بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم ,الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام عَلَى رسول الله اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.
(المتن)
يقول الإمام أبو داود رحمه الله في سننه:
باب فيما تجتنبه المعتدة في عدتها
2302 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، حدثنا يحيى بن أبي بكير، حدثنا إبراهيم بن طهمان، حدثني هشام بن حسان، ح وحدثنا عبد الله بن الجراح القهستاني، عن عبد الله يعني ابن بكر السهمي، عن هشام - وهذا لفظ ابن الجراح - عن حفصة، عن أم عطية، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحد المرأة فوق ثلاث إلا على زوج، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا، ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا، إلا ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمس طيبًا إلا أدنى طهرتها إذا طهرت من محيضتها بنبذة من قسط، أو أظفار» - قال يعقوب: - «مكان عصب إلا مغسولًا» - وزاد يعقوب: - «ولا تختضب».
2303 - حدثنا هارون بن عبد الله، ومالك بن عبد الواحد المسمعي، قالا: حدثنا يزيد بن هارون، عن هشام، عن حفصة، عن أم عطية، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بهذا الحديث وليس في تمام حديثهما. قال المسمعي: قال يزيد: ولا أعلمه إلا قال فيه: «ولا تختضب»، وزاد فيه هارون، «ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا، إلا ثوب عصب».
(الشرح)
قَالَ المؤلف رحمه الله تعالى: (باب فيما تجتنبه المعتدة في عدتها), ذكر المؤلف رحمه الله حديث أم عطية رضي الله عنها فيما تجتنبه المعتدة والحادة, وَهَذَا الحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم وابن ماجة والنسائي, والحديث الَّذِي بعده فِيهِ زيادة, وأخرجه مسلم أَيْضًا.
وَفِيهِ أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا تحد المرأة فوق ثلاث إلا على زوج، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا»، فِيهِ دليل عَلَى أن المعتدة لا يجوز لها أن تحد على ميت من أقاربها أكثر من ثلاثة أيام, فَلَيْسَ لها أن تحد عَلَى أبيها أو أخيها إِلَّا ثلاثة أيام, لا تزيد عَلَى ثلاثة أيام, كما سبق أن أم الْمُؤْمِنِينَ زينب وَكَذَلِكَ أَيْضًا أم حبيبة أن كلٌ منهما بعد ثلاثة أيام مست الطيب.
وقالت: ما لي بالطيب من حاجة, إِلَّا أَنَّهَا تريد أن تزيل الإحداد بَعْدَ ثلاثة أيام, أم حبيبة بَعْدَ ثلاثة أيام من وفاة أبيها, وَكَذَلِكَ زينب بَعْدَ وفاة أخيها.
وَفِيهِ دليل عَلَى أَنَّهُ لا يجوز للمرأة أن تحد عَلَى ميت من أقاربها أكثر من ثلاثة أيام إِلَّا الزوج, فإنها تحد عَلَيْهِ أربعة أشهر وعشرة أيام, وقوله: «ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا، إلا ثوب عصب»، ثوب العصب هَذِهِ ثياب تَأْتِيَ من اليمن, يعصب غزلها يَعْنِي يربط ثُمَّ يصبغ ثُمَّ ينسج معصوبًا, فيخرج موشع, يَعْنِي فِيهِ نقوش.
يخرج أبيض لا ينصبغ, وَإِنَّمَا يعصب السدى دون اللحمة, له لحمة وله سدى, الَّذِي يلي الجسد لحمة وَالَّذِي فوقه سدى, وفي الحديث دليل عَلَى أن المعتدة الحادة تجتنب الثياب الجميلة, الَّتِي تلفت أنظار الرجال إليها, كالثوب المصبوغ؛ لِأَنَّ الصوب المصبوغ جميل, ولكنها تلبس الثوب المغسول؛ لكن المصبوغ فِيهِ جمال.
وقوله: «ولا تكتحل»، فِيهِ دليل عَلَى أن الحادة تجتنب الكحل «ولا تمس طيبًا», فِيهِ دليل عَلَى أن الحادة تجتنب الطيب, وَقَالَ فِيهِ: «ولا تختضب», فِيهِ دليل عَلَى أن الحادة تجتنب الخضاب.
فهذا الحديث فِيهِ دليل عَلَى أن المعتدة تجتنب الثياب الجميلة, وتجتنب الثوب المصبوغ وتجتنب الكحل وتجتنب الطيب, وتجتنب الخضاب وَكَذَلِكَ تجتنب الحلي, وتجتنب الثوب المعصفر وَهُوَ المصبوغ بالعصفر.
أَمَّا كونها تغسل ثيابها أو تغتسل بسدر أو شامبوا مزيل ليس فِيهِ طيب فلا بأس « ولا تمس طيبًا إلا أدنى طهرتها إذا طهرت من محيضها بنبذة من قسط، أو أظفار», والقسط والأظفار نوعان من الطيب, وليس المقصود الطيب وَإِنَّمَا يراد بهما يَعْنِي إزالة الرائحة الكريهة, ولهذا قَالَ النووي: إِنَّهُ نوعًا من البخور وليس من مقصود الطيب, وخص به المغتسلة من الحيض, إِذَا كانت الحادة الشابة تحيض فَإِنَّهُ عِنْد طهرها من الحيض تتبخر بِهَذَا النوعين من الطيب لإزالة الرائحة الكريهة, يتتبع بها أثر الدم لا للطيب.
ورواية الحديث الَّذِي بعدها قَالَ فِيهِ زيادة: زاد هارون بن هشام، «ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا، إلا ثوب عصب», ثوب العصب الَّذِي تأتي من اليمن هَذَا؛ لأنها يُعْصَبُ غزلها ويربط ثم يصبغ ثم ينسج مَعْصُوبًا فَيَخْرُجُ مُوَشًّى (.....) العُصِبَ.
قال ابن الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْحَادَّةِ لُبْسُ الثِّيَابِ الْمُعَصْفَرَةِ وَلَا الْمُصْبَغَةِ إِلَّا مَا صُبِغَ بِسَوَادٍ, فَرَخَّصَ فِيهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لِكَوْنِهِ لَا يُتَّخَذُ لِلزِّينَةِ؛ بَلْ هُوَ مِنْ لِبَاسِ الْحُزْنِ وَكَرِهَ عُرْوَةُ الْعَصْبَ أَيْضًا وَكَرِهَ مالك.
وسبق أن الحادة تراعي الأمور الخمسة لزوم البيت واجتناب الثياب الجميلة, واجتناب الطيب واجتناب الحلي, واجتناب أدوات التحسين من الخضاب والحنة وما أشبه ذَلِكَ من الأصباغ الَّتِي تجملها.
والقسط هَذَا معروف عِنْد العطار, طيب يطيب الرائحة تستعمله النفساء والحائض لقطع الرائحة, وليس المقصود به التطيب المعتاد, ولهذا رخص فِيهِ للحادة, ولا تختضب بالحناء أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ من الجمال, وَكَذَلِكَ ما يوضع عَلَى رأسها من الخضاب كُلّ هَذَا تجتنبه المرأة المحدة.
(المتن)
2304 - حدثنا زهير بن حرب، حدثنا يحيى بن أبي بكير، حدثنا إبراهيم بن طهمان، حدثني بديل، عن الحسن بن مسلم، عن صفية بنت شيبة، عن أم سلمة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشقة، ولا الحلي، ولا تختضب، ولا تكتحل».
(الشرح)
وَهَذَا الحديث أخرجه النسائي وَفِيهِ أن المتوفى عنها زوجها الحادة لا تلبس المعصفر (.....) وَهُوَ أحمر, وفي الحديث: قال في عَبْد اللَّه بْن عَمْرو في الحديث (.....) ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ قَالَ أُمّك أَمَرَتْك بِهَذَا», يَعْنِي هَذَا من ثياب النساء, والمعصفر تلبسه المرأة ولكن الحادة لا تلبس المعصفر؛ لِأَنَّهُ فِيهِ جمال, كَذَلِكَ الممشقة, المصبوغ المشق وَهُوَ الطين الأحمر, يسمى مغارة أَيْضًا فِيهِ جمال.
ولا الحلي هَذَا فِيهِ بيان أن الحلي لا تلبسه المرأة, ولا تختضب ولا تكتحل, فتبين من مجموع الأحاديث هَذِهِ الأمور الخمسة, اجتناب الحلي واجتناب الطيب واجتناب أدوات التحسين, كالخضاب في يديها والكحل في عينيها, والحمرة في شفتيها وما أشبه ذَلِكَ.
(المتن)
2305 - حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، أخبرني مخرمة، عن أبيه، قال: سمعت المغيرة بن الضحاك، يقول: أخبرتني أم حكيم بنت أسيد، عن أمها، أن زوجها، توفي وكانت تشتكي عينيها فتكتحل بالجلاء، - قال أحمد: الصواب بكحل الجلاء - فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة، فسألتها عن كحل الجلاء؟، فقالت: لا تكتحلي به إلا من أمر لا بد منه يشتد عليك، فتكتحلين بالليل، وتمسحينه بالنهار، ثم قالت عند ذلك أم سلمة: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة، وقد جعلت على عيني صبرا، فقال: «ما هذا يا أم سلمة؟» فقلت: إنما هو صبر يا رسول الله، ليس فيه طيب، قال: «إنه يشب الوجه فلا تجعليه إلا بالليل، وتنزعينه بالنهار، ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء، فإنه خضاب»، قالت: قلت: لأي شيء أمتشط يا رسول الله؟ قال: «السدر تغلفين به رأسك».
(الشرح)
وَهَذَا الحديث أخرجه النسائي وقوله: «عَنْ أمها», أمها مجهولة, فِيهَا جهالة أمها فيكون الحديث ضعيفًا وإن أخرجه النسائي ولكن تشهد له الأحاديث السابقة فيكون حسنًا, وَفِيهِ أن الحادة لا تكتحل؛ لِأَنَّ الكحل من أدوات الجمال, إِلَّا إِذَا اضطرت إِلَى هَذَا واحتاجت هَذَا وَلَمْ تجد غيره فإنها تكتحل, في الليل وتغسله بالنهار.
قالت أم سلمة: «دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة، وقد جعلت على عيني صبرا، فقال: ما هذا يا أم سلمة؟ فقلت: إنما هو صبر يا رسول الله، ليس فيه طيب، قال: إنه يشب الوجه», يَعْنِي يوقد الوجه ويزيد في لونه, فيكون فِيهِ جمال «فلا تجعلينه إلا بالليل، وتنزعيه بالنهار»، يَعْنِي اجعليه بالليل وانزعيه بالنهار «ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء، فإنه خضاب، قالت: قلت: بأي شيء يا رسول الله أمتشط؟ قال: بالسدر تغلفين به رأسك».
يَعْنِي السدر ليس فِيهِ طيب تغلفه يَعْنِي بالرغوة, تغلفين يَعْنِي تكثرين منه على الشعر حَتَّى يصير غلافًا له, رغوة؛ وَلِأَنَّهُ ليس فِيهِ طيب, ومثله الشامبوا وما أشبه ذَلِكَ, هَذَا ليس من نوع من الطيب.
فدل الحدث عَلَى أن الحادة تجتنب الكحل إِذَا هِيَ اضطرت فإنها يَعْنِي تستعمله كدواء للعين ولا تجد غيره فإنها تجعله بالليل (.....) بالنهار, لكن الآن في أدوية, الآن تطور الطيب في أدوية, فقطرات العين تنوب عنه.
وَكَذَلِكَ جعل الصبر عَلَى العين أَنَّهُ يشب الوجه, وَكَذَلِكَ الامتشاط بالطيب وبالحناء فَإِن هَذَا تمنع منه الحادة.
(المتن)
باب في عدة الحامل
2306 - حدثنا سليمان بن داود المهري، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن أباه، كتب إلى عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهري، يأمره أن يدخل على سبيعة بنت الحارث الأسلمية، فيسألها، عن حديثها، وعما قال لها: رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استفتته، فكتب عمر بن عبد الله، إلى عبد الله بن عتبة، يخبره أن سبيعة أخبرته، أنها كانت تحت سعد بن خولة، وهو من بني عامر بن لؤي، وهو ممن شهد بدرا، فتوفي عنها في حجة الوداع، وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك رجل من بني عبد الدار، فقال لها: ما لي أراك متجملة لعلك ترتجين النكاح؟ إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر، قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك، جمعت علي ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني «قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج، إن بدا لي»، قال ابن شهاب: «ولا أرى بأسًا أن تتزوج حين وضعت، وإن كانت في دمها غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر».
(الشرح)
هَذَا الباب في عدة الحامل, وذكر في هَذَا الحديث حديث سبيعة الأسلمية وَهُوَ حديث مشهور, حديث صحيح أخرجها الشيخان البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة, وَهَذَا الحديث فِيهِ دليل عَلَى أن الحامل المتوفى عنها تنقضي عدتها بوضع الحمل, طالت المدة أو قصرت, وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عامة أهل العلم, لعموم قول الله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[الطلاق/4], فعامة أهل العلم أخذوا بِهَذَا, من الآية والحديث وَهُوَ أن عدة الحامل وضع الحمل, سواء كَانت مطلقة أو متوفى عنها, أو رجعية أو غيرها, ما دامت حامل فَإِذَا وضعت الحمل انتهت العدة, طالت المدة أو قصرت.
وَقَالَ بعض العلماء: تَنْتَظِرُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا آخِرَ الْأَجَلَيْنِ, يَعْنِي تنتظر أبعد الأجلين أو آخر الأجلين إن كانت وضعت حملها قبل مضي أربعة أشهر وعشرًا, فإنها تستمر في عدتها حَتَّى يمضي عليها أربعة أشهر وعشرة أيام, وَإِذَا مضت أربعة أشهر وعشرة أيام وَهِيَ لَمْ تضع حملها تستمر حَتَّى تضع الحمل.
وَهَذَا قول ضعيف قول مرجوح قَالَ به بعض السَّلَف وروي عَنْ بعض الصَّحَابَة, عَنْ علي بن أبي طالب وابن عباس لما قَالَ: تنتظر المتوفى آخر الأجلين, يَعْنِي تمكث حَتَّى تضع حملها.
إن كانت مدة الحمل أقل, إن كَانَ مدة الحمل من وقت وفاة زوجها أربعة أشهر وعشرًا فحلت وإن وضعت, وإلا تربصت إِلَى أن تستوفي المدة, لكن عامة أهل العلم عَلَى القول الأول وأن هَذَا الخلاف كَانَ سابقًا وَهُوَ خلاف ضعيف مرجوح, هَذَا القول قول مرجوح والظاهر أن من قاله رجع عنه, عامة أهل العلم عَلَى أن عدة الحامل بوضع الحمل, وروي عَنْ عدد من جمع من الصَّحَابَة وَهُوَ قول الأئمة, مالك والشافعي وأحمد وعامة أهل العلم.
قَالَ ابن شهاب وَهُوَ الزهري: «لا أرى بأسًا أن تتزوج حين وضعت، وإن كانت في دمها غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر».
يَعْنِي أن لها تتزوج ولو في النفاس يعقد عليها لكن لا يقربها زوجها؛ لأنها بمجرد الحمل خرجت من العدة, ابن شهاب يَقُولُ: لها أن تتزوج, يعقد عليها إِلَّا أن زوجها لا يقربها حَتَّى تطهر.
(المتن)
2307 - حدثنا عثمان بن أبي شيبة، (.....) ومحمد بن العلاء، قال عثمان: حدثنا، وقال ابن العلاء: أخبرنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد الله قال: «من شاء لاعنته لأنزلت سورة النساء القصرى بعد الأربعة الأشهر وعشرًا».
(الشرح)
هَذَا الحديث أخرجه النسائي وابن ماجة, هَذَا حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: «من شاء لاعنته», والملاعنة هِيَ المباهلة, يَعْنِي من أراد أن أباهله باهلته «لأنزلت سورة النساء القصرى بعد الأربعة الأشهر وعشرًا».
سورة النساء القصرى في قوله: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}[الطلاق/1].
وسورة النساء الطولي هِيَ سورة النساء, وقول: سورة النساء القصرى, أنزلت بَعْدَ سورة النساء الطولى, والمعنى أن سورة النساء القصرى فِيهَا قوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[الطلاق/4].
فتكون الآية الَّتِي فِيهَا أَنَّهَا تتربص أربعة أشهر وعشرة أيام سابقة, {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}[البقرة/234]؛ هَذِهِ سابقة, ثُمَّ نزلت الآية الَّتِي في سورة النساء القصرى وَهِيَ في سورة الطلاق, وَفِيهَا: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}[الطلاق/4].
فعبد الله بن مسعود يَقُولُ: إن هَذِهِ الآية متأخرة سورة النساء القصرى, وَفِيهَا أن الحامل عدتها بوضع الحمل, ومن شاء أن يباهل باهلته عَلَى هَذَا, يَعْنِي سورة النساء القصرى هِيَ سورة الطلاق, ويريد أن سورة البقرة متقدمة عَلَى سورة الطلاق, سورة البقرة فِيهَا أن المرأة تتربص, المتوفى عنها تتربص أربعة أشهر وعشرة أيام, سورة الطلاق فِيهَا أَنَّهَا عدتها بوضع الحمل.
ظاهر هَذَا الكلام أَنَّهُ حملها عَلَى النسخ, « من شاء لاعنته», يَعْنِي باهتله «لأنزلت سورة النساء القصرى», وَهِيَ سورة الطلاق «بعد الأربعة الأشهر وعشر أيام», المذكورة في سورة البقرة, أيْ نزول سورة البقرة متقدم عَلَى نزول سورة الطلاق, يَقُولُ: من شاء أن يباهل باهلته, وظاهر هَذَا الكلام منه أَنَّهُ حملها عَلَى النسخ, وَهَذَا عَلَى عرف السَّلَف فِي تسمية التخصيص والتقييد نسخًا, ولا مشاحة في الاصطلاح وإلا فالمتأخرون يسمونه تخصيص, والمتقدمون يسمونه نسخ, يَعْنِي هو حمله عَلَى النسخ وأن ما في سورة الطلاق ناسخ للحكم الَّذِي في سورة البقرة.
والمتأخرون من عامة أهل العلم لا يحملونه عَلَى النسخ, ولكن يرتبون إحدى الآيتين عَلَى الأخرى, فيجعلون الَّتِي في البقرة في عدة غير الحوامل, وَالَّتِي في سورة الطلاق في عدة الحوامل.
وابن القيم رحمه الله تكلم هنا ولا أطال في هذا, قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله: وهذا يدل على أن بن مَسْعُود يَرَى نَسْخ الْآيَة فِي الْبَقَرَة بِهَذِهِ الْآيَة الَّتِي فِي الطَّلَاق, وَهِيَ قَوْله {وَأُولَات الْأَحْمَال أَجَلهنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلهنَّ} وَهَذَا عَلَى عُرْف السَّلَف فِي النَّسْخ فَإِنَّهُمْ يُسَمُّونَ التَّخْصِيص وَالتَّقْيِيد نَسْخًا.
نعم المتقدمون يسمونها نسخ والمتأخرون يسمونها تخصيص, ولا مشاحة في الاصطلاح.
وَفِي الْقُرْآن مَا يَدُلّ عَلَى تَقْدِيم آيَة الطَّلَاق فِي الْعَمَل بِهَا وَهُوَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {أَجَلهنَّ}؛ مُضَاف وَمُضَاف إِلَيْهِ وَهُوَ يُفِيد الْعُمُوم, أَيْ هَذَا مَجْمُوع أَجَلهنَّ لَا أَجَل لَهُنَّ غَيْره.
وَأَمَّا قَوْله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ}؛ فَهُوَ فِعْل مُطْلَق لَا عُمُوم لَهُ فَإِذَا عَمِلَ بِهِ فِي غَيْر الْحَامِل كَانَ تَقْيِيدًا لِمُطْلَقِهِ بِآيَةِ الطَّلَاق, فَالْحَدِيثُ مُطَابِقٌ لِلْمَفْهُومِ مِنْ دَلَالَة الْقُرْآن وَاَللَّه أَعْلَم.
(المتن)
باب في عدة أم الولد
2308 - حدثنا قتيبة بن سعيد، أن محمد بن جعفر، حدثهم ح، وحدثنا ابن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن مطر، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيب، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: «لا تلبسوا علينا سنة»، قال ابن المثنى: «سنة نبينا صلى الله عليه وسلم عدة المتوفى عنها أربعة أشهر وعشر يعني أم الولد».
(الشرح)
وَهَذَا الباب في عدة أم الولد, ذكر المؤلف رحمه الله حديث عمرو بن العاص, قَالَ: «لا تلبسوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم عدة المتوفى عنها أربعة أشهر وعشر يعني أم الولد».
وَهَذَا الحديث أخرجه ابن ماجة والحديث ضعيف فِيهِ علتان إحداهما الانقطاع, فَإِن قبيصة بن ذؤيب لَمْ يسمع من عمرو بن العاص كما قَالَ الدارقطني, ثانيًا في سنده مطر بن طهمان أبو رجاء الوراق, ضعفه غير واحد, وأم الولد هِيَ الجارية الَّتِي ولدت من سيدها.
«لا تلبسوا», بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَكَسْرِ الْبَاءِ أَيْ لَا تَخْلِطُوا, مثل قوله تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}[البقرة/42]. ويجوز التشديد «لا تُلبّسوا», لكن تَلْبِسُوا أ فصح.
فعدة المتوفى عنها اختلف العلماء في عدة أم الولد وَهِيَ الجارية الَّتِي ولدت من سيدها ومات عنها, عَلَى أقوال:
أحدها: ما دل عَلَيْهِ الحديث وَهِيَ كالحرة تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام, في هَذَا الحديث قَالَ: «لا تلبسوا علينا سنة نَبِيّنَا عدة المتوفى عنها أربعة أشهر وعشر يعني أم الولد», يَعْنِي مثل الحرة لا فرق بينهما عَلَى هَذَا القول.
القول الثاني: أَنَّهَا تعتد بثلاث حيض, وَهُوَ رواية عَنْ الإمام أحمد وَهُوَ قول أبي حنيفة وأصحابه, وقول بعض السَّلَف, أَنَّهَا تعتد بثلاث حيض.
والقول الثالث: أَنَّهَا تعتد بحيضة وَهَذَا هُوَ المشهور عَنْ الأئمة عَنْ أحمد ومالك والشافعي وَهَذَا هُوَ الأقرب أنها تعتد بحيضة ليست كالحرة.
وَأَمَّا الأمة المزوجة فعدتها من وفاة زوجها شهران وخمسة أيام, نصف عدة الحرة المتوفى عنها, الحرة المتوفى عنها زوجها عدتها أربعة أشهر وعشرة أيام, والأمة المتوفى عنها عدتها شهران وخمسة أيام عَلَى النصف, وَأَمَّا عدة أم الولد فالأقرب ما ذَهَبَ إليه الأئمة أَنَّهَا حيضة, وَفي ثلاث حيضات وقيل أنها مثل الحرة, الحديث يدل عَلَى أَنَّهَا مثل الحرة, لكن الحديث ضعيف, الحديث فِيهِ ضعف.
الخطابي يَقُولُ: أن يحتمل قوله: «لا تلبسوا علينا سنة نَبِيّنَا», أن يكون أراد بذلك سُنَّةً كَانَ يَرْوِيهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّلْبِيسَ لَا يَقَعُ فِي النُّصُوصِ إِنَّمَا يقع فِي الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ, وتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ فِي أُمِّ وَلَدٍ بِعَيْنِهَا كَانَ أَعْتَقَهَا صَاحِبُهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا.
وَعَلَى كُلّ حال العلماء اختلفوا في عدة أم الولد عَلَى هَذِهِ الأقوال الثلاثة, إِمَّا حيضة, أو ثلاث حيضات, أو أَنَّهَا مثل الحرة, ابن القيم رحمه الله أشار إِلَى هَذَا.
(المتن)
باب المبتوتة لا يرجع إليها زوجها حتى تنكح زوجا غيره
2309 - حدثنا مسدد، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن رجل طلق امرأته - يعني ثلاثًا - فتزوجت زوجا غيره، فدخل بها، ثم طلقها قبل أن يواقعها أتحل لزوجها الأول؟ قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحل للأول حتى تذوق عسيلة الآخر، ويذوق عسيلتها».
(الشرح)
هَذَا الباب في المبتوتة وَهِيَ المطلقة ثلاثًا, لا يرجع إليها زوجها يَعْنِي الأول؛ حَتَّى تنكح زوجًا غيره, ذكر فِيهِ حديث عائشة والحديث صحيح رواه الشيخان البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة.
وقوله: «قبل أن يواقعها», يَعْنِي قبل أن يجامعها «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن رجل طلق امرأته - يعني ثلاثًا - فتزوجت زوجًا غيره، فدخل بها، ثم طلقها قبل أن يواقعها», يَعْنِي عقد لها عليها ودخل بها لكن ما جامعها.
«أتحل لزوجها الأول؟ قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحل للأول حتى تذوق عسيلة الآخر»، والمراد بالعسيلة لذة جماع الزوج الثاني «ويذوق عسيلتها», يَعْنِي لذة جماعها, وَذَلِكَ بأن يقع تغييب الحشفة في الفرج, وَهَذَا قول جمهور الفقهاء, العسيلة كناية عَنْ الجماع, هُوَ تغييب حشفة الرجل في فرج المرأة, كما في حديث عائشة مرفوعًا العسيلة هِيَ الجماع.
والحديث دليل عَلَى اشتراط الجماع من الزوج الثاني لتحل للأول, وَهَذَا إجماع بين العلماء كافة, إِلَّا ما روي عَنْ سعيد بن المسيب اكتفى بالعقد وَهَذَا شاذ, سعيد بن المسيب شذ عَنْ كُلّ العلماء وَقَالَ: يكفي العقد, وَهَذَا شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة.
الأحاديث دلت عَلَى اشتراط الجماع من الزوج الثاني حَتَّى تحل للأول, ولا يكتفى العقد, سعيد بن المسيب أخذ بظاهر الْقُرْآن وأن النكاح يطلق عَلَى العقد, ولعله لَمْ يبلغه الحديث.
قَالَ العلماء: وَلَمْ يوافق سعيد بن المسيب إِلَّا طائفة من الخوارج فوافقوه, وعامة العلماء كافة اشترطوا الجماع, وَكَذَلِكَ اشترط ألا يكون الجماع من محلل؛ لِأَنَّ نكاح المحلل لا يحلها لزوجها الأول, ويسمى التيس المستعار, قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «لعن الله المحلل والمحلل له», وَعَلَى هَذَا فيشترط في المبتوتة أن تحل لزوجها الأول شرطان أحدها: الوطء من زوج آخر عِنْد جمهور العلماء.
والثاني: ألا يكون الوطء من محلل.
لَابُدَّ من الوطء من زوج ثاني وألا يكون من محلل, بَلْ يتزوجها الثاني زواج رغبة, ثم يطلقها أو ويتوفى عنها, فتحل للأول.
أَمَّا المحلل فلا تحل, ولو جامعها الثاني, إِذَا كَانَ بقصد التحليل أو التواطؤ فلا يحلها للأول فَهُوَ تيس مستعار وَهُوَ ملعون.
أَمَّا قول سعيد بن المسيب أَنَّهُ يكفي العقد فهذا قول شاذ عِنْد أهل العلم, مخالف لأحاديث الصحيحة.
(المتن)
باب في تعظيم الزنا
2310 - حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن منصور، عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل، عن عبد الله قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك»، قال: فقلت: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يأكل معك»، قال: قلت: ثم أي؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك»، قال: وأنزل الله تعالى تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون} [الفرقان: 68] الآية.
(الشرح)
هَذَا الباب في تعظيم أمر الزنا, ولاشك أَنَّهُ عظيم وَهُوَ من الكبائر العظيمة, الشِّرْك وقتل النفس, والحديث حديث شرحبيل عَنْ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, هَذَا حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فِيهِ تعظيم أمر الزنا, والحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وَفِيهِ أن الزنا من أقبح السيئات وأعظم الجرائم.
وَإِذَا كَانَ مَعَ حليلة الجار فَهُوَ أعظم إثمًا وأقبح جرمًا لما فِيهِ من الإساءة إلى الجار, وإضاعة ما أوصى الله به من حفظ حقوق الجيران؛ لِأَنَّهُ يجتمع فِيهِ أمران:
الأول: أَنَّهُ فعل الجريمة العظيمة.
ثانيًا: أَنَّهُ أضاع حَقّ الجار, وانتهك حرمة الجار.
وَفِيهِ أن الله تعالى قرنه بالقتل والشرك فدل عَلَى أن هَذِهِ أعظم الجرائم, الشِّرْك ثُمَّ القتل ثُمَّ الزنا.
قَالَ: «أن تجعل لله ندًا وَهُوَ خلقك», الند هُوَ المثيل, تجعل لله ندًا يَعْنِي مثيلاً, فتدعوه من دون الله, وتعبده من دون الله, وتذبح له وتنذر له وَهُوَ خلقك, وجود الخلق يَدُلَّ عَلَى الخالق, واستدامة الخلق تدل عَلَى توحيد الخالق, لو كَانَ هناك إلهين لما قام هذا الكون لفسد هَذَا الكون {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الأنبياء/22].
هَذَا أعظم الظلم وأعظم الذنوب, وأقبح الظلم, وَهُوَ وضع الشيء في غير موضعه, صرف العبادة لغير مستحقها, ثُمَّ القتل أعظم, وإذا كان قتل الولد أيضا أعظم؛ لِأَنَّهُ اجتمع فِيهِ القتل وقطيعة الرحم, يقتل ولده وإساءة الظن بالله خشية أن يطعم معه, أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك, خشية هَذِهِ تعليل يَدُلَّ عَلَى العلية.
ثُمَّ الزنا بحليلة الجار, والقتل هنا اجتمع فِيهِ أمران:
قتل.
وقطيعة رحم.
والزنا بحليلة الجار اجتمع فِيهِ أمران:
الزنا.
وانتهاك حرمة الجار وإضاعة حقه.
ولهذا بوب قَالَ: (باب في تعظيم الزنا) يَعْنِي في تعظيم أمره.
(المتن)
2311 - حدثنا أحمد بن إبراهيم، عن حجاج، عن ابن جريج، قال: وأخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: " جاءت مسيكة لبعض الأنصار، فقالت: إن سيدي يكرهني على البغاء فنزل في ذلك ": {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء}[النور/33].
(الشرح)
أخرجه مسلم في صحيحه عَنْ جابر أن جاريتين لعبد الله بن أبي بن سلول, شكتا إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يجبرهما عَلَى الزنا, فأنزل الله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء}[النور/33]. والبغاء هُوَ الزنا.
قوله: (يُكْرِهُنِي) بِضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارِعِ, (البغاء) يعني الزنى (ولا تكرهوا فتياتكم) أي إمائكم على الزنى.
وقوله: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا, هَذَا وصف أغلبي وليس المراد أَنَّهَا إن لَمْ ترد أن تتحصن أَنَّهُ يجوز إكراهها, بَلْ المراد بيان الواقع.
(المتن)
2312 - حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثنا معتمر، عن أبيه، {وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، قال: قال سعيد بن أبي الحسن «غفور لهن المكرهات».
(الشرح)
مراده أن المغفرة والرحمة لهن لكونهن مكرهات, لا لمن أكرهن «غفور لهن», يَعْنِي للمكرهات, لا لمن أكرههن, المغفرة إِنَّمَا تكون للمكرهات, المكرهات بَيَانٌ لِلضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: (لَهُنَّ),{فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النور/33].
فالضمير مجرور بيانه هُوَ المكرهات, قَالَ: غفورٌ لهن أيْ للمكرهات, يَعْنِي لا لمن أكرهن.
(المتن)
14 - كتاب الصوم
باب مبدأ فرض الصيام
2313 - حدثنا أحمد بن محمد بن شبويه، حدثني علي بن حسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}[البقرة/183], " فكان الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلوا العتمة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء، وصاموا إلى القابلة، فاختان رجل نفسه، فجامع امرأته، وقد صلى العشاء، ولم يفطر، فأراد الله عز وجل أن يجعل ذلك يسرا لمن بقي ورخصة ومنفعة، فقال سبحانه: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ}[البقرة/187]. الآية، وكان هذا مما نفع الله به الناس ورخص لهم ويسر ".
(الشرح)
أبو داود رحمه الله أخر كتاب الصيام إِلَى بَعْدَ كتاب النكاح والطلاق, غريب تأخيره للصيام رحمه الله, قَالَ:(باب مبدأ فرض الصيام), ذكر حديث ابن عباس أن الصيام أول ما شرع له أطوار:
الطور الأول: أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا صلو العتمة أو ناموا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الطعام بالليل, يَعْنِي يباح للإنسان إِذَا صام الفطر في الليل ما لَمْ يصل العشاء أو ينام, فَإِذَا صلى العشاء أو نام حَرَّمَ عَلَيْهِ إِلَى القبالة.
فحصل من ذَلِكَ مشقة واختان تخون بعض الصَّحَابَة نفسه, فأنزل الله تعالى الرخصة, ولكن هَذَا الحديث فِيهِ ضعف, هَذَا الحديث في سنده علي بن الحسين بن واقد وَهُوَ ضعيف, لكن له شواهد واستدل بالحديث الَّذِي بعده, وَهَذَا هُوَ الطور الثاني من أطوار الصيام, أول من شرع الصيام الطور الأول هُوَ كَانَ مخير بين الإطعام وبين الصيام, ثُمَّ أوجب الله الصيام, ثُمَّ صار الفطر يكون في الليل ما لَمْ ينل أو يصلي العشاء.
أَمَّا الطور الثالث أباح الله تعالى ورخص في الفطر بالليل من غروب الشمس إِلى طلوع الفجر.
(المتن)
2314 - حدثنا نصر بن علي بن نصر الجهضمي، أخبرنا أبو أحمد، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: " كان الرجل إذا صام، فنام لم يأكل إلى مثلها، وإن صرمة بن قيس الأنصاري أتى امرأته، وكان صائما، فقال: هل عندك شيء، قالت: لا، لعلي أذهب فأطلب لك شيئًا، فذهبت وغلبته عينه فجاءت، فقالت: خيبة لك فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه، وكان يعمل يومه في أرضه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت ": {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}[البقرة/187]. قرأ إلى قوله: {من الفجر} [البقرة: 187].
(الشرح)
وَهَذَا الحديث صحيح أخرجه البخاري والترمذي والنسائي, ويكون شاهد للحديث السابق الضعيف, وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة/183], في الحديث الأول, قَالَ العلماء: إن التشبيه إِنَّمَا هُوَ في أصل الوجوب لا في قدر الواجب, الله تعالى قَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة/183], في أصل الوجوب أَمَّا القدر الواجب فَهُوَ مختلف.
وَقِيلَ: إِنَّهُ في الواجب وفي المقدار, قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لا يقتضي التسوية من جميع الوجوه, وَقِيلَ: إنها التسوية في الأصل والمقدار والوقت جميعًا, وكَانَ عَلَى الأولين صوم رمضان لكنهم زادوا في العدد ونقلو من أيام الحر إِلَى أيام الاعتدال.
وَهَذَا الحديث الثاني حديث قصة قيس بن سرمة أَنَّهُ كَانَ يعمل طول النهار وَهُوَ صائم, فجاء عِنْد الإفطار وقال لزوجته: هَلْ عندك شَيْء, قَالَت: لا, ليس عِنْدِي شَيْء, ولكن أبحث لك, فَلَمَّا ذهبت غلبته عيناه, فقالت: خيبةً لك, يَعْنِي ما يستطيع أن يأكل لما نام, فصام في اليوم الثاني فَلَمَّا انتصف النهار غشي عَلَيْهِ وسقط, وأخبر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فأنزل الله تعالى هَذِهِ الرخصة ففرحوا بِذَلِكَ, أنزل الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}؛ وَفِيهَا {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}[البقرة/187]؛ فهذا من رحمة الله تعالى بعباده.
(المتن)
باب نسخ قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ}[البقرة/184]
2315 - حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا بكر يعني ابن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن بكير، عن يزيد، مولى سلمة، عن سلمة بن الأكوع قال: لما نزلت هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}[البقرة/184]، «كان من أراد منا أن يفطر ويفتدي فعل، حتى نزلت هذه الآية التي بعدها فنسختها».
(الشرح)
هَذَا الحديث أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي, والمؤلف بوب قَالَ: (باب نسخ قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ}[البقرة/184]), والحديث دل عَلَى أن الآية منسوخة كما قَالَ سلمة, قَالَ سلمة بن الأكوع ومن وافقه من الصَّحَابَة, وَهُوَ وقول جمهور العلماء, وَهَذَا هُوَ الطور الأول من أطوار الصيام, وَهُوَ التخيير بين الصيام والفدية, والصوم أفضل, قَالَ الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ}[البقرة/183-184].
فالله تعالى خير بين الصيام وبين الفدية والصوم أفضل, هَذَا القول الأول.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ نسخ ذَلِكَ بوجوب الصوم حتما للمقيم, الآية الَّتِي بعدها: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة/185].
هَذَا أمر, أمر بالصيام والآيات الَّتِي قبلها فِيهَا التخيير, فهذا هُوَ الطور الأول من أطوار الصيام, التخيير بين الصيام والفدية والصوم أفضل.
وَقَالَ ابن عباس كما سيأتي (.....) ليست منسوخة, وَإِنَّمَا بقي حكمها للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة, ويحتمل أن الآية مخصوصة خص منها القادر, هَذِهِ أقوال العلماء.
الجمهور عَلَى أَنَّهَا منسوخة وابن عباس يرى أَنَّهَا مخصخصة للشيخ الكبير, ومن العلماء من قَالَ: أَنَّهَا خص بها القادر, القادر هُوَ الَّذِي يخرج منها.
(المتن)
2316 - حدثنا أحمد بن محمد، حدثني علي بن حسين، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}[البقرة/184]، «فكان من شاء منهم أن يفتدي بطعام مسكين افتدى وتم له صومه»، فقال: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ }[البقرة/184], وقال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة/185].
(الشرح)
وَهَذَا الحديث ضعيف في سنده علي بن الحسن الواقدي ابن المسيح وَفِيهِ مقال, وَفِيهِ أن التخيير, والتخيير هَذَا ثابت في الحديث السابق, يَعْنِي الحديث (.....) ضعيف لكن يسنده الحديث السابق, وَفِيهِ أن من شاء أن يفتدي بطعام مسكين افتدى وتم له صومه, ومن شاء أن يصوم فَهُوَ أفضل, توم له صومه يَعْنِي أجرًا, قَالَ تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ}[البقرة/184], يَعْنِي زاد عَلَى المسكين واحد, فأطعم عَنْ كُلّ يوم مسكين فأكثر, وَقِيلَ: من زاد عَلَى أقل الواجب, فأطعم صاعًا أو صاعين فَهُوَ خير له.
(المتن)
باب من قال: هي مثبتة للشيخ والحبلى
2317 - حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبان، حدثنا قتادة، أن عكرمة، حدثه، أن ابن عباس قال: «أثبتت للحبلى والمرضع».
2318 - حدثنا ابن المثنى، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن عروة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة/ 184]، قال: «كانت رخصة للشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، وهما يطيقان الصيام أن يفطرا، ويطعما مكان كل يوم مسكينًا، والحبلى والمرضع إذا خافتا»، قال أبو داود: «يعني على أولادهما أفطرتا وأطعمتا».
(الشرح)
ابن عباس رضي الله عنه يرى أَنَّهَا باقية للشيخ الكبير والحبلى, وَأَنَّهَا لَمْ تنسخ, {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة/184]، يَعْنِي الآية ليست منسوخة بَلْ هي ثابتة للشيخ والحبلى.
والحديث الَّذِي بعده قَالَ: «كانت رخصة للشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، وهما يطيقان الصيام», يَعْنِي يتجشمان الصيام إِذَا كَانَ يشق عليهما فإنهما يفطران ويطعمان مكان كُلّ يوم مسكين.
قَالَ أبو داود كذلك أيضًا: «والحبلى والمرضع إذا خافتا», يَعْنِي عَلَى أولادهما أفطرتا وأطعمتا, والعلماء لهم كلام في هَذَا, في الحبلي والمرضع إِذَا خافت عَلَى نفسها فَهِيَ تكون بمنزلة المريض, تطعم ولا تفدي, وإن خافت عَلَى الولد فإنها تطعم, تقضي وتطعم.
ومنهم من قَالَ: ما يَجِبُ عليها إِلَّا الصيام, مذهب ابن عباس أن الرخصة مثبتة للحبلى والمرضع يَعْنِي من الحديث, إِذَا خَافَتَا عَلَى أَوْلَادِهِمَا, وَقَدْ نُسِخَتْ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي يُطِيقُ الصَّوْمَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْدِيَ, إِلَّا أَنَّ الْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ وَإِنْ كَانَتِ الرُّخْصَةُ قَائِمَةً لَهُمَا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُمَا الْقَضَاءُ مَعَ الْإِطْعَامِ, ولَزِمَهُمَا الْإِطْعَامُ مَعَ الْقَضَاءِ مِنْ أَجْلِ غَيْرِهِمَا مِنْ أَجْلِ الْوَلَدِ.
ومالك رحمه الله يرى أن الْحُبْلَى كَالْمَرِيضِ تَقْضِي وَلَا تُطْعِمُ وَالْمُرْضِعُ تَقْضِي وَتُطْعِمُ؛ لِأَنَّهُ من أجل الولد.
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه: اِخْتَلَفَ السَّلَف فِي هَذِهِ الْآيَة عَلَى أَرْبَعَة أَقْوَال:
أَحَدهَا: أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ قَالَهُ ابن عَبَّاس.
الثَّانِي: أَنَّهَا مَنْسُوخَة كَمَا قَالَهُ سَلَمَة وَالْجُمْهُور.
وَالثَّالِث: أَنَّهَا مَخْصُوصَة خَصَّ مِنْهَا الْقَادِر الَّذِي لَا عُذْر لَهُ وَبَقِيَتْ مُتَنَاوِلَة لِلْمُرْضِعِ وَالْحَامِل.
الرَّابِع: أَنَّ بَعْضهَا مَنْسُوخ وَبَعْضهَا مُحْكِمٌ.
(المتن)
باب الشهر يكون تسعًا وعشرين
2319 - حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، عن الأسود بن قيس، عن سعيد بن عمرو يعني ابن سعيد بن العاص، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية لا نكتب، ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا»، وخنس سليمان أصبعه في الثالثة، يعني تسعًا وعشرين وثلاثين.
(الشرح)
هَذَا الحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم وقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية», يَعْنِي هَذَا وصف أغلبي وإلا في عهد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ هناك كتاب للوحي, كَانَ ابن عمر يكتب, وَكَانَ ابن عمرو, وَقَالَ أبو هريرة إن ابن عمرو كَانَ يكتب ولا أكتب, وقوله: «إن أمة أمية», هَذَا مدح لهذه الأمة, وَالرَّسُوْل صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ النَّبِيّ الأمي, وَهَذِهِ صفة مدح في حقه صلى الله عليه وسلم.
«إنا أمة أمية لا نكتب، ولا نحسب، الشهر هكذا», كأن الحديث فِيهِ اختصار, قَالَ: الشهر هكذا عشر, وهكذا وهكذا ثلاثين, ثُمَّ قَالَ: ويكون هكذا عشر, وهكذا وهكذا, ثُمَّ خنس بأصبعه», يَعْنِي يكون تارة ثلاثية وتارة تسع وعشرين, هنا خنس بأصبعه يَعْنِي يَقُولُ: هكذا, وهكذا وهكذا, (وخنس بأصبعه سليمان), يَعْنِي سليمان الراوي (في الثالثة), يَعْنِي تسعًا وعشرين, عشر وعشر وعشر ثلاثين وخنس يكون تسعة وعشرين, وقبلها يكون الشهر هكذا, عشر وعشر وعشر يَعْنِي ثلاثين, ويكون عشر وعشر وعشر ثُمَّ خنس بأصبعه يَعْنِي يكون تسعًا وعشرين ويكون ثلاثين.
يَعْنِي أن الشهر يكون تسعة وعشرين ويكون ثلاثين, وَقَدْ تتوالي الشهر ثلاثين إِلَى ثلاثة أشهر إِلَى أربعة, وَقَدْ تتوالى أَيْضًا الأشهر تسعًا وعشرين, والغالب أن يكون الشهر ثلاثين أو الشهرين ثلاثيين وشهرين تسعا وعشرين.
وَفِيهِ العمل بالإشارة يَقُولُ: خنس بأصبعه, فِيهِ العمل بالإشارة.
(المتن)
2320 - حدثنا سليمان بن داود العتكي، حدثنا حماد، حدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين»، قال: فكان ابن عمر، إذا كان شعبان تسعًا وعشرين نظر له، فإن رئي فذاك، وإن لم ير، ولم يحل دون منظره سحاب، ولا قترة أصبح مفطرًا، فإن حال دون منظره سحاب، أو قترة أصبح صائمًا، قال فكان ابن عمر، يفطر مع الناس، ولا يأخذ بهذا الحساب.
(الشرح)
وَهَذَا الحديث لابن عمر أخرجه الإمام مسلم وَفِيهِ أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الشهر تسعًا وعشرون», أيْ يكون تسعًا وعشرون ويكون ثلاثين, ولما هجر النَّبِيّ نسائه لما جلس في غرفة مبينة جلس تسعًا وعشرين, فقال أنس يارسول الله نزلت تسعًا وعشرين أعدها عدًا, قَالَ: الشهر تسعٌ وعشرين, صادف الشهر ذَلِكَ أن يكون تسعًا وعشرين, هُوَ بدأ من أول الشهر.
قَالَ: «الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين»، إِلَى هنا انتهى الحديث, «فَإِن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين», يَعْنِي احسبوا له ثلاثين.
قال: (فكان ابن عمر، إذا كان شعبان تسعًا وعشرين نظر له، فإن رئي فذاك، وإن لم ير، ولم يحل دون منظره سحاب، ولا قترة أصبح مفطرًا، فإن حال دون منظره سحاب، أو قترة أصبح صائمًا، قال فكان ابن عمر، يفطر مع الناس، ولا يأخذ بهذا الحساب).
هَذَا الَّذِي فعله ابن عمر من صيامه يوم الثلاثين من شعبان في يوم الغيم اجتهادٌ منه, وَهُوَ الاجتهاد يخطئ ويصيب, وَهُوَ محمول عَلَى أن السنة خفيت عَلَيْهِ, والصواب الَّذِي تكلم عَلَيْهِ الحديث أَنَّهُ لا يصام يوم الثلاثين من شعبان سواء كَانَ غيمًا أو صحوًا, ولا يصام إِلَّا بأحد أمرين:
أحدهما: رؤية هلال رمضان.
الثاني: إكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا.
والحجة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وَهُوَ الحاكم عَلَى كُلّ أحد من الصَّحَابَة, وَهَذِهِ المسألة فِيهَا كلام لأهل العلم وَهُوَ مذهب الحنابلة, ويستدلون بقوله: «فاقدروا له», يَعْنِي يضيقوا له, فَإِن غم عليكم فاقدروا له ضيقوا له, يَعْنِي اجعلوه تسعًا وعشرين, والصواب أن معنى فاقدروا له يَعْنِي احسبوا له وأكملوه ثلاثين, وَيَدُلَّ عَلَيْهِ الرواية الأخرى «فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا».
فكان ابن عمر رضي الله عنه يأمر أن ينظر له (فإذا كان حال دون منظره سحاب ولا قتر لم يحمل إذا كان صحوًا أصبح مفطرًا، وإن كان في غيم أصبح صائمًا)، عملاً بقوله: «فاقدروا له», فهم منها فضيقوا له, ضيقوا الشهر اجعلوه تسعًا وعشرين.
والصواب: أن «فاقدروا له», يَعْنِي احسبوا له, وَيَدُلَّ عَلَيْهِ الحديث الآخر «فأكلموا عدة شعبان ثلاثين يومًا», وَهَذَا فِيهِ رسالة خاصة (.....) في الهلال إِذَا حصل فِيهِ غيم أو صحو, المسألة فِيهَا خلاف قوي لأهل العلم.
«فَإِن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين يومًا», وفي اللفظ الآخر: «فأكملوا العدة ثلاثين», وَمِمَّا يَدُلَّ أيضًا عَلَى ذَلِكَ حديث عمار «من صام اليوم الَّذِي يشك فِيهِ فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم», هَذَا فِيهِ دليل عَلَى أَنَّهُ لا يصام يوم الشك.
هَذَا الحديث: «أكملوا العدة ثلاثين», وحديث عمار «من صام يوم الشك», يدلان عَلَى عدم جواز الصوم يوم الشك, وَعَلَى عدم جواز صوم رمضان إِذَا حال مطلع الهلال غيم أو قتر ليلة الثلاثين.
ويروى عَنْ الإمام أحمد أَنَّهُ يصام وَهَذَا ما ذَهَبَ إليه ابن عمر وَهُوَ قول مرجوح, وقول عمار هنا له حكم الرفع «من صام اليوم الَّذِي يشك فِيهِ فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم».
(المتن)
2321 - حدثنا حميد بن مسعدة، حدثنا عبد الوهاب، حدثني أيوب، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل البصرة بلغنا، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو حديث، ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم زاد، وإن أحسن ما يقدر له أنا إذا رأينا هلال شعبان لكذا وكذا، فالصوم إن شاء الله لكذا وكذا، إلا أن تروا الهلال قبل ذَلِكَ.
2322 - حدثنا أحمد بن منيع، عن ابن أبي زائدة، عن عيسى بن دينار، عن أبيه، عن عمرو بن الحارث بن أبي ضرار، عن ابن مسعود، قال: «لما صمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعًا وعشرين أكثر مما صمنا معه ثلاثين».
(الشرح)
يَعْنِي أن الشهر يكون ثلاثين ويكون تسعًا وعشرين, وابن عمر رضي الله عنه قَالَ: (أحسن ما يقدر له أنا إذا رأينا هلال شعبان لكذا وكذا، فالصوم إن شاء الله لكذا وكذا), يَعْنِي هنا أبهم, فالصوم إن شاء الله لكذا وكذا يَعْنِي بحساب الثلاثين (إلا أن رأوا الهلال قبل ذَلِكَ), فيكون الصوم تسعًا وعشرين.
قوله: (زاد), يَعْنِي زاد أيوب في رواية عبد الوهاب(وإن أحسن ما يقدر له أنا إذا رأينا هلال شعبان لكذا وكذا، فالصوم إن شاء الله لكذا وكذا)، يَعْنِي بحساب الثلاثين (إلا أن يروا الهلال قبل ذَلِكَ), أيْ الثلاثين, فيكون الصوم بحساب تسعة وعشرين, وَهَذَا صحيح, وابن عمر رضي الله عنه ذَهَبَ إِلَى القول الثاني.
هَذَا عمر بن عبد العزيز يَقُولُ: إِذَا لَمْ نر الهلال صمنا ثلاثين وإن رأى الهلال فإنا نصوم بالرؤيا.
وحديث ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ: «لما صمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعًا وعشرين أكثر مما صمنا معه ثلاثين», يَعْنِي برؤية الهلال, يرى الهلال كثيرًا ما يكون رمضان تسعًا وعشرين, المهم الرؤيا, إِذَا رؤي يصام فَإِن لَمْ ير يكمل الشهر السابق هَذَا هُوَ الصواب.
والصواب أَنَّهُ لا يعمل بالحساب الفلكي هَذَا باطل لا يجوز.
(المتن)
2323 - حدثنا مسدد، أن يزيد بن زريع، حدثهم حدثنا خالد الحذاء، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «شهرا عيد لا ينقصان رمضان، وذو الحجة».
(الشرح)
وَهَذَا الحديث حديث الصحيح أخرجه الشيخان الترمذي والنسائي وَهَذَا الحديث في معنى الحديث قولان مشهوران لأهل العلم:
الأول: أنهما لا يجتمعان ناقصين في سنة واحدة, إِذَا نقص أحدهما تم الآخر, إِذَا نقص رمضان لَابُدَّ أن يتم شهر ذي الحجة يكون ثلاثين, وَإِذَا تم رمضان وَكَذَلِكَ العكس, وَإِذَا تم رمضان فقد يقصر ذي الحجة, وَهَذَا ذَهَبَ إليه بعض العلماء أظن البخاري وجماعة وَهَذَا قول مرجوح.
الثاني: أن معنى لا ينقصان في الأجر والثواب, وإن نقصا في العدد, وَهَذَا هُوَ الراجح؛ لِأَنَّ الواقع قَدْ يجتمعان تسعًا وعشرين, قَدْ يكون رمضان تسعًا وعشرين, وذي الحجة تسعًا وعشرين, معنى لا ينقصان يعني في الأجر والثواب, وإن نقصا في العدد.
أَمَّا القول الأول لا يجتمعان ناقصان هَذَا مرجوح؛ لِأَنَّهُ يخالف الواقع؛ فقد يجتمعان ناقصين, قَدْ يكونا في سنة واحدة رمضان تسعًا وعشرين, وذي الحجة تسعًا وعشرين.
أظن أحدهما قول البخاري والثاني الإمام أحمد.
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه: وَفِي مَعْنَاهُ أَقْوَال:
أَحَدهَا: لَا يَجْتَمِع نَقْصهمَا مَعًا فِي سَنَة وَاحِدَة وَهَذَا مَنْصُوص الْإِمَام أَحْمَد.
وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا خَرَجَ عَلَى الْغَالِب وَالْغَالِب أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي النَّقْص وَإِنْ وَقَعَ نَادِرًا.
وَالثَّالِث: أَنَّ الْمُرَاد بِهَذَا تِلْكَ السَّنَة وَحْدهَا ذَكَره جَمَاعَة.
الرَّابِع: أَنَّهُمَا لَا يَنْقُصَانِ فِي الْأَجْر وَالثَّوَاب وَإِنْ كَانَ رَمَضَان تِسْعًا وَعِشْرِينَ فَهُوَ كَامِل فِي الْأَجْر.
الْخَامِس: أَنَّ الْمُرَاد بِهَذَا تَفْضِيل الْعَمَل فِي عَشْر ذِي الْحِجَّة وَأَنَّهُ لَا يَنْقُص أَجْره وَثَوَابه عَنْ ثَوَاب شَهْر رَمَضَان.
عَلَى كُلّ حال هما قولان مشهوران أحدهما للبخاري والثاني لأحمد, والصواب من القولين أن المعنى لا ينقصان في الأجر والثواب.
(المتن)
باب إذا أخطأ القوم الهلال
2324 - حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا حماد، في حديث أيوب، عن محمد بن المنكدر، عن أبي هريرة، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه قال: «وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون، وكل عرفة موقف، وكل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر، وكل جمع موقف».
(الشرح)
هَذَا الباب في إِذَا أخطأ القوم الهلال, قَالَ: «وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون، وكل عرفة موقف، وكل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر، وكل جمع موقف».
الحديث منقطع هَذَا؛ لِأَنَّ ابن المنكدر لَمْ يسمع من أبي هريرة, وَلَمْ يلقه, عَنْ يحيى بن معين وأبو زرعة, لكن أخرجه الترمذي من حديث سعيد بن سعيد المقبري عَنْ أبي هريرة قَالَ: حسن غريب, والحديث كما قَالَ الخطابي دليل عَلَى أن الخطأ مَرْفُوع عَنْ النَّاس فِيمَا كَانَ سَبِيله الِاجْتِهَاد, ولهذا قَالَ: «فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون», دليل عَلَى أن الخطأ مرفوع عَنْ النَّاس فيما كَانَ سبيله الاجتهاد, فَلَوْ أَنَّ قَوْمًا اِجْتَهَدُوا فَلَمْ يَرَوْا الْهِلَال إِلَّا بَعْد الثَّلَاثِينَ, فَلَمْ يُفْطِرُوا حَتَّى اِسْتَوْفَوْا الْعَدَد, ثُمَّ ثَبَتَ عِنْدهمْ أَنَّ الشَّهْر كَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ فَإِنَّ صَوْمهمْ وَفِطْرهمْ مَاضٍ لَا شَيْء عَلَيْهِمْ مِنْ وِزْر ولا عَنَتٍ, وَكَذَلِكَ فِي الْحَجّ إِذَا أَخْطَأ الناس يَوْم عَرَفَة لَيْسَ عَلَيْهِمْ إِعَادَة, ويجزيهم أضحاهم, فلو وقفوا بعرفة اليوم الثامن أو وقفوا اليوم العاشر وأجمعوا عَلَى هَذَا خطئًا فحجهم صحيح, وأضحيتهم صحيحة.
وَقِيلَ: فإن فيه الْإِشَارَة إِلَى أَنَّ يَوْم الشَّكِّ لَا يُصَام اِحْتِيَاطًا, وَإِنَّمَا يُصَام يَوْم يَصُوم النَّاس, قَالَ: «وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون، وكل عرفة موقف، وكل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر، وكل جمع موقف».
قِيلَ: فَإِن هَذَا فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ يَوْم الشَّكِّ لَا يُصَام اِحْتِيَاطًا, وَإِنَّمَا يُصَام يَوْم يَصُوم النَّاس.
وَقِيلَ: فِيهِ الرَّدّ عَلَى مَنْ يَقُول إِنَّ مَنْ عَرَفَ طُلُوع الْقَمَر بِتَقْدِيرِ حِسَاب الْمَنَازِل جَازَ لَهُ أَنْ يَصُوم وَيُفْطِر دُون مَنْ لم يَعْلَم, وهذا ليس صحيح كما سيأتي أن العمل بالحساب لا وجه, وفي الحديث دل على أن المنفرد بالرؤية لا يلزمه حكمها لا في الصوم ولا في الفطر ولا في التعريف بعرفة, شخص انفرد قال: رأيت الصوم, رأيت الهلال وحده ورد قوله لا يعمل به.
وكذلك في هلال ذي الحجة رأوا ضد قوله لا يعمل ولا يقف بعرفة وحده بل يكون مع الناس, لا يقبل حكمه لا في الصوم ولا في الفطر ولا في التعريف بعرفة.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون، وكل عرفة موقف، وكل منى منحر»، أيْ مكان من منى ينحر, الآن صار النحر في أمكنة خاصة «وكل فجاج مكة منحر، وكل جمع موقف», جمع يَعْنِي مزدلفة كلها في أيْ مكان يقف في مزلفة وفي أيْ مكان يقف في عرفة, وفي أيْ مكان ينحر في منى, الأفضل في منى ويجوز النحر في جميع حدود الحرم.