِ من قَالَ: لوقوع الفرقة بنفس اللعان من غير احتياج إِلَى تفريق الحاكم ولهذا قَالَ: لا سبيل لك عليها. 

قال الرجل: «مالي يا رسول الله؟» يَعْنِي: المهر الذي دفعته, «قال: لا مال لك، إن كنت صادقا عليها فهو بما استحللت من فرجها» ذهب المال بالجماع, يَعْنِي: مالك في مقابلة وطأك وجماعك, وفيه أن الملاعن لا يرجع إليه المهر إذا دخل عليها, وعلى هذا اتفق العلماء, أما إذا لم يدخل بها ولاعن عليها قبل الدخول, عقد عليها ثم لاعن فَقَالَ أبو حنيفة: له نصف المهر, وذهب إِلَى هذا مالك والشافعي, وقيل: لها المهر كامل, وقيل: لا صداق لها, قال: «وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك» يَعْنِي: لِأَنَّهُ إذا لم يعد إليك الصداق وأنت صادق فلأن لا يعود إليك وأنت كاذب من باب أولى, يَعْنِي: كيف تأخذ المال وأنت كاذب. 

(المتن) 

2258- حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثنا أيوب، عن سعيد بن جبير، قال: «قلت لابن عمر: رجل قذف امرأته، قال: فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني العجلان، وقال: الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ يرددها ثلاث مرات، فأبيا ففرق بينهما». 

(الشرح) 

هذا الحديث أخرجه الشيخان والنسائي, فيهِ: أن النَّبِيِّ r فرق بينهما, فيهِ: أن التفريق يكون باللعان, وفيه أن النَّبِيِّ قَالَ: : «الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ كررها ثلاث مرات» فَلَمّا سكتا فرق النَّبِيِّ بينهما تفريقًا مؤبدًا. 

فإن قيل: لهما توبة؟. 

مأمور بالتوبة كغيره من جميع الذنوب حتى ولو بعد اللعان, لَكِنْ اللعان مضت, فيبقيا عَلَى أيمان اللعان ولو بعد التوبة, وإن تاب قبل اللعان ورجع أقيم عليه الحد إِلَّا إذا رضيت لِأَنّ هذا حق لها, إذا طلبت إقامة الحد أُقيم عليه الحد وإن لم تطلب خلاص انتهى, وهي إن تابت أيضًا كذلك وقالت: إنها تابت يقام عليها الحد؛ لِأَنّ التوبة لو جاء الإنسان تائب ولم يعترف, لَكِنْ يكون الآن بعد ما جاءت عند الحاكم فالظاهر والله أعلم أَنَّه يُقام عليها الحد, لَكِنْ هذا قيل لهما بعد اللعان: «الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ يرددها ثلاث مرات» لِأَنَّهُم أدوا الأيمان فَقَالَ: «الله يعلم أن أحدكما كاذب» يَعْنِي: في أيمانه, «فهل منكما تائب؟». 

(المتن) 

2259- حدثنا القعنبي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، «أن رجلًا لاعن امرأته في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وألحق الولد بالمرأة». 

(الشرح) 

هذا الحديث أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة, قوله في الحديث الأول: «قلت لابن عمر رجلٌ قذف امرأته» يَعْنِي: ما الحكم؟ قَالَ اِبْن عمر: «فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني العجلاني» يَعْنِي: عويمر وامرأته, وقوله: «أخوي بني العجلان» من باب التغليب, يَعْنِي: جعل الأخت كالأخ لِأَنَّهَا كأنها زوجته من بني العجلان هو وهي من بني عجلان, وأما إطلاق الإخوة نظرًا لِأَنّ الْمُؤْمِنِينَ إخوة, قَالَ الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات/10]. 

أو إِلَى القرابة الَّتِي بينهما بسبب أن الزوجين كلاهما من قبيلة عجلان, والنبي يردد كلمة: «هل منكما من تائب». 

قوله: «ففرق النَّبِيِّ r بينهما» دليل عَلَى أن الفرقة لا تقع إِلَّا بتفريق الحاكم, «رجلٌ لاعن امرأته» هو عويمر كما سبق, «وانتفى من ولده» يَعْنِي: أنكر الرجل انتساب الولد إليه, «ففرق رسول الله r بينهما وألحق الولد بالمرأة» يَعْنِي: في النسب والوراثة, فيرث ولد الملاعنة منها وترث منه ولا وراثة بين الملاعن وبينه, وهذا هو الصواب الذي دل عليه وهو قول جماهير العلماء. 

(المتن) 

قال أبو داود: الذي تفرد به مالك قوله: «وألحق الولد بالمرأة» وقال يونس، عن الزهري، عن سهل بن سعد، في حديث اللعان وأنكر حملها فكان ابنها يدعى إليها. 

(الشرح) 

قال أبو داود: (الذي تفرد به مالك) يَعْنِي: أن مالك تفرد بهذه الزيادة, «وألحق الولد بالمرأة» وفي حديث سهل بْنُ سعد من رواية يونس عن الزهري: «ثم خرجت حاملًا فكان الولد يُدعى إِلَى أمه», وفي رواية الأوزاعي عن الزهري: «فكان يُدعى لأمه», وفي رواية فُليح: «فكانت حاملًا فأنكر حملها فكان ابنها يُدعى إليها». 

قوله: (الذي تفرد به مالك) هذا مبتدأ وخبر, الذي تفرد بِهِ: مبتدأ, قوله: هذا الخبر, وأما قوله: (وقال يونس) ففيه أن يونس لم يقل في روايته, (عن الزهري، وأنكر حملها فكان ابنها يدعى إليها) إِنَّمَا قالها فُليح في روايته عن الزهري. 

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد