بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قَالَ الإمام أبو داود رحمه الله تعالى:
باب في من أصبح جنبًا في شهر رمضان
2389 - حدثنا عبد الله بن مسلمة يعني القعنبي، عن مالك، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر الأنصاري، عن أبي يونس، مولى عائشة، عن عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو واقف على الباب: يا رسول الله، إني أصبح جنبًا، وأنا أريد الصيام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا أصبح جنبًا، وأنا أريد الصيام، فأغتسل وأصوم»، فقال الرجل: يا رسول الله، إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتبع».
(الشرح)
قَالَ المؤلف رحمه الله تعالى: (باب في من أصبح جنبًا في شهر رمضان), وذكر حديث عائشة رضي الله عنها (أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو واقف على الباب: يا رسول الله، إني أصبح جنبًا، وأنا أريد الصيام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أصبح جنبًا، وأنا أريد الصيام، فأغتسل وأصوم).
هَذَا الحديث فِيهِ دليل عَلَى أن من أصبح جنبًا صح صومه, وَهَذَا هُوَ الصواب الَّذِي دلت عَلَيْهِ النصوص, وَأَمَّا من قَالَ: إِنَّهُ لا يصح صومه, فَهُوَ محمول عَلَى أَنَّهُ لَمْ يبلغه الحديث, فَإِذَا جاء الحديث فلا كلام لأحد, إِذَا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
(فقال الرجل: يا رسول الله، إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتبع).
غضب النبي صلى الله عليه وسلم من قول هَذَا الرجل «إنك لست مثلنا», لِأَنَّ كونه صار مغفورًا له لا يَعْنِي أَنَّهُ يتساهل, هُوَ أخشى النَّاس وأتقاهم, فكأن هَذَا الرجل ظن أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مغفور له سواء لو حصل منه تساهل, فالنبي غضب من هَذَا وَقَالَ: «والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتبع».
أنا أخشاكم لست مقصر, أنا سابق لكم بالخشية, والعلم بالله عز وجل وبما يليق بعظمته وجلاله, ومن كَانَ بالله أعلم كَانَ بالله أخشى, {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ }[فاطر/28].
من كان بالله أعلم كَانَ منه أخوف, ولهذا غضب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من قول هَذَا الرجل (إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتبع).
فكونه صلى الله عليه وسلم مغفورًا له لا يَعْنِي أَنَّهُ تساهل بَلْ هُوَ أخشى النَّاس وأتقاهم وأعلمهم بالله عز وجل ومن كَانَ بالله أعلم كَانَ منه أخوف.
والله تعالى يَقُولُ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ }[فاطر/28], هَذَا ليس معناه العلماء يتساهلون لا, بَلْ هم أخشى النَّاس وأعلم النَّاس بالله والرسل في مقدمة العلماء.
في عون المعبود: قَالَ الشيخ عز الدين بن عبد السلام: فِيهِ إشكال؛ لِأَنَّ الخوف والخشية حالةً تنشأ من ملاحظة شدة النقمة الممكن وقوعها بالخائف, وَقَدْ دل القاطع عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم غير معذب.
وَقَالَ الله تعالى: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}[التحريم/8], فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْخَوْفُ فَكَيْفَ أَشَدُّ الْخَوْفِ.
هَذَا إشكال أورده المؤلف يَعْنِي يَقُولُ: الخوف والخشية حالة تنشأ من ملاحظة شدة النقمة الَّتِي يمكن وقوعها بالخائف, وَالرَّسُوْل صلى الله عليه وسلم غير معذب, فلا يمكن أن تحصل منه شدة الخوف, يَعْنِي قَدْ أمنه الله بقوله: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}[التحريم/8].فكيف يقع منه أشد الخوف؟ واضح الإشكال؟.
قَالَ الشيخ عز الدين بن عبد السلام: وَالْجَوَابُ أَنَّ الذُّهُولَ جَائِزٌ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا حَصَلَ الذُّهُولُ عَنْ مُوجِبَاتِ نَفْيِ الْعِقَابِ حَدَثَ لَهُ الْخَوْفُ وَلَا يُقَالُ إِنَّ إِخْبَارَهُ بِشِدَّةِ الْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَكْثَرُ ذُهُولًا لِأَنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ بِشِدَّةِ الْخَوْفِ وَأَعْظَمِ الْخَشْيَةِ عِظَمٌ بِالنَّوْعِ لَا بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ أَيْ إِذَا صَدَرَ الْخَوْفُ مِنْهُ وَلَوْ فِي زَمَنٍ فَرْدٍ كَانَ أَشَدَّ مِنْ خَوْفٍ غَيْرِهِ قَالَهُ السُّيُوطِيُّ.
يَعْنِي هَذَا الجواب من السيوطي أو الاعتراض والجواب, هَذَا لا وجه له, هَذَا الإشكال الَّذِي أورده لا وجه له, قول: الخوف والخشية حالة تنشأ من ملاحظة شدة النقمة, وَالرَّسُوْل عليه الصلاة والسلام لا يتصور منه الخوف هَذَا ليس بصحيح, الرَّسُوْل يَقُولُ: «أنا أخشاكم لله وأتقاكم له», والله يَقُولُ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر/28].
ثُمَّ الجواب كَذَلِكَ إن الرَّسُوْل حصل منه ذهول, إيش الكلام هَذَا؟ فَإِذَا حصل منه ذهول جاء الخوف, الرَّسُوْل صلى الله عليه وسلم يحصل منه ذهول ثُمَّ يحصل الخوف من الذهول, عَلَى كُلّ حال ما ينبغي هَذَا, لا وجه لهذا الإيراد ولا وجه لهذا الجواب.
قَالَ الشيخ عز الدين بن عبد السلام: وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَلْ يقع ذلك منه صلى الله عليه وسلم عَمَلًا بقول الله تَعَالَى {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلا القوم الخاسرون} وَأَيْضًا هُوَ إِمَامٌ لِأُمَّتِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ هَيْئَاتِ الْخَيْرِ كُلِّهَا وَمِنْ جُمْلَتِهَا هَيْئَاتُ الْخَوْفِ بِاللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى.
وَقَالَ الشَّيْخُ الْمُحَدِّثُ وَلِيُّ اللَّهِ الدَّهْلَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَرَادَ بِالْخَشْيَةِ لَازِمَهَا وَهُوَ الْكَفُّ عَمَّا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْخَشْيَةُ خَشْيَةُ هَيْبَةٍ وَإِجْلَالٍ لَا خَشْيَةَ تَوَقُّعِ مَكْرُوهِ انْتَهَى.
كُلّ هَذَا لا وجه له, المراد بالخشية لازمها, الخشية حقيقتها, المراد بالخشية حقيقتها, هَذَا هُوَ الأصل اللفظ عَلَى ظاهره, قَالَ: «إني أرجو أن أكون أخشاكم لله», وفي لفظ آخر: «إن أخشاكم وأتقاكم لله لأنا», أو كما قَالَ عليه الصلاة والسلام, وَقَالَ الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر/28].
عون المعبود: وَفِي قَوْلِهِ لَأَرْجُوَ لَعَلَّ اسْتِعْمَالَهُ الرَّجَاءَ مِنْ جُمْلَةِ الْخَشْيَةِ.
كَذَلِكَ قوله: الخشية خشية الهيبة والإجلال يَعْنِي صرف اللفظ عَنْ ظاهره, الهيبة والإجلال غير الخوف.
عون المعبود: وَفِي قَوْلِهِ لَأَرْجُوَ لَعَلَّ اسْتِعْمَالَهُ الرَّجَاءَ مِنْ جُمْلَةِ الْخَشْيَةِ, وَإِلَّا فَكَوْنُهُ أَخْشَى وَأَعْلَمَ مُتَحَقِّقٌ قَطْعًا قَالَهُ السِّنْدِيُّ.
هَذَا إِنَّمَا قاله تواضعًا عليه الصلاة والسلام من باب التواضع, وإلا فَلَيْسَ المراد أن استعمال الرجاء من دون الخشية, وَإِنَّمَا قالها تواضعًا عليه الصلاة والسلام, مثل قوله ما جاء في الآذان: من أجاب المؤذن ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ آت محمد الوسيلة والفضيلة إِلَى آخر الدعاء حلت له الشفاعة, وَقَالَ: «إِنَّهَا منزلة في الْجَنَّةَ لا تنبغي إِلَّا لعبد وأرجو أن أكون أنا», فهذا من باب التواضع عليه الصلاة والسلام وإلا فَهُوَ عليه الصلاة والسلام .
الحديث دل عَلَى صحة من أصبح جنبًا صومه صحيح, سواء كَانَ رجل أو امرأة وسواء كَانَ من جماع أو من احتلام, ولكن الرجل ينبغي له أن يبادر بالاغتسال؛ حَتَّى يدرك الجماعة, والمرأة لو تأخرت لا يضر.
وَكَذَلِكَ الحائض والنفساء إِذَا انقطع دمها فَإِنَّهُ يصح صومها إِذَا أمسكت عَنْ الطعام والشراب قبل طلوع الفجر.
وَفِيهِ أن النَّبِيّ غضب هَذَا غضب لله عز وجل, وَقَدْ ثبت في الحديث أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم سأله رجل, قَالَ: «لا تغضب», ثُمَّ يغضب الآن كيف ذَلِكَ؟ الغضب من أجل أمور الدنيا هَذَا هُوَ المنهي عنه, أَمَّا الغضب لله هَذَا مطلوب, غضب النَّبِيّ غضب لله عز وجل, النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لا ينتقم لنفسه فَإِذَا انتهكت محارم الله لا يكون لغضبه قائم عليه الصلاة والسلام, غضبه لله هَذَا ليس للنفس.
(المتن)
باب كفارة من أتى أهله في رمضان
2390 - حدثنا مسدد، ومحمد بن عيسى، المعنى قالا: حدثنا سفيان، قال مسدد، حدثنا الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هلكت، فقال: «ما شأنك؟»، قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: «فهل تجد ما تعتق رقبة؟»، قال: لا، قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟»، قال: لا، قال: «فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينًا؟»، قال: لا، قال: «اجلس»، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر، فقال: «تصدق به»، فقال: يا رسول الله، ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت ثناياه، قال: «فأطعمه إياهم»، وقال مسدد في موضع آخر أنيابه.
(الشرح)
الحديث السابق أخرجه مسلم والنسائي وَهُوَ حديث صحيح, وَهَذَا الحديث أَيْضًا حديث صحيح أخرجه الشيخان البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
وفي هَذَا الحديث دليل عَلَى أن المعاصي سبب للهلال, لإقرار النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لقوله: «هلكت», وفي رواية «هلكت وأهلكت», هَذَا دليل عَلَى أن المعاصي تسوي الهلاك؛ لأنها سبب في عذابه في القبر, أسباب عذاب القبر هِيَ المعاصي وأسباب عذاب النَّار هِيَ المعاصي, فِيهَا هلاك, ولهذا قَالَ: هلكت.
وفي اللفظ الآخر قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «ما أهلكك», وفي اللفظ الآخر أَنَّهُ قَالَ: «احترقت احترقت», وقعت عَلَى أهل في نهار رمضان.
احترقت يَعْنِي من الذنب من المعصية, المعاصي هلاك لأنها سبب للعذاب في الدنيا والآخرة, سبب للعقوبات في الدنيا والنكبات, وسبب لعذاب القبر وسبب لعذاب النَّارِ, سبب العقوبات والنكبات في الدنيا من الَّذِي أهلك قوم نوح بالطوفان الَّذِي عَلَى رؤوس الجبال إِلَّا الذنوب والمعاصي.
وأعظم الذنوب والمعاصي الشِّرْك والكفر, من الَّذِي أهلك عاد بالريح العقيم إِلَّا الذنوب والمعاصي, من الَّذِي قوم صالح بالصيحة إِلَّا الذنوب والمعاصي, من الَّذِي أهل فرعون بالغرق إِلَّا الذنوب والمعاصي, من الَّذِي أهلك قوم لوط إِلَّا بالذنوب والمعاصي.
الذنوب والمعاصي تسوي الهلاك والنكبات والمصائب في الدنيا والآخرة نسأل الله السلامة والعافية, وفي هَذَا الحديث دليل عَلَى أن المجامع متعمدًا في نهار رمضان عَلَيْهِ القضاء والكفارة, أن من جامع أهله في نهار رمضان فعليه القضاء والكفارة, والكفارة مرتبة مثل كفارة الظهار, العتق ثُمَّ الصيام ثُمَّ الإطعام.
وَهَذَا هُوَ قول عامة أهل العلم, أن عَلَيْهِ القضاء والكفارة, وَقَالَ بعض العلماء: عَلَيْهِ القضاء ولا كفارة, ولعل الحديث لَمْ يبلغهم الحديث صريح في أَنَّهُ عَلَيْهِ كفارة, قَالَ: «فهل تجد ما تعتق رقبة؟».
وَإِذَا لَمْ يستطع الإطعام اختلف العلماء قِيلَ: تسقط الْكُفَّارة وَقِيلَ: بَلْ تبقى في ذمته, والأقرب أَنَّهَا تبقى في ذمته, والمرأة إِذَا كانت مطاوعة متعمدة فعليها الكفارة أَيْضًا وَعَلَى الرجل الكفارة, وَهَذَا مذهب أكثر العلماء وَهُوَ الصواب, وَقَالَ الشافعي: يجزئهما كفارة واحدة, هُوَ وزوجته يجزئهما كفارة واحدة, وَهِيَ عَلَى الرجل دون المرأة.
والصواب الأول إِذَا كانت مطاوعة كفارتان, أَمَّا لو كانت مكرهة فَلَيْسَ عليها كفارة, والقضاء, والقضاء سيأتي في الحديث الَّذِي بعده قضاء ذَلِكَ اليوم.
كفارة واحدة للرجل والمرأة هَذَا قول الشافعي, كافرة واحدة تكون عَلَى الرجل تجزئهما, وليس للمرأة أن تمكنه من نفسها, وَإِذَا غلبها فَهِيَ مكرهة, لكن ما دامت تستطيع عليها أن تدافع فَلَيْسَ لها أن تطاوعه.
(المتن)
2391 - حدثنا الحسن بن علي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، بهذا الحديث بمعناه زاد الزهري، وإنما كان هذا رخصة له خاصة، فلو أن رجلاً فعل ذلك اليوم لم يكن له بد من التكفير، قال أبو داود: رواه الليث بن سعد، والأوزاعي، ومنصور بن المعتمر، وعراك بن مالك، على معنى ابن عيينة زاد فيه الأوزاعي، واستغفر الله.
(الشرح)
قول الزهري: إن هَذِهِ رخصة خاصة هَذَا دعوة من الزهري والصواب أَنَّهَا ليست خاصة, الصواب أَنَّهَا ليست خاصة بِهَذَا الرجل, الكفارة عامة؛ لِأَنَّ الشريعة عامة, وليس هناك دليل يَدُلَّ عَلَى الخصوصية, قول الزهري: (وإنما كان هذا رخصة له خاصة، فلو أن رجلاً فعل ذلك اليوم لم يكن له بد من التكفير).
كلام الشارح يَقُولُ: ولو أن رجلاً فعل ذَلِكَ اليوم لَمْ يكن له بد من التفكير, وَهَذَا من الزهري دعوى لَمْ يحصل عليها برهانًا, ولا ذكر فِيهَا شاهدًا.
فهذا دليل عَلَى أن مقصوده أَنَّهَا خاصة به, هَذَا ليس عَلَيْهِ دليل الخصوصية لَابُدَّ لها من دليل؛ لِأَنَّ الأصل أن الشريعة عامة, مثل ما قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لخال البراء بن عازب في الأضحية: بالجزعة من الماعز تجزئك ولا تجزئ عَنْ أحد بعدك هَذِهِ خصوصية, ومثل قوله تعالى في الواهبة: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}[الأحزاب/50].
ولهذا يَقُولُ الخطابي: إن هَذَا من الزهري دعوى لَمْ يحصل عليها برهانًا ولا ذكر فِيهَا شاهدًا, وَقَالَ غيره: هَذَا منسوخ وَلَمْ يكن فِيهِ نص خبر يعلم بصحة قوله, فأحسن ما سمعت في قول أبو يعقوب البويطي: وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ هَذَا الرجل وجبت عَلَيْهِ الرقبة, فلم يكن عنده ما يشتري رقبة, فقيل له: صم, فلم يقدر عَلَى الصوم, وَقِيلَ: له إطعام ستين مسكينًا فلم يجد ما يطعم به, فأمر له النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بطعام ليتصدق به, فأخبره بأنه ليس في المدينة أحوج منه, فقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «خير الصدقة ما كَانَ عَنْ ظهر غنى», فلم ير أن يتصدق عَلَى غيره ويترك نفسه وعياله.
فَلَمَّا نقص من ذَلِكَ بقدر ما أطعم أهله لقوت يومهم صار طعامًا لا يكفي ستين مسكينًا فسقطت عنه الكفارة في ذَلِكَ الوقت, وكانت في ذمته إِلَّا أن يجدها, وصار كالمفلس يمهل ويؤجل وليس في الحديث أَنَّهُ قَالَ: لا كفارة عليك.
قَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أن الكفارة لا تلزم الفقير واحتج بظاهر هَذَا الحديث, بعض العلماء قَالُوا: تسقط إِذَا عجز, والصواب أَنَّهَا تبقى في ذمته متى ما أيسر, إِذَا أيسر دفعها وَإِذَا لَمْ ييسر فلا شَيْء.
فقول الزهري: إن هَذَا رخصة له خاصة كأنه أخذها من قوله: (أطعمه وأهلك), إِذَا كَانَ مرض مرضًا لا يجرى برؤه أو كبير السن لا يستطيع هُوَ الَّذِي لا يستطيع أن يصوم رمضان, إِذَا كَانَ لا يستطيع أن يصوم رمضان معناه لا يستطيع أن يصوم الكفارة.
فَإِن قِيلَ: يؤخذ عَلَى ظاهره لِأَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يستفصل منه؛ لِأَنَّهُ قَالَ: صم, قَالَ: إن ما أهلكني إِلَّا الصيام؟ لا, هَذَا في المظاهر ذاك, قَالَ: هَلْ أصابني ما أصابني إلا بالصوم, هَذَا في أوس بن الصامت حينما ظاهر من زوجته, فاحتاج إِلَى رقبة يعتقها فضرب عَلَى رقبته وَقَالَ: ما أملك إِلَّا هَذِهِ الرقبة, قَالَ: هَلْ تستطيع أن تصوم ستين يومًا, قَالَ: هَلْ ما أصابني ما أصابني إِلَّا بالصوم, هَذَا كلام أوس بن الصامت.
والكفارة كما سبق مرتبة, وَذَهَبَ الإمام مالك إِلَى أَنَّهُ مخير, يَعْنِي عَلَى التخيير, مالك رحمه الله يرى أن الكفارة بالتخيير, كما نقل ذَلِكَ العلامة ابن القيم رحمه الله.
وَكَذَلِكَ أيضا يرى الإمام مالك وجوب الكفارة بأي مفطر كَانَ, والصواب أن الكفارة خاصة بالجماع.
قَالَ الشَّيْخ شَمْس الدِّين وَقَدْ رَوَى مَالِك هَذَا الْحَدِيث فِي الْمُوَطَّأ عَنْ الزُّهْرِيِّ عن حميد بن عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَان فَأَمَرَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ يُكَفِّر بِعِتْقِ رَقَبَة أَوْ صِيَام شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ إِطْعَام سِتِّينَ مِسْكِينًا ثُمَّ ذَكَر الْحَدِيث. ثم قال: وَحَسْبك بِهَذَا الْإِسْنَاد.
وَفِيهِ أَمْرَانِ:
أَحَدهمَا: وُجُوب الْكَفَّارَة بِأَيِّ مُفْطِر كَانَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا عَلَى التَّخْيِير.
وهو مذهب مالك في المسألتين الإمام مالك رحمه الله يرى أن الكفارة عَلَى التخيير, أخذًا بهذه الرواية, أن رجل أفطر في رمضان فأمره رسول الله أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا, قَالَ: أفطر في رمضان وَلَمْ يكن أفطر بالجماع.
فقال مالك: أي مفطر لو أفطر بالأكل أو بالشرب عَلَيْهِ الكفارة, ثُمَّ الكفارة بالتخيير, هَذَا هُوَ مذهب مالك في المسألتين.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ وَرِوَايَة الْجَمَاعَة عَنْ الزُّهْرِيّ مُقَيَّدَة بِالْوَطْءِ, وَهَذَا هُوَ الصواب, أن الكفارة خاصة بالوطء في رمضان, أَمَّا الإفطار بالأكل أو بالشرب فَلَيْسَ فِيهِ كفارة, ليس فِيهِ إِلَّا القضاء.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ وَرِوَايَة الْجَمَاعَة عَنْ الزُّهْرِيّ مُقَيَّدَة بِالْوَطْءِ نَاقلَة لِلَفْظِ صَاحِب الشَّرْع فَهِيَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ لِزِيَادَةِ حِفْظهمْ وَأَدَائِهِمْ الْحَدِيث عَلَى وَجْهه وَاتَّفَقَتْ رِوَايَاتهمْ عَلَى أَنَّ فِطْره كَانَ بِجِمَاعٍ, وَهَذَا هُوَ المعتمد, وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِالْكَفَّارَةِ عَلَى اللَّفْظ الَّذِي يَقْتَضِي التَّرْتِيب.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَن الدَّارَقُطْنِيُّ الَّذِينَ رَوَوْا الْكَفَّارَة فِي جِمَاع رَمَضَان عَلَى التَّخْيِير مَالِك فِي الْمُوَطَّأ وَيَحْيَى بْن سعيد الأنصارى وبن جُرَيْج وَعَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْرَة وَأَبُو أَوَيس وَفُلَيْح بْن سُلَيْمَان وَعُمَر بْن عُثْمَان الْمَخْزُومِيّ وَنَذِير بْن عِيَاض وَشِبْل بْن عَبَّاد وَاللَّيْث بْن سَعْد مِنْ رِوَايَة أَشْهَب بْن عَبْد الْعَزِيز عَنْهُ وَعُبَيْد اللَّه بْن أَبِي زِيَاد إِلَّا أَنَّهُ أَرْسَلَ عَنْ الزُّهْرِيّ.
المقصود أن مالك رحمه الله كَانَ أخذ بهذه الرواية, قوله: (أفطر في رمضان), وَلَمْ يقيد بالجماع, ثُمَّ قَالَ: أَمَرَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ يُكَفِّر بِعِتْقِ رَقَبَة أو صِيَام شَهْرَيْنِ أو إِطْعَام سِتِّينَ مِسْكِينًا.
فمالك يرى أن الكفارة عامة في كُلّ مفطر سواء في جماع أو في غيره, ثُمَّ الكفارة عَلَى التخيير, والصواب: ما عَلَيْهِ الجمهور أن الكفارة خاصة بالجماع وأن الكفارة عَلَى الترتيب.
في الصحيحين وفي غيرهما أَنَّ الكفارة عَلَى التخيير, وَفِيهِ التقيد في الجماع بأنه في نهار رمضان.
ثُمَّ الكفارة كيف تكون هَلْ تكون ربع صاع أو نصف صاع؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: نصف صاع, وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ربع صاع؛ لِأَنَّ الرجل الَّذِي جاء يسوق حمارًا جاء فِيهِ خمسة عشر صاعًا, خمسة عشر صاعًا إِذَا قسمت عَلَى ستين كُلّ واحد له ربع صاع.
(المتن)
2392 - حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أن رجلاً أفطر في رمضان فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يطعم ستين مسكينًا، قال: لا أجد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجلس»، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر، فقال: «خذ هذا فتصدق به»، فقال: يا رسول الله، ما أحد أحوج مني، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، وقال له: كله، قال أبو داود: رواه ابن جريج، عن الزهري، على لفظ مالك، أن رجلاً أفطر وقال فيه: «أو تعتق رقبة، أو تصوم شهرين، أو تطعم ستين مسكينًا».
(الشرح)
هَذَا الحديث فِيهِ أن رجل أفطر في رمضان وَلَمْ يقل بالجماع, وَفِيهِ أن رسول الله أمره أن يعتق أو يصوم أو يطعم, فهذا الحديث احتج به مالك عَلَى مسألتين:
1-عَلَى أن الكفارة عامة في الجماع وفي غيره.
2-وَعَلَى أن الكفارة بالتخيير يعتق أو يصوم أو يطعم.
هَذِهِ الرواية أخذ بها الإمام مالك رحمه الله وجماعة, ولكن الحديث السابق فِيهِ التقييد بأنه في رمضان وَفِيهِ التخيير, وَهِيَ رواية البخاري, وكما قَالَ البيهقي: رواية الجماعة عَنْ الزهري مقيدة بالوطء في رمضان, ناقلة للفظ صاحب الشرع, صاحب الشرع الرَّسُوْل صلى الله عليه وسلم, فَهِيَ أولى بالقبول لزيادة حفظهم وأداءهم الحديث عَلَى وجهه.
واتفقت روايتهم عَلَى أن فطره كَانَ بجماع, وأن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أمره بالكفارة عَلَى اللفظ الَّذِي يقتضي الترتيب, هَذَا هُوَ المعتمد في المسألة, الجماعة عَنْ الزهري روايتهم مقيدة بالوطء, وَهِيَ أولى بالقبول لِأَنَّ هؤلاء جماعة في زيادة حفظهم وأدائهم الحديث عَلَى وجهه, وأن الروايات اتفقت عَلَى أن فطره كَانَ بجماع, وأن النَّبِيّ أمره بالكفارة عَلَى التخيير, هَذَا هُوَ المعتمد.
(المتن)
2393 - حدثنا جعفر بن مسافر، حدثنا ابن أبي فديك، حدثنا هشام بن سعد، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أفطر في رمضان بهذا الحديث. قال: فأتي بعرق فيه تمر قدر خمسة عشر صاعًا، وقال فيه: «كله أنت، وأهل بيتك، وصم يومًا، واستغفر الله».
(الشرح)
هَذِهِ الرواية فِيهَا إثبات صوم اليوم, «صم يومًا مكانه», وَفِيهِ أن المجامع في نهار رمضان يصوم يومًا مكانه, فهذه اللفظة يصوم يومًا مكانه أخذ بها جمعٌ من أهل العلم, وَقَالُوا: لَابُدَّ منه من قضاء اليوم لِأَنَّهُ أفسده بالجماع, هَذَا اليوم أفسده بالجماع فلابد من قضائه.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الأئمة الأربعة, هُوَ الصواب الَّذِي عَلَيْهِ الأئمة الأربعة أَنَّهُ يقضي يومًا مكانه, وللشافعي قول: إِنَّهُ لا يَجِبُ القضاء إِذَا كفر, الشافعي يَقُولُ: إِذَا كفر فلا يَجِبُ القضاء, يكفي الكفارة, ما يجمع بين الأمرين.
وله قول ثالث: أَنَّهُ لو كفر بالصيام فلا قضاء عَلَيْهِ, وإن كفر بالعتق وبالإطعام فعليه القضاء, والصواب القول الأول, وَهَذِهِ اللفظة طعن بها بعض الرواة ابن القيم رحمه الله ذكر أن هَذِهِ اللفظة مرسله وَأَنَّهُ لا يأخذ بها إِلَّا ضعفاء الحديث, كأن ابن القيم يريد أَنَّهَا غير ثابتة كما ذكر هنا, قَالَ: هَذِهِ الزيادة وَهِيَ الْأَمْرِ بالصوم قَدْ طعن فِيهَا غير واحد من الحفاظ, قَالَ عبد الحق: وطريق أحاديث مسلم أصح وأشهر, وليس فِيهَا صم يومًا ولا تكميله التمر, بَعْضُهُمْ يَقُولُ: أَنَّهُ كمل التمر, بدل خمس عشر صاع جيء تكميل التمر والاستغفار, كَذَلِكَ قول الرسل له: «واستغفر», وكلمة صم يوم واستغفر ضعيفة, طعن فِيهَا الحفاظ, ليس موجودة في الأحاديث الصحيحة, في الأحاديث المسندة السابقة «صم يومًا واستغفر الله».
قَالَ ابن القيم: وَإِنَّمَا يصح حديث القضاء مرسلاً, يَعْنِي غير مسند رواية «صم يومًا واستغفر الله», وَكَذَلِكَ ذكره مالك في الموطأ وَهُوَ من مراسيل سعيد بن المسيب.
رواه مالك عن عطاء بن عبد الله الخرساني عَنْ سعيد بن المسيب وَقَالَ: «كله أنت، وصم يومًا مكان ما أصبت», وَالَّذِي أنكره الحفاظ ذكر هَذِهِ اللفظة في حديث الزهري, «صم يومًا مكانه», فَإِن أصحابه الأثبات الثقات كيونس وعقيل ومالك والليث بن سعد وشعيب ومعمر وعبد الرحمن بن خالد لَمْ يذكر أحدهما هَذِهِ اللفظة وَإِنَّمَا ذكرها الضعفاء عنه, كهشام بن سعد وصالح بن أبي الأخضر وأضرابهما.
قَالَ الدارقطني: رواتها ثقات, رواه ابن أبي أويس عَنْ الزهري وتابعه عبد الجبار ابن عمر عنه, وتابعه أَيْضًا هشام بن سعد عنه قَالُوا: وكلهم ثقات.
يَقُولُ ابن القيم: وَهَذَا لَا يُفِيد صِحَّة هَذِهِ اللَّفْظَة فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا هُمْ أَرْبَعَة وَقَدْ خَالَفَهُمْ مَنْ هُوَ أَوْثَق مِنْهُمْ وَأَكْثَر عَدَدًا وَهُمْ أَرْبَعُونَ نَفْسًا لَمْ يَذْكُر أَحَد مِنْهُمْ هَذِهِ اللَّفْظَة وَلَا رَيْب أَنَّ التَّعْلِيل بِدُونِ هَذَا مُؤَثِّر فِي صِحَّتهَا.
وَلَوْ اِنْفَرَدَ بِهَذِهِ اللَّفْظَة مَنْ هُوَ أَحْفَظ مِنْهُمْ وَأَوْثَق وَخَالَفَهُمْ هَذَا الْعَدَد الْكَثِير لَوَجَبَ التَّوَقُّف فِيهَا وَثِقَة الرَّاوِي شَرْط فِي صِحَّة الْحَدِيث لَا مُوجِبَة بَلْ لَا بُدّ مِنْ اِنْتِفَاء الْعِلَّة وَالشُّذُوذ وَهُمَا غَيْر مُنْتَفِيَيْنِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَة.
الحاصل: أن ابن القيم وجماعة يرون أن هَذِهِ اللفظة غير ثابتة وَإِنَّمَا هِيَ مرسلة, وآخرون من أهل العلم يرون أَنَّهَا ثابتة مثل الدراقطني وجماعة ولهذا أخذ بها الأئمة الأربعة ولو لَمْ تثبت فَإِنَّهُ يقال: إن هَذَا اليوم فسد والأصل أن من أفطر يوم من رمضان أن عَلَيْهِ القضاء, تؤخذ من العموم, من عموم النصوص.
من أفطر في رمضان ماذا عَلَيْهِ؟ إِذَا أفطر بالمرض أو بالسفر أو بالأكل أو بالشرب أو بالجماع عَلَيْهِ أن يقضي ذَلِكَ اليوم.
قول للشافعي كما سمعت, قَالَ: إِذَا كفروا بالإطعام يسقط, لا يَجِبُ القضاء إِلَّا إِذَا كفر مطلقًا, وقول ثالث: إِذَا كفر بالصيام فلا قضاء عَلَيْهِ, هَذَا قول للشافعي, لكن الَّذِي عَلَيْهِ الأئمة الأربعة أن عَلَيْهِ قضاء ولو كفر.
الكفارة غير قضاء اليوم, عَلَى كُلّ حال هَذَا هُوَ الأحوط والأبرأ للذمة أَنَّهُ يقضي هَذَا اليوم مكانه, وسواء هَذِهِ اللفظة هَلْ هِيَ ثابتة ابن القيم والجماعة يَقُولُونَ: ثابتة, رواها الضعفاء, والدارقطني يَقُولُ: رواتها ثقات لكن من يَقُولُ بقول ابن القيم عدد أربعة وَأُولَئِكَ أربعون نفسًا.
هنا يَقُولُ ابن القيم: وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْفُقَهَاء فِي وُجُوب الْقَضَاء عَلَيْهِ فَمَذْهَب مَالِك وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي أَظْهَر أَقْوَاله يَجِب عَلَيْهِ الْقَضَاء.
مالك وأحمد وأبي حنيفة والشافعي الأئمة الأربعة عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ القضاء, وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْل آخَر أَنَّهُ لَا يَجِب عَلَيْهِ الْقَضَاء إِذَا كَفَّرَ وَلَهُ قَوْل ثَالِث أَنَّهُ إِنَّ كَفَّرَ بِالصِّيَامِ فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ وَإِنْ كَفَّرَ بِالْعِتْقِ أَوْ بِالْإِطْعَامِ قَضَى وَهَذَا قَوْل الْأَوْزَاعِيّ.
إذًا قول الأئمة الأربعة أَنَّ عَلَيْهِ القضاء, والشافعي له قولان أظهر أقواله أَنَّهُ مَعَ الأئمة أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ القضاء.
(المتن)
2394 - حدثنا سليمان بن داود المهري، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن عبد الرحمن بن القاسم، حدثه أن محمد بن جعفر بن الزبير حدثه، أن عباد بن عبد الله بن الزبير حدثه، أنه سمع عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد في رمضان، فقال: يا رسول الله، احترقت، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: «ما شأنه؟»، قال: أصبت أهلي، قال: «تصدق»، قال: والله ما لي شيء، ولا أقدر عليه، قال: «اجلس» فجلس، فبينما هو على ذلك أقبل رجل يسوق حمارًا عليه طعام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين المحترق آنفا؟»، فقام الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تصدق بهذا»، فقال: يا رسول الله، أعلى غيرنا؟ فوالله إنا لجياع ما لنا شيء، قال: «كلوه».
(الشرح)
النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر ضحك حَتَّى بدت أنيابه, يَعْنِي من تعجبه من هَذَا الرجل, جاء خاف وَقَالَ: احترقت وهلكت خائف يريد بس تخليص نفسه, ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يطمع أن يأخذ الكفارة, قَالَ: يا رسول الله من نعطيها ما في أحد أفطر مِنَّا في المدينة, فضحك النَّبِيّ حَتَّى بدت أنيابه عليه الصلاة والسلام.
(المتن)
2395 - حدثنا محمد بن عوف، حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا ابن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عباد بن عبد الله، عن عائشة بهذه القصة قال: فأتي بعرق فيه عشرون صاعًا.
(الشرح)
وفي الرواية الأخرى: «فِيهِ خمسة عشر صاعًا», قوله: «احترقت», يَعْنِي الذنوب سبب لإحراقه بالنار, الذنوب سبب للهلاك سبب لدخول النَّارِ, ولهذا قَالَ: «احترقت» وقوله: «هلكت», وَهَذَا يحتاج الجمع بين رواية خمسة عشر صاعًا ورواية عشرون صاعًا.
قَالَ الألباني: فأتي بعرق فِيهِ عشرون صاعًا, قَالَ قلت: شاذ أو منكر, فابن الحارث عَلَى ضعف فِيهِ, خالفه ثقتان فلم يذكر فِيهِ قدر العرق, قَالَ: أخرجه الشيخان وَهُوَ في الكتاب الآخر برقم: 2074 قَالَ: نحو من حديث أبي هريرة فِيهِ تمر قدره خمسة عشر صاعًا, يشير إِلَى الحديث الصحيح, قَالَ: وَهُوَ أصح كما قَالَ البيهقي. ا. ه.ـ
وعَلَى هَذَا يزول الإشكال المعتمد خمسة عشر صاعًا.
قَالَ الخطابي: وَظاهر هَذَا الحديث يَدُلَّ عَلَى أن قدر خمسة عشر صاعًا كاف للكفارة, عَنْ شخص واحد لكل مسكين مد, وَقَدْ جعله الشافعي أصلاً لمذهبه في أكثر المواضع الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الإطعام إلا أَنَّهُ قَدْ روي في خبر سلمة بن صخر وأوس بن صامت في كفارة الظهار أَنَّهُ قَالَ في أحدهما: أطعم ستين مسكينً وسقًا والوسق ستون صاعًا.
وفي الخبر الآخر أَنَّهُ أتي بعرق وفسره محمد بن إسحاق بن يسار في روايته ثلاثين صاعًا, وإسناد الحديثين لا بأس به وإن كَانَ حديث أبي هريرة أشهر رجالًا, فالاحتياط ألا يقتصر عَلَى المد الواحد؛ لِأَنَّ من الجائز أن يكون العرق الَّذِي أتي به النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم المقدر بخمسة عشر صاعًا, قاصر في الحكم عَنْ مبلغ تمام الواجب عَلَيْهِ, مَعَ أمره إياه أن يتصدق به ويكون تمام الكفارة باقيًا عَلَيْهِ إِلَى أن يؤديه عِنْد اتساعه لوجوده كمن يكون عَلَيْهِ لرجل ستون درهمًا, فيأتيه بخمسة عشر درهمًا, فيقال لصاحب الحق: خذه ولا يكون في ذَلِكَ إسقاط ما ورائه من حقه, ولا براءة ذمته منه. ا. ه.ـ
يَعْنِي خمسة عشر صاعًا قَالَ: تصدق بِهَذَا والباقي يبقى في ذمتك, وَهَذَا هُوَ المعتمد, المتعمد أن المسكين إطعامه نصف صاع وليس مدًا, وَإِنَّمَا هَذَا في زمن معاوية رضي الله عنه لما جاءت السمراء البر الأسمر, اجتهد وَقَالَ: أرى أن المد من هَذَا يعدل مدين فأخذ به النَّاس.
وفي زكاة الفطر نصف صاع منها, قَالَ أبو سعيد: أَمَّا أنا فلا أزال أخرج صاعًا كما كنت أخرجه عَلَى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم المعتمد نصف صاع.
وحديث سلمة بن الصخر قَالَ: «أطعم ستين مسكينًا», ونص الآية في كفارة الظهار: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}[المجادلة/4], كُلّ مسكين أطعمه نصف صاع هَذَا هُوَ المعتمد.
وذكر في الفتح الأصل أنها عشرين وكانت الكفارة خمسة عشر فالذين لَمْ يذكروا العشرين ذكروا الكفارة فقط, ذكر هنا أحسن الله إليك قَالَ: قوله أين السائل زاد بن مسافر آنفًا أطلق عليه ذلك لأن كلامه متضمن للسؤال فإن مراده هلكت فما ينجيني وما يخلصني مثلا وفي حديث عائشة أين المحترق آنفًا, وقد تقدم توجيهه ولم يعين في هذه الرواية مقدار ما في المكتل من التمر بل ولا في شيء من طرق الصحيحين في حديث أبي هريرة, ووقع في رواية بن أبي حفصة فيه خمسة عشر صاعًا, وفي رواية مؤمل عن سفيان فيه خمسة عشر أو نحو ذَلِكَ, وفي رواية مهران بن أبي عمر عن الثوري عن بن خزيمة فيه خمسة عشر أو عشرون وهكذا هو عند مالك وعبد الرزاق في مرسل سعيد بن المسيب وفي مرسله عند الدارقطني الجزم بعشرين صاعًا, ووقع في حديث عائشة عند بن خزيمة فأتي بعرق فيه عشرون صاعًا. قال البيهقي قوله عشرون صاعًا بلاغ بلغ محمد بن جعفر يعني بعض رواته وقد بين ذلك محمد بن إسحاق عنه فذكر الحديث وقال في آخره قال محمد بن جعفر فحدثت به أنه كان عشرين صاعًا من تمر, قلت: ووقع في مرسل عطاء بن أبي رباح وغيره عند مسدد فأمر له ببعضه.
وهذا يجمع الروايات فمن قال إنه كان عشرين أراد أصل ما كان فيه ومن قال خمسة عشر أراد قدر ما قد تقع به الكفارة, ويبين ذلك حديث علي عند الدارقطني تطعم ستين مسكينًا لكل مسكين مد.
وفيه فأتي بخمسة عشر صاعًا فقال أطعمه ستين مسكينًا وكذا في رواية حجاج عن الزهري عند الدارقطني في حديث أبي هريرة, وفيه رد على الكوفيين في قولهم إن واجبه من القمح ثلاثون صاعا ومن غيره ستون صاعًا, ولقول عطاء إن أفطر بالأكل أطعم عشرين صاعا وعلى أشهب في قوله لو غداهم أو عشاهم كفي تصدق الإطعام ولقول الحسن يطعم أربعين مسكينا عشرين صاعًا أو بالجماع أطعم خمسة عشر وفيه رد على الجوهري حيث قال في الصحاح المكتل يشبه الزبيل يسع خمسة عشر صاعًا؛ لأنه لا حصر في ذَلِكَ, وروي عن مالك أنه قال يسع خمسة عشر أو عشرين ولعله قال ذلك في هذه القصة الخاصة فيوافق رواية مهران وإلا فالظاهر أنه لا حصر في ذلك والله أعلم.
عَلَى كُلّ حال الْأَمْرِ سهل في هَذَا, الأصل الاحتياط أن يطعم نصف صاع عَنْ كُلّ مسكين, ستين مسكينًا هَذَا هُوَ الأبرأ للذمة.
وتبقى في ذمته حَتَّى ييسر عَلَى الصحيح, قَالَ بعض العلماء: تسقط, دين في ذمته متى ما أيسر دفعه.
فَإِن قِيلَ: كأنكم ذكرتم في المنحة أن سماحة الشيخ يسقطها عنه؟ فِيهَا قولان لأهل العلم, قول: بسقوطها, وقول: ببقائها, والصواب أن تبقى في ذمته, كسائر الديون.