بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قَالَ الإمام أبو داود رحمه الله تعالى:
باب الصائم يستقيء عامدًا
2380 - حدثنا مسدد، حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: من ذرعه قيء، وهو صائم، فليس عليه قضاء، وإن استقاء فليقض، قال أبو داود: رواه أيضا حفص بن غياث، عن هشام مثله.
(الشرح)
قَالَ المؤلف رحمه الله: (باب الصائم يستقيء عامدًا), يستقيء يَعْنِي يخرج القيء وهو ما في بطنه من الطعام, ذكر المؤلف حديث أبي هريرة قَالَ: قال رسول الله ﷺ: من ذرعه قيء، وهو صائم، فليس عليه قضاء، وإن استقاء فليقض، هَذَا الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه والنسائي والحديث لا بأس بسنده سنده جيد, وَهُوَ دليل عَلَى أن من استقاء يعنى استدعى القيء فعليه القضاء, بمعنى أَنَّهُ أخرج القيء باختياره كأن يعصر بطنه فيتقيأ أو يشم شَيْء يتقيؤه أو يدخل أصابعه في حلقه ليتقيأ, فهذا عَلَيْهِ القضاء.
ومن ذرعه القيء وغلبه فَلَيْسَ عَلَيْهِ قضاء؛ لِأَنَّهُ ليس له اختيار, إِذَا تسببت في خروج القيء فَإِنَّهُ يقضي, وَإِذَا ذرعه فلا قضاء عَلَيْهِ, فعمل بظاهر هَذَا الحديث أهل العلم جماهير العلماء عملوا بظاهر هَذَا الحديث, فَقَالُوا: من استقاء فعليه القضاء, ومن ذرعه فلا قضاء عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ بعض العلماء إِلَى أَنَّهُ يقضي حَتَّى ولو ذرعه القيء, قَالَ ابن عباس وعكرمة: بطلان الصوم مِمَّا دخل وليس مِمَّا خرج, وجاء في حديث ساقه الشارح في حديث عائشة أن النَّبِيّ ﷺ قَالَ: يا عائشة هَلْ من كسرى فأتته بقرض فوضعه عَلَى فيه, فقال: هَلْ دخل بطني منه شَيْء, هَذَا في قبلة الصائم.
فهذا الحديث فِيهِ دليل عَلَى أَنَّهُ لا يبطل صوم من غلبه القيء ولا يَجِبُ عَلَيْهِ القضاء, ويبطل صوم من تعمد إخراجه, وَذَهَبَ إِلَى هَذَا عامة أهل العلم من الصَّحَابَة والتابعين وغيرهم.
وَذَهَبَ بعض العلماء إِلَى أَنَّهُ لا يفسد الصوم حَتَّى ولو استخرج القيء, وَهَذَا مروي عَنْ ابن مسعود وعكرمة, قَالُوا: لا يفسد الصوم سواء كَانَ غالبًا أو مستخرجًا, ما لَمْ يجرع منه شَيْء باختياره.
وَهَذَا الحديث تكلم فِيهِ بعض العلماء, قَالَ الحافظ ابن القيم رحمه الله: هَذَا الحديث له علة, والعلة هِيَ علة, أَمَّا علته فوقفه عَلَى أبي هريرة, يَعْنِي موقف ليس مرفوعًا, وقفه عطاء وغيره, وَأَمَّا علة هَذِهِ العلة قَدْ روى البخاري في صححه بإسناده عَنْ أبي هريرة أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا قاء فلا يفطر إِنَّمَا يخرج ولا يولج», قَالَ: ويذكر عَنْ أبي هريرة أَنَّهُ يفطر والأول أصح.
وحكى ابن المنذر رحمه الله الإجماع عَلَى أن من تعمد القيء يفسد الصيام, وَعَلَى كُلّ حال يَعْنِي عامة أهل العلم أخذوا بظاهر هَذَا الحديث, وفرقوا بين من ذرعه القيء وبين من استقاء باختياره, وجمع من أهل العلم قَالُوا أَيْضًا حَتَّى ولو ذرعه القيء لا يفسد إِلَّا إِذَا رجع منه شَيْء باختياره.
