شعار الموقع

شرح كتاب الصوم من سنن أبي داود_18

00:00
00:00
تحميل
71

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم عَلَى نَبِيُّنَا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين, اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرين والمستمعين. 

(المتن) 

قَالَ الإمام أبو داود رحمه الله في سننه: 

بابٌ في صوم يوم عاشوراء. 

 2442- حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان يوم عاشوراء يومًا تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة، وتُرك عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه». 

(الشرح) 

قَالَ المؤلف رحمه الله تعالى: (بابٌ في صوم يوم عاشوراء) يَعْنِي: هذا الباب عقده المؤلف رحمه الله لبيان حكم صوم يوم عاشوراء هل هو واجب أو مستحب؟ وهل صومه منسوخ أو بقي؟ مثل ذكر فيه حديث عائشة قالت: «كان يوم عاشوراء يومًا تصومه قريش في الجاهلية» قريش تصومه في الجاهلية تبعًا لليهود لِأَنَّهُم أهل الكتاب؛ هذا جاءهم من أهل الكتاب. 

« فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة، وتُرك عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه» هذا الحديث أخرجه الشيخان: البخاري ومسلم, والترمذي والنسائي, وفيه أن صيام يوم عاشوراء كَانَ فرضًا قبل فرض رمضان في السنة الأولى والسنة الثانية من الهجرة, ثم فُرض رمضان في السنة الثانية من الهجرة. 

ففيه: أن صيام يوم عاشوراء كَانَ فرضًا قبل فرض صيام رمضان وبعد قدوم النَّبِيِّ r المدينة, ثم لما فُرض رمضان نُسخ وجوب صيام عاشوراء وبقي الاستحباب, وهو إجماع من العلماء بعد انقراض القائلين بوجوبه, وعن اِبْن عباس أن يوم عاشوراء كَانَ يوم التاسع من محرم, وسيأتي الحديث ويتأوله عَلَى أَنَّه مأخوذ من أرباع الإبل, يَعْنِي: العرب تسمي اليوم الخامس من أيام الوِرد ربعًا وكذا باقي الأيام عَلَى هَذِه النسبة فيكون التاسع هو عشرا, وهذا خلاف ما عليه جمهور العلماء ذهب جمهور العلماء إِلَى أن عاشوراء هو اليوم العاشر من محرم وممن قَالَ ذلك: سعيد بْنُ المسيب, والحسن البصري, ومالك, وأحمد, وإسحاق, وخلق لا يُحصون؛ وهذا هو ظاهر الأحاديث بمقتضى اللفظ, وأما تقديم أخذه من الإضماء فبعيد. 

ثم إن حديث اِبْن عباس الآتي في الباب التالي يرد عليه؛ لِأَنَّهُ قَالَ: إن النَّبِيِّ r كَانَ يصوم عاشوراء, وذكروا أن اليهود والنصارى تصومه, فَقَالَ: إنه في العام المقبل يصوم التاسع, وهذا تصريح بأن الذي كَانَ يصومه ليس هو التاسع, فتعين قوله: العاشر. 

وقال الشافعي رحمه الله وأصحابه أحمد وإسحاق وآخرون: استحبوا صوم التاسع والعاشر جميعًا؛ لِأَنّ النَّبِيِّ r صام العاشر ونوى صيام التاسع, قَالَ بعض العلماء: ولعل السبب في صوم التاسع مع العاشر ألا يتشبه باليهود في إفراد العاشر, وقال هذا النووي. 

قوله: «وأمر بصيامه» اتفق العلماء عَلَى أن صوم يوم عاشوراء اليوم سنة ليس بواجب, واختلفوا في حكمه في أول الإسلام حين شُرع صومه قبل صوم رمضان, قَالَ أبو حنيفة: كَانَ واجبًا, واختلف أصحاب الشافعي عَلَى وجهين: 

أحدهما: أَنَّه لم يزل سنة من حين شُرع ولم يكن واجبًا قط في هذه الأمة, ولكنه كَانَ متأكد الاستحباب, فَلَمّا نزل صوم رمضان صار مستحبًا دون ذلك الاستحباب. 

