الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الشيخ السعدي رحمنا الله تعالى وإياه في تفسير سورة التكوير.
متن:
وهي مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ.
أي: إذا حصلت هذه الأمور الهائلة، تميز الخلق، وعلم كل أحد ما قدمه لآخرته، وما أحضره فيها من خير وشر، وذلك إذا كان يوم القيامة تكور الشمس أي: تجمع وتلف، ويخسف القمر، ويلقيان في النار.
وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أي: تغيرت، وتساقطت من أفلاكها.
وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ أي: صارت كثيبا مهيلًا ثم صارت كالعهن المنفوش، ثم تغيرت وصارت هباء منبثا، وسيرت عن أماكنها.
وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ أي: عطل الناس حينئذ نفائس أموالهم التي كانوا يهتمون لها ويراعونها في جميع الأوقات، فجاءهم ما يذهلهم عنها، فنبه بالعشار، وهي النوق التي تتبعها أولادها، وهي أنفس أموال العرب إذ ذاك عندهم، على ما هو في معناها من كل نفيس.
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ أي: جمعت ليوم القيامة، ليقتص الله من بعضها لبعض، ويرى العباد كمال عدله، حتى إنه ليقتص من القرناء للجماء ثم يقول لها: كوني ترابا.
وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ أي: أوقدت فصارت -على عظمها- نارا تتوقد.
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ أي: قرن كل صاحب عمل مع نظيره، فجمع الأبرار مع الأبرار، والفجار مع الفجار، وزوج المؤمنون بالحور العين، والكافرون بالشياطين، وهذا كقوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا، وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا، احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ.
وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ وهي الذي كانت الجاهلية الجهلاء تفعله من دفن البنات وهن أحياء من غير سبب، إلا خشية الفقر، فتسأل: بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ومن المعلوم أنها ليس لها ذنب، ففي هذا توبيخ وتقريع لقاتليها.
وَإِذَا الصُّحُفُ المشتملة على ما عمله العاملون من خير وشر نُشِرَتْ وفرقت على أهلها، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، أو من وراء ظهره.
وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ أي: أزيلت، كما قال تعالى: يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ، يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ، وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ.
وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ أي: أوقد عليها فاستعرت، والتهبت التهابا لم يكن لها قبل ذلك.
وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ أي: قربت للمتقين، عَلِمَتْ نَفْسٌ أي: كل نفس، لإتيانها في سياق الشرط.
مَا أَحْضَرَتْ أي: ما حضر لديها من الأعمال التي قدمتها كما قال تعالى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وهذه الأوصاف التي وصف الله بها يوم القيامة، من الأوصاف التي تنزعج لها القلوب، وتشتد من أجلها الكروب، وترتعد الفرائص وتعم المخاوف، وتحث أولي الألباب للاستعداد لذلك اليوم، وتزجرهم عن كل ما يوجب اللوم، ولهذا قال بعض السلف: من أراد أن ينظر ليوم القيامة كأنه رأي عين، فليتدبر سورة إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ.
شرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
هذه السورة هي سورة التكوير وهي مكية تسمى سورة التكوير من التكوير وهو التدوير تدوير العمامة كما فيها قول الله تعالى إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. فهي تكور وتدور كالعمامة وتلف، هذه السورة افتتحها الله تعالى بشرط وجوابه وأتى بأمور ثم أتى بالجواب.
وهذه الأمور كما ذكر المفسر رحمه الله أنها أمور عظيمة تزعج لها القلوب وترتعد لها الفرائص وذلك أنه يخرب هذا الكون وخراب هذا الكون إنما هو بزوال التوحيد والإيمان لأنه في آخر الزمان بعد خروج أشراط الساعة الكبار التي تتابع كعقد سلك كالعقد والخرز إذا انقطع فإذا تتابع وهي العلامات العشر وهي المهدي ظهور المهدي أولًا ثم الدجال ثم نزول عيسى بن مريم ثم خروج يأجوج ومأجوج وهذه أربعة متوالية وهي أولها ثم تتابع بقية الأشراط الدخان ونزع القرآن من الصدور ومن المصاحف وهدم الكعبة وطلوع الشمس من مغربها خروج الدابة ثم آخره نار تخرج من قاع عدن تسوق الناس إلى المحشر، ثم تأتي ريح طيبة تأخذ أرواح المؤمنين والمؤمنات فلا تجد أحد من المؤمنين إلا قبضته وفي الهدي، حتى لو أن أحدهم في كبد جبل لدخلت عليه حتى تقبض روحه، فعند ذلك لا يبقى إلا الكفرة لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا يتفاسدون في الشوارع وفي الطرقات ويمثل لهم الشيطان فيقول لهم اعبدوا الأوثان فيعبدوا الأوثان وهم في ذلك حسن رزقهم رغد عيشهم وعليهم تقوم الساعة فيخرب هذا الكون فيحصل ما ذكر الله تعالى في هذه السورة تكور الشمس، يعني تلف هذه الشمس التي تطلع من المشرق وتغرب من المغرب تلف وتكور تكوير العمامة وتلف وتجمع مع القمر ويلقيان في النار مع من عبدهم لقول الله تعالى إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ.فتلقى هي ومن معها.
واستثنى الله تعالى من سبقت لهم من الله الحسنى كالمسيح وأمه فإنه عبد من دون الله فكذلك الصالحون فلا يردون النار بعبادتهم من دون الله، ولكن الأشجار والأحجار والشمس والقمر تلقى في النار هي ومن عبدها إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ .
وكذلك النجوم تنكدر وتتغير وتتساقط من أفلاكها والجبال تسير كلها أحوال أولا تصير كثيب مهيل ثم تصير كالعهن المنفوش ثم تتغير وتصير هباءً منثورًا وتسير عن أماكنها والعشار تعطل وهي الإبل التي تتبعها أولادها وهي من أنفس اموال العرب، يذهل الناس من شدة الهول إلى أنفس أموالهم.
وكذلك الوحوش تجمع إلى الله ليقتص الله لها بعضهم من بعض، فيرى الناس كمال عدل الرب ، والبحار تسجر أولًا تفجر وتصير بحرًا واحدًا وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ثم تسجر وتكون نارًا وتكون جزءًا من النار وجهنم تبرز جهنم أسفل سافلين حينئذ تبرز وتسجر البحار وتكون جزءًا منها نعوذ بالله.
والنفوس تزوج أي تقرن كل مخلوق مع ما يجالسه فالأبرار مع الأبرار والفجار مع الفجار هذا معنى وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ يكون كل صاحب مع نظيره، والمؤمنين أيضًا يزوجون بالحور العين والكافرين بالشياطين.
وتسئل المؤدة وهي المقتولة حية البنت التي تقتل حية كما يفعله أهل الجاهلية يدفون بناتهم أحياء تسئل تبكيتًا وتوبيخًا وتقريعًا وزيادة في عذاب من قتلها، يجب أن تسئل هل لك ذنب وهذا تعذيب وتقريع لمن قتلها إلا فلا ذنب لها، إذا حصلت.
وكذلك السحب تنشر ويعطى كل إنسان صحيفته بيمنه أو بشماله (.....) وراء ظهره، وكذلك السماء تشقق وتذال عن مكانها وتطوى والجحيم تسعر ويزاد في حرارتها والجنة تقرب من المتقين، إذا حصلت هذه الأمور عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ ما حضر إليها من الأعمال كل نفس تعلم ما لديها من الأعمال التي قدمتها كما قال تعالى وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا.
فهذه أمور عظيمة يخرب بها هذا الكون وخراب هذا الكون بخلوه من التوحيد والإيمان لأن أرواح المؤمنين تقبض أرواحهم ولا يبقى إلا الكفرة فيخرب هذا الكون لخلوه من الإيمان والتوحيد وفي الحديث لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللهُ، اللهُ.
قال رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى
متن:
أقسم تعالى بِالْخُنَّسِ وهي الكواكب التي تخنس أي: تتأخر عن سير الكواكب المعتاد إلى جهة المشرق، وهي النجوم السبعة السيارة: " الشمس "، و " القمر "، و " الزهرة "، و " المشترى "، و " المريخ "، و " زحل "، و " عطارد "، فهذه السبعة لها سيران: سير إلى جهة المغرب مع باقي الكواكب والأفلاك ، وسير معاكس لهذا من جهة المشرق تختص به هذه السبعة دون غيرها.
فأقسم الله بها في حال خنوسها أي: تأخرها، وفي حال جريانها، وفي حال كنوسها أي: استتارها بالنهار، ويحتمل أن المراد بها جميع النجوم الكواكب السيارة وغيرها.
وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ أي: أدبر وقيل: أقبل، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ أي: بانت علائم الصبح، وانشق النور شيئا فشيئا حتى يستكمل وتطلع الشمس، وهذه آيات عظام، أقسم الله بها على علو سند القرآن وجلالته، وحفظه من كل شيطان رجيم فقال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وهو: جبريل ، نزل به من الله تعالى، كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ووصفه الله بالكريم لكرم أخلاقه، وكثره خصاله الحميدة، فإنه أفضل الملائكة، وأعظمهم رتبة عند ربه، ذِي قُوَّةٍ على ما أمره الله به. ومن قوته أنه قلب ديار قوم لوط بهم فأهلكهم.
عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ أي: جبريل مقرب عند الله، له منزلة رفيعة، وخصيصة من الله اختصه بها، مَكِينٍ أي: له مكانة ومنزلة فوق منازل الملائكة كلهم.
مُطَاعٍ ثَمَّ أي: جبريل مطاع في الملأ الأعلى، لديه من الملائكة المقربين جنود، نافذ فيهم أمره، مطاع رأيه، أَمِينٍ أي: ذو أمانة وقيام بما أمر به، لا يزيد ولا ينقص، ولا يتعدى ما حد له، وهذا [كله] يدل على شرف القرآن عند الله تعالى، فإنه بعث به هذا الملك الكريم، الموصوف بتلك الصفات الكاملة. والعادة أن الملوك لا ترسل الكريم عليها إلا في أهم المهمات، وأشرف الرسائل.
ولما ذكر فضل الرسول الملكي الذي جاء بالقرآن، ذكر فضل الرسول البشري الذي نزل عليه القرآن، ودعا إليه الناس فقال: وَمَا صَاحِبُكُمْ وهو محمد ﷺ بِمَجْنُونٍ كما يقوله أعداؤه المكذبون برسالته، المتقولون عليه من الأقوال، التي يريدون أن يطفئوا بها ما جاء به ما شاءوا وقدروا عليه، بل هو أكمل الناس عقلا وأجزلهم رأيا، وأصدقهم لهجة.
وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ أي: رأى محمد ﷺ جبريل بالأفق البين، الذي هو أعلى ما يلوح للبصر.
وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ أي: وما هو على ما أوحاه الله إليه بمتهم يزيد فيه أو ينقص أو يكتم بعضه، بل هو ﷺ أمين أهل السماء وأهل الأرض، الذي بلغ رسالات ربه البلاغ المبين، فلم يشح بشيء منه، عن غني ولا فقير، ولا رئيس ولا مرءوس، ولا ذكر ولا أنثى، ولا حضري ولا بدوي، ولذلك بعثه الله في أمة أمية، جاهلة جهلاء، فلم يمت ﷺ حتى كانوا علماء ربانيين، وأحبارا متفرسين، إليهم الغاية في العلوم، وإليهم المنتهى في استخراج الدقائق والفهوم، وهم الأساتذة، وغيرهم قصاراه أن يكون من تلاميذهم.
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ لما ذكر جلالة كتابه وفضله بذكر الرسولين الكريمين، اللذين وصل إلى الناس على أيديهما، وأثنى الله عليهما بما أثنى، دفع عنه كل آفة ونقص مما يقدح في صدقه، فقال: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ أي: في غاية البعد عن الله وعن قربه، فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أي: كيف يخطر هذا ببالكم، وأين عزبت عنكم أذهانكم؟ حتى جعلتم الحق الذي هو في أعلى درجات الصدق بمنزلة الكذب، الذي هو أنزل ما يكون [وأرذل] وأسفل الباطل؟ هل هذا إلا من انقلاب الحقائق. إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ يتذكرون به ربهم، وما له من صفات الكمال، وما ينزه عنه من النقائص والرذائل [والأمثال] ، ويتذكرون به الأوامر والنواهي وحكمها، ويتذكرون به الأحكام القدرية والشرعية والجزائية، وبالجملة، يتذكرون به مصالح الدارين، وينالون بالعمل به السعادتين.
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ بعدما ص:914 تبين الرشد من الغي، والهدى من الضلال. وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أي: فمشيئته نافذة، لا يمكن أن تعارض أو تمانع. وفي هذه الآية وأمثالها رد على فرقتي القدرية النفاة، والقدرية المجبرة كما تقدم مثلها [والله أعلم والحمد لله] .
شرح:
في هذه الآيات أقسم الله تعالى بأشياء من خلقه أقسم بالخنس وبالليل وبالصبح ثلاثة أشياء ثلاث مخلوقات الخنس والليل والصبح والله تعالى له أن يقسم بما شاء من مخلوقاته كما سبق لا أحد يحجر عليه وهو إنما يقسم بمخلوقاته الذي فيها بديع خلقه ما يدل على قدرته ووحدانيته واستحقاقه للعبادة أما المخلوق فلا يقسم إلا بالله وأسمائه وصفاته، أقسم الله تعالى بالخنس وهي الكواكب التي تخنس وهذه الكواكب لها أوصاف توصف بأنها خنس توصف بأنها لها جواري جارية وتوصف بالخنس لأنها تتأخر عن سير الكواكب المعتدلة جهة المشرق فتسير إلى جهة المغرب وهي النجوم السبعة السيارة المعروفة الشمس والقمر والزهرة والمشترى والمريخ وعطارد وزحل فهي توصف بأنها خنس لأنها تخنس وتتأخر وتوصف بأنها جارية يعني في حال جريانها وسيرها، وتوصف بأنها كنس يعني في حال استتارها في النهار كنوسها يعني تستتر، هذه أوصافها أحيانًا توصف بأنها خنس لأنها تخنس وتتأخر عن سير الكواكب، وتوصف بأنها كنس لأنها تستتر وتكنس بالنهار وتوصف بأنها جارية وصفت بالجواري لأنها جارية هذه الاوصاف الثلاثة لها، فهي خنس لأنها تتأخر عن سير الكواكب، وهي جواري توصف بأنها جواري لانها جارية وسائرة، وهي كنس لأنها تكنس وتستتر بالنهار لما في هذه الامور من بديع قدرته.
وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ عَسْعَسَ يطلق على الإقبال وعلى الإدبار الضدين هذا فيقال: عسعس إذا أقبل ويقال: عسعس إذا أدبر فالليل في حال إدباره والليل في حال إقباله وإدباره فيه عبرة وعظة ودلالة على قدرة الله.
وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إذا أسفر وانشق وظهر وبان أقسم بهذه الأشياء، فما هو المقسم به؟
أقسم أن هذا القرآن كلام الله وأنه بلغه جبريل ومحمد كل من الرسل جبريل هو الرسول الذي سمع كلام الله تكلم الله به وحيًا وسمعه جبرائيل ثم نزل به على قلب محمد ﷺ كما قال تعالى وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ .
فبلغه محمد ﷺ إلى الأمة أقسم الله بهذه الأمور الثلاثة بأن القرآن كلام الله إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ينسب القول إليه لأنه قاله مبلغًا وينسب إليه لأنه قاله مبتدئاً الذي قاله مبتدئا وتكلم به هو الله، والذي قاله مبلغًا جبريل ثم قاله مبلغًا محمد إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ فقد يحتج الأشاعرة والمعتزلة بأن القرآن مخلوق، الأشاعرة قالوا إن القرآن معنى قائم بنفسه واللي تكلم به حرفًا وصوتا هو محمد لأنهم يرون ويعتقدون أن الكلام هو المعنى فقط إما الألفاظ والحروف فليست من الكلام وإنما هي وسيلة لأداء الكلام كما قال ويحتجون بقول الأخطل النصراني:
إنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا | جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلًا |
هذا باطل الكلام اسم للفظ والمعنى وللحروف والأصوات.
وبعضهم قال: إن الذي أنشأ الحروف والألفاظ محمد استدلالًا بالآية الأخرى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ آية الحاقة أقسم الله على أن هذا القرآن كلام الله إنما سمعه منه الرسول الملكي جبريل وبلغه ونزل به على قلب الرسول البشري وهو محمد عليهم الصلاة والسلام.
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وصف الرسول وهو جدير بالكرامة ذِي قُوَّةٍ وصفه بالقوة والقدرة التي أعطاها الله من قوته أنه قلب ديار قوم لوط قلبهم بجناح فأوصلها إلى السماء ثم نكسها عليهم ثم قلبها ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ذو العرش وهو الله مكين له مكانة ومنزلة.
مُطَاعٍ تطعه الملائكة في الملأ الأعلى ثَمَّ أَمِينٍ يعني ذو أمانة في القيام بما أمر به.
وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ نفى الله تعالى عن نبيه الكريم ما رماه به أعداء الله فقالوا إنه ساحر وشاعر ومجنون.
وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ لقد رآه يعني محمد رأى جبريل عليه الصلاة والسلام بالأفق الذي أعلى ما يرى البصر رآه مرتين على صورة الذي خلق عليها وله ستمائة جناح كل جناح ما بين السماء والأرض المرة الأولى رأه في الأرض عند البعثة أول ما بعث رآه ملكًا جالس على عرش بين السماء والأرض يملأ ما بين السماء والأرض فرعب، وعند ذلك قال له: اقرأ قال: ما أنا بقارئ، يعني لست قارئًا وهو ليس امتناع لكن يخبر بأنه ما تعلم القراءة والكتابة فغطه ثلاث مرات كل مره يغطه حتى يبلغ منه الجهد.
قال العلماء: تهيئة لتحمل أعباء الرسالة حتى ذهب إلى زوجه خديجة وقال وهو يرتجف من رؤية الملك وقال كدت والله ان يختلج عقلي، فقالت له خديجة: كلا والله لا يخزيك الله أبدًا ووصفته بصفات عظيمة، ومن يتصف بصفات عظيمة لا يمكن يخزى، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، ورآه المرة الثانية على هذه الصورة ليلة المعراج وراه على صورة متعددة كثير (.....)ورآه الصحابة على صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر فسأل عن الإسلام وعن الإيمان ثم عن الإحسان ثم عن الساعة ثم عن أشراطها.
وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ هذه تزكية من الله للنبي ﷺ يعني ليس بمتهم على الوحي بل هو أمين مبلغ وحي الله.
وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ليس بقول شيطان رجيم، بل هو قول الحق وبلغه الأمينان.
ثم قال سبحانه فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ يعني أين تذهبون كيف يخطر ببالكم هذه الأمور كيف يدور في خلدكم مثل هذا الاتهام.
ثم بين الحكمة من ذلك فقال إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ويتذكرون به ربهم وما له من صفات الكمال ويتذكرون به النواهي ويتذكرون به أحكام الله القدرية ما قدر عليه، وأحكام الله الشرعية الذي شرعها الله من الأوامر والنواهي وأحكام الله الجزائية الذي يجازون بها على أعمالهم يوم القيامة.
ثم قال لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فيه إثبات المشيئة لله وإثبات المشيئة للمخلوق وأن مشيئة المخلوق تابعة لمشيئة الله.
وفي هذا رد على القدرية بنوعيها قدرية الذين يقولون المخلوق ليس له مشيئة وقدرية التي تقول العبد الذي يخلق فعل نفسه (.....) والرد على الجبرية التي تقول لا مشيئة لمخلوق بل هو مجبور (.....) ثم بين أن مشيئة المخلوق تابعة لمشيئة الخالق قال وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ دل على المخلوق بالمشيئة ولكنها تابعة لمشيئة الله.
فالعبد ليس مجبورًا كما تقول الجبرية بل له مشيئة ولكنها تابعة لمشيئة الله، نعم.
قال الشيخ جلال الدين المحلي رحمنا الله تعالى وإياه، في تفسير سورة التكوير
متن:
مكية وآياتها ست وعشرون
إِذَا الشَّمْس كُوِّرَتْ لُفِّفَتْ وَذُهِبَ بِنُورِهَا.
وَإِذَا النُّجُوم اِنْكَدَرَتْ اِنْقَضَّتْ وَتَسَاقَطَتْ عَلَى الْأَرْض
وَإِذَا الْجِبَال سُيِّرَتْ ذُهِبَ بِهَا عَنْ وَجْه الْأَرْض فَصَارَتْ هَبَاء مُنْبَثًّا
وَإِذَا الْعِشَار النُّوق الْحَوَامِل عُطِّلَتْ تُرِكَتْ بِلَا رَاعٍ أَوْ بِلَا حَلْب لِمَا دَهَاهُمْ مِنْ الْأَمْر وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَال أَعْجَب إِلَيْهِمْ منها
وَإِذَا الْوُحُوش حُشِرَتْ جُمِعَتْ بَعْد الْبَعْث لِيَقْتَصّ لِبَعْضٍ مِنْ بَعْض ثُمَّ تَصِير تُرَابًا
وَإِذَا الْبِحَار سُجِّرَتْ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد أُوقِدَتْ فَصَارَتْ نارا
وإذا النفوس زوجت قرنت بأجسادها
شرح:
وإذا النفوس زوجت قرنت بأجسادها يعني بعد البعث تعاد الأرواح إلى أجسادها والقول الآخر يعني قرن كل نظير مع نظيره كل شكل مع شكله فالأبرار مع الأبرار والفجار مع الفجار.
متن:
وإذا الموؤودة الْجَارِيَة تُدْفَن حَيَّة خَوْف الْعَار وَالْحَاجَة سُئِلَتْ تبكيتا لقاتلها
بِأَيِّ ذَنْب قُتِلَتْ وَقُرِئَ بِكَسْرِ التَّاء حِكَايَة لِمَا تُخَاطَب بِهِ وَجَوَابهَا أَنْ تَقُول قُتِلْت بلا ذنب
شرح:
قرئت يعني في قراءة وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ قراءة حفص بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ، نعم، وهي في ابن كثير {قتلت}.
متن:
وَإِذَا الصُّحُف صُحُف الْأَعْمَال نُشِرَتْ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد فتحت وبسطت
وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ نُزِعَتْ عَنْ أَمَاكِنهَا كَمَا يُنْزَع الْجِلْد عَنْ الشَّاة
وَإِذَا الْجَحِيم النَّار سُعِّرَتْ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد أُجِّجَتْ
وَإِذَا الْجَنَّة أُزْلِفَتْ قُرِّبَتْ لِأَهْلِهَا لِيَدْخُلُوهَا وَجَوَاب إِذَا أَوَّل السُّورَة وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا
شرح:
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ جوابها عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ أي إذا وقعت هذه الأمور عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ ما عملته من خير وشر.
متن:
عَلِمَتْ نَفْس كُلّ نَفْس وَقْت هَذِهِ الْمَذْكُورَات وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة مَا أَحْضَرَتْ مِنْ خَيْر وشر
فَلَا أُقْسِمُ لا زائدة بِالْخُنَّسِ
الْجَوَارِ الْكُنَّسِ هِيَ النُّجُوم الْخَمْسَة زُحَل وَالْمُشْتَرَى وَالْمَرِّيخ وَالزُّهَرَة وَعُطَارِد
شرح:
هنا اقصرها على خمسة وقيل النجوم الكواكب السيارة النجوم السبعة.
متن:
شرح:
فسر تكنس ترجع إلى مجراها وراءها، وتكنس تستتر لأن الكنس الاستتار، والخنوس أن ترجع إلى مجراها، لأن لها سيران سير مع الكواكب الأخرى وسير خاص.
متن:
شرح:
لأنه يستعمل في الشيء وضده يقال عسعس إذا أقبل ويقال عسعس إذا أدبر.
متن:
وَالصُّبْح إِذَا تَنَفَّسَ اِمْتَدَّ حَتَّى يَصِير نَهَارًا بينا
إِنَّهُ أَيْ الْقُرْآن لَقَوْل رَسُول كَرِيم عَلَى اللَّه تَعَالَى وَهُوَ جِبْرِيل أُضِيفَ إِلَيْهِ لِنُزُولِهِ به
شرح:
هذا هو الجواب جواب القسم أقسم بثلاثة أشياء الخنس أي النجوم والليل والصبح وجواب القسم أن هذا القرآن لَقَوْل رَسُول كَرِيم جبريل بلغه عن الله، نعم.
متن:
ذِي قُوَّة أَيْ شَدِيد الْقُوَى عِنْد ذِي الْعَرْش أَيْ اللَّه تَعَالَى مَكِين ذِي مَكَانَة مُتَعَلِّق بِهِ عِنْد
مُطَاع ثَمَّ تُطِيعهُ الْمَلَائِكَة فِي السَّمَاوَات أَمِينٍ على الوحي
شرح:
هذه أوصاف جبريل هذه مزيا عظيمة ولهذا فهو أفضل الملائكة عليه الصلاة والسلام وهو ملك الوحي، وصفه بأنه كريم وذي قوة عند الله وأنه عنده مكانة عند الله وأنه مطاع عند الملائكة وأنه أمين على الوحي أوصاف عظيمة.
متن:
شرح:
هذا وصف النبي ﷺ لما زكي جبريل زكى نبيه الكريم ﷺ.
متن:
وَلَقَدْ رَآهُ رَأَى مُحَمَّد ﷺ جِبْرِيل عَلَى صُورَته الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا بِالْأُفُقِ الْمُبِين الْبَيِّن وَهُوَ الْأَعْلَى بِنَاحِيَةِ الْمَشْرِق
وَمَا هُوَ مُحَمَّد ﷺ عَلَى الْغَيْب مَا غَابَ مِنْ الْوَحْي وَخَبَر السماء بظنين أَيْ بِمُتَّهَمٍ وَفِي قِرَاءَة بِالضَّادِ أَيْ بِبَخِيلٍ فَيَنْتَقِص شَيْئًا مِنْهُ
شرح:
وفي قراءة بالضاد يعني بِظنِينٍ يعني متهم وفي قراءة بِضَنِينٍ بالضاد هذه أخت الصاد تكون أفخم من حافة اللسان والظاء التي لها ألف من طرف اللسان بِظنِينٍ، إذا فيه قراءةبِظنِينٍوقراءة بِضَنِينٍ ، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ تكون أفخم وليس الضاد كما ينطقها بعض الناس بينطقها كأنها طاء ولا الطالين، ولا الظالين، كما بنينا في قراءة حفص لأن كثير من الناس يغلط في هذه، الضنين هو المتهم، يعني ليس بمتهم ولا بخيل.
متن:
وَمَا هُوَ أَيْ الْقُرْآن بِقَوْلِ شَيْطَان مُسْتَرِق السَّمْع رَجِيم مَرْجُوم
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ فَبِأَيِّ طَرِيق تَسْلُكُونَ فِي إِنْكَاركُمْ الْقُرْآن وَإِعْرَاضكُمْ عَنْهُ
شرح:
يعني أن الله تعالى زكى جبريل ثم زكى محمد ﷺ ثم زكي القرآن.
متن:
إِنْ مَا هُوَ إِلَّا ذِكْر عِظَة لِلْعَالَمِينَ الإنس والجن
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ بَدَل مِنْ الْعَالَمِينَ بِإِعَادَةِ الجار أَنْ يَسْتَقِيمَ باتباع الحق
شرح:
بين الله أن هذا القرآن موعظة للجن والإنس لكن لا ينتفع به كل أحد ما ينتفع إلا من شاء الله استقامته، وكتب له السعادة، كما قال تعالى وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ليس لكل أحد، من شاء الله هدايته على ما تقضي حكمته.
متن:
شرح:
هذه تدل على مشيئة المخلوق تابعة لمشيئة الله لا تشاء الاستقامة إلا إذا شاء الله ذلك فمشيئتكم تابعة لمشيئة الله، فيه رد كما سبق على الجبرية وعلى القدرية.
.......................................................................
قال الشيخ السعدي رحمنا الله تعالى وإياه في تفسير سورة الانفطار وهي مكية.
متن:
أي: إذا انشقت السماء وانفطرت، وانتثرت نجومها، وزال جمالها، وفجرت البحار فصارت بحرا واحدا، وبعثرت القبور بأن أخرجت ما فيها من الأموات، وحشروا للموقف بين يدي الله للجزاء على الأعمال. فحينئذ ينكشف الغطاء، ويزول ما كان خفيا، وتعلم كل نفس ما معها من الأرباح والخسران، هنالك يعض الظالم على يديه إذا رأى أعماله باطلة، وميزانه قد خف، والمظالم قد تداعت إليه، والسيئات قد حضرت لديه، وأيقن بالشقاء الأبدي والعذاب السرمدي.
و [هنالك] يفوز المتقون المقدمون لصالح الأعمال بالفوز العظيم، والنعيم المقيم والسلامة من عذاب الجحيم.
شرح:
هذه سورة الانفطار سميت الانفطار لقوله تعالى إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ الانفطار هو الانشقاق، الله تعالى افتتح هذه السورة بشرط وجوابه، وقال إذا حصلت هذه الأمور فإنه يحصل هذا الأمر إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ. إذا حصلت هذه الأمور يحصل الجواب الشرط الأمر الأول تنفطر السماء والانفطار هو الانشقاق تشقق تصير وردة كالدهان كما في آية ثم تشقق، وتنزل الملائكة يصفون كل سماء تنشق وينزل ملائكة يصفون إلى السماء الدنيا ثم السماء الثانية وهكذا.
وفي القيامة تزول السماوات ما يبقى الإ العرش والأرض من العرش إلى الفرش والمسافة خمسين ألف سنة بين كل سماء وسماء خمسين ألف سنة، فإذا جمعت ست سنوات من العرش إلى الفرش خمسين ألف سنة فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ إذا انفطرت السماء وانشقت وتساقطت النجوم وتناثرت من شدة الهول وتفجرت البحار تتفجر وتكون بحرًا واحدًا ثم تسجر مرة أخرى فتكون جزءًا من النار في الأول تكون بحرًا واحدًا ثم تسجر تضرم نار وتكون نارًا وتكون جزءًا من النار وأهل القبور تبعثر يعني يخرج كما فيها من الأموات وكنوز أهلها حينئذ تعلم كل نفس ما قدمت وأخرت من الأعمال حينئذ ينكشف الغطاء ويظهر الربح والخسران وتعلم كل نفس ما قدمت من خير أو شر فيفوز المتقون ويهلك الظالمون.
قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى:
متن:
يقول تعالى معاتبا للإنسان المقصر في حق ربه، المتجرئ على مساخطه: يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ أتهاونا منك في حقوقه؟ أم احتقارا منك لعذابه؟ أم عدم إيمان منك بجزائه؟
أليس هو الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ في أحسن تقويم؟ فَعَدَلَكَ وركبك تركيبا قويما معتدلا في أحسن الأشكال، وأجمل الهيئات، فهل يليق بك أن تكفر نعمة المنعم، أو تجحد إحسان المحسن؟
إن هذا إلا من جهلك وظلمك وعنادك وغشمك، فاحمد الله أن لم يجعل صورتك صورة كلب أو حمار، أو نحوهما من الحيوانات؛ فلهذا قال تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ.
[وقوله:] كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ أي: مع هذا الوعظ والتذكير، لا تزالون مستمرين على التكذيب بالجزاء.
وأنتم لا بد أن تحاسبوا على ما عملتم، وقد أقام الله عليكم ملائكة كراما يكتبون أقوالكم وأفعالكم ويعلمون أفعالكم، ودخل في هذا أفعال القلوب، وأفعال الجوارح، فاللائق بكم أن تكرموهم وتجلوهم وتحترموهم.
شرح:
هذه الآيات خاطب الله بها الإنسان المقصر في حق ربه وفي حق العباد الذي عنده جرئه على ما يسخط الله خاطبه الله تذكرة له قال يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ما الذي غرك بربك الكريم حتى عصيته وتهاونت بحقه هل هذا تهاون منك أو احتقار أم ضعف إيمان.
ثم بين النعم العظيمة التي وهبها الله تعالى لهذا الإنسان وقال الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ وجدك من عدم وسواك في أحسن صورة، لم نجعلك كصورة الحيوانات التي رأسها في الأرض بل جعل رأسك مرفوع إلى السماء وسواك في أحسن تقويم كما قال تعالى لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ فعدلك وركبك تركيبًا قويمًا معتدلًا في أحسن الأشكال.
فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ يعني ركبك فيما شاء من الصور التي تليق بك والله تعالى هو المصور من أسماءه المصور حيث طبع صور ملايين الملايين من المخلوقات ولا تشبه صورة الأخرى ملايين البشر من الأدمين حتى يختلط الإنسان بالإنسان بحيث لا يميز بين هذا وهذا لو حصل ذلك لحصل ضرر عظيم على الناس ولكن الله تعالى المصور طبع كل إنسان على صورة لكن فيه تمييز حتى إن التوأمان والأخوان في بطن واحد يشتبهان كثيرًا لكن بينهما فروق لكن البعيد عنهما يشتبهان عليه في أول الأمر كما ذكر رحمه الله أن من حكمة الله أن ميز وصور الإنسان جعله في صور طبع هؤلاء البشر على صور كل واحد له صورة بحيث لا يمكن أن يختلفا ليلتبس هذا بهذا ولو التبس هذا بهذا لحصل ضرر على الناس صار الناس لا يميز بين أبيه وبين أخيه وبين أخته وبين أمه وبين زوجته ولذلك قال: ترى سرب القطا في البر، سرب كامل كلهم مشتبه كل واحد يشبه الثاني بحيث لا تستطيع أن تميز بينها، لأنهم حيوانات لكن الله الآدميين ميز بينهم. فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ هذا من امتنان الله على العبد.
ثم قال كَلا هذا زجر يعني مع هذا الوعظ والتذكير هل تزال مستمر أيها الإنسان على التكذيب بالبعث الجزاء كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ يعني كيف تكذب بالدين ولا تتأمل حالك وخلقتك وفضل الله عليك وإحسانه إليك كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ كيف تكذب والله تعالى جعل على الناس حافظين ووصفهم بأنهم كرام وأنهم يكتبون وأنهم يعلمون ما تفعلون أعطاهم الله القدرة على المعرفة هذا الفعل قال يكتب الملك ملك عن اليمين يكتب الحسنات وملك عن الشمال يكتب السيئات كما قال تعالى عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ يكتب، ماذا يكتب الملك؟ يكتب القول ويكتب الفعل والفعل يشمل عمل القلب، جعله الله علامة حتى يعلم ما في القلب من النية، هذا يوجب للعبد مراقبة الرب إذا علم أنه أنه غير مهمل وأنه موكل بالملائكة والله تعالى فوق الجميع يراقب.
قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى:
متن:
المراد بالأبرار، القائمون بحقوق الله وحقوق عباده، الملازمون للبر، في أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فهؤلاء جزاؤهم النعيم في القلب والروح والبدن، في دار الدنيا [وفي دار] البرزخ و [في] دار القرار.
وَإِنَّ الْفُجَّارَ الذين قصروا في حقوق الله وحقوق عباده، الذين فجرت قلوبهم ففجرت أعمالهم لَفِي جَحِيمٍ أي: عذاب أليم، في دار الدنيا و [دار] البرزخ وفي دار القرار.
يَصْلَوْنَهَا ويعذبون [بها] أشد العذاب يَوْمَ الدِّينِ أي: يوم الجزاء على الأعمال.
وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ أي: بل هم ملازمون لها، لا يخرجون منها.
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ففي هذا تهويل لذلك اليوم الشديد الذي يحير الأذهان.
يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا ولو كانت لها قريبة [أو حبيبة] مصافية، فكل مشتغل بنفسه لا يطلب الفكاك لغيرها. وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ فهو الذي يفصل بين العباد، ويأخذ للمظلوم حقه من ظالمه [والله أعلم]
شرح:
في هذه الآيات بين الله تعالى حال الأبرار وحال الفجار وأعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء وجزاء هؤلاء وجزاء هؤلاء يجمع المؤمن بين الترغيب والترهيب حتى يسير إلى الله بين الرجاء والرهبة والخوف ويخاف إذا علم أوصاف الفجار ومآلهم وأن مآلهم الجحيم ويرجو إذا علم أوصاف الأبرار الجنات قال إِنَّ الأبْرَارَ سموا أبرارًا لأنهم برت قلوبهم وأعمالهم فقاموا بحقوق الله وحقوق العباد لَفِي نَعِيمٍ نعيم القلب والبدن والروح في الدنيا عند لذة العبادة تلذذوا بطاعة الله وفي البرزخ كذلك تنعم الروح والبدن وإن كان الأحكام على الروح وفي يوم القيامة.
وَإِنَّ الْفُجَّارَ الذين فجرت قلوبهم وأعمالهم لفي جحيم، في الدنيا لا يطمئنون ولا يرتاحون ولو كانوا ملوكًا تجدهم ملوك وعندهم الدنيا في أيديهم ومع ذلك عندهم قلق ولهذا يقبلون على الانتحار في الدول الغربية ودول الكفرة وعندهم أموال عظيمة وعندهم اختراعات عظيمة ومع ذلك ينتحرون ما عندهم استقرار نفسي ولا طمأنينة ولا راحة نسأل الله السلامة، حتى ملوك الكفرة ملك أمريكا يسمى الآن بوش هذا هل هو مرتاح؟ ما هو مرتاح في قلق وفي هم وفي عذاب وإن كان ملك الدولة هذه التي أقوى الدول في زماننا ولكنه ليس مرتاح بل عنده قلق وليس عنده طمأنينة ولا راحة، بسبب ما عليه من الكفر والعياذ بالله.
يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ يوم القيامة وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ لا يغيبون عنها فهي ملازمة لهم.
ثم فخم هذا اليوم قال وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ما أدراك ما أعلمك أنه يوم عظيم يوم له شأنه العظيم في هذا اليوم لا يستطيع أحد أن يتكلم إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابً، في هذا اليوم لا يملك أحد لأحد شيئًا أبدًا ولا ينفع أحد أحد فالأمر والتصرف كل بيدي الله يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا نفس نكرة أي نفس وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ هذا فيه الرد على من غلا في الرسول وعبده من دون الله كما قال (.....) نسأل الله السلامة والعافية نعوذ بالله من الغلو.
والله تعالى يقول يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا هل تدخل في النفس محمد؟ بل تدخل أليست نفس؟ كل نفس، نفس الأنبياء ونفس الادميين يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ، النبي ﷺ يقول لأخص الناس به يا عم يا عمته حتى قال لأعز الناس عليه يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا المال أعطيك، ومع ذلك هؤلاء الذين يغالون في النبي ويعبدونه ويكون أنه ملك الدنيا والآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.
قال الشيخ جلال الدين المحلي رحمه الله تعالى في تفسير سورة الانفطار:
متن:
مكية وآياتها تسعة عشر.
إِذَا السَّمَاء اِنْفَطَرَتْ اِنْشَقَّتْ
وَإِذَا الْكَوَاكِب اِنْتَثَرَتْ اِنْقَضَّتْ وَتَسَاقَطَتْ
وَإِذَا الْبِحَار فُجِّرَتْ فُتِحَ بَعْضهَا فِي بَعْض فَصَارَتْ بَحْرًا وَاحِدًا وَاخْتَلَطَ الْعَذْب بِالْمِلْحِ
وَإِذَا الْقُبُور بُعْثِرَتْ قُلِبَ تُرَابهَا وَبُعِثَ مَوْتَاهَا وَجَوَاب إِذَا وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا
عَلِمَتْ نَفْس أَيْ كُلّ نَفْس وَقْت هَذِهِ الْمَذْكُورَات وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة مَا قَدَّمَتْ مِنْ الْأَعْمَال و مَا أَخَّرَتْ مِنْهَا فَلَمْ تَعْمَلهُ
شرح:
إذا حصلت هذه الأمور حصل العلم لكل نفس يعني إذا انفطرت السماء وانقضت الكواكب تناثرت وسجرت البحار وبعثرت القبور عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ من العمل.
متن:
شرح:
هنا وصفه بالكافر لقوله بعد ذلك كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ولهذا وصفه بالكافر.
متن:
شرح:
قراءتين قراءة فَعَدَلَك قراءة {فعدَّلك} قراءة حفص فَعَدَلَك ، نعم.
متن:
شرح:
سبحان الخالق متناسب الخلقة في طوله ويديه ورجليه متناسب لو كانت يد طويلة ثلاثة أمتار ويد نصف متر ما كان هناك تناسب للخلقة وكذلك الرجل وكذلك العينين والأذنين سبحان الخالق.
متن:
فِي أَيّ صُورَة مَا صِلَة شَاءَ رَكَّبَك
كَلَّا رَدْع عَنْ الِاغْتِرَار بِكَرَمِ اللَّه تَعَالَى بَلْ تُكَذِّبُونَ أَيْ كُفَّار مَكَّة بِالدِّينِ بِالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَال
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ مِنْ الْمَلَائِكَة لِأَعْمَالِكُمْ
كِرَامًا عَلَى اللَّه كَاتِبِينَ لَهَا
يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ جَمِيعه
شرح:
هذا من كرم الله علينا الحفظة والكتبة كل إنسان عليه أربه ملائكة بالليل وأربعة ملائكة بالنهار يتعاقبان حافظان عن يمينه وأمامه وخلفه والثاني كاتبان عن اليمين وعن الشمال، في الليل أربعة وفي النهار أربعة ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر، يصعد هؤلاء وينزل هؤلاء، نعم يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ: مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ.
متن:
إِنَّ الْأَبْرَار الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ فِي إِيمَانهمْ لَفِي نعيم جنة
وَإِنَّ الْفُجَّار الْكُفَّار لَفِي جَحِيم نَار مُحْرِقَة
يَصْلَوْنَهَا يَدْخُلُونَهَا وَيُقَاسُونَ حَرّهَا يَوْم الدِّين الْجَزَاء
وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ بِمُخْرَجِينَ
وَمَا أَدْرَاك أَعْلَمَك مَا يَوْم الدِّين
ثُمَّ مَا أَدْرَاك مَا يَوْم الدِّين تَعْظِيم لِشَأْنِهِ
يَوْم بِالرَّفْعِ أَيْ هُوَ يَوْم لَا تَمْلِك نَفْس لِنَفْسٍ شَيْئًا مِنْ الْمَنْفَعَة وَالْأَمْر يَوْمئِذٍ لِلَّهِ لَا أَمْر لِغَيْرِهِ فِيهِ أَيْ لَمْ يُمَكِّن أَحَدًا مِنْ التَّوَسُّط فِيهِ بِخِلَافِ الدُّنْيَا
............................................................
قال الشيخ السعدي رحمنا الله تعالى وإياه في تفسير سورة المطففين.
متن:
وَيْلٌ كلمة عذاب، ووعيد لِلْمُطَفِّفِينَ
وفسر الله المطففين بقوله الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ أي: أخذوا منهم وفاء عما ثبت لهم قبلهم يَسْتَوْفُونَ يستوفونه كاملا من غير نقص.
وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ أي: إذا أعطوا الناس حقهم، الذي للناس عليهم بكيل أو وزن، يُخْسِرُونَ أي: ينقصونهم ذلك، إما بمكيال وميزان ناقصين، أو بعدم ملء المكيال والميزان، أو نحو ذلك. فهذا سرقة [لأموال] الناس، وعدم إنصاف [لهم] منهم.
وإذا كان هذا الوعيد على الذين يبخسون الناس بالمكيال والميزان، فالذي يأخذ أموالهم قهرًا أو سرقة، أولى بهذا الوعيد من المطففين.
ودلت الآية الكريمة، على أن الإنسان كما يأخذ من الناس الذي له، يجب عليه أن يعطيهم كل ما لهم من الأموال والمعاملات، بل يدخل في [عموم هذا] الحجج والمقالات، فإنه كما أن المتناظرين قد جرت العادة أن كل واحد [منهما] يحرص على ماله من الحجج، فيجب عليه أيضًا أن يبين ما لخصمه من الحجج [التي لا يعلمها] ، وأن ينظر في أدلة خصمه كما ينظر في أدلته هو، وفي هذا الموضع يعرف إنصاف الإنسان من تعصبه واعتسافه، وتواضعه من كبره، وعقله من سفهه، نسأل الله التوفيق لكل خير.
ثم توعد تعالى المطففين، وتعجب من حالهم وإقامتهم على ما هم عليه، فقال: أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فالذي جرأهم على التطفيف عدم إيمانهم باليوم الآخر، وإلا فلو آمنوا به، وعرفوا أنهم يقومون بين يدى الله، يحاسبهم على القليل والكثير، لأقلعوا عن ذلك وتابوا منه.
شرح:
هذه السورة تسمى سورة المطففين لأن الآية الأوى فيها وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فالله تعالى افتتحها بقوله وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ والويل شدة العذاب والهلاك على الصحيح، وقيل واد في جهنم والصحيح أن الويل شدة العذاب والهلاك.
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الذين ينقصون في المكيال والميزان فسر المطففين فقال الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ هذا هم المطفف، يكيلون بمكيالين إذا كان الكيل لهم يستوفونه كاملًا وإذا كان عليهم يعطون أنفسهم فهؤلاء لهم مكيالان، المكيال مثلًا إذا كان للغير فكان وإذا أراد ان يشترى لنفسه يوف لنفسه يأخذه كاملًا، وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ كاملًا غير ناقص وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ أعطوا الناس يُخْسِرُونَ ينقصون.
يقول المؤلف رحمه الله: إذا كان هذا الوعيد على الذين يبخسون الناس في المكيال والميزان، الذي يبخس ما يدري يبخس ولا يعلم فالذي يسرق أموال الناس أعظم وأعظم الذي يسرق أموال الناس بدون سبب هذا في سبب يبيع ويشتري يتأول أو يتساهل لكن يسرقها ليس له شبهه والذي يغصب، الغصب أشد وأشد، وإذا كان هذا في الدين فأمر الدين أعظم وأعظم، الذي ينقص صلاته وينقرها نقر الغراب هذا مطفف، كما قال بعض السلف قال مالك: يقال لكل شيء مكيال وميزان ووفاء وإذا كان في مكيال الدنيا توعد الله صاحبها بهذا الوعيد فكيف بمكيال الدين الذي ينقر الصلاة وينقرها نقر الغراب فقد طفف، فالوعيد عليه أعظم وأشد.
يقول الشيخ: ودلت الآية على أن الإنسان كما يأخذ من الناس الذي له، يجب عليه أن يعطيهم الذي عليه، توعد الله المطففين بأي شيء؟ قال أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ألا يتذكرون هذا اليوم العظيم، حينما يقفون بين يدي الله للحساب حينما يبعثون في هذا اليوم العظيم الذي يقف الناس أمام رب العالمين للجزاء والحساب، لو تذكروا ذلك واستحضروا هذا الأمر العظيم لما تجرأوا على التطفيف.
قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى
متن:
يقول تعالى: كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ [وهذا شامل لكل فاجر] من أنواع الكفرة والمنافقين، والفاسقين لَفِي سِجِّينٍ
ثم فسر ذلك بقوله: وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ أي: كتاب مذكور فيه أعمالهم الخبيثة، والسجين: المحل الضيق الضنك، وسِجِّينٍ ضد عِلِّيِّينَ الذي هو محل كتاب الأبرار، كما سيأتي.
وقد قيل: إن سِجِّينٍ هو أسفل الأرض السابعة، مأوى الفجار ومستقرهم في معادهم.
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ثم بين المكذبين بأنهم الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أي: يوم الجزاء، يوم يدين الله فيه الناس بأعمالهم.
وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ على محارم الله، متعد من الحلال إلى الحرام.
أَثِيمٍ أي كثير الإثم، فهذا الذي يحمله عدوانه على التكذيب، ويحمله [عدوانه على التكذيب ويوجب له] كبره رد الحق، ولهذا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا الدالة على الحق، و [على] صدق ما جاءت به رسله، كذبها وعاندها، و قَالَ هذه أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ أي: من ترهات المتقدمين، وأخبار الأمم الغابرين، ليس من عند الله تكبرا وعنادا.
وأما من أنصف، وكان مقصوده الحق المبين، فإنه لا يكذب بيوم الدين، لأن الله قد أقام عليه من الأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة، ما يجعله حق اليقين، وصار لقلوبهم مثل الشمس للأبصار، بخلاف من ران على قلبه كسبه، وغطته معاصيه، فإنه محجوب عن الحق، ولهذا جوزي على ذلك، بأن حجب عن الله، كما حجب قلبه في الدنيا عن آيات الله، ثُمَّ إِنَّهُمْ مع هذه العقوبة البليغة لَصَالُوا الْجَحِيمِ ثم يقال لهم توبيخا وتقريعًا: هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فذكر لهم ثلاثة أنواع من العذاب: عذاب الجحيم، وعذاب التوبيخ، واللوم.
وعذاب الحجاب من رب العالمين، المتضمن لسخطه وغضبه عليهم، وهو أعظم عليهم من عذاب النار، ودل مفهوم الآية، على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وفي الجنة، ويتلذذون بالنظر إليه أعظم من سائر اللذات، ويبتهجون بخطابه، ويفرحون بقربه، كما ذكر الله ذلك في عدة آيات من القرآن، وتواتر فيه النقل عن رسول الله.
وفي هذه الآيات، التحذير من الذنوب، فإنها ترين على القلب وتغطيه شيئا فشيئا، حتى ينطمس نوره، وتموت بصيرته، فتنقلب عليه الحقائق، فيرى الباطل حقًا، والحق باطلا وهذا من بعض عقوبات الذنوب.
شرح:
في هذه الآيات الكريمات بين الله تعالى أعمال الفجار واحوالهم وجزاءهم قال كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ والفجور يشمل المعاصي والكفر والمراد هنا الكفرة والمنافقين والفساق الذين فسقهم فسق أكبر قال كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وفسر السجين قال وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ مرقوم يعني مكتوب فيه أعمال الخبثاء وفي محل ضيق ضنك يكتب فيه أعمال الخبثاء والفساق والكفرة.
وأما المؤمنون كتابهم في عليين في أعلى عليين وهؤلاء في أسفل سافلين نعوذ بالله في مكان ضيق، وسجين ضد عليين، ويقال إن سجين في الأرض السابعة السفلى مأوى الفجار مستقرهم ولهذا قال الله وَيْلٌ والويل شدة العذاب والهلاك للمكذبين بالجزاء والبعث والحساب لهم الويل ولهذا قال الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وهو يوم القيامة والدين هو يوم الحساب ومن كذب بيوم الدين فهو كافر، ولهذا كان كتابه في أسفل سافلين.
ثم قال وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ما يكذب بيوم القيامة إلا كل متجاوز الحد من الحلال إلى الحرام وهو كثير الإثم هذا الذي يحمل على عدوانه وتكذيبه ويحمل على التكذيب وهو له رد الحق بسبب عدوانه وانطباع قلبه على الإثم، ولهذا فإنه يرد الحق ويكذب بالقرآن.
قال إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِين قال حكايات الأولين هذه ترهات وأباطيل إذا تليت عليهم الآيات الدالة على الحق وعلى نعم الله كذبها وعاندها وقال: أساطير، جمع أسطورة وكذب وقصص وحكايات الأولين، وهذا من التكبر والعناد إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِين.
قال الله كلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ران على قلوبهم من الحسرة من الرين بسبب كسبهم للأعمال الخبيثة، والرين غطاء معنوي دليل على غطاءهم على الحق والرين هو الغيم والقفل كلها حجب وهو أخذ من بعض.
كلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ فهم محجبون يوم القيامة عن رؤية الله لأنهم في الدنيا حجبت قلوبهم عن الحق والجزاء من جنس العمل فلما حجبوا عن الحق في الدنيا فلم يقبلوا حجبت قلوبهم عن الإيمان وحجبت ألسنتهم عن قول الحق وحجبت جوارحهم عن الأعمال الصالحة حجبوا يوم القيامة عن رؤية الله، وهذا من أعظم العذاب أنهم يحجبون كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ.
ومفهوم الآية عند المؤمنين ما يحجبون بل يرون ربهم يوم القيامة كما دلت عليه الآيات الكريمة وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ والأحاديث متواترة قال النبي ﷺ الشَّمسَ صَحوًا... يرون ربهم يوم القيامة في موقف القيامة وفي الجنة نسأل الله الجنة.
وقد استدل الأمام الشافعي رحمه الله في هذه الآيات الكريمة على إثبات رؤية المؤمنين بربهم يوم القيامة كلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ قال لما حجب هؤلاء في السخط دل على حجبهم عن ربهم.
ثم بعد هذا الحجب الذي هو من أعظم العذاب أيضًا يصلون الجحيم وهي النار المحرقة ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ هذا الذي كذبتموه في الدنيا ما في حساب ما فيه جزاء ما فيه عذاب قاسوا توبيخ أولًا عذاب يحجبون عن رؤية الله وهذا من أعظم العقوبة، ثم يصلون الجحيم ثم يوبخون يقال ذوقوا هذا العذاب كما قال تعالى ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ.
قال سبحان الله هذا الذي تكذبون كما قال هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ هذه الآية تحذير من الرين الذي يطرأ على القلوب والتي تمنع قبول الحق وتعمي القلب إذا كثرت ولهذا حث الإنسان على أن يبتعد عن الأمور التي تكون سببًا في حجب الحق عنه والبعد عن المعاصي وأهلها وأهل السوء وقول الناس السوء نقف على هذه الآيات.
قال الشيخ جلال الدين المحلي رحمه الله تعالى في تفسير سورة المطففين
متن:
مكية أو مدنية آياتها ست وثلاثون بسم الله الرحمن الرحيم
وَيْل كَلِمَة عَذَاب أَوْ وَادٍ فِي جَهَنَّم لِلْمُطَفِّفِينَ
شرح:
سبق أن القول بأنه واد في جهنم قول ضعيف والصواب كلمة عذاب شدة العذاب والهلاك.
متن:
الَّذِينَ إِذَا اِكْتَالُوا عَلَى أَيْ مِنْ النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ الكيل
وَإِذَا كَالُوهُمْ أَيْ كَالُوا لَهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ أَيْ وَزَنُوا لَهُمْ يُخْسِرُونَ يُنْقِصُونَ الْكَيْل أَوْ الوزن
شرح:
الكيل وافي إذا كان الحق لهم، والمكيال ناقص إذا كان عليهم، نعم.
متن:
أَلَا اِسْتِفْهَام تَوْبِيخ يَظُنّ يَتَيَقَّن أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ أَيْ فِيهِ وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة
يَوْم بَدَل مِنْ مَحَلّ لِيَوْمٍ فَنَاصِبه مَبْعُوثُونَ يَقُوم النَّاسُ مِنْ قُبُورهمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ الْخَلَائِق لِأَجْلِ أَمْره وَحِسَابه وَجَزَائِهِ
كَلَّا حَقًّا إِنَّ كِتَاب الْفُجَّارِ أَيْ كِتَاب أَعْمَال الْكُفَّار لَفِي سِجِّين قِيلَ هُوَ كِتَاب جَامِع لِأَعْمَالِ الشَّيَاطِين وَالْكَفَرَة وَقِيلَ هُوَ مَكَان أَسْفَل الْأَرْض السَّابِعَة وَهُوَ مَحَلّ إِبْلِيس وَجُنُوده
شرح:
نسأل الله العافية، هذا كتاب يكتب فيه أعمال الكفرة في سجين قيل إنه في مكان ضيق في الأرض السابعة السفلى جامع لأعمال الكفرة فهذا كتاب خاص بهؤلاء الكفرة والفسقة والله أعلم بمكانه على القول بأنه أسفل لأنهم أسفل وأرواحهم في النار، نسأل الله العافية.
متن:
وَمَا أَدْرَاك مَا سِجِّين مَا كِتَاب سِجِّين
كِتَابٌ مَرْقُومٌ مختوم
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّين الْجَزَاء بَدَل أَوْ بيان للمكذبين
وَمَا يُكَذِّب بِهِ إِلَّا كُلّ مُعْتَدٍ مُتَجَاوِز الْحَدّ أَثِيم صِيغَة مُبَالَغَة
إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتنَا الْقُرْآن قَالَ أَسَاطِير الْأَوَّلِينَ الْحِكَايَات الَّتِي سُطِّرَتْ قَدِيمًا جَمَعَ أُسْطُورَة بِالضَّمِّ أَوْ إِسْطَارَة بِالْكَسْرِ
شرح:
يعني حكايات الأولين كما قلت أي ليس لها مستند نسأل الله العافية.
متن:
كَلَّا رَدْع وَزَجْر لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ بَلْ رَانَ غَلَبَ عَلَى قُلُوبهمْ فَغَشِيَهَا مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مِنْ الْمَعَاصِي فَهُوَ كَالصَّدَأِ
كَلَّا حَقًّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبّهمْ يَوْمئِذٍ يَوْم القيامة لَمَحْجُوبُونَ فلا يرونه
شرح:
هذه عقوبة عظيمة، نسأل الله العافية.
متن:
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ لَدَاخِلُو النَّار الْمُحْرِقَة
ثُمَّ يُقَال لَهُمْ هَذَا أَيْ الْعَذَاب الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
وفق الله الجميع لما يرضى وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.