وَعَلَى كُلّ حال التفصيل هَذَا هُوَ الذي دل عَلَيْهِ الحديث هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جماهير أهل العلم, (..) وذكر قول الترمذي حديث حسن, لا نعرفه من حديث هشام عَنْ ابن سيرين عَنْ أبي هريرة عَنْ النَّبِيّ إِلَّا من حديث عيسى بن يونس, قَالَ محمد يَعْنِي البخاري: لا أراه محفوظًا, قَالَ أبو عيسى: وَقَدْ روي هَذَا الحديث من غير وجه عَنْ أبي هريرة عَنْ النَّبِيّ ولا يصح إسناده, قَالَ أبو عيسى سمعت أحمد بن حنبل قَالَ: ليس من ذا شَيْء, قَالَ الخطابي: يريد أن الحديث غير محفوظ, يَعْنِي في كلام في الحديث هَذَا, الإمام أحمد يَقُولُ: غير محفوظ والبخاري يَقُولُ: لا أراه محفوظًا؛ لكن عامة أهل العلم عَلَى العمل بِهَذَا الحديث.
قَالَ الخطابي: لا أعلم خلافًا بين أهل العلم أن من ذرعه القيء فَإِنَّهُ لا قضاء عَلَيْهِ, ولا بأن من استقاء عامدًا بأن عَلَيْهِ القضاء.
هَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عامة أهل العلم, وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ العمل وَعَلَيْهِ الفتوى, أَنَّهُ إِذَا ذرعه القيء لا يقضي, وَإِذَا استقاء عامدًا يقضي, هَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جماهير أهل العلم وَهُوَ الَّذِي دل عَلَيْهِ الحديث وإن كَانَ الحديث فِيهِ كلام, البخاري يَقُولُ: لا أراه محفوظًا, كَذَلِكَ قال الخطابي وأحمد بن حنبل, وسيأتي أَيْضًا ما يؤيده الحديث الَّذِي بعده.
قَالَ الخطابي: ولكن اختلفوا في الكفارة.
الكفارة ستأتي في الحديث الَّذِي بعده, الخطابي يَقُولُ: لا أعلم خلافًا بين أهل العلم أن من ذرعه القيء فَإِنَّهُ لا قضاء عَلَيْهِ, ولا بأن من استقاء عامدًا بأن عَلَيْهِ القضاء, لكن اختلفوا في الكفارة, قَالَ: عامة أهل العلم ليس عَلَيْهِ إِلَّا القضاء, فقال عطاء: عَلَيْهِ القضاء والكفارة, وحكي ذَلِكَ عَنْ الأوزاعي وَهُوَ قول أبو ثور.
يَعْنِي التفريق هَذَا بين من ذرعه القيء وبين العمد عَلَيْهِ عامة أهل العلم لكن الاختلاف في الكفارة, والجماهير عَلَى أَنَّهُ ليس عَلَيْهِ كفارة, إِذَا استقاء فعليه القضاء فقط وليس عَلَيْهِ الكفارة, ذكر عطاء والأوزاعي وقول أبي ثور, قَالُوا: عَلَيْهِ القضاء والكفارة.
وَأَيْضًا يلحق أو يقاس عَلَى من ذرعه القيء كُلّ ما غلب الإنسان من دون اختيار كأن يدخل إِلَى حلقه غبار من دقيق أو ذباب أو يدخل ماء جوفه إِذَا ما تمضمض ويتحرى شَيْء من الماء في جوفه, أو إِذَا غاص في الماء دخل في الماء فدخل شَيْء من حلقه بدون اختياره فَإِنَّهُ لا يفسد صومه, فِيهِ معنى من ذرعه القيء.