والثاني: أَنَّه كَانَ واجبًا كقول أبي حنيفة، هذا كلام النووي. 

والصواب: أَنَّه كَانَ واجبًا في الأول, الصواب أَنَّه كَانَ فرض, أول ما فُرض الصيام فُرض في صوم يوم عاشوراء, كَانَ فرضًا ثم نُسخ الوجوب إِلَى الاستحباب؛ ولأن النَّبِيِّ r ألزم الناس وأمر منادي ينادي: «إن اليوم يوم عاشوراء فمن كَانَ صائمًا فليتم صومه ومن كَانَ مفطرًا فليلزم» فدل عَلَى أَنَّه واجب, لَكِنْ لما فُرض صوم رمضان نُسخ الوجوب وبقي الاستحباب. 

(المتن) 

2443- حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر قال: كان عاشوراء يومًا نصومه في الجاهلية، فلما نزل رمضان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا يوم من أيام الله، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه». 

(الشرح) 

هذا الحديث أخرجه الشيخان أيضًا, يَعْنِي: هذا ليس بواجب صومه. 

قوله: «فلما نزل رمضان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا يوم من أيام الله، فمن شاء» هذا الاختيار يدل عَلَى أَنَّه قبل ذلك كَانَ واجب ليس هو عَلَى الاختيار, «فمن شاء صامه، ومن شاء تركه» لما نزل رمضان قَالَ رسول الله r: «هذا يوم من أيام الله، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه» يَعْنِي: لما نزل رمضان صار الصوم إِلَى اختيار الإنسان, ومفهومه: أن ما قبل ذلك ليس لاختيار الإنسان بل هو واجب. 

قَالَ النووي عَلَى قوله: «فمن شاء صامه ومن شاء تركه» معناه: أَنَّه ليس متحتمًا, فأبو حنيفة يقدره ليس بواجب, والشافعي يقدره ليس متأكدًا أكمل التأكيد, الشافعي ما يرى أَنَّه كَانَ واجب لَكِنْ يرون أَنَّه مستحب متأكد, فَلَمّا فُرض رمضان صار أقل استحبابًا عند الشافعية, وعلى المذهبين: مذهب الشافعي وأبو حنيفة الآن مستحب, وكَانَ بعض السلف يقول: كَانَ صوم عاشوراء فرضًا وهو باقٍ عَلَى فرضيته لم يُنسخ, ولذلك انقرض القائلون بهذا وحصل الإجماع عَلَى أَنَّه ليس بفرض وأنه مستحب, فالذين قالوا: إنه باقٍ وجوبه انقرضوا. 

وروي عن اِبْن عمر رضي الله عنه كراهة أصل صومه وتبييته بالصوم, لَكِنْ العلماء مجمعون عَلَى استحبابه وتعيينه, وأما قول مسعود: «كنا نصومه ثم تُرك» فمعناه: أَنَّه لم يبقى كما كَانَ من الوجوب وتأكد الندب. 

(المتن) 

2444- حدثنا زياد بن أيوب، حدثنا هشيم، حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء، فسئلوا عن ذلك، فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون ونحن نصومه تعظيمًا له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن أولى بموسى منكم» وأمر بصيامه. 

(الشرح) 

وهذا الحديث صحيح أخرجه الشيخان: البخاري ومسلم, والنسائي وابن ماجه, قوله: « وجد اليهود يصومون ، فسئلوا عن ذلك» بصيغة المجهول, أي: اليهود, فسألهم النَّبِيِّ r, «فقالوا: هذا يوم أظهر الله فيه موسى» أظهر الله يَعْنِي: نصره الله في ذلك اليوم, « فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن أولى بموسى منكم» يَعْنِي: نحن أثبت وأقرب إلى متابعة موسى عليه الصلاة والسلام منكم فإنا موافقون له في أصول الدين ومصدقون لكتابه وأنتم مخالفون له من التغيير والتحريف. 

قوله: «وأمر بصيامه» ضُبط: أمر, وضُبط: أُمر, والآمر هو النَّبِيِّ r. 

الطالب: هذا يعارض الحديث الأول لِأَنّ النَّبِيِّ r كَانَ يصومه في الجاهلية أي في مكة فَلَمّا قدم المدينة سألهم, كأنه سأل عن هذا الشيء, معناه لم يعلم بِهِ من الأول ألا يكون معارض للحديث؟. 

الشيخ: كَانَ النَّبِيِّ r يصومه معهم, وكان يحج قبل فرضية الحج عَلَى ما توارثه الناس عن دين إبراهيم, وهو كَانَ يصوم معهم تبعًا لهم, ومعلوم أن قريش كَانُوا يصومون مع اليهود, لَكِنْ النَّبِيِّ r ما يكتفي بهذا بكونه شائع عند الناس, وَلَكِن يسألهم بالخصوص, لما وجدهم سألهم بالخصوص, وأما كونه شائع عند الناس وكان يصومه في الجاهلية معهم, لَكِنْ سألهم عن السبب. 

الطالب: كأن رد النَّبِيِّ r قَالَ: «نحن أولى بموسى منكم» أَنَّه هو السائل؟. 

الشيخ: سُئلوا اليهود, والسائل هو النَّبِيِّ r وبينه الحديث. 

(المتن) 

باب ما روي أن عاشوراء اليوم التاسع. 

2445- حدثنا سليمان بن داود المهري، حدثنا ابن وهب، أخبرني يحيى بن أيوب، أن إسماعيل بن أمية القرشي حدثه، أنه سمع أبا غطفان يقول: سمعت عبد الله بن عباس يقول: حين صام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمرنا بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا كان العام المقبل صمنا يوم التاسع» فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

(الشرح) 

هذا الحديث أخرجه الإمام مسلم وهو حديث صحيح, استدل بهذا الحديث ابن عباس ومن معه عَلَى أن يوم عاشوراء هو التاسع من محرم, وهذا ذهب إليه اِبْن عباس وطائفة قليلة, وذهب الجماهير من العلماء من السلف والخلف إِلَى أن عاشوراء هو اليوم العاشر من محرم لا التاسع, وهو ظاهر الأحاديث ومقتضى اللفظ وهو الصواب, حجة اِبْن عباس والطائفة أن العاشر هو التاسع أَنَّه مأخوذٌ من إضماء الإبل فَإِن العرب تسمي اليوم الخامس من أيام الورد ربعًا, والسادس خمسًا وهكذا, وَكَذَلِكَ باقي الأيام عَلَى هَذِه النسبة, فيكون التاسع عشرًا. 

لَكِنْ يرد هذا القول الحديث السابق في الباب الذي قبله: «فَإِن النَّبِيِّ r كَانَ يصوم يوم عاشوراء». 

قوله: «فإذا كان العام القابل صمنا يوم التاسع» أي فقط, أو مع العاشر, فيكون مخالفة في الجملة, ومع هذا فالنبي r ما كَانَ تاركًا لتعظيم اليوم الذي وقع فيهِ نصرة الدين فإنهم كَانُوا يصومونه شكرًا, ويجوز تقديم الشكر بصوم التاسع لِأَنَّهُ فيهِ التقدم عَلَى العاشر, يَعْنِي: اِبْن عباس يقول: اليوم العاشر صامه شكرًا لله ويجوز تقديم الشكر عَلَى زمان وقوع النعمة فيهِ؛ لِأَنّ النصر كَانَ في أول النهار, والصوم يكون قبل ذلك من الفجر, فصوم الذي هو الشكر تقدم ولا مانع من تقدمه ويجوز تقديم الشكر عَلَى هذا الوجه, بل صوم العاشر أيضًا فيهِ التقدم عليه؛ لِأَنّ الفتح كَانَ في أثناء النهار والصوم ما يصح إِلَّا من أوله, ولو أراد r مخالفتهم بالكلية لترك الصوم مطلقًا. 

وفي هذا الحديث دليل عَلَى استحباب صيام التاسع مع العاشر؛ لِأَنّ النَّبِيِّ r نوى صومه, ولهذا قَالَ العلماء: أفضل الصيام يوم شهر المحرم العاشر ثم التاسع, وكل شهر المحرم كله فاضل, قَالَ r: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم»؛ أما قول اِبْن عباس وطائفة أن العاشر هو التاسع هذا قول مرجوح قول ضعيف والصواب ما عليه الجماهير من أن عاشوراء هو اليوم العاشر لا التاسع. 

قَالَ الطيبي: لم يعش رسول الله r بل توفي في الثاني عشر من ربيع الأول فصار اليوم التاسع من المحرم صومه سنة وإن لم يصمه لأنه عزم عَلَى صومه, وقيل: أُريد بِذَلِكَ أن يضم إليه يومًا آخر ليكون هديه مخالفًا لأهل الكتاب وهذا هو الواجب لِأَنَّهُ وقع موقع الجواب في قولهم: (إنه يوم يعظمه اليهود). 

وروي عن اِبْن عباس أَنَّه قَالَ: «صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود» وإليه ذهب الشافعي وذهب بعض العلماء إِلَى أَنَّه صوم التاسع فقط, وقال اِبْن الهمام من الحنفية: يستحب صوم يوم عاشوراء ويستحب أن يصوم قبله يوم أو بعد يوم, فَإِن أفرده فهو مكروه للتشبه باليهود, وجاء في الحديث وفيه ضعف رواه الإمام أحمد: «صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود, وصوموا قبله وبعده يومًا» قيل: إن الواو بمعنى أو, لأن المخالفة تحصل بأحدهما, وأخذ الشافعي بظاهر الحديث فيجمعون بين الثلاثة: العاشر, التاسع, الحادي عشر. 

اِبْن القيم رحمه الله تكلم في تهذيب السنن عَلَى هذا الحديث قَالَ: والصحيح أن المراد صوم التاسع مع العاشر لما رواه أحمد في مسنده من حديث اِبْن عباس يرفعه إلى النَّبِيِّ r قال: «خالفوا اليهود صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده» قَالَ عطاء عن اِبْن عباس: «صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود» ذكره البيهقي. 

وبين أن قول اِبْن عباس: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد فإذا كَانَ يوم التاسع فأصبح صائمًا, أَنَّه ليس المراد بِهِ أن عاشوراء هو التاسع بل أمرهم أن يصوموا اليوم التاسع قبل عاشوراء, فَإِن قيل ففي آخر الحديث: كذلك كَانَ يصومه محمد r؟ قَالَ: نعم, دل عَلَى أن المراد بِهِ نقل الصوم ولا صوم يوم قبله. 

قيل: قد صرح اِبْن عباس بأن النَّبِيِّ r قَالَ: «لئن بقيت إِلَى قابل لأصومن التاسع» فدل عَلَى أن الذي كَانَ يصومه هو العاشر, وابن عباس راوي الحديثين معًا, قوله: «هكذا كَانَ يصوم محمد» أراد بِهِ والله أعلم قوله: «لئن بقيت إِلَى قابل لأصومن التاسع» عزم عليه وأخبر أَنَّه يصومه إن بقي. 

قَالَ اِبْن عباس: هكذا كَانَ يصومه, وصدق رضي الله عنه هكذا كَانَ يصومه لو بقي, وتوافقت الروايات عن اِبْن عباس وعُلم أن المخالفة المشار إليها بترك إفراده بل يُصام يوم قبله أو يوم بعده, ويدل عليه إن في رواية الإمام أحمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لئن بقيت إِلَى قابل لأصومن التاسع» يَعْنِي لصوم يوم عاشوراء. 

«وخالفوا اليهود فصوموا قبله يومًا أو بعده يومًا» فذكر هذا عقيب قوله: « لأصومن التاسع» فذكر هذا عقب قوله صلى الله عليه وسلم يبين مراده, والله الموفق. 

كأن اِبْن القيم رحمه الله ما يرى ضعف الحديث هذا: «صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده» والحديث فيهِ ضعف. 

(المتن) 

2446- حدثنا مسدد، حدثنا يحيى يعني ابن سعيد، عن معاوية بن غلاب، ح وحدثنا مسدد، حدثنا إسماعيل، أخبرني حاجب بن عمر، جميعا المعنى عن الحكم بن الأعرج، قال: أتيت ابن عباس، وهو متوسد رداءه في المسجد الحرام، فسألته عن صوم يوم عاشوراء، فقال: إذا رأيت هلال المحرم، فاعدد فإذا كان يوم التاسع، فأصبح صائما، فقلت: كذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يصوم؟ فقال: «كذلك كان محمد صلى الله عليه وسلم يصوم». 

(الشرح) 

هذا الحديث أخرجه مسلم والترمذي والنسائي, وهذا محمول عَلَى أن المراد عزم عَلَى صيام التاسع في آخر حياته, فَقَالَ في السنة العاشرة: «لئن بقيت إِلَى قابل لأصومن التاسع» يَعْنِي: مع العاشر, ثم توفاه الله ولم يصمه r, فمن عزم عَلَى ذلك آخرًا فكأنه صام. 

(المتن) 

باب في فضل صومه. 

2447- حدثنا محمد بن المنهال، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عبد الرحمن بن مسلمة، عن عمه، أن أسلم، أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «صمتم يومكم هذا؟ قالوا: لا، قال: فأتموا بقية يومكم واقضوه»، قال أبو داود: يعني يوم عاشوراء. 

(الشرح) 

وهذا الحديث أخرجه النسائي, والحديث لو صح فهو محمول عَلَى أن هذا كَانَ قبل فرض صيام شهر رمضان, قَالَ: «صمتم يومكم هذا؟ قالوا: لا، قال: فأتموا بقية يومكم واقضوه» لِأَنَّهُ واجب, هذا محمول لو صح محمول على أن هذا كَانَ قبل فرض صيام رمضان بعد هجرته للمدينة في السنة الأولى والثانية, السنة الأولى محرم والسنة الثانية محرم ثم فُرض رمضان في السنة الثانية في رمضان, فَلَمّا فُرض رمضان نُسخ الوجوب وبقي الاستحباب, (أسلم) قبيلة, قَالَ النَّبِيِّ r: «صمتم يومكم هذا؟ يعني: يوم عاشوراء قالوا: لا، قال: فأتموا بقية يومكم واقضوه». 

قَالَ الخطابي: أمره r للاستحباب وليس بإيجاب, والظاهر أَنَّه للوجوب, أصل الْأَمْرِ للوجوب لَكِنْ لو صح الحديث يُحمل عَلَى أن هذا كَانَ قبل فرض صوم رمضان. 

الخطابي يقول: أمره r للاستحباب وليس بإيجاب وذلك لِأَنّ أوقات الطاعة ذمة تُرعى ولا تهمل، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يرشدهم إلى ما فيه الفضل والحظ لئلا يغفلوه عند مصادفتهم وقته، وقد صار هذا أصلا في مذهب العلماء في مواضع مخصوصة.  

قال أبو حنيفة وأصحابه : إذا قدم المسافر في بعض نهار الصوم أمسك عن الأكل بقية يومه، وقال الشافعي فيمن لا يجد ماء، ولا ترابًا وكان محبوسًا في حش أو مصلوبًا على خشبة أنه يصلي على حسب ما يمكنه مراعاة لحرمة الوقت وعليه الإعادة إذا قدر على الطهارة والصلاة. 

