بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام عَلَى نَبِيّنَا محمدٍ وَعَلَى آله وصحبه أجمعين؛ أَمَّا بَعْد: ...
(المتن)
قَالَ الشيخ عبد الرحمن بْن حسن رحمه الله تعالى في قرة عيون الموحدين:
قوله "باب من جحد شيئًا من الأسماء والصفات وقول الله تعالى: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [الرعد/30]. الآية " سبب نزول الآية معلوم، وهو أن قريشا جحدوا اسم الرحمن عنادًا.
قال تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء/110].
(الشرح)
كما قَالَ الحافظ ، قَالَ: الظاهر أَنَّهُمْ جحدوا أسماء الرب تعنتًا وعنادًا؛ لِأَنَّهُ وجد في أشعارهم اسم الرحمن، قول الشاعر: وما شاء الرحمن يعقد ويطلق، هم ما أنكروا الأسماء والصفات انما أنكروا إخلاص الدين لله إخلاص العبادة توحيد الإلوهية أن يكون لله.
(المتن)
فالرحمن اسمه وصفته، فالرحمة وصفه القائم به، فإذا كان المشركون جحدوا اسمًا من أسمائه الذي دل على كماله تعالى فجحود معناه كجحود لفظه، فإن الجهمية يزعمون أنها لا تدل على صفة قائمة بالله تعالى، وتبعهم على ذلك طوائف من المعتزلة والأشاعرة، فلهذا كفرهم كثير من أهل السنة.
قال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى -:
وَلَقَدْ تَقَلَّدَ كُفْرَهم خَمْسُونَ فِي | عَشْرٍ مِنَ العُلماءِ فِي البُلْدَانِ |
(الشرح)
خمسون في عشرة خمسمائة، كفرهم خمسمائة عالم.
الطالب: (.....)؟.
الشيخ: خمسمائة عالم الآن ما يكفون! الباقي قَدْ يكون بَعْضُهُمْ لا يرى.
(المتن)
وَالَّلالَكَائيُّ الإمَامُ حَكَاهُ عَنْـ | ـهُم بَلْ حَكَاهُ قَبْلَهُ الطَّبَرَانِي |
فإن هؤلاء الجهمية ومن وافقهم من أهل الكلام على التعطيل جحدوا ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله ﷺ من صفات كماله ونعوت جلاله، وبنوا هذا التعطيل على أصل فاسد أصلوه من عند أنفسهم، ولم يفهموا من صفات الله إلا ما فهموه من خصائص صفات المخلوقين، فشبهوا الله في ابتداء آرائهم الفاسدة بخلقه ثم عطلوه من صفات كماله، وشبهوه بالناقصات والجمادات والمعدومات، فشبهوا أولًا، وعطلوا ثانيًا، وشبهوا ثالثًا بكل ناقص أو معدوم، فتركوا ما دل عليه صريح الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة من إثبات ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله ﷺ على ما يليق بجلاله وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل كما قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى/11]..
وقد صنف أئمة السنة لما حدثت بدعة الجهمية مصنفات كثيرة في الرد عليهم كالإمام أحمد وابنه عبد الله والخلال وأبي بكر الأثرم وعثمان بن سعيد الدارمي وإمام الأئمة محمد بن خزيمة وأبي عثمان الصابوني وخلق من أئمة السنة لا يمكن حصرهم، وكذلك من بعدهم كأبي محمد عبدالله بن أحمد موفق الدين وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم الجوزية ومن في طبقتهم كالعماد ابن كثير والحافظ ابن عبدالهادي وابن رجب والذهبي وغيرهم من أهل السنة والجماعة، وكتبهم مشهورة موجودة بين أهل السنة والجماعة، فلله الحمد على ظهور الحق ونشره والدعوة إليه والمحافظة عليه.
قوله: " قال علي ": حدثوا النَّاس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ وهذا، والله أعلم، قاله حين كثر القصاص في خلافته وصاروا يذكرون أحاديث ليست من الأحاديث المعروفة.
(الشرح)
القصاص هم الوعاظ، واحدهم يسمى قاص، يعظون النَّاس بَعْضُهُمْ يعظون النَّاس بأمور ترقق قلوبهم، وَبَعْضُهُمْ يأتون بأحاديث ضعيفة لا تصح.
(المتن)
ولهذا كثر الوضع بهذا السبب، وغير المعروف يحتمل أن يكون فيه ما يصح وفيه ما لا يصح؛ فإذا سمعه من لم يعرفه أنكره وربما كان حقًا فلا ينبغي التحديث إلا بما صح وثبت واشتهر عند المحدثين والفقهاء، وما ليس كذلك فلا ينبغي أن يحدث به لاحتمال أن يكون غير صحيح، وقد كان أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ينهى عن القصص؛ لما فيه من التساهل في النقل ويقول لا يقص إلا أمير أو مأمور.