(المتن)
2381 - حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو، حدثنا عبد الوارث، حدثنا الحسين، عن يحيى، حدثني عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يعيش بن الوليد بن هشام، أن أباه، حدثه، حدثني معدان بن طلحة، أن أبا الدرداء، حدثه، أن رسول الله ﷺ قاء فأفطر، فلقيت ثوبان مولى رسول الله ﷺ في مسجد دمشق، فقلت إن أبا الدرداء، حدثني أن رسول الله ﷺ «قاء فأفطر»، قال: صدق، وأنا صببت له وضوءه ﷺ.
(الشرح)
وَهَذَا الحديث أخرجه الترمذي والنسائي وَقَالَ الترمذي: وَقَدْ جود حسين المعلم هَذَا الحديث, وحديث حسين أصح شَيْء في هَذَا الباب, وَقَالَ الإمام أحمد بن حنبل: حسين معلم يجوده, وَهَذَا فِيهِ أن النَّبِيّ ﷺ قاء فأفطر, يَعْنِي قاء عمدًا, لما تقدم من أن من ذرعه القيء ليس عَلَيْهِ قضاء, قاء عمدًا فأفطر, قَالَ معدان: فلقيت ثوبان مولى رسول الله ﷺ في مسجد دمشق، فقلت إن أبا الدرداء، حدثني أن رسول الله ﷺ «قاء فأفطر»، قال: صدق، وأنا صببت له وضوءه.
والحديث تكلم عَلَيْهِ ابن القيم رحمه الله, قَالَ: قَدْ روى البيهقي من حديث فضالة بن عبيد, قَالَ: أصبح رسول الله ﷺ صائمًا فقاء فأفطر, فسئل عَنْ ذَلِكَ فقال بأني قست, وروي أَيْضًا عَنْ ابن عمر موقوفًا عَلَيْهِ من ذرعه القيء فلا قضاء عَلَيْهِ ومن استقاء فعليه القضاء, قَالَ: وَعَنْ أبي هريرة مثله وروي مرفوعًا والحفاظ لا يرونه محفوظًا.
وَهَذَا الحديث يحتاج إِلَى جمع الطرق؛ لِأَنَّ في بعض الروايات قاء فأفطر, وفي بعضها قاء فتوضأ, وَأَيْضًا في آخر الحديث قَالَ: إن رسول الله ﷺ قاء فأفطر ثُمَّ قَالَ ثوبان: «فأنا صببت له وضوءه».
إيش مناسبة الوضوء للفطر؟ إِنَّمَا هَذَا يناسب أَنَّهُ انتقض وضوءه بالقيء, هَذَا يحتاج إِلَى جمع الطرق؛ لِأَنَّ في بعض الروايات قاء فتوضأ, وفي بعضها: قاء فأفطر, فهل يعد هذا اضطرابًا؟
والحديث يَدُلَّ عَلَى أن من قاء عامدًا أفطر, ومن ذرعه القيء فلا قضاء عَلَيْهِ كالحديث السابق.
قَالَ الخطابي: لا أعلم خلافًا بين أهل العلم بأن من ذرعه القيء فَإِنَّهُ لا قضاء عَلَيْهِ.
قَالَ الألباني: قلت: إسناده صحيح وكذا قَالَ ابن منده وصححه ابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان, وَقَالَ الحاكم: صحيح عَلَى شرط الشيخين, ووافقه الذهبي, قَالَ: إسناده, ذكر إسناد الأول, قَالَ: حديثنا أبو معمر عبد الله بن عمر حدثنا عبد الوارث حدثنا الحسين بن يحيى حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي عَنْ يعيش بن الوليد بن هشام أن أباه حديثه حدثني معدان بن طلحة, قلت: وَهَذَا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال مسلم, غير يعيش بن الوليد وَهُوَ ثقة, والحسين هُوَ بن ذكوان المعلم, وَقَدْ اختلف عَلَيْهِ في إسناده كما يأتي.
ويحيى هُوَ ابن أبي كثير والحديث أخرجه البيهقي من طريق أخرى عَنْ أبي معمر, وكذا الدارقطني والطحاوي وتابعه عبد الصمد بن عبد الوارث حدثني أبي قَالَ به أخرجه الترمذي والدارمي والطحاوي في شرح المعاني وابن الجارود والدارقطني أَيْضًا وأحمد من طرق عَنْ عبد الصمد به.
وأخرجه ابن خزيمة وعنه ابن حبان والحاكم من طرق أخرى منها محمد بن المثنى أبو موسى عَنْ عبد الصمد به, إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يقل عَنْ أبيه, بَلْ قَالَ: أن يعيش بن الوليد حدثه أن معدان بن أبي طلحه حدثه به, ثُمَّ ساق كلام الحاكم, قَالَ الحاكم: هَذَا حديث صحيح عَلَى شرط الشيخين.
يبقى إشكال إن الحديث في بعض الروايات قَالَ: «فأفطر», والآخر قَالَ: «فتوضأ», يحتاج إِلَى جمع الطرق.
قال الألباني: قَالَ الحاكم: هَذَا حديث صحيح عَلَى شرط الشيخين وَلَمْ يخرجاه, لخلاف بين أصحاب عبد الصمد فِيهِ, قَالَ بَعْضُهُمْ: عَنْ يعيش بن الوليد عَنْ أبيه عَنْ معدان, وَهَذَا وهم من قائله, فقد رواه حرب بن شداد وهشام الدستوائي عَنْ يحيى عَنْ أبي كثير عَلَى الاستقامة, ثُمَّ أخرج هُوَ وأبي خزيمة والدارقطني من طريقين عَنْ حرب بن شداد عَنْ يحيى بن أبي كثير عَنْ عبد الرحمن بن عمرو عَنْ يعيش بن الوليد عَنْ معدان بن أبي طلحة به, إِلَّا أن الدارقطني وقع عنده زيادة عَنْ أبيه فلا أدري هَلْ هِيَ في روايته أم خطأ من الناسخ أو الطابع.
ثُمَّ أخرجه ابن خزيمة والحاكم من طريق عبد الرحمن بن عثمان أبي بحر البكراوي حدثنا هشام الدستوائي عَنْ يحيى بن أبي كثير به دون زيادة, وَقَالَ ابن خزيمة: فبرواية هشام وحرب علم أن الصواب ما رواه أبو موسى يَعْنِي عَنْ عبد الصمد, وأن يعيش بن الوليد سمع من معدان وليس بينهما أبوه, قلت: لكن البكراوي ضعيف إِلَّا أَنَّهُ يقويه رواية حرب بن شداد من الطريقين عنه.
ويزداد قوةً برواية عبد الرزاق في المصنف, وعنه أحمد عَنْ معمر عَنْ يحيى بن أبي كثير به, إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يذكر الأوزاعي في إسناده, الصواب إسناده كما في الطرق المتقدمة وَبِهَذَا يزول الاضطراب ويصح الحديث والحمد لله.
وروى هَذِهِ القصة عتبة بن السكن الحمصي, حدثنا الأوزاعي حدثنا عبادة بن نسي وهبيرة بن عبد الرحمن سمع أبا أسماء يَقُولُ: حدثنا ثوبان, قَالَ: فذكرها بنحوه وزاد فَلَمَّا كَانَ من الغد سمعته يَقُولُ: هَذَا اليوم مكان إفطار أمس.
قلت: وَهَذَا منكر جدًا عتبة هَذَا قَالَ الدراقطني متروك الحديث وَقَالَ البيهقي: عقبة, وَقَدْ ساق له حديثًا آخرة, عتبة بن السكن منسوب للوضع وَهَذَا باطل لا أصل له. ا ه.ـ
قال محمد بن كامل الباقلي, قَالَ: وَكُلّ من خرج هَذَا الحديث رووه بلفظ: قاء فأفطر إِلَّا الترمذي فقط, فلفظه: قاء فتوضأ, ولفظه عبد الرزاق استقاء رسول الله ﷺ فأفطر وأتى بماء فتوضا, قُلْنَا: وليس بِهَذَا الحديث ما يَدُلَّ عَلَى وجوب الوضوء من القيء؛ لِأَنَّ الفعل لا يثبت به الوجوب إِلَّا أن يفعله ويأمر النَّاس بفعله.
أو ينص عَلَى أن هَذَا الفعل ناقض للوضوء, وَقَالَ ابن عبد البر في الاستذكار: واختلف العلماء في من استقاء بَعْدَ إجماعهم عَلَى أن من ذرعه فلا شَيْء عَلَيْهِ, فقال مالك والثوري وأبو حنيفة وصاحباه والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق: «من استقاء عمدًا فعليه القضاء», وروي ذَلِكَ عَنْ عمر وعلي وابن عمر وأبي هريرة وجماعة من التابعين وَهُوَ وقول ابن شهاب. ا. ه.ـ
عَلَى كُلّ حال الروايات كونه قاء فأفطر, قاء فتوضأ, لابد من الجمع بينها الآن, وَعَلَى كُلّ حال الحديث هَذَا مَعَ الحديث السابق يشد بعضه بعضًا حَتَّى لو قُلْنَا فِيهِ اضطراب.
قوله: «قاء فتوضأ», هَذَا ظاهره أَنَّهُ ينقض الوضوء, لكن المحشى يَقُولُ: لا يثبت الوضوء إِلَّا بالأمر.
الكلام الآن في ثبوت الحديث وفي الاضطراب, هَذَا هَلْ اضطراب قاء فتوضأ وقاء فأفطر, ثُمَّ أَيْضًا الحديث هنا قاء فأفطر وفي آخره قَالَ: «وأنا صببت له وضوءه», كيف الجمع بين الأمرين؟
ولكن كما سبق الترمذي مثل ما قَالَ: لَمْ يصح شَيْء في هَذَا الباب, والإمام أحمد يَقُولُ: الحسين يجوده, وقول عامة أهل العلم وجماهير أهل العلم: عَلَى أن من ذرعه القيء فلا قضاء عَلَيْهِ وأن من تعمد إخراج القيء فعليه القضاء, والوضوء كَذَلِكَ, الوضوء له وجه؛ لِأَنَّ الطعام لَاسِيَّمَا الكثير مظنة يَعْنِي شَيْء فاحش ولاسيما أَنَّهُ في الغالب لَمْ يتغير.
(المتن)
باب القبلة للصائم
2382 - حدثنا مسدد، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، وعلقمة، عن عائشة قالت: كان رسول الله ﷺ قبل وهو صائم ويباشر وهو صائم، ولكنه كان أملك لإربه.
(الشرح)
هَذَا الباب في القبلة للصائم وذكر فِيهِ حديث عائشة كان رسول الله ﷺ يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم، ولكنه كان أملك لإربه.
والقبلة تكون بالفم والمباشرة تكون باللمس باليد بالتقاء البشرتين, والحديث رواه الشيخان البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وَهُوَ حديث صحيح, وفي هَذَا الحديث دليل عَلَى جواز القبلة للصائم, لكن إِذَا كَانَ سريع الشهوة فالأولى تركها, لئلا يتسبب في إفساد صومه؛ لِأَنَّهُ إِذَا خرج منه المذي أو المني فسد صومه.
فَإِذَا كَانَ يعرف من نفسه أَنَّهُ سريع الشهوة فلا ينبغي له أن يقبل, وَقَالَ: بجواز إباحة القبلة للصائم جماعة من الصَّحَابَة والتابعين وَهُوَ قول الإمام أحمد وإسحاق وداود وَهُوَ الصواب لهذا الحديث.
وَذَهَبَ الإمام مالك إِلَى كراهتها عَلَى الإطلاق, وَذَهَبَ أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وجماعة إِلَى كراتها للشاب دون الشيخ الكبير, وجاء عَنْ بعض الصَّحَابَة عَنْ ابن مسعود وسعيد بن المسيب أن من قبل قضى يومًا مكانه, قضى يومًا مكان يوم القبلة.
وبعض العلماء حمل ذَلِكَ عَلَى ما إذا أنزل, والصواب الأول, الصواب أَنَّهُ ما دل عَلَيْهِ الحديث, أَنَّهُ يجوز القبلة للصائم مطلقًا, وَأَنَّهَا لا تؤثر في الصوم إِلَّا إِذَا خرج منه شَيْء, إِذَا خرج منه مني هَذَا بالإجماع يفسد صومه, وَإِذَا خرج منه مذي ففيه خلاف.
المذهب عِنْد الحنابلة والجماعة يفسد الصوم, وآخرون يرون أَنَّهُ لا يفسد, ولذلك تقول الحنابلة: إِذَا قبل فأمنى أو أمذى فسد صومه.
وَقَالَ النووي: إن القبلة للصائم ليست محرمة عَلَى من لا تتحرك شهوته, لكن الأولى له تركه, ولا يقال: إِنَّهَا مكروهة له, قَالُوا: بِهَذَا قَالَ الشافعي إِنَّهَا خلاف الأولى في حقه, مَعَ ثبوت أن النَّبِيّ ﷺ كَانَ يفعلها؛ لِأَنَّهُ ﷺ يؤمن في حقه مجاوزة القبلة.
قالت عائشة: «كَانَ أملكم لإربه», إربه روي على وجهين: إربه بكسر الهمزة وروي «أملكم لأرَبه», قِيلَ: إن المعنى واحد وَهِيَ حاجة النفس ووطرها, ويقال: فلان عَلَى فلان أرب وإرب, والأرب أَيْضًا يطلق على العضو.
وذكر بعض العلماء تعليق عَلَى هَذَا الحديث قَالَ العلماء: كلام عائشة «أَنَّهُ كَانَ أملكم لإربه», أَنَّهُ ينبغي لكم الاحتراز عَنْ القبلة ولا تتوهموا من أنفسكم أنكم مثل النَّبِيّ ﷺ في استباحتها؛ لِأَنَّهُ يملك نفسه ويأمن من الوقوع في القبلة, في قبلة يتولد منها إنزال أو شهوة أو هيجان نفس ونحو ذَلِكَ, وأنتم لا تأمنون ذَلِكَ, فطريقكم الانكفاف عنها.
عَلَى كُلّ حال عائشة قَالَت: وَكَانَ أملكم لإربه, وَهَذَا فِيهِ إشارة إِلَى أن من يملك إربه ولا يخشى فلا بأس, وإن كَانَ يخشى ولا يملك إربه فينبغي له أن يحتاط لعبادة الصوم ولا يتسبب في إفساد صومه.
وفي هَذَا الحديث جواز الإخبار عَنْ مثل هَذَا مِمَّا يجري بين الزوجين في الضرورة, وَأَمَّا في غير الضرورة فمنهي عنه.
(المتن)
(الشرح)
بَعْضُهُمْ قَالَ: إن القبلة تجوز في صوم النفل دون صوم الفرض, هنا في هَذَا الحديث كَانَ النَّبِيّ ﷺ يقبل في شهر الصوم.
(المتن)
(الشرح)
الحديث أخرجه النسائي.
(المتن)
(الشرح)
الحديث أخرجه النسائي وَقَالَ: حديث منكر, تكلم ابن القيم رحمه الله عَلَى هَذَا الحديث فقال: وَقَدْ أخرج في الصحيحين من حديث أم سلمة وحفصة أن رسول الله ﷺ كَانَ يقبل وَهُوَ صائم, وفي صحيح مسلم عَنْ عمر بن أبي سلمة أَنَّهُ سأل رسول الله ﷺ أيقبل الصائم, فقال رسول الله ﷺ سل هَذِهِ, أيْ أم سلمة, فأخبرته أن رسول الله ﷺ يصنع ذَلِكَ, فقال يا رسول الله قَدْ غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر, فقال له رسول الله ﷺ: إني لأتقاكم لله وأخشاكم. ويقول عن عائشة كان رسول الله يقبلني. قال ابن المنذر: أخرجه النسائي، وقوله
في الحديث الَّذِي بعده «هششت» بشين معجمة, يَعْنِي نشطت وفرحت بالنظر إِلَى امرأتي, والهشاس الأصل الارتياح والخفة.
قوله: «أرأيت لو تمضمضت», فِيهِ إشارة إِلَى أن المضمضة لا تنقض الوضوء وَهِيَ أول الشرب ومفتاح, فكذلك القبلة لا تنقضه وَهِيَ من دواعي الجماع وأوئله الَّتِي تكون مفتاحًا له, والشرب يفسد الصوم كما يفسده الجماع, كما ثبت عِنْد عمر أن أوائل الشرب لا تفسد الصيام كَذَلِكَ أوائل الجماع لا يفسده.
وَقَالَ الخطابي: في هَذَا الحديث إثبات القياس الجمع بين الشيئين في الحكم الواحد لاجتماعهما في الشبه؛ لِأَنَّهُ لما قَالَ: قبلت وأنا صائم قَالَ: «أرأيت إِذَا تمضمضت», فقاس القبلة عَلَى المضمضة, فكما أن المضمضة مقدمة للشرب ولا يفطر, فكذلك القبلة مقدمة للجماع ولا يفطر.
ففي هَذَا الحديث إثبات القياس والجمع بين الشيئين في الحكم الواحد لاجتماعهما في الشبه, وَذَلِكَ أن المضمضة بالماء ذريعة لنزله الحق ووصوله إِلَى الجوف فيكون فِيهِ فساد الصوم, كما أن القبلة ذريعة للجماع المفسد للصوم, فَإِذَا كَانَ أحد الأمرين منهما غير مفطر للصائم فالآخر مثله.
قوله: «قَالَ النَّبِيّ ﷺ فمه», يَعْنِي فماذا للاستفهام, أبدل الألف هاءً لوقف للسكت, النسائي لما أخرجه قَالَ: هَذَا حديث منكر, قَالَ أبو بكر البزار: وهَذَا حديث لا نعرفه يروى إِلَّا من عمر من هَذَا الوجه.
الحديث الأول «أملكم لإربه» إسناده صحيح مسدد هُوَ ابن مسرهد الأسدي, وأبو معاوية هُوَ محمد بن خازم الضرير, والأعمش هُوَ سليمان بن مهران, هَذَا في الصحيحين ما فِيهِ إشكال.
الحديث الَّذِي بعده إسناده صحيح أبو الأحوص هُوَ سلام بن سليم الخنفي وعمرو بن ميمون هُوَ الأودي, وأخرجه مسلم وابن ماجه والترمذي والنسائي في الكبرى من طريق زياد بن علاقة به, وَهُوَ في مسند أحمد.
والحديث الَّذِي بعده قَالَ: هَذَا إسناده صحيح محمد بن كثير هُوَ العبدي وسفيان هُوَ ابن سعيد الثوري وسعد بن إبراهيم هُوَ ابن عبد الرحمن بن عوف, وأخرجه النسائي في الكبرى من طريق سعد بن إبراهيم بِهَذَا الإسناد وَهُوَ في مسند أحمد وانظر إِلَى سابقيه.
والحديث الَّذِي بعده حديث عمر إسناده صحيح وأخرجه النسائي في الكبرى من طريق الليث بن سعد بِهَذَا الإسناد, وَهُوَ في مسند أحمد وصحيح ابن حبان.
وقوله: «هششت», معناه نشطت وفرحت لفظًا ومعنى.
قَالَ المنذري: أخرجه النسائي وَقَالَ: حديث منكر, قَالَ أبو بكر البزار: هَذَا حديث لا نعلمه يروى إِلَّا عن عمر من هَذَا الوجه.
الشيخ الألباني يَقُولُ عَنْ حديث «يقبلني وأنا صائمة»: قلت إسناده صحيح عَلَى شرط البخاري, وصححه ابن خزيمة.
والحديث الَّذِي بعده حديث عمر: قلت إسناده جيد عَلَى شرط مسلم, وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وعبد الحق والذهبي.
ثُمَّ ذكر التخريج قَالَ: إسناده حدثنا أحمد بن يونس حدثنا الليث حدثنا عيسى بن حماد أخبرنا الليث بن سعد عنه بكير بن عبد الله عَنْ عبد الملك بن سعيد عَنْ جابر بن عبد الله, قلت: وَهَذَا إسناده جيد ورجال ثقات عَلَى شرط الشيخين غير عبد الملك بن سعيد فَهُوَ عَلَى شرط مسلم وحده, قَالَ: ومثله عيسى بن حماد, لكن هَذَا متابع من أحمد بن يونس, وَقَدْ أخرج للأول منهما مسلم حديثه عَنْ أبي حميد أو عَنْ أبي أسيد في القول عِنْد دخول المسجد والخروج منه.
قَالَ: والحديث أخرجه الدارمي وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي وابن أبي شيبة وأحمد من طرق أخرى عَنْ الليث وَهُوَ ابن سعد, قَالَ: وصححه عبد الحق بإيراده إياه في مختصر الأحكام والحاكم عَلَى شرط الشيخين ووافقه الذهبي. ا. ه.ـ
هَذَا هُوَ الصواب, الصواب أن الحديث ليس بمنكر كما قَالَ النسائي, النسائي يَقُولُ: الحديث منكر, والصواب أن الحديث لا بأس به سندًا ومتنًا, وَهُوَ دليل عَلَى أن القبلة لا تفطر الصائم إِلَّا إِذَا خرج مني, واختلف في خروج المذي عَلَى قولين: قِيلَ: المذي يفسد الصوم, وَقِيلَ: لا يفسد الصوم، الحنابلة وجماعة يرون أنه يفسد الصوم، وقيل لا يفسد الصوم.
أَمَّا المني فَإِنَّهُ يفسد الصوم, أَمَّا إِذَا لَمْ يخرج منه شَيْء فصومه صحيح, القبلة لا تفطر كما أن المضمضة لا تفطر الصائم, إِلَّا إِذَا بلع الماء باختياره, إِذَا تمضمض وبلع الماء باختياره هَذَا فإنه يفسد صومه, وفي الحديث إثبات القياس والجمع بين الشيئين في الحكم الواحد.
الإشكال في قول النسائي: إِنَّهُ حديث منكر.
ما في نكارة في السند, المنذري قَالَ: أخرجه النسائي وَقَالَ: حديث منكر.
الصواب أَنَّهُ لا بأس به سندًا ومتنًا وما في إشكال.
(..) قَالَ: لِأَنَّهُ يتسبب في إفساد صومه, أخذًا من قول عائشة: «وَكَانَ أملكم لإربه», إِذَا كَانَ يعلم من نفسه أَنَّهُ تتحرك شهوته ولا يصبر وَأَنَّهُ يجره ذَلِكَ إِلَى الجماع أو يعلم أَنَّهُ سريع الشهوة وينزل لا يجوز له, فهذا يتسبب في إفساد صومه.
وقول عائشة: «وَكَانَ أملكم لإربه», لها معناها وقيمتها.
الراجح هَلْ المزي يفسد أولا يفسد؟ في خلاف في الذهب أَنَّهُ يفسد إِذَا قضى احتياطه فحسن.