والصواب: أَنَّه ليس عليه الإعادة, لِأَنّ لو حُبس الإنسان في مكان, أو صُلب عَلَى خشبة, أو حُبس في مكان نجس أو في مكان أملس مثل الرخام, وجاءت الصلاة فماذا يعمل؟ ما عنده ماء ولا تراب؟ يصلي عَلَى حسب حاله, الشافعي يقول: يُعيد إذا قدر عَلَى الطهارة والصلاة فَإِنَّهُ يُعيد, والصواب أَنَّه لا يُعيد؛ لِأَنّ الصحابة الذين أرسلهم النَّبِيِّ r يطلبون عقد عائشة يبحثون عنه أدركتهم الصلاة ولم يُشرع التيمم وليس عندهم ماء فصلوا بغير ماء وتراب ولم يأمرهم النَّبِيِّ r بالإعادة, فدل عَلَى أنه ليس عليه إعادة، الشافعي وجماعة يقولون عليه الإعادة إذا وجد الماء والتراب. 

الشافعي يقول: وقد يحتج أبو حنيفة وأصحابه بهذا الحديث في جواز تأخير نية صيام الفرض عن أول وقته إلا أن قوله صلى الله عليه وسلم "اقضوه" يفسد هذا الاستدلال.  

قَالَ الأرنؤوط: هذا حديث صحيح لغيره دون قوله: «فاقضوه» فإنها زيادة تفرد بها عبد الرحمن بْنُ مسلمة ويُقال اِبْن سلمة الخزاعي وهو مجهول, سعيد: هو اِبْن عروبة, وقتادة: هو اِبْن دعامة السدوسي, وأخرجه النسائي في الكبرى من طريق سعيد بهذا الإسناد دون قوله: «فاقضوه». 

وأخرجه النسائي أيضًا من طريق شعبة عن قتادة بِهِ دون قوله: «واقضوه» وهو في مسند أحمد وله شاهد من حديث هند بْنُ أسماء عند أحمد في مسنده. ا. ه.ـ 

يُحمل كما سبق عَلَى أَنَّه كَانَ قبل فرض صوم رمضان. 

اِبْن القيم تكلم عَلَى هذا في تهذيب السنن قَالَ: قَالَ عبد الحق: ولا يصح هذا الحديث في القضاء, ولفظة «واقضوه» تفرد بها أبو داود ولم يذكرها النسائي, فتكون شاذة عَلَى هذا. 

قَالَ: واختلف الناس في يوم عاشوراء هل كَانَ صومه واجبًا أو تطوعًا؟ فقالت طائفة: كَانَ واجبًا, وهذا قول أبي حنيفة وروي عن أحمد, وقال أصحاب الشافعي: لم يكن واجبًا وَإِنَّمَا كَانَ تطوعًا, واختاره القاضي أبو يعلى قَالَ: وهو قياس المذهب. 

احتج هؤلاء بثلاث حجج: 

أحدها: ما أخرجاه في الصحيحين عن حماد بْنُ عبد الرحمن أَنَّه سمع معاوية بْنُ أبي سفيان خطيب المدينة, يَعْنِي: في قدمة قدمها خطبهم يوم عاشوراء فَقَالَ: أين علماؤكم يا أهل المدينة سمعت رسول الله r يقول لهذا اليوم: «هذا يوم عاشوراء, ولم يكتب الله عليكم صيامه, وأنا صائم فمن أحب منكم أن يصوم فليصم, ومن أحب منكم أن يفطر فليفطر» هذا الدليل الأول لمن قَالَ: إنه كَانَ مستحبًا وليس واجبًا. 

الحجة الثانية: لما في الصحيحين أيضًا عن سلمة بْنُ الأكوع قَالَ: «بعث رسول الله r رجلًا من أسلم يوم عاشوراء فأمره أن يأذن في الناس: من كَانَ لم يصم فليصم» قالوا: فهذا أمرٌ بإنشاء الصيام أثناء النهار, وهذا لا يجوز إِلَّا في التطوع وأما الصيام الواجب فلا يصح إِلَّا بنية قبل الفجر. 

الحجة الثالثة: أن النَّبِيِّ r لم يأمر المفطرين فيهِ إذ ذاك بالقضاء. 

واحتج الأولون القائلون بالوجوب بحجج أيضًا: 

 إحداهما: ما أخرجاه في الصحيحين عن عائشة قالت: «كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية وكان رسول الله r يصومه فَلَمّا هاجر للمدينة صامه وأمر بصيامه, فَلَمّا فُرض صوم رمضان قَالَ: من شاء صامه ومن شاء تركه». 

وفي صحيح البخاري عن اِبْن عمر قَالَ: «صام رسول الله r عاشوراء وأمر بصيامه فَلَمّا فُرض رمضان تركه». قالوا: يعني هذا صريح في الوجوب. 

قَالَ: ومعلومٌ أن الذي تُرك هو وجوب صومه لا استحبابه, فَإِن النَّبِيِّ r كَانَ يرغب فيهِ. 

ثم قال الحجة الثانية: أن في الصحيحين أن النَّبِيِّ r أمر من كَانَ أكل بأن يُمسك بقية يومه, وهذا صريح في الوجوب فَإِن صوم التطوع لا يتصور فيهِ إمساكٌ بعد الفطر. 

الحجة الثالثة: لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية» فذكرت الحديث إلى أن قالت: «فَلَمّا فُرض رمضان كَانَ هو الفريضة» وهذا اللفظ من سياق البيهقي. 

فقولها: «كَانَ هو الفريضة» دل عَلَى أن عاشوراء كَانَ واجبًا وأن رمضان صار هو الفرض لا عاشوراء, وإلا لم يكن لقولها: «كَانَ هو الفريضة معنى». 

وأجابوا الموجبون عن حديث معاوية قالوا: وأما حديث معاوية فمعناه: ليس مكتوبًا عليكم الآن أو لم يكتبه بعد رمضان, أو إِنَّمَا الكتب والفريضة المؤكد الثابت بالقرآن, قالوا: وأما تصحيحه بنية من نهار, فالجواب من وجهين: 

أحدهما: أن هذا حجة لمن يقول بجواز صوم الفرض بنية من النهار. 

والثاني: أن ذلك الصوم إِنَّمَا صح بليلة من نهار؛ لِأَنّ الوجوب إِنَّمَا ثبت في حق المكلفين من النهار حين أمر النَّبِيِّ r المنادي أن ينادي الأن بصيامه, فحينئذٍ تحدد الوجوب فقاربت النية وقت وجوبه, فقيل: هذا لم يكن واجبًا فلم تكن نية التبييت واجبة. إلى آخر الكلام، والذين قالوا باستحبابه أجابه على حجج هؤلاء. 

والأقرب والله أعلم أَنَّه كَانَ واجبًا وهو ظاهر الحديث أَنَّه كَانَ واجبًا أولًا ثم لما فُرض رمضان نسخ الوجوب وبقي الاستحباب؛ هذا هو الأقرب وهذا هو الأرجح والظاهر من الأحاديث. 

(المتن) 

باب في صوم يوم، وفطر يوم. 

2448- حدثنا أحمد بن حنبل، ومحمد بن عيسى، ومسدد، والإخبار في حديث أحمد، قالوا: حدثنا سفيان قال: سمعت عمرًا قال: أخبرني عمرو بن أوس، سمعه من عبد الله بن عمرو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود كان ينام نصفه، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يفطر يومًا، ويصوم يومًا». 

(الشرح) 

الحديث صحيح أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه, قوله: «كان داود عليه الصلاة والسلام» داود النَّبِيِّ عليه السلام, نبيٌ ملك أتاه الله الملك والنبوة, ينام نصف الليل يعني: نصف الليل الأول, ويقوم بعد ذلك ثلثه, يقوم السدس الرابع والخامس, وينام سدسه ثم يقوم عند الصبح, والحديث دليل عَلَى أن أفضل الصيام صيام داود كَانَ يصوم يومًا ويفطر يومًا وأن هذا هو الأفضل وهذا هو النهاية في الفضل, وفيه دليل عَلَى أَنّ صيام الدهر ليس بفاضل بل هو أما مكروه أو محرم, ودليل أيضًا: عَلَى أن أفضل صلاة التطوع في الليل صلاة داود. 

كَانَ ينام نصف الليل ثم يقوم ثلثه وهو السدس الرابع والخامس, ثم ينام سدسه ليتقوى بِهِ عَلَى عمل النهار؛ لِأَنَّهُ كَانَ نبيًا ملكًا, والنبي r انتهى وتره إِلَى السحر, فالثلث الأخير من الليل هو وقت التنزل الإلهي, وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما بل إنه حديث متواتر عن النَّبِيِّ r أَنَّه قَالَ: «ينزل ربنا كل ليلة إِلَى السَّمَاء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» وثلث الليل الآخر هو السدس الخامس والسادس, وصلاة داود هو السدس الرابع والخامس, فعَلَى هذا يكون النصف الأخير بأثلاثه ثلاثة أفاضل السدس الرابع, والخامس, والسادس, هذا هو النصف الأخير السدس الرابع والخامس هذا هو صلاة داود والخامس والسادس هذا ثلث الليل الآخر التنزل الإلهي فيكون النصف الأخير بأثلاثه الثلاثة كله فاضل. 

فيهِ: أن أفضل الصلاة صلاة داود كَانَ ينام النصف الأول, والنبي r كَانَ إذا صلى العشاء أوى إِلَى فراشه, والنبي r كما ثبت في حديث عائشة: «إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل قام يصلي» وداود كَانَ ينام نصف الليل ثم يقوم الثلث بعد النصف وهو السدس الرابع والخامس, ثم ينام السدس ليتقوى بِهِ عَلَى عمل النهار؛ لِأَنَّهُ حاكم: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}[ص/26]. يحكم بين الناس قاضي يحكم, فينام السدس الأخير ليتقوى بِهِ عَلَى عمل النهار, والنبي r انتهى وتره إِلَى السحر كما تقول عائشة, انظر هذا النَّبِيِّ داود عليه السلام؛ نبي وملك ولم يشغله الملك عن العبادة, يصلي ثلث الليل حتى قَالَ النَّبِيِّ r: «أفضل الصلاة صلاة داود». 

والصيام أيضًا: «كَانَ يصوم يومًا ويفطر يومًا». 

ويتميز في الحرب والجهاد؛ كَانَ لا يفر إذا لاقى, تميز في ثلاث عبادات الصلاة، أفضل الصلاة صلاة داود، وأفضل الصيام صيام داود وكان لا يفر إذا لاقى الجهاد، وكان يصنع الدروع أيضًا: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا }[سبأ/10-11]. يصنع الدروع ولم يشغله الملك عن ذلك عليه الصلاة والسلام 

وكان ويحكم بْنُ الناس ولهذا جاء الملكان تسورا عليه المحراب ففزع منهم, فقالوا: {لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ }[ص/22]. 

كأنهم يقولون: أنت حاكم كيف تجلس الآن في المحراب وتترك الناس, فانظر الأنبياء عَلَيْهِمْ السلام تميزوا, ثم أيضًا يصنع الدروع؛ هَذِه صنعة ليس فيها عيب, فيهِ دليل عَلَى أن الصنعة ليست فيها عيب والعيب في الكسل والنوم ويكون الإنسان عالة عَلَى الناس, أما الصناعة ما هي بعيب, كَانَ داود يصنع الدروع, وكان نوح نجارًا, وَكَذَلِكَ السلف الصالح منهم النجار, والصباغ, والدهان, يعملون بحرف ما فيها عيب, العيب كون الإنسان يمد يده للناس ويترك العمل. 

 فداود عليه السلام تميز في الصلاة «أفضل الصلاة صلاة داود», وتميز في الصوم: «أفضل الصيام صيام داود», يتميز في الجهاد؛ كَانَ لا يفر إذا لاقى, ويتميز أيضًا كذلك في الحكم بين الناس وهو نبي وملك, وكان أيضًا يصنع الدروع, أعمال كل وقته مشغول إذا صار الليل يصلي, والنهار يصوم ويحكم بين الناس ويصنع الدروع, إذًا الأوقات كلها مشغولة ومعمورة بالعمل الصالح, فالأنبياء هم القدوة والأسوة للناس عَلَيْهِمْ الصلاة والسلام. 

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد