بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قَالَ الإمام أبو داود رحمه الله تعالى:
باب إذا أغمي الشهر
2325 - حدثنا أحمد بن حنبل، حدثني عبد الرحمن بن مهدي، حدثني معاوية بن صالح، عن عبد الله بن أبي قيس، قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: كان رسول الله ﷺ يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه عد ثلاثين يومًا ثم صام.
(الشرح)
قَالَ المؤلف رحمه الله تعالى: (باب إذا أغمي الشهر), يَعْنِي إِذَا أخفي هَلال شهر شعبان بنحو غيم أو ونحوه, والألف واللام للعهد, يَعْنِي ماذا يُفعل إِذَا أغمي الشهر إِذَا أخفي هلال شهر رمضان؟ ترك المؤلف الحكم ليستنبط من الحديث, والمعنى يكمل عدة شعبان ثلاثين يومًا, ثُمَّ يصوم.
وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ شهر رمضان وأغمي فَإِنَّهُ يكمل الشهر ثلاثين يومًا, يقال: أغمي الخبر إِذَا خفي, ذكر المؤلف رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله ﷺ يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، الحديث سنده صحيح كما نقله المنذري عَنْ الدارقطني والحديث دليل عَلَى أن رمضان يصام لرؤية الهلال, فَإِن غم ليلة الثلاثين أكمل عدة شعبان ثلاثين يومًا ثُمَّ صام.
وفي هَذَا الحديث رد عَلَى من قَالَ يعمل بالحساب, يَعْنِي حساب المنازل حيث دخول الشهر وخروجه, وَهُوَ قول باطل, القول أن يعمل بالحساب قول باطل, وَقَدْ حكى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إجماع العلماء عَلَى بطلان القول العمل بالحساب, يَعْنِي بتقدير حساب المنازل في دخول الشهر وخروجه, نقل شيخ الإسلام إجماع العلماء عَلَى بطلان القول بالعمل بالحساب.
ومعنى قوله: (يتحفظ من شعبان), يَعْنِي يتكلف في عد أيام شعبان لمحافظة صوم رمضان, فَإِن غمي عَلَيْهِ عد شعبان ثلاثين, وَهَذَا الحديث إسناده صحيح كما قَالَ حكم المنذري وكما حكم الدارقطني.
(المتن)
(الشرح)
وَهَذَا الحديث أخرجه النسائي ومسلم بسند صحيح, وَهُوَ دليل عَلَى أن دخول شهر رمضان يكون برؤية هلال رمضان, أو بإكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا, وأن الفطر من رمضان يكون برؤية هلال شوال أو تكملة عدة رمضان ثلاثين يومًا.
قوله: «لا تقدموا الشهر», الأقرب أن معناه أَنَّهُ من التقديم, يَعْنِي لا تحكموا بالشهر قبل أوانه, ولا تقدموه عَنْ قوته, بَلْ اصبروا حَتَّى تروا الهلال, وَهَذَا الحديث أخرجه النسائي ومسلم وَقَالَ: لا أعلم حديث (..) غير جرير يَعْنِي ابن عبد الحميد.
وَقَالَ البيهقي: وصله جرير عَنْ منصور فذكر حذيفة وَهُوَ ثقة, الحديث السابق في إسناده معاوية بن صالح الحضرمي الحمصي أو الأندلسي, لَقَدْ تكلم فِيهِ بَعْضُهُمْ ولكن احتج به مسلم في صحيحه, قَالَ البخاري: قَالَ علي بن المديني: كَانَ عبد الرحمن المكي يوثقه, وَيَقُولُ: نزل الأندلس, وَقَالَ أحمد بن حنبل: كَانَ ثقة, وَقَالَ أبو زرعة: ثقة.
وابن القيم رحمه الله تكلم عَلَى هَذَا الحديث وَقَالَ: هَذَا الحديث وصله صحيح, الَّذِينَ أوصلوه أوثق من الَّذِينَ أرسلوه, وَالَّذِي أرسله هُوَ الحجاج بن أرطأة, وقول النسائي: لا أعلم أحدًا قَالَ بِهَذَا الحديث عَنْ حذيفة غير جرير إِنَّمَا عناه تسوية الصحابي, وإلا فقد رواه الثوري وغيره عَنْ ربعي عَنْ بعض أصحاب النَّبِيّ ﷺ, ولا يضر عدم تسوية الصحابي ولا يعلل بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَة كلهم عدول.
(المتن)
باب من قال: فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين
2327 - حدثنا الحسن بن علي، حدثنا حسين، عن زائدة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: لا تقدموا الشهر بصيام يوم، ولا يومين إلا أن يكون شيء يصومه أحدكم، ولا تصوموا حتى تروه، ثم صوموا حتى تروه، فإن حال دونه غمامة، فأتموا العدة ثلاثين، ثم أفطروا والشهر تسع وعشرون، قال أبو داود: رواه حاتم بن أبي صغيرة، وشعبة، والحسن بن صالح، عن سماك بمعناه لم يقولوا: «ثم أفطروا»، قال أبو داود: «وهو حاتم بن مسلم ابن أبي صغيرة، وأبو صغيرة زوج أمه».
(الشرح)
هَذَا تعريف بالراوي, (باب من قَالَ فَإِن غم عليكم فصوموا ثلاثين), ذكر حديث ابن عباس قَالَ رسول الله ﷺ: لا تقدموا الشهر بصيام يوم، ولا يومين إلا أن يكون شيء يصومه أحدكم، ولا تصوموا حتى تروه، ثم صوموا حتى تروه، فإن حال دونه غمامة، فأتموا العدة ثلاثين، ثم أفطروا والشهر تسع وعشرون، هَذَا الحديث أخرجه الترمذي والنسائي بمعناه, وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة من حديث سعيد بن سعيد عَنْ أبي هريرة بلفظ: إِذَا رأيتم الهلال فصوموا وَإِذَا رأيتموه فافطروا فَإِن غم عليكم فصوموا ثلاثين يومًا.
ومعنى «فَإِن غم عليكم», يَعْنِي ستر هلال رمضان عليكم فصوموا ثلاثين, وما دل عَلَيْهِ الحديث هُوَ قول الجمهور, أَنَّهُ إِذَا غم الشهر فَإِنَّهُ يكمل الشهر ثلاثين يومًا, ذَهَبَ إِلَى هَذَا جمهور العلماء وقول مالك والشافعي وأبي حنيفة والجمهور.
وَذَهَبَ الإمام أحمد رحمه الله في رواية إِلَى أَنَّهُ يصام ليلة الثلاثين إِذَا كَانَ في غيم احتياط من رمضان, قَالَ الترمذي رحمه الله: العمل عَلَى هَذَا الحديث عِنْد أهل العلم, كرهوا أن يتعجل الرجل بالصيام قبل دخول شهر رمضان لمعنى رمضان يَعْنِي لتعظيمه.
وفي رواية البخاري: لايتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين, وَقَالَ الحافظ: إن معنى الحديث لا تستقبلوا رمضان بصيام عَلَى نية الاحتياط لرمضان, والحكمة في منع الصيام ليلة الثلاثين إِذَا كَانَ في غيم استنبطها العلماء, قَالَ: الحكمة في ذَلِكَ التقوي بالفطر في رمضان, ليدخل فِيهِ بقوة ونشاط.
وَقِيلَ: الحكمة فِيهِ خشية الاختلاط النفل بالفرض, وَقَدْ اسثنى النَّبِيّ قَالَ: إِلَّا أن يكون شيءٌ يصومه أحدكم, يَعْنِي إِذَا كَانَ الإنسان له عادة في الصيام مثلاً صيام يوم الاثنين والخميس, فصادف آخر يوم من شعبان يوم خميس يصومه؛ لأنه ما صامه بنية الاحتياط من رمضان وَإِنَّمَا صامه من أجل عادته.
وَكَذَلِكَ لو كَانَ عَلَيْهِ صوم واجب من رمضان الماضي أو صوم نذر أو كافرة فَإِنَّهُ يصومه, إِنَّمَا الممنوع أن يصومه بنية الاحتياط في رمضان, هَذَا هُوَ الممنوع, ولهذا قَالَ النَّبِيّ ﷺ: لايتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إِلَّا أن يكون رجلاً يصوم صومًا فليصمه, هَذِهِ هِيَ العادة, إن كانت عادة فلا بأس؛ لِأَنَّهُ صام من أجل عادته, أو صام أيام واجبة عَلَيْهِ من رمضان أو نذر أو كفارة فلا بأس.
وقوله: ثم صوموا حتى تروه، فإن حال دونه غمامة، فأتموا العدة ثلاثين، ثم أفطروا والشهر تسع وعشرون»، يَعْنِي يكون تسع وعشرين ويكون ثلاثين, هَذَا مراده.
والقول الثاني لأهل العلم وَهُوَ مذهب الحنابلة أَنَّهُ إِذَا كَانَ رؤية الثلاثين غيم فَإِنَّهُ يصام, يصام ليلة الثلاثين واستدلوا بقول النَّبِيّ ﷺ: فَإِن غم عليكم فاقدروا له, قَالُوا: ومعنى فاقدروا له يَعْنِي ضيقوا له, ضيقوا الشهر واجعلوه تسعًا وعشرين وصوموا هَذَا اليوم من رمضان, ومنه قوله تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ[الأنبياء/87]؛ ظن أن لن نضيق عَلَيْهِ, ومن قدر عَلَيْهِ رزقه ضيق عَلَيْهِ, «اقدروا له», يَعْنِي ضيقوا الشهر واجعلوه تسعًا وعشرين وصوموا هَذَا اليوم الَّذِي ليلة الغيم, لكن الجمهور قَالُوا: معنى اقدروا له أيْ احسبوا له, احسبوه ثلاثين يَدُلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الرواية هَذِهِ «فأكلموا عدة شعبان ثلاثين يومًا», أكملوا العدد, وأتموا العدد, والروايات تفسر بعضها بعضًا.
وذكر ابن القيم رحمه الله الرواية أَنَّهَا جاءت بثلاثة ألفاظ: اللفظ الأول: ما ورد في هَذَا الحديث, فَإِن حال دونه فأتموا العدة ثلاثين.
واللفظ الثاني: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فَإِن غم عليكم فأكملوا العدة, وفي رواية: صوموا ثلاثين.
واللفظ الثالث: فَإِن غم عليكم فأكلموا عدة شعبان ثلاثين يومًا.
(قال أبو داود: رواه حاتم بن أبي صغيرة، وشعبة، والحسن بن صالح، عن سماك بمعناه), يَعْنِي هؤلاء كلهم هَذِهِ متابعات لزائدة, رواه زائدة عَنْ سماك, ورواه حاتم بن أبي صغيرة وشعبة والحسن بن صالح عَنْ سماك بمعناه, لكن (لم يقولوا: «ثم أفطروا»، قال أبو داود: «وهو حاتم بن مسلم ابن أبي صغيرة، وأبو صغيرة زوج أمه»). نسب إِلَى زوج أمه وإلا هَذَا ليس أباه.
(المتن)
باب في التقدم
2328 - حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن ثابت، عن مطرف، عن عمران بن حصين، وسعيد الجريري، عن أبي العلاء، عن مطرف، عن عمران بن حصين، أن رسول الله ﷺ قال لرجل: هل صمت من شهر شعبان شيئًا؟ قال: لا، قال: «فإذا أفطرت فصم يومًا، وقال: أحدهما يومين.
2329 - حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي، من كتابه حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الله بن العلاء، عن أبي الأزهر المغيرة بن فروة، قال: قام معاوية في الناس بدير مسحل الذي على باب حمص، فقال: أيها الناس إنا قد رأينا الهلال يوم كذا وكذا، وأنا متقدم، فمن أحب أن يفعله فليفعله، قال: فقام إليه مالك بن هبيرة السبئي، فقال: يا معاوية، أشيء سمعته من رسول الله ﷺ أم شيء من رأيك، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: صوموا الشهر وسره.
2330 - حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، في هذا الحديث قال: قال الوليد سمعت أبا عمرو يعني الأوزاعي، يقول: سره أوله.
2331 - حدثنا أحمد بن عبد الواحد، حدثنا أبو مسهر، قال: كان سعيد يعني ابن عبد العزيز، يقول: سره أوله، قال أبو داود: " وقال بعضهم: سره وسطه، وقالوا: آخره ".
(الشرح)
هَذَا الباب عقده المؤلف رحمه الله قَالَ: (باب في التقدم), يَعْنِي بالصوم في شعبان عَلَى رمضان, ذكر حديث عمران بن حصين أن رسول الله ﷺ قَالَ لرجل: هل صمت من شهر شعبان شيئًا؟» قال: لا، قال: «فإذا أفطرت فصم يومًا، وقال: أحدهما يومين.
الحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم والنسائي.
وذكر الحديث الثاني أَيْضًا فِيهِ قصة معاوية أَنَّهُ قَالَ: سمعت رسول الله ﷺ يقول: صوموا الشهر وسره, ونقل عَنْ الأوزاعي أَنَّهُ قَالَ: سره هُوَ أوله, وَكَذَلِكَ سعيد بن عبد العزيز يَقُولُ: سره أوله, وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سره وسطه, وَقَالَ: آخره.
والصواب أن المراد بالسرر آخر الشهر, قَالَ: يا فلان قَدْ صمت من سرر شعبان شيئًا؟ قَالَ: لا, قَالَ: فإذا أفطرت فصم يومًا، الصواب أن المراد بالسرر آخر الشهر, سمي سررًا لاستسرار القمر فِيهَا, يَعْنِي اختفائه, وَهِيَ ليلة ثمانية وعشرين وتسع وعشرين, فالمراد بالسرر آخر الشهر, سمي سررًا لاستسرار القمر أيْ أختفائه, وَقِيلَ: أول الشهر وَقِيلَ: وسطه, والصواب الأول أن المراد بالسرر آخر الشهر.
وَهَذَا الحديث فِيهِ إشكال وَهُوَ مشتبه, فَإِن أحاديث النهي عَنْ أن تقدم رمضان بصيام يوم أو يومين محكمة, وَهَذَا الحديث مشتبه, يأمره بأن يصوم آخر الشهر, فيجب أن يفسر بما لا يعارض الأحاديث المحكمة, ليحمل هَذَا الحديث عَلَى أن الرجل هَذَا الَّذِي قَالَ له: هَلْ صمت من سرر الشهر, كَانَ له عادة بصيام سرر الشهر هُوَ آخره, فأمره النَّبِيّ ﷺ أن يقضيه حَتَّى لا يخالف عادته, له عادة يصوم آخر الشهر يوم أو يومين فقال له: هَلْ صمت من سرر شعبان شيئًا, قَالَ: لا, فلم يصم من شهر شعبان خوفًا من أن يصل شعبان برمضان, وبين له النَّبِيّ ﷺ أَنَّهُ لا بأس أن يصوم من أجل عادته, أمره النَّبِيّ ﷺ أن يقضيه حَتَّى لا يخالف عادته, أو أَنَّهُ يصوم نذر, يَعْنِي نذر أن يصوم آخر الشهر, فلم يصمه ظنًا منه أن ذَلِكَ يكون استقبالًا لرمضان, فيكون منهيًا عنه, فأمره النَّبِيّ ﷺ بقضاء نذره أو عادته, هُوَ إِمَّا له عادة أن يصوم آخر الشهر أو أَنَّهُ نذر أن يصوم آخر الشهر, ولكنه ما قضى نذره خوفًا من أن يكون منهي عنه, وَأَنَّهُ تقدم رمضان بيوم أو يومين.
فبين له النَّبِيّ ﷺ أن صوم النذر أو العادة لا يدخل في استقبال رمضان, فلا يكون منهيًا عنه بَلْ يكون مستثنى من النهي, وَبِذَلِكَ تتفق الأحاديث وتتوافق ولا تختلف.
قَالَ الحافظ: السرر بفتح السين وكسر (..) سِرر الشهر وسَرر الشهر, وَهِيَ جمع سره, وَقَالَ أبو عبيد: المراد بالسرر هنا آخر الشهر, سمي بِذَلِكَ استسرار القمر ليلة ثمانية وعشرين وتسعة وعشرين وثلاثين.
والحديث الثاني فِيهِ أن معاوية قام في النَّاس بدير مسحل, الدير خان النصارى, والخان الحانوت, ومنها خانة الدكان, والمسحل في الأصل أَنَّهُ رجل ولعل مسحل كَانَ باني هَذَا الدير أو مالكه (عَلَى باب حمص), البلد المشهور في سوريا الآن.
قَالَ: (قام معاوية في الناس بدير مسحل الذي على باب حمص، فقال: أيها الناس إنا قد رأينا الهلال), يَعْنِي هلال شعبان, وأنا متقدم بالصيام, يَعْنِي متقدم رمضان بالصيام وَهَذَا هُوَ محل الترجمة.
(فمن أحب أن يفعله فليفعله)، يَعْنِي من أحب أن يتقدم رمضان بالصوم (قال: فقام إليه مالك بن هبيرة السبئي، فقال: يا معاوية، أشيء سمعته من رسول الله ﷺ أم شيء من رأيك، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: صوموا الشهر وسره.
صوموا الشهر وسره, يَعْنِي صوموا أول الشهر وآخره, العرب تسمى الهلال الشهر, تقول: رأيت الشهر أيْ الهلال, ونقل أَيْضًا الوليد نقل الأوزاعي قَالَ: سره أوله, وَقَالَ أبو(..): كَانَ سعيد يَقُولُ: سره أوله, سر الشهر أول الشهر, وَقَالَ (..) وسطه وَقَالُوا آخره, والصواب أن سره هُوَ آخره.
فمعاوية روى هَذَا الحديث أن النَّبِيّ قَالَ: صوموا الشهر وسره, يحمل كما سبق, يحمل هَذَا عَلَى ما كَانَ له عادة بصيام آخر الشهر أو أَنَّهُ نذر فهذا يصوم من أجل عادته أو من أجل نذر, أَمَّا أن يتقدم رمضان بنية الاحتياط فهذا هُوَ الممنوع.
(المتن)
باب إذا رئي الهلال في بلد قبل الآخرين بليلة
2332 - حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إسماعيل يعني ابن جعفر، أخبرني محمد بن أبي حرملة، أخبرني كريب، أن أم الفضل ابنة الحارث، بعثته إلى معاوية، بالشام، قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها فاستهل رمضان وأنا بالشام، فرأينا الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني ابن عباس، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ قلت: رأيته ليلة الجمعة، قال: أنت رأيته؟ قلت: نعم، ورآه الناس، وصاموا، وصام معاوية، قال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصومه حتى نكمل الثلاثين، أو نراه، فقلت: أفلا تكتفي برؤية معاوية وصيامه، قال: لا، «هكذا أمرنا رسول الله ﷺ».
(الشرح)
هَذِهِ الترجمة (إذا رئي الهلال في بلد قبل الآخرين بليلة), وذكر فِيهِ قصة كريب لما بعثته أم الفضل وَهِيَ زوجة العباس قضى حاجتها واستل عَلَيْهِ الشهر لِأَنَّهُ ذَهَبَ في شعبان فأدرك هلال رمضان هناك, فرؤي هلال رمضان ليلة الجمعة, فصام أهل الشام ثُمَّ جاء إِلَى المدينة في آخر رمضان, سأله ابن عباس, قَالَ: متى رأيتم الهلال؟ قَالَ: ليلة الجمعة, ورآه الناس قَالَ: أنت رأيته, قال: أنت رأيته؟ قلت: نعم، ورآه الناس، وصاموا، وصام معاوية، قَالَ ابن عباس: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصومه حتى نكمل الثلاثين، أو نراه، نرى الهلال أو نكمل الشهر, فقال كريب لابن عباس: أفلا تكتفي برؤية معاوية وصيامه، قال: لا، «هكذا أمرنا رسول الله ﷺ», والحديث أخرجه مسلم والترمذي والنسائي.
والحديث استدل به عَلَى أن لأهل كُلّ بلد رؤيتهم, وَذَهَبَ إِلَى هَذَا الإمام أحمد وجماعة, عَلَى أَنَّهُ دليل عَلَى أن لأهل كُلّ بلد رؤيته, ذَهَبَ إِلَى هَذَا الإمام أحمد وجماعة, وَذَهَبَ الجمهور, جمهور العلماء إِلَى أن الهلال إِذَا رؤي في بلد لزم النَّاس كلهم الصوم, لحديث صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته, هَذَا خطاب عام للمسلمين, وَهَذَا فِيهِ قوة للمسلمين واجتماع لكلمتهم.
صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته, والخطاب للأمة كلها, وَهَذَا هُوَ الصواب, لكن إِذَا لَمْ يتيسر أو لَمْ يثق برؤية البلد الَّذِينَ أصابوا, أو حصل خلاف بينهم ونزاع أو كَانُوا يعملون بالحساب, فَإِنَّهُ يعمل برؤية بلده عَلَى حسب قضاء النزاع.
لو أمكن لما كَانَ الدولة الخلافة الإسلامية مثلما قَالَ هارون الرشيد للسحابة: أمطري حيث شئتي فسوف يأتيني خراجك, هارون الرشيد ملك الخلافة الإسلامية عام, في الشرق والمغرب في الشام وفي الحجاز وفي مصر وفي الكوفة وفي البصرة كلها مملكة واحدة, كلها دولة إسلامية.
فَإِذَا أعلن ولي الْأَمْرِ أَنَّهُ أصاب الرؤية في بلد صام النَّاس كلهم, إِذَا رؤي في الشام صاموا في المدينة وفي الحجاز وفي كُلّ بلد؛ لِأَنَّ الدولة واحدة والخليفة واحد, لكن صارت دويلات الآن, كُلّ دولة لها حاكم, وَكُلّ حاكم له رأي, وَبَعْضُهُمْ يعمل بالحساب, وَبَعْضُهُمْ لا يوثق برؤيتهم, ففي هَذِهِ الحالة لا بأس أن يعمل بالرؤية, خروج من النزاع أو من الشقاق, أو لَمْ يوثق برؤية من رآه, أو كَانَ هؤلاء الَّذِين أعلنوا أَنَّهُمْ يعلمون بالحساب فهنا يعمل بِهَذَا الحديث, حديث كريب.
وتمسك بِهَذَا الحديث حديث كريب لا يلزم أهل بلد رؤية أهل بلد غيرها, قَالُوا: كُلّ أهل بلد لهم رؤيتهم الخاصة, ووجه الاحتجاج أن ابن عباس لَمْ يعمل برؤية أهل الشام, قَالَ في آخر الحديث: «هكذا أمرنا رسول الله ﷺ», قَالُوا: فدل ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ حفظ عَنْ رسول الله ﷺ أَنَّهُ لا يلزم أهل بلد بعمل رؤية أهل البلد الآخر.
قَالَ الخطابي: اختلف النَّاس في الهلال, يستهله أهل بلد في ليلة, ثُمَّ يستهله أهل بلد آخر في ليلة قبلها أو بعدها, فَذَهَبَ إِلَى ظاهر الحديث ابن عباس والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وعكرمه وَهُوَ مذهب إسحاق بن راهوية, وَقَالَ: لكل قوم رؤيتهم.
وَقَالَ أكثر الفقهاء إِذَا ثبت بخبر النَّاس أن أهل بلد من البلدان قَدْ رأوه قبلهم فعليهم قضاء ما أفطروه, يَعْنِي إِذَا علموا في بلد أَنَّهُ رؤي وَلَمْ يروه إِلَّا بعدها بليلة يقضوا هَذَا اليوم الَّذِي فاتهم, وَذَهَبَ إِلَى هَذَا الإمام أبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي وأحمد, لكن رواية عِنْد الحنابلة غير هَذَا.
بَعْضُهُمْ قَالَ: إن هَذَا يَدُلَّ عَلَى اختلاف المطالع, وَهَذَا قول جماعة جمع من أهل العلم.
(المتن)
(الشرح)
قول الحسن هَذَا يوافق قول الجمهور القائلين: بأنه إِذَا ثبتت رؤية الهلال بالبلد لزم النَّاس كلهم الصوم, للحديث المتفق عَلَيْهِ «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته», فالخطاب للأمة كلها, وَعَلَيْهِ يحمل قول الحسن هَذَا؛ فَإِنَّهُمْ إِذَا علموا أن أهل بلد من الْمُسْلِمِين صاموا قبلهم يَعْنِي قبل أن يصوموا بيوم لزمهم أن يصوموا ذَلِكَ اليوم, ولا يلزمهم القضاء بمجرد شهادة رجلين بدون عَلَيْهِمْ بصوم أهل البلد هَذَا اليوم, لَابُدَّ أن يعلموا أَنَّهُمْ صاموا هَذَا اليوم وَعَلَى هَذَا يقضونه.
(المتن)
باب كراهية صوم يوم الشك
2334 - حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن عمرو بن قيس، عن أبي إسحاق، عن صلة قال: كنا عند عمار في اليوم الذي يشك فيه، فأتى بشاة فتنحى بعض القوم، فقال عمار: من صام هذا اليوم، فقد عصى أبا القاسم ﷺ.
(الشرح)
نعم هَذِهِ الترجمة في كراهية صوم يوم الشك, والكراهية يراد بها التحريم ويراد بها التنزيه, وظاهر الحديث أن المراد كراهة التحريم, يَعْنِي تحريم صوم يوم الشك, وذكر فِيهِ حديث عمار في اليوم الَّذِي يشك فِيهِ, يَعْنِي قَالَ: (كنا عند عمار في اليوم الذي يشك فِيهِ)، يَعْنِي يشك فِيهِ هَلْ هُوَ من رمضان أم من شعبان, آخر يوم من شعبان, (فأتى بشاة), وفي اللفظ الآخر: (مصلية), (فتنحى بعض القوم)، قَالَ: إني صائم, ما أكل, فقال عمار: من صام هذا اليوم، فقد عصى أبا القاسم ﷺ.
والعصيان محرم ليس مكروهًا, فدل عَلَى أن المراد من التحريم الكراهة, والحديث فِيهِ دليل على تحريم صوم يوم الشك, وَهَذَا الحديث أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة قَالَ الترمذي: حسن صحيح.
ويوم الشك هُوَ اليوم الَّذِي تتحدث فِيهِ النَّاس برؤية الهلال, وَلَمْ يثبت رؤيته, أو شهد واحد فردته شهادته, أو شاهدان فاسقان فردت شهادتهما, كُلّ هَذَا يسمى يوم الشك, قوله: (تنحى بَعْضُهُمْ), يَعْنِي اعتزل وَلَمْ يأكل, فهذا الحديث فِيهِ دليل عَلَى تحريم صوم يوم الشك؛ لِأَنَّ الصحابي ما يَقُولُ ذَلِكَ من قبل رأيه, فيكون له حكم الرفع.
وقوله هنا: فقد عصى أبا القاسم ﷺ, لماذا خصص الكنية هنا؟ قِيلَ: الفائدة الإشارة إِلَى أن النَّبِيّ ﷺ هُوَ الَّذِي يقسم بين عباد الله, في الحديث يَقُولُ النَّبِيّ ﷺ: أنا قاسم والله معطي.
(المتن)
باب فيمن يصل شعبان برمضان
2335 - حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: لا تقدموا صوم رمضان بيوم، ولا يومين، إلا أن يكون صوم يصومه رجل، فليصم ذلك الصوم.
2336 - حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن توبة العنبري، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أم سلمة، عن النبي ﷺ، أنه لم يكن يصوم من السنة شهرًا تامًا إلا شعبان يصله برمضان.
(الشرح)
نعم مذهب عبد الله بن عمر بن الخطاب أَنَّهُ يصوم يوم الشك إِذَا كانت السَّمَاءِ سحابة وقطر وإن كَانَت صحوًا وَلَمْ ير النَّاس الهلال أفطر مَعَ النَّاس, وإن كَانَ يوم غيم صام, وَهَذَا مذهب الحنابلة.
والرواية الثانية أَنَّهُ لا يصام مَعَ الجمهور, قَالَ الشافعي: إن وافق يوم الشك يومًا كَانَ يصومه صامه وإلا لا يصومه.
وَهَذِهِ الترجمة (باب فيمن يصل شعبان برمضان), ذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي هريرة لا تقدموا صوم رمضان بيوم، ولا يومين، إلا أن يكون صوم يصومه رجل، فليصم ذلك الصوم. وَهَذَا الحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة, والحديث دليل عَلَى تحريم الصوم قبل رمضان بيوم أو يومين, إِلَّا إِذَا وافق ذَلِكَ عادةً له, أو صام الشهر كله أو معظمه كما دل عَلَيْهِ حديث أم سلمة, حديث أم سلمة الثاني عَنْ أم سلمة عَنْ النَّبِيّ ﷺ أَنَّهُ لَمْ يكن يصوم شهرًا تامًا إِلَّا شعبان يصله برمضان, هَذَا الحديث أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة, وَقَالَ الترمذي: حسن صحيح.
فَإِنَّهُ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا صام الشهر كله أو معظمه فلا بأس, يَعْنِي إِذَا أراد أن يصوم الشهر كاملاً أو صام عظم الشهر فلا بأس, أَمَّا أن يصوم آخر الشهر وَهُوَ ما صام أول الشهر ولا وسطه, فهذا هُوَ الممنوع.
لكن إِذَا صام الشهر أو صام معظمه فهذا لا بأس, ولهذا حديث أم سلمة«أنه لم يكن يصوم من السنة شهرًا تامًا إلا شعبان يصله برمضان».
وفي رواية أبي الوليد عِنْد أبي سلمة عَنْ أبي سلمة عَنْ عائشة أَنَّهُ كَانَ يصوم شعبان إِلَّا قليلاً, وهنا قَالَ: أنه لم يكن يصوم من السنة شهرًا تامًا إلا شعبان يصله برمضان.
وَهَذَا يبين أن المراد من حديث أم سلمة أنه لم يكن يصوم من السنة شهرًا تامًا إلا شعبان يصله برمضان, يَعْنِي كَانَ يصوم معظمه, يكون حديث عائشة مفسر لحديث أم سلمة, مخصص له, وأن المراد بالكل الأكثر, وَهُوَ جائز في لغة العرب, جائز في كلام العرب, يَعْنِي من صام معظم الشهر فقد صام الشهر.
فمعنى «كَانَ يصوم شعبان كله», كَانَ يصوم معظم الشهر, ومن صام معظم الشهر فقد صام الشهر, يَعْنِي يصوم شعبان ويفطر أيامًا قليلة في آخره, فهذا يعتبر صام الشهر.
(المتن)
باب في كراهية ذَلِكَ
(الشرح)
أيْ كراهية وصل شعبان برمضان.
(المتن)
(الشرح)
هَذِهِ الترجمة في كراهية وصل شعبان برمضان, ذكر فِيهِ حديث العلاء عَنْ أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قَالَ: إذا انتصف شعبان، فلا تصوموا، فقال العلاء: اللهم إن أبي، حدثني، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ بذلك.
هَذَا الحديث سنده عَلَى شرط مسلم كما قَالَ الحافظ وابن القيم وَهُوَ صحيح, وَقَالَ الإمام أحمد: إن الحديث منكر, هَذَا ليس بجيد, وَكَذَلِكَ إنكار عبد الرحمن بن مهدي له؛ لِأَنَّ الحديث من العلماء من صححه, ومنهم من ضعفه, من ضعفه كالإمام أحمد عبد الرحمن بن مهدي, وصححه جماعة الترمذي وجماعة من الحفاظ, وَالَّذِينَ ضعفوه قَالُوا: إِنَّهُ معارض بالأحاديث الَّتِي فِيهَا النهي عَنْ تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين, وَهَذَا فِيهِ إِذَا انتصف شعبان فلا تصوموا.
والصواب: أن الحديث سنده صحيح عَلَى شرط مسلم كما قَالَ ابن القيم, ولا معارضة بينه وبين الأحاديث, فَإِن حديث أم سلمة وعائشة يَدُلَّ عَلَى صوم نصف شعبان مَعَ ما قبله, كَانَ يصوم شعبان كله, يَعْنِي يصوم نصف شعبان مَعَ ما قبله, يَعْنِي يصوم من أول شعبان حَتَّى يتجاوز النصف, هَذَا لا بأس.
فَإِن حديث أم سلمة وعائشة يَدُلَّ عَلَى صوم نصف شعبان مَعَ ما قبله, وَكَذَلِكَ يصوم المعتاد بَعْدَ النصف الثاني.
يَعْنِي لا بأس بأن يصوم من أول الشهر ويستمر حَتَّى يتجاوز النصف, وَكَذَلِكَ يصوم المعتاد بَعْدَ النصف, والحديث يَدُلَّ عَلَى هَذَا يَدُلَّ عَلَى المنع من تعمد الصوم بَعْدَ النصف, لا لعادة ولا مضافًا إِلَى ما قبله.
فَإِذًا هَذَا الحديث ينهي عَنْ الصوم بَعْدَ انتصاف الشهر, هَذَا يتناول من يصوم لا لعادة, وَكَذَلِكَ من أراد أن يصوم بَعْدَ النصف, أَمَّا من صام من أول الشهر واستمر حَتَّى تجاوز النصف فهذا لا يتناوله الحديث, وَكَذَلِكَ من صام بَعْدَ النصف من أجل عادته, أو صوم نذر أو كفارة فلا بأس.
وصار هَذَا الحديث حديث العلاء يَدُلَّ عَلَى المنع من تعمد الصوم بَعْدَ النصف لا لعادة ولا مضاف إِلَى ما قبله, ويشهد له الحديث المتقدم: «لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين», وَأَمَّا حديث التقدم لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين, فمفهومه أَنَّهُ يجوز التقدم بالصيام بأكثر من يوم أو يومين, هَذَا المفهوم دل حديث العلاء عَلَى أَنَّهُ غير مراد, لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين, معناه يجوز التقدم يجوز أن أصوم قبل رمضان بخمسة أيام, هَذَا المفهوم ألغاه هَذَا الحديث حديث العلاء وَأَنَّهُ بَعْدَ النصف لا يصام, دل هَذَا الحديث عَلَى أَنَّهُ غير مراد؛ لِأَنَّهُ منطوق حديث العلاء عدم جواز الصيام بَعْدَ النصف, ومفهوم حديث أبي هريرة جواز الصيام بَعْدَ النصف إِلَّا إِذَا بقي يوم أو يومين, والمنطوق مقدم عَلَى المفهوم.
وذكر ابن القيم رحمه الله أن الَّذِينَ أوقفوا هَذَا الحديث وردوه لهم مأخذان:
الأول: أَنَّهُ لَمْ يتابع العلاء عَلَيْهِ أحد, بَلْ انفرد به, العلاء حديث حسن, بَلْ انفرد به عَنْ النَّاس وَقَالُوا: كيف لا يكون هَذَا معروف عِنْد أصحاب الزهري من أصحاب أبي هريرة, مَعَ أَنَّهُ أمر تعم به البلوى.
الثاني: أَنَّهُمْ ظنوه معارضًا لحديث عائشة وأم سلمة, فِيهِ صيام في وصل شعبان برمضان, قَالُوا: وَهَذِهِ الأحاديث أصح منه, وَبَعْضُهُمْ ظن أن هَذَا من يسمع من العلاء, والمصححون جاءوا به عَنْ العلاء قَالُوا: ليس فِيهِ ما يقدح في صحته والحديث عَلَى شرط مسلم.
لِأَنَّ مسلم أخرج في صحيحه عدة أحاديث عَنْ العلاء, وَقَالُوا: التفرد الَّذِي يعلل به هُوَ تفرد الرجل عَنْ النَّاس بوصل ما أرسلوه أو رفع ما لَمْ يرفعوه, يَعْنِي ما أرسلوه, أو زيادة لفظ لَمْ يذكروها, وَأَمَّا الثقة العادل إِذَا روى حديث وتفرد به فَإِنَّهُ لا يكون تفرده علة.
(قال أبو داود: رواه الثوري، وشبل بن العلاء، وأبو عميس، وزهير بن محمد، عن العلاء)، يَعْنِي هؤلاء كلهم متابعون لعباد بن كثير عَنْ العلاء.
(قال أبو داود: " وكان عبد الرحمن، لا يحدث به، قلت لأحمد: لم قال؟ لأنه كان عنده، أن النبي ﷺ كان يصل شعبان برمضان، وقال: عن النبي ﷺ خلافه، قال أبو داود: «وليس هذا عندي خلافه، ولم يجئ به غير العلاء، عن أبيه»).
(المتن)
باب شهادة رجلين على رؤية هلال شوال
2338 - حدثنا محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى البزاز، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد، عن أبي مالك الأشجعي، حدثنا حسين بن الحارث الجدلي، من جديلة قيس، أن أمير مكة خطب، ثم قال: عهد إلينا رسول الله ﷺ أن ننسك للرؤية، فإن لم نره، وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما، فسألت الحسين بن الحارث من أمير مكة، قال: لا أدري، ثم لقيني بعد، فقال: هو الحارث بن حاطب أخو محمد بن حاطب، ثم قال الأمير: إن فيكم من هو أعلم بالله ورسوله مني، وشهد هذا من رسول الله ﷺ، وأومأ بيده إلى رجل، قال الحسين: فقلت لشيخ إلى جنبي من هذا الذي أومأ إليه الأمير؟ قال: هذا عبد الله بن عمر، وصدق كان أعلم بالله منه، فقال: «بذلك أمرنا رسول الله ﷺ».
(الشرح)
هَذِهِ الترجمة في شهادة رجلين عَلَى رؤية هلال شعبان, ذكره في هَذَا الحديث وأن أمير مَكَّة خطب قال: عهد إلينا رسول الله ﷺ أن ننسك للرؤية، يَعْنِي نذبح الهدي إِذَا وضحت رؤية هلال ذي الحجة «فإن لم نره، وشهد شاهدًا عدل نسكنا بشهادتهما»، يعين إن لَمْ نره وشهد شاهدا عدلٍ أَنَّهُمْا رأيا الهلال ذبحنا الأضحية بشهادتهما (فسألت الحسين بن الحارث من أمير مكة، قال: لا أدري، ثم لقيني بعد، فقال: هو الحارث بن حاطب أخو محمد بن حاطب، ثم قال الأمير: إن فيكم من هو أعلم بالله ورسوله مني، وشهد هذا من رسول الله ﷺ), فيكم من هُوَ أعلم وحضر الرَّسُوْل وشهده (وأومأ بيده إلى رجل، قال الحسين: فقلت لشيخ إلى جنبي من هذا الذي أومأ إليه الأمير؟ قال: هذا عبد الله بن عمر، وصدق كان أعلم بالله منه، فقال: بذلك أمرنا رسول الله ﷺ).
قَالَ المنذري: قَالَ الدراقطني: هَذَا إسناد متصل صحيح, فالحديث ثابت متصل كما نقل المنذري عَنْ الدارقطني, وَهُوَ دليل عَلَى جواز الحج بشهادة رجلين عَلَى الرؤية؛ لِأَنَّهُ قَالَ: عهد إلينا رسول الله ﷺ أن ننسك للرؤية، ننسك نذبح الأضاحي, دليل عَلَى جواز الحج بشهادة عدلين عَلَى الرؤية.
واستدل به المصنف عَلَى أن الفطر من رمضان لا يكون إِلَّا برؤية الهلال أو بشهادتين رجلين برؤية هلال شوال, وَهَذَا بخلاف صوم رمضان, رمضان يصام برؤية واحدة, أَمَّا شوال فلا يفطر النَّاس إِلَّا برؤية اثنين, إِمَّا برؤية الهلال أو بشهادة عدلين.
قوله: (من جديلة قيس), جديلة قبيلة, بنو جديلة بطن من قيس, ويقال: إِنَّهَا (..) قوله: (ننسك), أيْ العبادة, ومعناه نحج بالرؤية.
واستدل المصنف بِهَذَا الحديث عَلَى جواز الحج بشهادة رجلين عَلَى ثبوت هلال شوال, قَالَ الخطابي: لا أعلم خلافًا في أن شهادة الرجلين العدلين مقبولة في رؤية هلال شوال, وَإِنَّمَا اختلفوا في شهادة رجل واحد.
قَالَ أكثر العلماء: لا يقبل فِيهِ أقل من شاهدين.
وروي عَنْ عمر بن الخطاب أَنَّهُ أجاز بشهادة رجل واحد بأضحى أو فطر, ومال إِلَى هَذَا بعض أهل الحديث, وَقَالُوا: إن باب رؤية الهلال من باب الإخبار فلا يجري مجرى الشهادات, يكفي فِيهِ رؤية الواحد, ألا ترى أن شهادة الواحد مقبولة في رؤية هلال رمضان, كَذَلِكَ يَجِبُ أن تكون مقبولة في رؤية هلال شوال, لكن الجمهور عَلَى أن هلال شوال لَابُدَّ من شاهدين عدلين كما دل عَلَيْهِ الحديث.
(المتن)
(الشرح)
نعم هَذَا الحديث فِيهِ دليل عَلَى أَنَّهُ لا يقبل في الشهادة رؤية هلال شوال إِلَّا رجلين, قَالَ: (فقدم أعرابيان، فشهدا عند النبي ﷺ بالله لأهلا الهلال أمس عشية، فأمر رسول الله ﷺ الناس أن يفطروا)، فدل عَلَى أَنَّهُ لا يقبل في الشهادة عَلَى رؤية هلال شوال إِلَّا رجلين بخلاف رمضان, فَإِنَّهُ يكفي واحد.
وَفِيهِ أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يعلموا بالهلال إِلَّا في آخر وقت الضحى فَإِنَّهُمْ يفطرون ويغدون إِلَى مصلاهم من الغد, (..) الخبر العيد إِلَّا قبيل الظهر, يفطرون ويؤدون صلاة العيد من الغد صباحًا.
قَالَ هنا: (فأمر رسول الله ﷺ الناس أن يفطروا, زاد خلف في حديثه،: وأن يغدوا إلى مصلاهم). يَعْنِي من الغد.
قَالَ الخطابي: فِيهِ أن شهادة الواحد العدل في رؤية هلال رمضان مقبولة للواحد, وإلى هَذَا ذَهَبَ الشافعي وأحمد, وَأَمَّا هلال شوال فلابد فِيهِ من عدلين, والواحد يقبل رؤيته في رمضان ولو كَانَ عبدًا أو امرأة أو أمة, وَكَانَ أبو حنيفة يرى هَذَا وأبو يوسف, ولا يجيزان هلال شوال رجل وامرأتين بَلْ لَابُدَّ من رجلين, والشافعي قَالَ: لا يجوز شهادة النساء في هَذَا.
وَكَذَلِكَ الإمام مالك يَقُولُ: لا يقبل عَلَى رؤية هلال شهر شوال ولا عيد الفطر أقل من شاهدي عدل.
(المتن)
باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان
2340 - حدثنا محمد بن بكار بن الريان، حدثنا الوليد يعني ابن أبي ثور، ح وحدثنا الحسن بن علي، حدثنا الحسين يعني الجعفي، عن زائدة، المعنى، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى النبي ﷺ، فقال: إني رأيت الهلال، قال الحسن في حديثه يعني رمضان، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله»، قال: نعم، قال: «أتشهد أن محمدا رسول الله؟»، قال: نعم، قال: «يا بلال، أذن في الناس فليصوموا غدًا.
2341 - حدثني موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، أنهم شكوا في هلال رمضان مرة، فأرادوا أن لا يقوموا، ولا يصوموا، فجاء أعرابي من الحرة، فشهد أنه رأى الهلال، فأتي به النبيﷺ، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟» قال: نعم، وشهد أنه رأى الهلال، فأمر بلالًا فنادى في الناس أن يقوموا وأن يصوموا، قال أبو داود: «رواه جماعة عن سماك، عن عكرمة، مرسلاً ولم يذكر القيام أحد إلا حماد بن سلمة».
(الشرح)
هَذِهِ الترجمة في شهادة الواحد عِنْد رؤيته لهلال رمضان, الترجمة السابقة عَنْ رؤية اثنان لهلال شوال, ذكر فِيهِ حديث سماك عَنْ عكرمة قَالَ:(جاء أعرابي إلى النبي ﷺ، فقال: إني رأيت الهلال، قال الحسن في حديثه يعني رمضان، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله»، قال: نعم، قال: «أتشهد أن محمدا رسول الله؟»، قال: نعم، قال: «يا بلال، أذن في الناس فليصوموا غدًا).
هَذَا الأعرابي صحابي وَالصَّحَابَة كلهم عدول, والحديث يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ تقبل شهادة الواحد العدل عَلَى رؤية هلال رمضان, بخلاف رؤية هلال شوال لا يقبل فِيهِ إِلَّا شهادة عدلين.
وفي الرواية الأخرى عَنْ عكرمة أَنَّهُمْ شكوا في هلال رمضان, فأرادوا أن لا يقوموا، ولا يصوموا، فجاء أعرابي من الحرة، فشهد أنه رأى الهلال، فأتي به النبي ﷺ، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟» قال: نعم، وشهد أنه رأى الهلال، فأمر بلالًا فنادى في الناس أن يقوموا وأن يصوموا، قال أبو داود: رواه جماعة عن سماك، عن عكرمة، مرسلاً ولم يذكر القيام أحد إلا حماد بن سلمة.
الحديث أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة مسندًا ومرسلاً, يَعْنِي موصول ومقطوع, قَالَ الترمذي: فِيهِ اختلاف, وذكر أن المرسل أصوب.
(المتن)
(الشرح)
هَذَا الحديث قَالَ الدارقطني: تفرد به مروان بن محمد عَنْ ابن وهب وَهُوَ ثقة, والحديث دليل عَلَى أن الصيام بشهادة واحد عدل, قَالَ ابن عمر: «ترائى الناس الهلال», الترائي أن يرى القوم بعضه, والمراد الاجتماع للرؤية.
قوله: (فأخبرت), يَعْنِي أني رأيت الهلال, فصام النَّبِيّ ﷺ وأمر النَّاس بصيامه.
(المتن)
باب في توكيد السحور
2343 - حدثنا مسدد، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن موسى بن علي بن رباح، عن أبيه، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله ﷺ: إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر.
(الشرح)
هَذِهِ الترجمة فِيهَا تأكيد للسحور, يَعْنِي تأكيد استحبابه وَأَنَّهُ مستحب, ذكر فِيهِ حديث عمرو بن العاص قَالَ: قال رسول الله ﷺ: إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر, الحديث أخرجه مسلم والترمذي والنسائي والحديث فِيهِ الحث عَلَى أكلة السحر, لبيان أَنَّهُ الفارق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب؛ لِأَنَّ أهل الكتاب لا يتسحرون,فصل ما بينهم يَعْنِي فرق بيننا وبين أهل الكتاب, أهل الكتاب يصومون ولا يتسحرون, ونحن نصوم ونتسحر, وَهَذَا فِيهِ تأكيد؛ لِأَنَّ المطلوب مخالفة أهل الكتاب, إِذَا كَانُوا لا يتسحرون فنحن نتسحر.
والسحور مصدر وبالفتح اسم ما يتسحر به من الطعام والشراب, السَحور اسم للطعام والشارب, والسُحور اسم للفعل.
قوله: (عَنْ أبيه عَنْ أبي قيس), عنه أبيه وَهُوَ علي بن رباح, وَهُوَ مشهور أَنَّهُ موسى بن علية, وَكَانَ يغضب إِذَا نودي علية لكن هَذَا اسمه.
قوله: «إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر», بمعنى الفاصل, والمعنى أن السحور هُوَ الفارق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب؛ لِأَنَّ الله تعالى أباحه لنا إِلَى الصبح بَعْدَمَا كَانَ حرامًا عَلَيْنَا أَيْضًا في بدء الإسلام, وَحَرَّمه عَلَيْنَا بَعْدَ أن يناموا, والسًحر هُوَ قبيل الصبح, وقيل: الثلث الأخير من الليل.
وَقَالَ الخطابي: معنى هَذَا الكلام الحث عَلَى السحور وَفِيهِ إعلام بأن هَذَا الدين يسر لا عسر فِيهِ, فكان أهل الكتاب ينامون إِذَا بَعْدَ الإفطار لَمْ يبح لهم معاودة الأكل والشرب إِلَى الفجر, ثُمَّ أباحه الله تعالى لنا.
(المتن)
باب من سمى السحور الغداء
2344 - حدثنا عمرو بن محمد الناقد، حدثنا حماد بن خالد الخياط، حدثنا معاوية بن صالح، عن يونس بن سيف، عن الحارث بن زياد، عن أبي رهم، عن العرباض بن سارية قال: دعاني رسول الله ﷺ إلى السحور في رمضان، فقال: هلم إلى الغداء المبارك.
2345 - حدثنا عمر بن الحسين بن إبراهيم، حدثنا محمد بن أبي الوزير أبو المطرف، حدثنا محمد بن موسى، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: نعم سحور المؤمن التمر.
(الشرح)
هَذِهِ الترجمة قَالَ المؤلف رحمه الله : (باب من سمى السحور الغداء), ذكر فِيهِ حديث العرباض بن سارية قَالَ: دعاني رسول الله ﷺ إلى السحور في رمضان، فقال: هلم إلى الغداء المبارك, الحديث أخرجه النسائي وفي إسناده الحارث بن زياد, قَالَ ابن عبد البر: ضعيف مجهول, يروي عَنْ أبي رهم السمعي وحديثه منكر, ولكن السحور جاءت أدلة كثيرة في استحبابه كما في الحديث السابق إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر.
ولكن هنا في تسميته الغداء, وَقَالَ: (هلم), يَعْنِي احضروا إِلَى الغداء المبارك, والغداء هُوَ مأكول الصباح, وأطلق عَلَيْهِ غداء لِأَنَّهُ يقوم مقامه, قَالَ الخطابي: إِنَّمَا سمي غداءً لِأَنَّ الصائم يتقوى به عَلَى صيام النهار, فكأنه قَدْ تغدى, والعرب تقول: غدا إِلَى الحاجة إِذَا بكر فِيهَا, وَهُوَ من السحور إِلَى طلوع الشمس, لكن الحديث فِيهِ ضعف في تسميته الغداء المبارك.
والحديث الثاني حديث أبي هريرة قَالَ: نعم سحور المؤمن التمر, هَذَا فِيهِ ثناء عَلَى التمر والسحور كُلّ ما يؤكل في آخر الليل, جاء في الحديث الآخر تسحروا ولو بجرعة ماء, يَعْنِي إِذَا كَانَ الإنسان لا يشتهي الأكل, يأكل شَيْء قليل تمرات أو شَيْء كأس من لبن أو فاكهة أو ما أشبه ذَلِكَ حَتَّى يحصل عَلَى الفضيلة والأجر, وَالنَّبِيّ أثنى عَلَى التمر قَالَ: نعم سحور المؤمن التمر.
(المتن)
باب وقت السحور
2346 - حدثنا مسدد، حدثنا حماد بن زيد، عن عبد الله بن سوادة القشيري، عن أبيه، سمعت سمرة بن جندب، يخطب، وهو يقول: قال رسول الله ﷺ: لا يمنعن من سحوركم أذان بلال، ولا بياض الأفق الذي هكذا حتى يستطير.
(الشرح)
هَذَا الحديث أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وَفِيهِ بيان وقت السحور وأن وقت السحور قبل طلوع الفجر, قوله: لا يمنعن من سحوركم أذان بلال، لِأَنَّ بلال يؤذن بالليل, وابن مكتوم يؤذن إِذَا طلع الصبح, أذان بلال لا يمنع من السحور لِأَنَّهُ يؤذن قبل الفجر, وَإِذَا كَانَ هناك مؤذن يؤذن قبل الفجر فَإِن هَذَا لا يمنع السحور ولا بياض الأفق الذي هكذا حتى يستطير, اللي هُوَ الفجر الكاذب.
معنى حَتَّى يستطير يَعْنِي حَتَّى يتعرض في الأفق وينتشر ضوءه, يستطير ينتشر, ولهذا قَالَ الشاعر:
وهان على سراة بني لؤي | حريق بالبويرة مستطير |
يعني منتشر, الحديث فيه دليل على أن الفجر الكاذب لا يمنع من السحور وهو بياض الأفق المستطيل كالعمود ثم يزول, يكون في وسط السماء مثل العمود بياض ثم يظلم هذا الفجر الكاذب, أَمَّا الفجر الصادق فَإِنَّهُ يكون مشرق هكذا ثُمَّ ينتشر الضوء, الفجر الكاذب بياض الأفق المستطيل كالعمود كجانب الذئب خط مستطيل ثُمَّ يظلم هَذَا الفجر الكاذب, هَذَا لا يمنع السحور.
دل الحديث عَلَى أن الفجر الكاذب لا يمنع السحور وَهُوَ بياض الأفق المستطيل كالعمود ثُمَّ يزول, وَإِنَّمَا الَّذِي يمنع من السحور الفجر الصادق, وَهُوَ البياض في الأفق الَّذِي يستطيل وينتشر معترض.
ولهذا قَالَ النَّبِيّ ﷺ : لا يمنعن من سحوركم أذان بلال، ولا بياض الأفق الذي هكذا حتى يستطير, يَعْنِي حَتَّى ينتشر.
والسُحور بالضم اسم للفعل, وبالفتح اسم للأكل الَّذِي في السحور, مثل الوضوء والوضَوء, الوضَوء الماء الَّذِي يتوضأ منه, والوُضوء الفعل, والسعوط والحنوط كلها.
(المتن)
(الشرح)
هَذَا الحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة, وقوله: لا يمنعن أحدكم أذان بلال, فَإِنَّهُ من سحوره, (فإنه يؤذن - أو قال: ينادي -), يَعْنِي بالليل.
(ليرجع قائمكم)، ليرجع بفتح المثناة أيْ ليرد قائمكم, ومثله قوله تعالى: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ[التوبة/83], أيْ ردك الله.
(وينتبه نائمكم)، يَعْنِي أن بلال يؤذن لرجع قائمكم يَعْنِي الَّذِي يصلي بالليل يعلم أن الوقت قريب وَأَنَّهُ قرب السحور, فيرد عَنْ الإطالة, وينبه النائم, النائم ينبه يقوم يتوضأ ويتسحر, والقائم يرده عَنْ الإطالة, وينبهه بأن الفجر قريب.
قَالَ: أذان بلال لا يمنع من السحور, وَإِنَّمَا هُوَ للتنبيه.
الفائدة الأولى: أَنَّهُ يرد القائم, من يصلي الليل يخبره بأن الوقت قريب.
الفائدة الثانية: وينبه النائم.
قوهل: (وليس الفجر أن يقول هكذا), يَعْنِي يكون في وسط السَّمَاءِ يكون بياض مستطيل دقيق كذنب السرحان, (قال مسدد وجمع يحيى كفيه حتى يقول هكذا)، حَتَّى ينتشر, (ومد يحيى بأصبعيه السبابتين), ينتشر هَذَا الفجر الصادق.
والحديث في بيان الفجر الكاذب الَّذِي لا يمنع السحور, والفجر الصادق الَّذِي يمنع السحور والأكل, الفجر الكاذب هُوَ الَّذِي يكون بياضه طولًا كالعمود ثُمَّ يزول, والفجر الصادق هُوَ الَّذِي ينتشر بياضه في الأفق.
(المتن)
(الشرح)
نعم هَذَا الحديث أخرجه الترمذي وَقَالَ: حسن غريب من هَذَا الوجه, وَفِيهِ قيس بن طلق تكلم فِيهِ غير واحد من الأئمة, وقوله: كلوا واشربوا، ولا يهيدنكم الساطع المصعد، هُوَ الفجر الكاذب, يَعْنِي لا يمنعكم الساطعالمصعد وَهُوَ الفجر الكاذب لا يمنعكم من أكل السحور, كلوا واشربوا للسحور ولا يهيدنكم يَعْنِي لا يمنعكم الساطع المصعد من الأكل, وأصل الهيد الزجر.
والساطع المرتفع صعودًا المستطيل كالعمود وَهُوَ الفجر الكاذب وَهُوَ الساطع أول ما ينشق مستطيلاً وَهَذَا هُوَ الصبح الأول فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر، الأحمر يَعْنِي الأبيض يطلق الأحمر عَلَى الأبيض, هُوَ بياض النهار وسواد الليل وَهُوَ الصبح الصادق.
وسمي أحمر لِأَنَّهُ يستبطيء البياض المعترض الَّذِي أوائله حمرة, وَقَدْ يطلق الأحمر عَلَى الأبيض.
وقوله: «لا يهيدنكم», المعنى أيْ لا يمنعكم الأكل, وقوله: «الساطع», السطوع هُوَ هُوَ ارتفاع المصعد قبل أن يتعرض, وقوله: «لا يهيدنكم الساطع», المعنى لا تنزعجوا من الفجر المستطيل فتمنعوا عَنْ السحور.
وَقَالَ الخطابي: معنى قول الأحمر هنا أن يستبطن البياض المعترض أوائله حمرة, وَذَلِكَ أن البياض إِذَا تتام طلوع ظهرت أوائله الحمرة, والعرب تشبه الصبح بالفلق من الخيل لما فِيهِ من بياض وحمرة.
وَقَدْ يطلق الأحمر عَلَى الأبيض وَهُوَ الَّذِي (..) الأحمر ما لونه الحمرة, ومن المجاز الأحمر من لا سلاح معه في الحرب.
وفسر به الحديث أن النَّبِيّ ﷺ قَالَ: بعثت إِلَى الأحمر والأسود, والعرب تقول: امرأةٌ حمراء أيْ بيضاء, والمعنى حَتَّى يعترض لكم الأحمر وَهُوَ الأبيض وَهُوَ بياض النهار من سواد الليل, يَعْنِي الصبح الصادق.
وَهَذَا الحديث أخرجه الترمذي وَقَالَ: حسن غريب من هَذَا الوجه.
(المتن)
(الشرح)
والحديث استدل به العلماء, الحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم والترمذي والنسائي, واستدل به العلماء عَلَى أن الإنسان لو أكل ظانًا أن الفجر لَمْ يطلع فصومه صحيح؛ لِأَنَّ عدي جعل عقالين أحدهما أسود وجعل يأكل حَتَّى يتبين له, فقال النَّبِيّ ﷺ: إن وسادك لعريض طويل، إِذَا كَانَ وسادك يسع الصبح, بياض النهار وسواد الليل, هَذَا واسع, إِذَا كَانَ وسادك يتسع هَذَا فوسادك طويل وعريض, يَعْنِي وسادك الطويل إِذَا كَانَ يسع بياض النهار وسواد الليل, بين له النَّبِيّ, وَكَانَ قَدْ نزل قول الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ[البقرة/187]؛ فقط, وَلَمْ ينزل من الفجر, فأشكل هَذَا عَلَى بعض الصَّحَابَة وحصل لعدي ما جعل له عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض, وجعل يأكل حَتَّى يتبين له, فقال له النَّبِيّ: إن سوادك لعريض, إِذَا كَانَ يسع بياض النهار وسواد الليل,, وقال عثمان: «إنما هو سواد الليل وبياض النهار».
ونزل قوله تعالى: مِنَ الْفَجْرِ, وَلَمْ يأمره النَّبِيّ بإعادة الصوم, فَهُوَ أكل حَتَّى يتبين له, فاستدل العلماء بِهَذَا عَلَى أن الإنسان لو أكل ظانًا أن الفجر لَمْ يطلع لَمْ يفسد صومه, وَهَذَا قول جمهور العلماء وَهُوَ الصواب.
إِذَا أكل ظانًا أن الفجر لَمْ يطلع لَمْ يفسد صومه, ما لَمْ يتبين له, يَعْنِي كَانَ شاكًا أكل وشرب وَلَمْ يتبين له, فَإِن تبين له بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ أكل بَعْدَ طلوع الفجر هَذَا فِيهِ خلاف, قِيلَ: يقضي وَقِيلَ: لا يقضي, والصواب أَنَّهُ لا يقضي.
فالحديث دليل عَلَى أن الإنسان لو أكل ظانًا أن الفجر لَمْ يطلع لَمْ يفسد صومه وَهَذَا هُوَ قول جمهور العلماء, وَهُوَ الصواب؛ لِأَنَّ الآية دلت عَلَى الإباحة إِلَى أن يحصل التبيين, قَالَ تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ[البقرة/187].
فالآية الكريمة دلت عَلَى الإباحة إِلَى أن يحصل التبيين, وَقَالَ مالك وبعض العلماء: يفسد صومه ويقضي, مالك وجماعة قَالُوا: يفسد صومه إِلَّا أكل شاكًا في طلوع الفجر فعليه القضاء, والجمهور يَقُولُونَ: لا يفسد صومه ما لَمْ يتبين له طلوع الفجر, فَإِن تبين له أكل بَعْدَ طلوع الفجر فَإِنَّهُ يقضي.
إن تبين له بَعْدَ ذَلِكَ الجمهور يَقُولُونَ: يقضي, وَقَالَ مالك: يفسد صومه ويقضيه, فَإِن تبين له بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ أكل بَعْدَ طلوع الفجر فَإِنَّهُ يقضي عِنْد جمهور العلماء وَهُوَ الصواب.
وَقَالَ آخرون أهل العلم: لا يقضي, ولو تبين أَنَّهُ أكل بَعْدَ طلوع الفجر؛ لِأَنَّهُ جاهل بالحال, والجاهل بالحال كالجاهل بالحكم, وإلى هَذَا ذَهَبَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إِلَى أَنَّهُ لا يقضي وجماعة, وابن القيم وَهُوَ اختيار الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله يرى أَنَّهُ لا يقضي, والأول اختيار الجمهور هُوَ اختيار شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله أَنَّهُ يقضي.
والصواب: أَنَّهُ يقضي إِذَا أكل شاكًا بطلوع الفجر, ثُمَّ تبين له أَنَّهُ أكل بَعْدَ طلوع الفجر فِإنه يقضي, مثال ذَلِكَ: شخص يأكل استيقظ متأخر فظن أن الفجر ما طلع, وجعل يتسحر, فَلَمَّا انتهى وجد النَّاس يصلون في المساجد, هَلْ يقضي أو لا يقضي؟ عِنْد جمهور العلماء يقضيه؛ لِأَنَّهُ تبين أَنَّهُ أكل بَعْدَ طلوع الفجر, وَعِنْد شيخ الإسلام لا يقضي لِأَنَّهُ جاهل بالحال.
جعل الوقت وجهل الحال والجاهل بالحال كالجاهل بالحكم, وَعَلَى تكون المسألة فِيهَا قولان لأهل العلم مشهورة, وكون الإنسان يأخذ بقول الجمهور هَذَا أحوط وأبرأ للذمة.
الظاهر أن عديًا كانت حاضرًا لما نزلت هَذِهِ الآية, نزول فرض الصوم كَانَ متقدمًا في أوائل الهجرة, وإسلام عدي كَانَ في التاسعة أو العاشرة, فيؤول قول عدي هَذَا عَلَى أن المراد بقوله: لما نزلت, يَعْنِي لما تليت عليّ بَعْدَ إسلامي, متأخر هُوَ, فَلَمَّا بلغني نزول الآية, ثُمَّ نزلت الآية قَالَ: ثُمَّ(..).
روى أحمد حديث عَنْ طريق مجاهد, قَالَ: علمني رسول الله ﷺ الصلاة والصيام, فقال: صلي كذا وصم كذا فَإِذَا غابت الشمس فَكُلُّ حَتَّى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود, قَالَ: فأخذت خيطين إِلَى آخره.
اختلف في معنى قوله: فَإِن وسادك لعريض, قَالَ بَعْضُهُمْ: يريد أن نومك لثقيل, وعنى بالوسادة عَنْ النوم, إِذَا كَانَ النوم يتوسد, أو أراد أنك لا تمسك عَنْ الأكل والشرب حَتَّى تبين لك سواد العقال من بياضه.
والقول الآخر: أَنَّهُ كنى بالوسادة عَنْ الموضع الَّذِي يضعه من رأسه وعنقه, وَقَالُوا: إن هَذَا دليل عَلَى أراد أن يَقُولُ: إنك لغبي, وَهَذَا بعيد ليس بصحيح, قَالَ بَعْضُهُمْ أن قوله: فَإِن وسادك لعريض, يَعْنِي إنك غبي, وَهَذَا لا يليق.
بَلْ المراد أن وسادك عريض إِذَا كَانَ يسع الليل والنهار, المراد من قوله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ[البقرة/187].
بياض النهار, والخيط الأسود سواد الليل, إِذَا كَانَ وسادك يسع بياض النهار وسواد الليل فَإِن وسادك عريض.
وَقَالَ النووي: إن جعلت تَحْتَ وسادتك الخيطين الَّذِينَ أرادهم الله وهما الليل والنهار فَإِن وسادك يعلوهما ويغطيهما وحينئذٍ يكون عريضًا, وَإِنَّمَا هُوَ الخيط الأسود والأبيض.