قوله: وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن ابيه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رأى رجلا انتفض لما سمع حديثا عن النبي ﷺ في الصفات استنكارا لذلك فقال: ما فرق هولاء يجدون رقه عند محكمه ويهلكون عند متشابهه انتهى.
قوله: وروى عبد الرزاق هو ابن همام الصنعاني المحدث، محدث اليمن صاحب التصانيف، أكثر الرواية عن معمر بن راشد صاحب الزهري وهو شيخ عبد الرزاق يروي عنه كثيرًا، ومعمر بفتح الميمين وسكون العين أبو عروة ابن أبي عمرو راشد الأزدي الحراني ثم اليماني من أصحاب محمد بن شهاب الزهري يروي عنه كثيرًا.
قوله: "عن ابن طاوس " هو عبد الله بن طاوس اليماني، قال معمر: كان من أعلم الناس بالعربية. وقال ابن عيينة: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
قوله: "عن أبيه " هو طاوس بن كيسان الجندي بفتح الجيم والنون الإمام العالم، قيل: اسمه ذكوان قاله ابن الجوزي.
قلت: وهو من أئمة التفسير ومن أوعية العلم، قال في تهذيب الكمال عن الوليد الموقري عن الزهري قال: " قدمت على عبد الملك بن مروان فقال: من أين قدمت يا زهري؟ قال: قلت: من مكة، قال: من خلفت يسودها وأهلها؟ قلت: عطاء بن أبي رباح، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فبم سادهم؟ قال: قلت: بالديانة والرواية.
قال: إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا، قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قلت: طاوس بن كيسان، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي، قال: فبم سادهم؟ قلت: بما ساد به عطاء، قال: إنه لينبغي ذلك، قال: فمن يسود أهل مصر؟ قلت: يزيد بن أبي حبيب. قال: فمن العرب أم من الموالي، قلت: من الموالي، قال: فمن يسود أهل الشام؟ قلت: مكحول، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل.
قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، قال: فمن يسود أهل خراسان؟ قال: قلت: الضحاك بن مزاحم، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي، قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قال: قلت: الحسن البصري، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي، قال: ويلك ومن يسود أهل الكوفة؟ قال: قلت: إبراهيم النخعي، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من العرب، قال: ويلك يا زهري فرجت عني والله لتسودن الموالي على العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها، قال: قلت: يا أمير المؤمنين إنما هو دين من حفظه ساد ومن ضيعه سقط ".
(الشرح)
نعم دين من حفظه ساد سواء كَانَ من الموالي أو من العرب لا يضره، البخاري رحمه الله أمير الْمُؤْمِنِينَ في الحديث ولا يضر، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات/13].
قَالَ النَّبِيّ ﷺ: لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إِلَّا بِالتَّقْوَى، أَنْتُمْ لآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، والله تعالى يَقُولُ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات/13].
(المتن)
قوله: "ما فرق هؤلاء " يستفهم من أصحابه يشير إلى أناس ممن يحضر مجلسه، فإذا سمعوا شيئًا من محكم القرآن حصل منهم فرق أي خوف، فإذا سمعوا شيئًا من أحاديث الصفات انتفضوا كالمنكرين للمعنى، ولا يتم الإيمان إلا بقبول اللفظ بمعناه الذي دل عليه ظاهرًا، فإن لم يقبل معناه أو رده أو شك فيه لم يكن مؤمنًا به فيكون هلاكًا.
وقد ظهر من البدع في وقت ابن عباس بدعة القدرية كما في صحيح مسلم وغيره، فقتل من دعاتهم غيلان، قتله هشام بن عبد الملك لما أصر على قوله بنفي القدر.
(الشرح)
غيلان الدمشقي.
(المتن)
(الشرح)
غيلان الدمشقي ومعبد الجهني هم المؤسسان لعقيدة نفي القدر، ويقال سبقهما سويسان هو أول من تكلم في القدر، تكلم غيلان الدمشقي ومعبد الجهني، وَقَدْ حصل هَذَا في آخر عهد الصحابة، القدرية الأولى الَّذِينَ أنكروا العلم، حدث هَذَا في أواخر عهد الصحابة فشكى بعض زملائه من الطلبة إِلَى الصحابة، كما ذُكر هَذَا في أول الحديث في صحيح مسلم، يحيى بْن يعمر وحميد الطويل، فهم يهتمون بعلم البصرة وجد بينهم من ينكر علم الله بالأشياء، قَالُوا: إن الله لا يعلم بالأشياء حَتَّى تقع، فأنكروا ذَلِكَ، وسافر إِلَى الحج يَقُولُ: لو وفق لنا أحد من أصحاب النَّبِيّ ﷺ نسأله، قَالَ: فوفق لنا عبد الله بْن عمر داخل المسجد، المسجد الحرام، فاكتنفته أنا وصاحبي وظننت أَنَّهُ سيكل الحديث إلي، فقلت له: أبا عبد الرحمن، إِنَّهُ ظهر عندنا يَعْنِي في البصرة، أُناس يتقفرون العلم يَعْنِي يطلبون العلم، ويزعمون أن الْأَمْرِ أنف، يَعْنِي مستأنف وجديد لَمْ يسبق بِهِ علم الله، فَقَالَ عبد الله بْن عمر: إِذَا لقيت هؤلاء فأخبرهم أني منهم برئ وَأَنَّهُمْ برآء مني، وَالَّذِي نفس بْن عمر بيده لو أنفق أحدهم مثل أحدٍ ذهبًا ما قبله الله منهم؛ حَتَّى يؤمنوا بالقدر خيره وشره.
كفرهم؛ لِأَنَّ الَّذِينَ لا تقبل أعمالهم هم الكفار، وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة/54].
ولذلك نسبوا الله إِلَى الجهل، قَالُوا: إِنَّهُ لا يعلم الأشياء حَتَّى تقع، وَهَذَا كفر، ثُمَّ ساق عبد الله بْن عمر حديث جبرائيل، حديث أبيه أَنَّهُ جاءه رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر وَهُوَ جبريل سأل عَنْ الإسلام ثُمَّ عَنْ الإيمان ثُمَّ عَنْ الإحسان ثُمَّ عَنْ الساعة ثُمَّ عَنْ أماراتها، أول حديث في صحيح مسلم، وهذه يسمونه القدرية الأولى، القدرية الأولى هم انقرضوا أنكروا المرتبة الأولى من مراتب القدر والكتابة، أنكروا العلم والكتابة وقالوا: الْأَمْرِ جديد.
ووجدت بَعْدَ ذَلِكَ عامة القدرية الَّذِينَ يؤمنون بالعلم والكتابة وَأَيْضًا يؤمنون بالإرادة والخلق هَذِهِ مراتب الإيمان بالقدر، العلم علمه بالأشياء، ثُمَّ الكتابه في اللوح المحفوظ، ثُمَّ الإرادة والمشيئة، ثُمَّ الخلق والإيجاد، فعامة القدرية يثبتون العلم والكتابة ويثبتون أَيْضًا الإرادة والمشيئة إِلَّا أَنَّهُمْ يخرجون أفعال العباد من عموم المشيئة ومن عموم الخلق.
قَالُوا: أن الله أراد كُلّ شيء في هَذَا الوجود إِلَّا أفعال العباد ما أرادها، وخلق كُلّ شيء إِلَّا أفعال العباد هم الَّذِينَ خلقوها فرارًا من شبهة عرضت لهم من القول بأن الله خلق المعصية وعذب عليها لئلا يكون ظالمًا هَذِهِ شبهتهم، ولهذا هؤلاء عامتهم ما يكفرون عَلَى الصحيح.
والمعتزلة معتزلة في الصفات قدرية في الأفعال، ومن العلماء من كفرهم؛ لَكِن الجمهور عَلَى أَنَّهُمْ مبتدعة.
(المتن)
ثم بعد ذلك أظهر الجعد ابن درهم بدعة الجهمية فقتل قتله خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بعد صلاة العيد.
قال الذهبي: حدث وكيع عن إسرائيل بحديث: إِذَا جَلَسَ الرَّبُّ عَلَى الْكُرْسِيِّ فاقشعر رجل عند وكيع، فغضب وكيع وقال: "أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ولا ينكرونها" أخرجه عبد الله في الرد على الجهمية.
(الشرح)
قَالَ: مافرق هولاء يجدون رقة عِنْد المحكم ويهلكون عِنْد المتشابه، يَعْنِي ما سبب خوف هؤلاء يجدون رقة ولين عَنْ المحكم وَهُوَ يتأثر، إِذَا جاء المتشابه، متشابه يَعْنِي معناه هلكوا وأنكروا.
(المتن)
والواقع من أهل البدع وتحريفهم لمعنى الآيات يبين معنى قول ابن عباس، وسبب هذه البدع جهل أهلها وقصورهم في الفهم وعدم أخذ العلوم الشرعية على وجهها، وتلقيها من أهلها العارفين لمعناها الذين وفقهم الله تعالى لمعرفة المراد، والتوفيق بين النصوص، والقطع بأن بعضها لا يخالف بعضًا، ورد المتشابه إلى المحكم، وهذه طريقة أهل السنة والجماعة في كل زمان ومكان، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه.
قوله ولما سمعت قريش رسول الله يذكر الرحمن.
(الشرح)
بركة.