بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين.
(المتن)
قَالَ الإمام أبو داود رحمه الله تعالى:
باب فيمن مات وعليه صيام
2400 - حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه»، قال أبو داود: «هذا في النذر وهو قول أحمد بن حنبل».
(الشرح)
قَالَ المؤلف رحمه الله: (باب فيمن مات وعليه صيام), ترك المؤلف الحكم ليستنبطه طالب العلم, (من مات وَعَلَيْهِ صيام), التقدير صام عنه وليه كما في الحديث, والحديث دليل عَلَى من مات وَعَلَيْهِ صيام صام عنه وليه, وَهَذَا عام عَلَى الصحيح يشمل قضاء رمضان للمريض والمسافر, ويشمل صيام النذر ويشمل صيام الكفارة لعموم الحديث, وَإلى هذا ذَهَبَ الإمام أحمد وإسحاق وأهل الظاهر.
وَهَذَا هُوَ الصواب في هَذِهِ المسألة أَنَّهُ عام, كُلّ من مات وَعَلَيْهِ صيام فَإِنَّهُ يصوم عنه وليه سواء كَانَ قضاء رمضان أو صيام النذر أو صيام الكفارة, وَقَالَ جمع من أهل العلم إن هَذَا خاص بالنذر, قَالُوا: صام عنه النذر والكفارة دون الفرض الأصلي.
وَهَذَا مذهب الإمام أحمد وَقَالَ أبو داود هَذَا في النذر, وَهُوَ قول أحمد بن حنبل, اختيار المؤلف أبو داود أن هَذَا لا يصام عنه في النذر والكفارة, ولهذا قَالَ أبو داود: وَهَذَا في النذر يَعْنِي خاص وَهُوَ قول أحمد بن حنبل, هَذَا قَالُوا: خاص بالنذر والكفارة دون الفرض الأصلي, قَالُوا: الفرض الأصلي ما يقضى, صلاة فريضة فاتت ما تقضى, والصيام ما يقضى, ما وَجَبَ بأصل الشرع وَإِنَّمَا وَجَبَ بنذر أو كفارة فَإِنَّهُ يقضى.
وَقِيلَ: لا يقضى عنه بحال لا في النذر ولا في الكفارة ولا في الواجب الأصلي, ولا يجوز صيام أحد عَنْ أحد مطلقًا, وقاسوه عَلَى الصلاة, واستدلوا بحديث: «لا يصوم أحد لأحد ولا يصلي أحد لأحد», وَهَذَا موقوف عَلَى ابن عباس.
وَهَذَا مذهب الإمام مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابه, والحديث حجة عَلَى القولين الأخيرين, الصواب القول الأول أَنَّهُ عام.
واتفق أهل العلم عَلَى أَنَّهُ إذا أفطر في السفر والمرض ثُمَّ لَمْ يفرط في القضاء؛ حَتَّى مات فَإِنَّهُ لا شَيْء عَلَيْهِ لا قضاء ولا كفارة ولا يَجِبُ الإطعام عنه.
إذا أفطر في رمضان للمرض أو للسفر ثُمَّ توفي قبل أن يتمكن من القضاء ما شفي من مرضه استمر به المرض؛ حَتَّى مات أو استمر في سفره وَلَمْ يتمكن فَإِنَّهُ لا يقضى عنه ولا كفارة, لِأَنَّهُ ما وَجَبَ عَلَيْهِ لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة/184]؛ يَعْنِي فأفطر, إِلَّا قتادة فَإِنَّهُ قَالَ: يطعم عنه, وَكَذَلِكَ روي هَذَا عَنْ طاوس.
فهذه المسألة فِيهَا هَذِهِ الأقوال الثلاثة, أرجحها القول الأول وَهُوَ اختيار النووي رحمه الله, وأقره في مواضع في شرح صحيح مسلم «أَنَّهُ عام لعموم الحديث, من مات وَعَلَيْهِ صيام صام عنه وليه» فَهُوَ عام.
أَمَّا ما جاء في الحديث أو الحديث الَّذِي بعده «من مات وَعَلَيْهِ صيام نذر», فهذا فرد من أفراد العام, هم قَالُوا: الدليل عَلَى هَذَا أَنَّهُ جاء في الحديث الآخر «من مات وَعَلَيْهِ صيام نذر», قَالُوا: هَذَا يخصص هَذَا العموم.
والصواب: أن الحديث عام وَأَمَّا ما جاء في الحديث «من مات وَعَلَيْهِ صيام نذر أو كفارة», فهذا ذكر فرد من أفراد العام.
ابن القيم رحمه الله أَيْضًا أطال في هَذَا, ذكر عَنْ ابن عباس قَالَ: قَالَ إِذَا مَرِضَ الرَّجُل فِي رَمَضَان ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَصِحّ أُطْعِم عَنْهُ.
(المتن)
2401 - حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: «إذا مرض الرجل في رمضان، ثم مات ولم يصم أطعم عنه، ولم يكن عليه قضاء، وإن كان عليه نذر قضى عنه وليه».
(الشرح)
في روايات, في نسخة فِيهَا: «وَلَمْ يصح» ونسخة «وَلَمْ يصم», وَلَمْ يصح وَلَمْ يصم أطعم عنه, قال الأرنؤوط: والحديث إسناده صحيح موقفا محمد بن كثير وَهُوَ العبدي وَهُوَ سفيان بن سعيد الثوري وأبي حصين وَهُوَ عثمان الأسدي, وأخرجه البيهقي في الكبرى من طريق ميمون بن مهران عَنْ ابن عباس وأخرجه النسائي في الكبرى من طريق عطاء بن أبي رباح عَنْ ابن عباس قَالَ: «لا يصلي أحد عَنْ أحد ولا يصوم أحد عَنْ أحد, ولكن يطعم عنه مكان كُلّ يومٍ مدًا من حنطة».
قَالَ: إسناده صحيح أخرجه البخاري تعليقًا ومسلم واللفظ له, والنسائي من طريق الحكم بن عتيبة عَنْ سيعد بن جبير عَنْ ابن عباس قَالَ: جاءت امرأة إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها, قَالَ: «أرأيت لو كَانَ عَلَى أمك دين فقضيتيه».
هَذِهِ رواية البخاري وتختلف حديث آخر هَذَا, قَالَ: أخرجه البخاري تعليقًا ومسلم واللفظ له, والنسائي من طريق الحكم بن عتيبة عَنْ سيعد بن جبير عَنْ ابن عباس قَالَ: جاءت امرأة إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها, فقَالَ: «أرأيت لو كَانَ عَلَى أمك دين فقضيتيه كَانَ يؤدي ذَلِكَ عنها قالت: نعم, قَالَ: فصومي عَنْ أمك», وصححه ابن حبان. هَذَا حديث آخر.
وتخريجه قَالَ: إسناده موقوف محمد بن كثير وَهُوَ العبدي وَهُوَ سفيان بن سعيد الثوري وأبو حصين وَهُوَ عثمان الأسدي, وأخرجه البيهقي في الكبرى من طريق ميمون بن مهران عَنْ ابن عباس وأخرج النسائي في الكبرى من طريق عطاء بن أبي رباح عَنْ ابن عباس قَالَ: «لا يصلي أحد عَنْ أحد ولا يصوم أحد عَنْ أحد, ولكن يطعم عنه مكان كُلّ يومٍ مدًا من حنطة». وإسناده صحيح.
اللفظ هَذَا أخرجه البيهقي والثاني في رواية البخاري تعليقًا ورواية البيهقي ورواية النسائي في الكبرى, تختلف في اللفظ, في الكبرى هَذِهِ رواية أخرى.
وأخرجه البخاري تعليقًا ومسلم واللفظ له, والنسائي من طريق الحكم بن عتيبة عَنْ سيعد بن جبير عَنْ ابن عباس قَالَ: جاءت امرأة إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها, فقَالَ: «أرأيت لو كَانَ عَلَى أمك دين فقضيتيه كَانَ يؤدي ذَلِكَ عنها, قالت: نعم, قَالَ: فصومي عَنْ أمك», وصححه ابن حبان.
قَالَ الشيخ الألباني رحمه الله: إِذَا مَرِضَ الرَّجُل فِي رَمَضَان ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يصم أُطْعِم عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاء, وإن كَانَ عَلَيْهِ نذر قضى عنه وليه, قَالَ: قلت إسناده صحيح عَلَى شرط الشيخين.
قَالَ: إسناده حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عَنْ أبي حصين عَنْ سعيد بن جبير عَنْ ابن عباس, قلت: وَهَذَا إسناد صحيح عَلَى شرط الشيخين, والحديث له طريق أخرى من رواية علي بن الحكم وَهُوَ البناني عَنْ ميمون بن مهران عَنْ ابن عباس به أخرجه البيهقي وإسناده صحيح عَلَى شرط البخاري, ثُمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ رواه سعيد بن جبير عَنْ ابن عباس. انتهى.
في الضعيفة لَمْ يذكر الأحاديث الَّتِي وردت في هَذَا الباب كلها ذكرها في الصحيح,
عَلَى كُلّ هُوَ صحيح عَنْ ابن عباس, هَذَا اختيار ابن عباس, ما مرفوع إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم, هَذَا موقوف عَلَى ابن عباس وَهَذَا اختياره, مثل رواية الإمام أحمد في رواية أَنَّهُ خاص بالنذر والكفارة.
والصواب: أن هَذَا ليس في النذر والكفارة فقط, وحديث عائشة عام في الصحيحين, «من مات وَعَلَيْهِ صيام صام عنه وليه», يشمل النذر والكفارة وقضاء رمضان, الكلام في قضاء رمضان هَذَا فَيه خلاف, الَّذِينَ يَقُولُونَ: لا يقضى رمضان, يَقُولُونَ: ما وَجَبَ بأصل الشرع لا يقضى, صلاة الفريضة لا تقضى عَنْ أحد, لو مات الميت وَعَلَيْهِ فرض ما تقضى عنه.
وَكَذَلِكَ صوم رمضان لا يقضى عنه, إِنَّمَا يقضى ما وَجَبَ بالنذر أو الكفارة, ولكن حديث عائشة عام, تخصيصه والقول بأنه خاص بالنذر والكفارة فِيهِ إشكال, ولهذا الحافظ ابن حجر رحمه الله نقل عَنْ الشارح هنا قَالَ: تمسك القائلون بأنه يجوز في النذر دون غيره لِأَنَّ حديث عائشة مطلق, وحديث ابن عباس مرفوعًا الَّذِي عِنْد الشيخين كما سيأتي مقيد فيحمل عَلَيْهِ, ويكون المراد بالصيام صيام النذر.
قَالَ في الفتح: وليس بينهما تعارض حَتَّى يجمعا, فحديث ابن عباس صورة مستقلة يسأل عنها من وقعت له, وَأَمَّا حديث عائشة فَهُوَ تقرير قاعدة عامة, وَقَدْ وقع في إشارة حديث ابن عباس نحو هَذَا العموم, حيث قَالَ في آخره: فدين الله أحق أن يقضى.
كلام الحافظ جيد هنا؛ لِأَنَّ الحافظ يَقُولُ إن حديث عائشة قاعدة عامة تشمل كُلّ صيام وَجَبَ عَلَى الميت, وَلَمْ يقضه فَإِنَّهُ يصام عنه سواء كَانَ نذرًا أو كفارة أو قضاء رمضان, هَذَا عام.
وَأَمَّا حديث ابن عباس جزء من حديث عائشة, ذكر جزءا يَعْنِي صورة مستقلة, وَهَذَا جيد, يَقُولُ: ما في إشكال حَتَّى يجمع بينهما.
ابن عباس ذكر صورة مستقلة وَهِيَ النذر أو الكفارة, حديث عائشة ذكر قاعدة عامة تشمل النذر والكفارة وقضاء رمضان.
ابن القيم أطال في هَذَا, وذكر عَنْ ابن عباس, قَالَ: قَالَ إِذَا مَرِضَ الرَّجُل فِي رَمَضَان ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَصِحّ أُطْعِم عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاء.
وَإِنْ نَذَرَ قَضَى عَنْهُ وليه وذكر في الصحيحين عن بن عَبَّاس قَالَ جَاءَتْ اِمْرَأَة إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُول اللَّه إِنَّ أُمِّيّ مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْم نَذْر أَفَأَصُوم عَنْهَا فَقَالَ: «أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُمّك دَيْنٌ فَقَضَيْته أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا قَالَتْ نَعَمْ, قَالَ فَصُومِي عَنْ أُمّك», هَذَا لَفْظ مُسْلِم.
وَلَفْظ الْبُخَارِيّ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ أَمْرَأَة جَاءَتْ فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللَّه إِنَّ أُخْتِي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صِيَام شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعِينَ وَذَكَر الْحَدِيث بِنَحْوِهِ.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ كُنْت جَالِسًا عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَتَتْهُ اِمْرَأَة فَقَالَتْ: إِنِّي تَصَدَّقْت عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ وَإِنَّهَا مَاتَتْ قَالَ: «وَجَبَ أَجْرك وَرَدَّهَا عَلَيْك الْمِيرَاث».
قَالَتْ يَا رَسُول اللَّه إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْم شَهْر, أَفَأَصُوم عَنْهَا قَالَ: «صُومِي عَنْهَا», قَالَتْ يَا رَسُول اللَّه إِنَّهَا لَمْ تَحُجّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا قَالَ: «حُجِّي عَنْهَا».
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيث جَوَاز الصَّوْم عَنْ الْمَيِّت.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم: قَدْ وَرَدَ فِي الصَّوْم عَنْ الْمَيِّت شَيْء فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا صِيمَ عَنْهُ كَمَا يُحَجّ عَنْهُ.
وَقَالَ فِي الْجَدِيد: فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ رُوِيَ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أَحَدًا أَنْ يَصُوم عَنْ أَحَد قِيلَ نَعَمْ روي عن بن عَبَّاس, فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا تَأْخُذ بِهِ قِيلَ حَدِيث الزُّهْرِيّ عن عبيد الله عن بن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّهِ مَعَ حِفْظ الزُّهْرِيّ وَطُول مُجَالَسَة عُبَيْد اللَّه لِابْنِ عَبَّاس فَلَمًّا جاء غيره عن رجل عن بن عَبَّاس بِغَيْرِ مَا فِي حَدِيث عُبَيْد اللَّه أَشْبَهَ أَنْ لَا يَكُون مَحْفُوظًا.
المقصود أن الحديث حديث ابن عباس هَذَا أَنَّهُ إِذَا مرض الرجل وَلَمْ يصح, وَلَمْ يصح يَعْنِي ما تمكن وَلَمْ يصح ثُمَّ مات أطعم عنه.
والصواب في هَذِهِ المسألة: أَنَّهُ إِذَا مات وَلَمْ يصح لا يطعم عنه ولا يقضى عنه؛ لِأَنَّهُ ما تمكن ما وَجَبَ عَلَيْهِ, إِنَّمَا هَذَا فِي من تمكن.
فَإِن قِيلَ: متى يكون الإطعام؟ إِذَا لَمْ يرد الولي أن يصوم عنه, ليس واجب عَلَى الولي أن يصوم عنه, إِذَا حب الولي أن يصوم صام, وإن لَمْ يحب أن يصوم أطعم, «من مات وَعَلَيْهِ صيام صام عنه وليه».
فَإِن قِيلَ: يجمع بينهم؟ لا, ما يجمع بينهم, ما يجمع بين البدل والمبدل, الإطعام عَنْ الصيام, هَذَا ليس عَلَى سبيل الوجوب «من مات وَعَلَيْهِ صيام», وليس هُوَ إلزام, فَإِذَا قَالَ الولي: أنا ما أريد أن أصوم, نقول: أطعم عَنْ كُلّ يوم مسكين.
وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يوجد من يصوم عنه, ولو صام عنه أَيْضًا غير الولي صح أجزأ, فَإِذا لَمْ يصم أحد لا ولي ولا غير الولي أطعم عنه مكان كُلّ يوم مسكين, إن كَانَ له تركة فمن تركته, وإن لَمْ يكن له تركه وتبرع أحد بالإطعام فحسن.
فَإِن قِيلَ: صام عنه وليه هَذَا دليل عَلَى الوجوب أين الصارف من الوجوب إِلَى الاستحباب؟ الصارف أَنَّهُ لا يَجِبُ عَلَى الإنسان شَيْء من دون سبب, الله ما أوجب عليك إِلَّا بسبب, موته ليس سبب, كونه يموت وَعَلَيْهِ صوم هَذَا ما هُوَ بسبب يوجبه عليك أنت, ما هُوَ مثل الدية مثلاً.
(المتن)
باب الصوم في السفر
2402 - حدثنا سليمان بن حرب، ومسدد، قالا: حدثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن حمزة الأسلمي، سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني رجل أسرد الصوم أفأصوم في السفر؟ قال: «صم إن شئت، وأفطر إن شئت».
(الشرح)
هَذَا الباب عقده المؤلف للصوم في السفر, ذكر فِيهِ حديث حمزة الأسلمي وَهُوَ حديث صحيح أخرجه الشيخان البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجه, وَفِيهِ أن حمزة الأسلمي قَالَ: (يا رسول الله، إني رجل أسرد الصوم), يَعْنِي يتطوع بالصوم كثيرًا, ويعرض له السفر فلا يريد أن يقطع العادة, فسأل النَّبِيّ هَلْ أصوم وأنا في السفر؟ قال: «صم إن شئت، وأفطر إن شئت»؛ فلا حرج أن تستمر عَلَى عادتك.
فالحديث فِيهِ إثبات الخيار للمسافر بين الصوم والإفطار, وَفِيهِ جواز صوم الفرض للمسافر إِذَا صامه, فِيهِ دليل عَلَى أن المسافر له أن يصوم رمضان في السفر, وَهُوَ قول عامة أهل العلم وَهُوَ الصواب؛ لِأَنَّ الحديث عام, يشمل صوم النفل وصوم الفرض.
وإن كَانَ ظاهره أَنَّهُ يريد التطوع, (إني رجل أسرد الصوم), يَعْنِي أتابعه, بَعْضُهُمْ استدل بِهَذَا الحديث عَلَى أَنَّهُ لا كراهة في صيام الدهر, لكن ما في دلالة, لِأَنَّ التتابع يصدق بدون صوم الدهر.
فإذا ثبت النهي عَنْ صوم الدهر قَالَ: «لا صوم لمن صام الأبد», لا يعارض هَذَا الحديث, والحديث ليس فِيهِ أنه صوم رمضان, فلا يكون فِيهِ حجة عَلَى منع صيام رمضان في السفر.
جاء في حديث حمزة بن عمرو الأسلمي في حديث مسلم أَنَّهُ قَالَ: يا رسول أجد قوةً عَلَى الصيام في السفر هَلْ عليّ جناح, حديث أبي مراوح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هِيَ رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن, ومن أحب أن يصوم فلا جناح عَلَيْهِ».
وَهَذَا يشعر بأنه سأل صيام الفريضة؛ لِأَنَّ الرخصة تترك في مقابلة ما هُوَ واجب.
قَالَ الشارح: جاء ما هُوَ أصرح من هَذَا في رواية أبو داود والحاكم, من طريق محمد بن حمزة بن عمرو عَنْ أبيه أَنَّهُ قَالَ: يا رسول الله إني صاحب ظهر أعالجه وَهَذَا سيأتي ذكره المؤلف رحمه الله أسافر عَلَيْهِ وأكريه وَإنَّهُ ربما صادفني هَذَا الشهر يَعْنِي رمضان وأنا أجد قوة وأجد أن أصومه أهون علي من أن أؤخره فيكون دينًا عليّ, فقال: «أيْ ذَلِكَ شئت يا حمزة».
(المتن)
2403 - حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، حدثنا محمد بن عبد المجيد المدني، قال: سمعت حمزة بن محمد بن حمزة الأسلمي، يذكر أن أباه، أخبره، عن جده قال: قلت: يا رسول الله، إني صاحب ظهر أعالجه أسافر عليه، وأكريه، وإنه ربما صادفني هذا الشهر يعني رمضان، وأنا أجد القوة، وأنا شاب، وأجد بأن أصوم، يا رسول الله، أهون علي من أن أؤخره، فيكون دينًا، أفأصوم يا رسول الله أعظم لأجري، أو أفطر؟ قال: «أي ذلك شئت يا حمزة».
(الشرح)
وَهَذَا الحديث أخرجه الإمام مسلم والنسائي, وَفِيهِ التخيير للمسافر في رمضان بين الصوم والإفطار, دل عَلَى أَنَّهُ لا بأس أن يصوم رمضان في السفر, وَفِيهِ أن حمزة قَالَ: (إني أجد أن أصوم، أهون علي من أن أؤخره، فيكون دينًا علي).
ولهذا ذَهَبَ جمع من أهل العلم إِلَى أن الصوم في السفر أفضل إِذَا كَانَ لَمْ يكن عَلَيْهِ مشقة, فَإِن كَانَ عَلَيْهِ مشقة فالفطر أفضل, فالحديث فِيهِ الرد عَلَى من قَالَ إِنَّهُ لا يجوز صوم رمضان في السفر, حديث صريح في السفر وَهُوَ حديث صحيح, وَفِيهِ التخيير للمسافر في رمضان بين الصوم والإفطار وأنه لا حرج.
ولكن اختلف العلماء أيهما أفضل؟ قَالَ جمع من أهل العلم: الفطر أفضل؛ لِأَنَّهُ فِيهِ أخذًا بالرخصة, لقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «عليكم برخصة الله الَّتِي رخصها لكم فاقبلوها», وَقَالَ آخرون: الصوم أفضل؛ لِأَنَّهُ أسرع في براءة الذمة؛ وَلِأَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يصوم في السفر كثيرًا وعبد الله بن رواحة.
وَقَالَ آخرون: هم عَلَى حد سواء, والأقرب أَنَّهُ إِذَا كَانَ لا يشق عَلَيْهِ فالصيام أفضل, وَأَمَّا إن كَانَ يشق عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يكره في حقه الصوم كما سيأتي في قصة الرجل الَّذِي ظلل عَلَيْهِ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يكن عَلَيْهِ مشقة فهذا هُوَ محل النظر أيهما أفضل؟ فالقول: بأنه يصوم ويبادر أسرع في براءة الذمة هَذَا قول حسن.
قَالَ في الحديث: « فِي اليوم شديد الحر ، يضع الإنسان يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ».
(المتن)
2404 - حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس قال: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى بلغ عسفان، ثم دعا بإناء، فرفعه إلى فيه ليريه الناس، وذلك في رمضان»، فكان ابن عباس، يقول: «قد صام النبي صلى الله عليه وسلم وأفطر، فمن شاء صام، ومن شاء أفطر».
(الشرح)
وَهَذَا الحديث أخرجه الشيخان البخاري ومسلم والنسائي والحديث صحيح, وَفِيهِ دليل عَلَى أن من أصبح صائمًا في السفر جاز له أن يفطر, وسواء أنشأ السفر في رمضان أو دخل عَلَيْهِ شهر رمضان وَهُوَ مسافر, خلافًا لعبيدة السلماني في من أنشأ السفر, قَالَ: من أنشأ السفر هَذَا لا يجوز له أن يفطر.
قَالَ عبيدة السلماني: إِذَا أنشأ السفر في شهر رمضان لا يجوز له الإفطار, لظاهر الآية, لظاهر قول الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة/185].
وَهَذَا الحديث حجة عَلَى هذا القائل, معنى الآية من شهد منكم الشهر يَعْنِي كله, فأما من شهد بعضه فلم يشهد الشهر.
قال ملا علي القاري: الأظهر أن معنى الآية فمن شهد منكم شيئًا منه من غير مرض وسفر.
المقصود أن الحديث دليل عَلَى جواز على أن من أصبح صائمًا في السفر جاز له الفطر, سواء أنشأ السفر أو دخل عَلَيْهِ رمضان وَهُوَ في السفر الحكم الواحد, وَأَمَّا قول عبيدة السلماني أَنَّهُ إِذَا أنشأ السفر فَإِنَّهُ لا يجوز له الفطر, فهذا قول مرجوح قول ضعيف, الحديث عام.
(المتن)
2405 - حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زائدة، عن حميد الطويل، عن أنس قال: «سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فصام بعضنا، وأفطر بعضنا، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم».
(الشرح)
الحديث رواه الشيخان البخاري ومسلم فَهُوَ صحيح, الحديث فِيهِ دليل عَلَى جواز الصوم والفطر في السفر, وَأَنَّهُ لا يعاب عَلَى من صام ولا يعاب عَلَى من أفطر وَهَذَا إِذَا لَمْ يكن مشقة, فَإِن كَانَت مشقة فَإِنَّهُ يكره في حقه الصوم كما في قصة الرجل الَّذِي ظلل عَلَيْهِ, فسأل عنه فَقَالُوا: إِنَّ هذا رجل صائم, قَالَ: «ليس من البر الصيام في السفر».
(المتن)
2406 - حدثنا أحمد بن صالح، ووهب بن بيان المعنى قالا: حدثنا ابن وهب، حدثني معاوية، عن ربيعة بن يزيد، أنه حدثه عن قزعة، قال: أتيت أبا سعيد الخدري وهو يفتي الناس، وهم مكبون عليه، فانتظرت خلوته، فلما خلا سألته عن صيام رمضان في السفر، فقال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان عام الفتح، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم، ونصوم حتى بلغ منزلًا من المنازل، فقال: «إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم»، فأصبحنا منا الصائم ومنا المفطر، قال: ثم سرنا فنزلنا منزلا، فقال: إنكم تصبحون عدوكم، والفطر أقوى لكم فأفطروا، فكانت عزيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو سعيد: ثم لقد رأيتني أصوم مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وبعد ذلك».
(الشرح)
وَهَذَا الحديث صريح في أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يصوم في رمضان في السفر, وَكَذَلِكَ بَعْدَ هَذِهِ الواقعة قَالَ أبو سعيد: ثُمَّ رأيتني أصوم مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قبل ذَلِكَ وبعده في رمضان, فدل عَلَى جواز صوم المسافر في رمضان وَأَنَّهُ لا حرج.
خلافا لطائفة من أهل العلم يَقُولُونَ: لو صام في السفر ما أجزأه عَلَيْهِ القضاء, أخذًا بعموم قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ}[البقرة/185], قَالُوا: هَذَا فِيهِ إلزام بالفطر وَهَذَا ليس بصحيح.
النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم هُوَ المبين للقرآن الصوم فيها, في غزوة الفتح في هَذَا الحديث «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان عام الفتح، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم، ونصوم حتى بلغ منزلًا من المنازل، فقال: إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأصبحنا منا الصائم ومنا المفطر».
هَذَا فِيهِ بيان أن الفطر أفضل في هَذِهِ الحالة, ولكن ليس فِيهِ إلزام الفطر, قَالَ: «إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم», دنوا فَلَمَّا قربوا صاروا أقرب قَالَ: «إنكم تصبحون عدوكم، والفطر أقوى لكم فأفطروا فكانت عزيمة», هنا يَجِبُ الفطر.
ففِيهِ دليل عَلَى أن الفطر مستحب لمن وصل إِلَى موضع قريب من العدو, لقوله: «فأصبحنا منا الصائم ومنا المفطر».
وقوله بَعْدَ ذَلِكَ: «فقال: إنكم تصبحون عدوكم ، والفطر أقوى لكم», فِيهِ أن الإفطار عزيمة وواجب لمن كان لقاء العدو في حقه متحققًا.
أفطروا الأولى فِيهَا أن الفطر مستحب لمن وصل إِلَى موضع قريب من العدو, واللفظ الثاني فِيهِ أن الإفطار عزيمة وواجب لمن كَانَ لقاء العدو في حقه متحققًا, ولهذا لما صام أناس بَعْدَمَا قَالَ: «إنكم تصحبون عدوكم», أخبر النَّبِيّ فقال: «أُولَئِكَ العصاة, أُولَئِكَ العصاة, أُولَئِكَ العصاة», الَّذِينَ صاموا بَعْدَ قوله: «إنكم تصحبون عدوكم فأفطروا», صام أُناسٌ فبلغ النَّبِيّ عنهم فقال: «أُولَئِكَ العصاة, أُولَئِكَ العصاة, » كررها.
والحكمة في هَذَا كما ذكر الشارح قَالَ: فِيهِ دليل عَلَى أن الفطر لمن وصل في سفر إِلَى موضع قريب من العدو أولى به؛ لِأَنَّهُ ربما وصل إليهم العدو إِلَى ذَلِكَ الموضع الَّذِي هم مظنة ملاقاة العدو, ولهذا كَانَ الإفطار أولى وَلَمْ يتحتم, وأما إذا كَانَ لقاء العدو متحققًا فالإفطار عزيمة؛ لِأَنَّ الصائم يضعف عَنْ منازلة الأقران, ولاسيما عِنْد غليان مراجل الضراب والطعان.
ولا يخفى لما في ذَلِكَ من الإعانة بجنود المحقين, وإدخال الوهن عَلَى عامة المجاهدين من الْمُسْلِمِين.
قال الأرنؤوط: في الحديث الأول قَالَ: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي ذكر هَذَا أَنَّهُ صحيح وَهَذَا الإسناد ضعيف, قَالَ: هَذَا الإسناد من محمد بن عبد المجيد المدني مجهول تفرد بالرواية عنه أبو جعفر النفيلي وذكره ابن حبان وحده في الثقات.
ما ذكره هنا في السند أبو جعفر, تفرد عنه أبو جعفر النفيلي شيخ المؤلف, وذكره ابن حبان وحده في الثقات, وحمزة بن محمد بن حمزة الأسلمي مجهول, وَلَمْ يوثقه أحد, وَقَدْ روي من وجوه أخرى, ثُمَّ ذكر أخرجه مسلم مختصرًا والنسائي في الكبرى من طريق أبي مراوح والنسائي من طريق سليمان بن يسار ومن طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن.
يَعْنِي هَذَا الطريق ضعيف والحديث صحيح, لكن في الشرح ما أشاروا إِلَى هَذَا, وَقَالَ هَذَا الكلام الأرناؤوط حمزة, محل نظر الجهالة هَذِهِ.
الألباني صحح كُلّ الباب إِلَّا حديث واحد حديث حمزة الأسلمي, حديث حمزة الأسلمي يذكر أن أباه أخبره عَنْ جده.
قَال الألباني: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا محمد بن عبد الله المجيد, قَالَ: سمعت حمزة بن محمد بن حمزة الأسلمي يذكر أن أباه أخبره عَنْ جده قَالَ الحديث, قَالَ: قلت: وَهَذَا إسنادٌ ضعيف لجهالة حمزة بن محمد والراوي عنه محمد بن عبد المجيد, فالأول قَالَ فِيهِ الذهبي ليس بمشهور روى عنه محمد بن عبد المجيد بن سهيل وحده في الصيام, ضعفه ابن حزم وَقَالَ الحافظ في التهذيب: وَقَالَ ابن القطان مجهول وَلَمْ أر للمتقدمين فِيهِ كلامًا.
وَقَالَ في التقريب: مجهول الحال, قلت: ولعل لفظة الحال زيادةٌ من بعض النساخ, وإلا فَهِيَ خطأ؛ لِأَنَّ مجهول الحال من روى عنه اثنان فأكثر, وَهَذَا لَمْ يرو عنه غير واحد كما رأيت, وتضعيف ابن حزم في المحلى وضعف أباه أَيْضًا ورد فِيهِ.
يَعْنِي مثل كلام الأرناؤوط لكن الحديث صحيح من طرق أخرى ثابت.