شعار الموقع

شرح كتاب الصوم من سنن أبي داود_22

00:00
00:00
تحميل
88

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم عَلَى نَبِيُّنَا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرين والمستمعين. 

(المتن) 

قَالَ الحافظ أبو داود رحمه الله تعالى في سننه: 

 باب في الصائم يدعى إلى وليمة. 

2460- حدثنا عبد الله بن سعيد، أخبرنا أبو خالد، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان مفطرًا فليطعم، وإن كان صائمًا فليصلِ». 

قال هشام: "والصلاة: الدعاء", قال أبو داود: رواه حفص بن غياث، أيضا عن هشام. 

(الشرح) 

قَالَ المؤلف رحمه الله: (باب في الصائم يدعى إلى وليمة) يَعْنِي: ماذا يفعل؟ هل يُجيب أو لا يُجيب؟ ذكر فيهِ حديث أبي هريرة: «إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان مفطرًا فليطعم، وإن كان صائمًا فليصلِ». 

الحديث صحيح أخرجه: مسلم, والترمذي, والنسائي, وفيه: دليل عَلَى وجوب الدعوة وأن من دُعي فليُجب, لَكِنْ بعض العلماء خصه بوليمة العرس, (...) قوله: «فإن كان مفطرًا فليطعم» يَعْنِي: فليأكل, «وإن كان صائمًا فليصلِ»فليدعو, قَالَ بَعْضُهُم: فليصلِ؛ قَالَ الطيبي: يصلي ركعتين في ناحية البيت كما فعل النَّبِيِّ r, وقيل: فليدعو: يَعْنِي لصاحب البيت بالمغفرة, وقال بعض العلماء: يجمع بين الصلاة وبين الدعاء, والصواب أن المراد بالصلاة هنا: المعنى اللغوي وليس المعنى الشرعي, قَالَ الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}[التوبة/103]؛ يَعْنِي: ادع لهم, هذا الوقت ليس وقت صلاة إِنَّمَا وقت إجابة دعوة. 

وهذا هو إجابة الدعوة, يَعْنِي: إذا كَانَ مفطرًا فليطعم, وهل يَجِبُ الأكل أو لا يَجِبُ؟ محل نظر هَذِه, قَالَ بعض العلماء (...): إذا تأذى المضيف بترك الإفطار فَإِنَّهُ يُفطر وهذا أفضل له وإن لم يتأذى فلا يَجِبُ عليه الأكل, الصواب: الصلاة الدعاء. 

قوله: «فليأكل» قَالَ بعض العلماء: من باب الندب, وقال بَعْضُهُم: فليأكل وجوبًا, رجح بَعْضُهُم (...) قَالَ: إن كَانَ المضيف يتشوش خاطره ويحصل بِهِ المعاداة فَإِنَّهُ يَجِبُ في هَذِه الحالة أن يأكل؛ هذا إذا كَانَ الصوم نفلًا, وإن كَانَ يعلم أَنَّه يفرح بأكل ولا يتشوش فيُستحب, وإن كَانَ الْأَمْرِ مستويًا عنده فالأفضل أن يقول: إني صائم سواءٌ حضر أو لم يحضر؛ عَلَى كل حال إذا كَانَ الصوم واجبًا هذا لا يجوز له الفطر, إذا كَانَ صوم نذر أو كفارة أو قضاء رمضان فهذا لا يجوز له الفطر, لَكِنْ إذا كَانَ الصوم نفلًا فهل يَجِبُ أن يأكل؟ الأقرب: أَنَّه مستحب, إن كَانَ المضيف يتأثر فيُستحب له أن يفطر, وإن كَانَ لا يتأثر فالأفضل أن يبقى عَلَى صومه, وَلَكِن يَجِبُ أن يُجيب الدعوة ويأتي ويدعو لهم وينصرف, وإن اعتذر وقبل عذره قَالَ: أنا صائم أرجوك تسمح لي أو مشغول فسمح له فلا حرج. 

(المتن) 

باب ما يقول الصائم إذا دعي إلى الطعام. 

2461- حدثنا مسدد، أخبرنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم، فليقل: إني صائم». 

(الشرح) 

الحديث أخرجه: مسلم, والترمذي, والنسائي, وابن ماجة, وفيه: «إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم، فليقل: إني صائم» قَالَ النووي: هذا محمول عَلَى أَنَّه يقوله اعتذارًا له وإعلامًا بحاله, فَإِن سمح له ولم يطالب بالحضور سقط عنه الحضور, وإن لم يسمح وطالبه بالحضور لزمه الحضور, وليس الصوم عذرًا في عدم إجابة الدعوة, لكنه إذا حضر لا يلزمه الأكل ويكون الصوم عذرًا له بترك الأكل, بخلاف المفطر فَإِنَّهُ يلزمه الأكل, أيضًا كذلك وهذا محل نظر، المفطر قد يتأثر بالأكل وقد لا يناسبه الأكل, قد يكون عنده حمية, قد يكون في الليل المتأخر يضره الأكل, المهم إجابة الدعوة هذا هو المهم, قالوا: الفرق بين الصائم والمفطر؟ المنصوص عليه في الحديث الصحيح, وأما الأفضل للصائم كما سبق إن كَانَ يشق عَلَى صاحب الطعام صومه فيستحب له الفطر, وإن كَانَ لا يشق عليه فالأمر في هذا واسع, وهذا إذا كَانَ الصوم تطوعًا نفلًا, أما إذا كَانَ الصوم واجب هذا يحرم ولا يجوز له أن يفطر وهو يقضي رمضان أو يصوم نذر أو كفارة فالصوم واجب, لا يَجِبُ الفطر إِلَّا لعذر يُبيح الفطر كالمرض أو السفر. 

الطالب: السادس من شوال؟. 

الشيخ: هي نفل, شوال, الأيام البيض, الاثنين والخميس, شوال واسع إذا أفطر يصوم يوم مكانه الشهر واسع. 

قوله: «إني صائم» استدل بِهِ بَعْضُهُم عَلَى أَنَّه لا بأس بإظهار نوافل العبادة من الصوم والصلاة للناس إذا دعت الحاجة إِلَى هذا وإلا فالأصل المستحب إخفاؤها إن لم تكن حاجة, لَكِنْ هنا في حاجة, فكونه صائم يحتاج إِلَى هذا لِأَنَّهُ دعاه حتى يسمح له, قَالَ العلماء: الحديث فيهِ حُسن المعاشرة وإصلاح ذات البين, وتأليف القلوب, وحسن الاعتذار عند سببه. 

الطالب: ما ينافي الإخلاص إذا قلت إني صائم؟. 

الشيخ: عند الحاجة, لِأَنّ الإخلاص يكون في القلب. 

(المتن) 

باب الاعتكاف. 

2462- حدثنا قتيبة بن سعيد، أخبرنا الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى قبضه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده». 

(الشرح) 

النووي ذكر كلام في هذا؛ الاعتكاف معناه في اللغة؛ الحبس والمكث واللزوم, وأما في الشرع: فهو المكث في المسجد من شخص مخصوص بصلة مخصوصة, الاعتكاف: لزوم المسجد لطاعة الله تعالى, لغةً: الاعتكاف الحبس والمكث واللزوم, وشرعًا: لزوم المسجد لطاعة الله عز وجل, قَالَ بَعْضُهُم: المكث في المسجد من شخص مخصوص لصفة مخصوصة, ويسمى الاعتكاف: جوارًا, للأحاديث الصحيحة أن النَّبِيِّ r كَانَ مجاور في المسجد, قالت عائشة: «كَانَ يُنزل إليَ رأسه وهو مجاورٌ في المسجد فأرجله وأنا حائض» يَعْنِي: أسرح شعره. 

وقد جاءت الأحاديث الكثيرة في اعتكاف النَّبِيِّ r العشر الأواخر من رمضان, والعشر الأول من شوال, فدلت الأحاديث عَلَى استحباب الاعتكاف. 

وهذا الحديث فيهِ: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى قبضه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده» الحديث صحيح أخرجه الشيخان: البخاري ومسلم, والترمذي, والنسائي, وهو دليل عَلَى استحباب الاعتكاف, ويتأكد استحباب العشر الأواخر من رمضان, قد أجمع المسلمون عَلَى استحباب الاعتكاف وأنه ليس بواجب ولا أَنَّه متأكد في العشر الأواخر من رمضان, واختلف العلماء: هل يُشترط الصوم مع الاعتكاف أو لا يُشترط؟ ذهب جمهور العلماء إِلَى أَنَّه يُشترط الصوم, وأن اقل الصوم يوم من طلوع الفجر إِلَى غروب الشمس, هذا أقره جمهور العلماء. 

القول الثاني: أَنَّه لا يُشترط الصوم في الاعتكاف, ويدل ذلك الحديث الصحيح في البخاري حديث عمر: أَنَّه سأل النَّبِيِّ r قَالَ: «يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام في الجاهلية, فَقَالَ النَّبِيِّ r: أوف بنذرك» والليل ما فيهِ صوم, فدل عَلَى أَنَّه لا يُشترط الصوم. 

فيهِ: دليل عَلَى جواز قضاء الاعتكاف الذي نذره الكافر في حال إسلامه, وعلى هذا فيصح اعتكاف المفطر ويصح الاعتكاف قَالَ النووي: ولو ساعة واحدة, قَالَ النووي: الضابط عند أصحابنا مكثٌ يزيد عَلَى طمأنينة الركوع, قَالَ: ولنا وجه أَنَّه يصح اعتكاف المار في المسجد؛ حتى المار من غير مكث, قَالَ: والمشهور الأول, قَالَ: فينبغي لكل جالسٍ في المسجد لانتظار الصلاة أو لشغلٍ آخر من آخرة أو دنيا أن ينوي الاعتكاف, فيُحسب له ويثاب عليه ما لم يخرج من المسجد فإذا خرج ثم دخل جدد نية أخرى, وليس الاعتكاف ذكرٌ مخصوص ولا فعل آخر سوى اللبث في المسجد بنية الاعتكاف, ولو تكلم بكلام الدنيا أو عمل صنعة من خياطة أو غيرها لم يبطل اعتكافه. 

أما جمهور العلماء ومذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة واحمد والأكثرون: عَلَى أَنَّه يُشترط في الاعتكاف الصوم فلا يصح الاعتكاف للمفطر, والقول الأول: أَنَّه لا يُشترط ولو اعتكف ساعة أو ساعتين هذا يظاهر حديث عمر, واختيار شيخ الإسلام سماحة الشيخ عبد العزيز بْنُ باز رحمه الله: أَنَّه لا يُشترط الصوم. 

وأما الحنابلة منهم من يقول: لا اعتكاف إِلَّا بصوم, ولا اعتكاف إِلَّا في مسجد جامع, وعلى هذا يكون أقل الاعتكاف يوم من طلوع الفجر إِلَى غروب الشمس صائمًا. 

الطالب: لَكِنْ مسألة جزء ساعة من الليل يتوسعون بعض الشباب يعتكفون جزء من الليل كل ليلة في العشر الأواخر؟. 

الشيخ: عَلَى هذا, قَالَ النووي: مجرد مرور بَعْضُهُم ما دام النَّبِيِّ r قَالَ: «قَالَ عمر: إني نويت أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام, قَالَ له النبي r: أوفِ بنذرك» يَعْنِي: اعتكف ليلة, والليل ما فيهِ صيام. 

الطالب: ألا تكون خاصة بعمر؟. 

الشيخ: لا هَذِه الشريعة عامة ليست خاصة, ما قَالَ: خاص بك, ولا يُشرع لأحدٍ غيرك, فالشريعة عامة والخصوصية تحتاج إِلَى دليل. 

قوله: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى قبضه الله» استدل بِهِ بَعْضُهُم كالقسطلاني عَلَى أَنَّه لم يُنسخ وأنه من السنة المؤكدة, قَالَ: حتى قبضه الله؛ لِأَنّ الاعتكاف لم يُنسخ, وأنه من السنة المؤكدة خصوصًا في العشر الأواخر من رمضان في طلب ليلة القدر. 

قوله: «ثم اعتكف أزواجه من بعده» فيهِ: دليل عَلَى أن النساء كالرجال في الاعتكاف, فيهِ أيضًا مشروعية الاعتكاف للمرأة, وقد كَانَ r أذن لبعض نساءه كما سيأتي في الحديث, وأما إنكاره عليهن الاعتكاف بعد الإذن كما في الحديث الصحيح كما سيأتي فلمعنى آخر, لما اعتكف واعتكف أزواجه معه وكل امرأة ضربت خباء, فَلَمّا رأى الأخبية عدل عن الاعتكاف تلك السنة وأمر بخيمته فقوضت, ثم قوضت كل خيمة من خيام نساءه, قيل: السبب في ذلك أَنَّه خاف عليهن أن يكن غير مخلصات في الاعتكاف بل أردن القرب منه لغيرتهن عليه, أو لأجل ذهاب المقصود من الاعتكاف لكونهن معه, أو لتضييقهن المسجد. 

وذهب الإمام أبو حنيفة إِلَى أَنَّه إِنَّمَا يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها؛ وهو الموضع المهيأ في بيتها لصلاتها, أبو حنيفة انفرد بهذا, والجمهور عَلَى أَنَّه في المسجد وَلَكِن لابد من إذن الزوج ولابد من أمن الفتنة أيضًا. 

(المتن) 

2463- حدثنا موسى بن إسماعيل، أخبرنا حماد، أنبأنا ثابت، عن أبي رافع، عن أبي بن كعب: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فلم يعتكف عامًا، فلما كان في العام المقبل اعتكف عشرين ليلة». 

(الشرح) 

وهذا الحديث أخرجه: النسائي, وابن ماجة, قوله: «فلم يعتكف عامًا فلما كان في العام المقبل اعتكف عشرين ليلة» قَالَ الخطابي: هذا الحديث فيهِ من الفقه أن النوافل المعتادة تُقضى إذا فاتت كما تُقضى الفرائض؛ لِأَنَّهُ «فلم يعتكف عامًا فلما كان في العام المقبل اعتكف عشرين ليلة» عشر هذا العام وعشر قضاء وهذا على سبيل الاستحباب 

ومن هذا قضى النَّبِيِّ r بعد العصر الركعتين اللتين فاتتاه لما قدم الوفد واشتغاله بهم, قدم وفد واشتغل بهم ولم يصلي ركعتين الراتبة بعد الظهر فقضاها بعد العصر, ثم اثبتها قَالَ: وفيه مستدل لمن أجاز الاعتكاف بغير صوم يُنشئه للاعتكاف, وذلك أن صومه في شهر رمضان إِنَّمَا كَانَ للشهر لا للاعتكاف؛ لِأَنَّ وقته مستحقٌ له, فهذا ملحظ, فالرسول اعتكف العشر من رمضان ورمضان صوم من أجل الشهر ليس من أجل الاعتكاف؛ من أجل فريضة الصوم. 

وقد اختلف الناس في هذا فَقَالَ الحسن البصري: إن اعتكف من غير صيام أجزأه, وإليه ذهب الشافعي, وروي عن علي وابن مسعود أنهم قالا: إن شاء صام وإن شاء أفطر, وقال الأوزاعي ومالك والجمهور: لا اعتكاف إِلَّا بصوم, وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه, وروي عن جمع من السلف اِبْن عمر, ابن عباس, وعائشة, سعيد بْنُ المسيب, وعروة بْنُ الزبير وغيره. 

اِبْن القيم رحمه الله تكلم عن هذا الحديث قَالَ: روى النسائي في سننه عن أبي بْنُ كعب «أن رسول الله r كَانَ يعتكف العشر الأواخر من رمضان فسافر عامًا فلم يعتكف فَلَمّا كَانَ العام المقبل اعتكف عشرين» وفي رواية: «ليلة» وهذا أولى من الاحتمال المذكور, وقال بَعْضُهُم: يحتمل أن يكون هذان العشران المذكوران في حديث أبي داود هي العشر الذي كَانَ يعتكفه, والعشر الذي تركه من أجل أزواجه, ثم اعتكف من شوال عشرين ليلة, قَالَ: وهذا فاسد فَإِن حديث أبي بْنُ كعب قد أخبر أَنَّه إِنَّمَا تركهم لسفره. 

في رواية النسائي قَالَ بَعْضُهُم تعليقًا عليه, نقله ولم يعلق عليه, يَعْنِي: يعتكف عشرين يومًا؛ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْضُهُم: يحتمل يكون هذا هي العشر الذي كَانَ يعتكفها والعشر الذي تركه, قَالَ: وهذا فاسد فَإِن حديث أبي بْنُ كعب قد أخبر أَنَّه إِنَّمَا تركهم لسفره.. 

(المتن) 

2464- حدثنا عثمان بن أبي شيبة، أخبرنا أبو معاوية، ويعلى بن عبيد، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر، ثم دخل معتكفه» قالت: وإنه أراد مرة أن يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، قالت: فأمر ببنائه فضُرب، فلما رأيت ذلك أمرت ببنائي فضُرب، قالت: وأمر غيري من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ببنائه فضُرب، فلما صلى الفجر نظر إلى الأبنية، فقال: «ما هذه؟ آلبر تردن؟» قالت: فأمر ببنائه فقوض، وأمر أزواجه بأبنيتهن فقوضت، ثم أخر الاعتكاف إلى العشر الأول يعني من شوال. 

قال أبو داود: رواه ابن إسحاق، والأوزاعي، عن يحيى بن سعيد، نحوه، ورواه مالك، عن يحيى بن سعيد قال: اعتكف عشرين من شوال. 

(الشرح) 

هذا الحديث أخرجه الشيخان: البخاري ومسلم, والنسائي, وابن ماجة, وفيه: أن النَّبِيِّ r أمر ببناء خيمة, الأبنية المراد بها الخيام, خيمة صغيرة يخلو بها المعتكف بربه, فيهِ: مشروعية خلو المعتكف في مكان خاص من المسجد حتى يخلو بربه. 

قوله: «إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر، ثم دخل معتكفه» قَالَ الخطابي: فيهِ من الفقه أن المعتكف يبتدئ اعتكافه من أول النهار, ويدخل في معتكفه بعد أن صلى, وإلى هذا ذهب الأوزاعي, وذهب الجمهور إِلَى أن عليه أن يدخل معتكفه قبل غروب الشمس إذا أراد اعتكاف شهر بعينه, وهذا مذهب أبو حنيفة وأصحابه. 

وفيه: دليل عَلَى أن الاعتكاف إذا لم يكن نذرًا كَانَ للمعتكف أن يخرج منه في أي وقت شاء, إذا كَانَ الاعتكاف نفل فلا يلزمه لو خرج, لَكِنْ إذا كَانَ نذر فلابد أن يفي بنذره. 

وفيه: دليل عَلَى جواز اعتكاف النساء, وفيه: أَنَّه ليس للمرأة أن تعتكف إلا بإذن زوجها, وعلى أن للزوج أن يمنعها من ذلك بعد الإذن فيهِ؛ لِأَنّ هذا حقه. 

وفيه: دليل عَلَى أن اعتكاف المرأة في بيتها جائز, وذهب إِلَى هذا أبو حنيفة, وأما الرجل فَإِنَّهُ لا يجوز أن يعتكف في بيته بالاتفاق, فَإِنَّهُ شُرع الإعتكاف في المساجد, قَالَ تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}[البقرة/187].  

وذهب بعض العلماء وهو مروي عن حذيفة بن اليمان: إِلَى أن الاعتكاف لا يكون إِلَّا في المساجد الثلاثة: مسجد مكة, مسجد المدينة, بيت المقدس, وقال عطاء: لا يعتكف إِلَّا في مسجد مكة والمدينة فقط, وقال بعض العلماء: يجوز الاعتكاف في أي مسجد بشرط أن يكون مسجد جامع تقام فيهِ الجمعة, وقال بعض العلماء: يعتكف ولو في المسجد قبائل, كل قبيلة قريبة من المسجد تعتكف ولو لم يكن جمعة وهو قول أبي حنيفة, وكما سبق احتج بعض العلماء عَلَى أنه يبدأ الاعتكاف من أول النهار وهذا ذهب إليه جمعٌ من أهل العلم وأخذوا بظاهر الحديث منهم: الأوزاعي, والثوري والليث. 

وأما الجمهور مالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي, قالوا: يدخل فيهِ قبل غروب الشمس, إذا أراد اعتكاف شهر أو اعتكاف العشر, وأول قوله: «أَنَّه اعتكف في أول النهار» عَلَى أنه دخل المعتكف وانقطع فيهِ وتخلى بنفسه بعد صلاة الصبح, لا أن ذلك وقت امتناع الاعتكاف, اعتكف من قبل غروب الشمس لَكِنْ الانقطاع والخلو إِنَّمَا كَانَ بعد الفجر؛ لِأَنَّهُ كَانَ من قبل المغرب معتكفًا لابثًا في جملة المسجد, فَلَمّا صلى الصبح انفرد. 

قوله: فأمر ببنائه فضُرب» يَعْنِي: خيمة صغيرة ومكان, فيهِ: دليل عَلَى أن المعتكف ينبغي له أن يضرب مكان ينفرد فيهِ بنفسه مدة اعتكافه ما لم يضيق عَلَى الناس, بل يكون في ناحية من المسجد أو في آخر المسجد أو في رحبة المسجد ألا يضيق عَلَى الناس, بل يكون أخلى له وأكمل في انفراده. 

ولما ضرب النَّبِيِّ r خيمة كل واحدة من أزواجه ضربت خيمة, «فلما صلى الفجر نظر إلى الأبنية، فقال: ما هذه؟ آلبر تردن؟» عَلَى وجه الإنكار, يَعْنِي يردن الخير والبر؟!  

قالت: «فأمر ببنائه فقوض، وأمر أزواجه بأبنيتهن فقوضت، ثم أخر الاعتكاف إلى العشر الأول يعني من شوال» قضاءً عما تركه من الاعتكاف في رمضان عَلَى سبيل الاستحباب؛ لِأَنَّهُ r إذا عمل عملًا أتبعه, ودل هذا عَلَى أن الاعتكاف ليس بواجب ولا يَجِبُ قضاءه ولو كَانَ يَجِبُ قضاءه لاعتكف معه نساءه أيضًا لما قُوضت أبنيتهن, وكما سبق خاف عليهن من الغيرة, ومن عدم الإخلاص, ومن تضييق المسجد, فلهذا ترك الاعتكاف في تلك السنة. 

(المتن) 

باب أين يكون الاعتكاف؟. 

2465- حدثنا سليمان بن داود المهري، أخبرنا ابن وهب، عن يونس، أن نافعًا، أخبره، عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان». 

قال نافع: وقد أراني عبد الله المكان الذي كان يعتكف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد. 

(الشرح) 

هذا الحديث أخرجه الشيخان, وليس في البخاري قول نافع: (قال نافع: وقد أراني عبد الله المكان الذي كان يعتكف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد) فيهِ أن الاعتكاف لا يصح إِلَّا في المسجد؛ لِأَنّ النَّبِيِّ r وأصحابه وزوجاته إِنَّمَا كَانُوا يعتكفون في المسجد مع المشقة في ملازمته, فلو جاز في البيت لفعلوه ولو مرة واحدة لاسيما النساء؛ لِأَنّ حاجتهن إليه في البيوت أكثر. 

وهذا هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء: أنه لا يَجِبُ الاعتكاف إِلَّا في المسجد, ومذهب الجمهور: مالك, الشافعي, أحمد, داود, والجمهور؛ الرجل والمرأة, وذهب أبو حنيفة إِلَى أَنَّه يصح للمرأة في مسجد بيتها وهو الموضع المهيأ من بيتها لصلاتها, قَالَ: ولا يجوز للرجل في مسجد بيته. 

والجمهور: عَلَى أَنَّه يصح الاعتكاف في كل مسجد, قَالَ بعض العلماء: اختص بالمسجد الجامع, ولهذا قَالَ: «لا اعتكاف إِلَّا بصوم ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع» قَالَ بَعْضُهُم: يختص بمسجد تقام فيهِ الجماعة, وقيل: يُختص بالجامع, وقيل: يختص بالمساجد الثلاثة, وقيل: بالمسجدين الحرمين, تقدم هذا, والصواب: أَنَّه يجوز في كل مسجد تقام فيهِ الجماعة, ويخرج للجمعة ثم يعود, والأفضل يكون في مسجد جامع. 

(المتن) 

2466- حدثنا هناد، عن أبي بكر، عن أبي حَصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يومًا». 

(الشرح) 

هذا الحديث في الصحيح أخرجه: البخاري, النسائي, اِبْن ماجة, وفيه: مشروعية الازدياد من الخير في أواخر العمر, قوله: «فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يومًا» ففيه مشروعية الازدياد من الخير في أواخر العمر؛ لِأَنَّهُ علم انقضاء أجله فأراد أن يستكثر من الأعمال الصالحة تشجيعًا لأمته بأن يجتهدوا في العمل إذا بلغوا أقصى العمر ليلقوا الله عَلَى خير أعمالهم, ولأنه r اعتاد من جبريل عليه السلام أنه يعارضه الْقُرْآن في كل عام مرة, فَلَمّا عرضه في العام الأخير مرتين اعتكف فيهِ مثلما كَانَ يعتكف, لما نزل قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر/1-3]؛ علم قرب أجله. 

وعرضه جبريل مرتين في ذلك العام, دارسه الْقُرْآن مرتين وكان في كل سنة مرة, لَكِنْ في العام الأخير مرتين فاعتكف عشرين يومًا, فيهِ: مشروعية الازدياد من الخير في أواخر العمر. 

ذكر اِبْن القيم رحمه الله عَلَى الحديث السابق قَالَ: وقد احتج من لا يرى الصوم شرطًا في الاعتكاف بدخول يوم العيد في اعتكافه؛ العشر الأواخر من رمضان, يوم العيد ما فيهِ صوم, قَالَ: هذا دليل عَلَى أن الاعتكاف لا يُشترط فيهِ الصوم, (...) فَإِن الحديث رواه البخاري وقال: «حتى اعتكف عشرًا من شوال» لم يذكر غيرها, وفي صحيح مسلم: «اعتكف في العشر الأول من شوال» وهذا لا يقتضي دخول يوم العيد فيهِ, فما يصح أن يقال: صام في العشر الأول من شوال, وفي لفظ له: «حتى اعتكف في آخر عشر من شوال» وعدم الدلالة في هذا ظاهرة. 

وقولها: «اعتكف العشر الأول من شوال» ليس بنص في دخول يوم العيد في اعتكافه, بل الظاهر أَنَّه لم يدخل في اعتكافه لاشتغاله فيهِ بالخروج إِلَى المصلى وصلاة العيد وخطبته, ورجوعه إِلَى منزله لفطره, وفي ذلك ذهاب بعض اليوم فلا يقوم بقية اليوم مقام جميعه. 

كأنه يومئ إِلَى أن اِبْن القيم يشترط الصوم في الاعتكاف. 

الطالب: لَكِنْ اِبْن القيم ما يرى يوم العيد اعتكاف؟. 

الشيخ: يرد عَلَى من قاله, كأنه ظاهر أن يقول: يوم العيد داخل في العشر ومع هذا يوم العيد ما فيهِ صوم. 

الطالب: بالنسبة للمرأة التي تعتكف في بيتها هل يلزمها غرفة خاصة. 

الشيخ: نعم في مكان مهيئ لها 

الطالب: «كَانَ إذا صلى الفجر دخل معتكفه» يكون يوم واحد وعشرين؟. 

الشيخ: نعم, بَعْضُهُم أخذ بظاهر هَذِه اللفظة وقال: يعتكف بعد الصبح, وقال آخرون: هذا محمول عَلَى أنه وقت التخلي, وإلا المراد بالاعتكاف أَنَّه قبل غروب الشمس.  

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد