(المتن)
«المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير»
مقدمة الطبعة الأولى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فإن القرآن الكريم أعز ما شرف الله به الأمة الإسلامية، فهو كتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بن يدبه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ويهدي للتي هي أقوم، فمن تمسك به فقد هُدي إلى صراط مستقيم، ومن هجره فهو في خسران عظيم.
وقد اعتنت به الأمة الإسلامية اعتناء لا مثيل له فيما سلف من الأمم. فقد بحث علماء هذه الأمة عما في القرآن الكريم من الأحكام والحكم، والمعاني والنكت، والحجج والبراهين والأدلة والبيان، والمواعظ والعبر، والوقائع والأحداث، ولطائف العبارات ودقائق الإشارات، وجوانب الإعجاز ووجوه الإعراب، واختلاف القراءات، وأنواع اللهجات، حتى بحثوا عن الأحوال الجغرافية للأماكن والبلدان التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، وعن غير ذلك من الأمور.
وقد كان تفسير ابن كثير رحمه الله من أهم ما كتب في تفسير القرآن العظيم، ومن أعظمه وأكثره قبولا وانتشارا في هذه الأمة، إذ كان ابن كثير رحمه الله متضلعا بعلوم الكتاب والسنة، وبعلوم تاريخ السابقين واللاحقين، مع ما منحه الله من النظر الثاقب في سنة الله التي تجري في صلاح الأمم وفسادها وفي تقدمها وتأخرها وانحطاطها.
وكان له اطلاع واسع على ما تقدمت الإشارة إليه من الموضوعات، فاختار رحمه الله منهج التفسير بالمأثور فأكثر من إيراد الأحاديث المرفوعة، وأقوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من أئمة الهدى واليقين ومن أولى الأيدي والأبصار في علم تأويل الكتاب، ولم يغفل جوانب أخرى أشرنا إليها، وبذلك جاء تفسيره جامعا بين فني الرواية والدراية والمنقول والمعقول، وانتفع به المسلمون أيما انتفاع، وحصل له من القبول والإقبال ما لم يحصل لغيره من كتب التفسير إلا نادرا.
وحيث إن أخانا الفاضل الشيخ عبد المالك مجاهد -المدير المسئول لمكتبة دار السلام- يتمتع بهمة عالية، وقصد نبيل وعمل جليل في القيام بخدمة كتب السلف ونشرها في صور أنيقة وحلل قشيبة، فقد رأى بعد الاستشارة وإجالة الفكر أن يختار مجموعة ذات كفاءة من أصحاب الفضيلة الباحثين والكاتبين بترجمة هذا التفسير إلى لغات عالمية كبيرة حية حتى يستفيد به معظم أهل العلم في العالم كله.
كذلك رأى من الأحسن أن يلخص الكتاب تلخيصا يصغر لأهله الحجم ولا تفوت المباحث.
ويوضع لكل مبحث أنسب عنوان له، وتعزى الأحاديث والأقوال الباقية بعد التلخيص إلى مخرجيها، حتى تتم الفائدة.
والتمسَ من فضيلة الشيخ/ أبي الأشبال أحمد شاغف –حفظه الله وبارك في حياته- أن يقوم بهذا العمل، فبذل جهده المشكور في التلخيص وذلك بإبقاء عدد من الأحاديث في موضوع واحد يتم بها معنى الموضوع، وحذف بقية الأحاديث التي هي مجرد تكرار لمعنى واحد من طرق شتى -وقريب من ذلك تلخيص أقوال أهل التأويل- وكلف بعض الأخوة بتخريج الأحاديث والأقوال تحت إشرافه، فقام به بقدر الإمكان.
أما إيضاح المعاني من ابن كثير رحمه الله فأبقى على ما كان عليه –تقريبا- مع وضع العناوين على المباحث.
ثم كلفني الأخ عبد المالك مجاهد بالمراجعة وإعادة النظر، فقمت بذلك وأصلحت وغيرت وبدلت وزدت ونقصت حين رأيت الحاجة إلى ذلك.
كما قام ببعض ذلك أخونا الفاضل شَكيل أحمد السلفي أحد الباحثين في قسم البحث والتصحيح في دار السلام، وبذلك كله جاء الكتاب كما يروق النواظر، ويسر الخواطر، ولله الحمد.
بعض أعمال أخرى:
- وقد جاء هذا التلخيص من نسخة مطبوعة من مكتبة دار السلام، وكانت مصححة ومعتمدة على نسخة مصرية قديمة مطبوعة ب«دار إحياء الكتب العربية، لعيسى البابي الحلبي وشركاه» وتاريخ هذه الطبعة غير مسجل، إلا أنه يرجع إلى نحو قرن من الزمان، كما أن النسخة المطبوعة بدار السلام كانت قد قوبلت على خمس نسخة أخرى محققة ومطبوعة حديثة، حتى تم تدارك الأخطاء بقدر الإمكان.
- وكان من أوصاف تلك النسخة التي اتبعت في هذا التلخيص أيضا: أن ما وجد من الأخطاء في أسماء الرجال صُوب بمراجعة الأصول من كتب الرجال، ثم وضع الصواب بين معقوفتين، وحيثما وُجد الأمر غامضا نُبه عليه في الهامش.
- أما الآيات القرآنية التي وردت أثناء التفسير وضعت مشكلة بخط المصحف بين قوسين مختصين لآيات القرآن: {} أخذًا من المصحف المبرمج في الحاسب.
- وضع في رأس الصفحة اسم السورة ورقمها، وأرقام الآيات، حتى يسهل الوصول إلى المطلوب.
- وعند اختلاف النسخ في أسماء السور اختير الاسم المثبت في الأصل.
- وُضعت الزيادات على النسخة الأصلية بين معقوفتين: [ ] وقد قام بهذه الأعمال أصحاب الفضيلة العاملين بقسم البحث والتصحيح في المكتبة، فجزاهم الله خيرًا.
وقد رغبت المكتبة أن يأتي هذا الملخص في مجلد واحد مع المقاس المناسب والسعر الزهيد؛ ليكون سهلا ميسورا ليبلغ الآفاق ولا يبقى بيت من بيوت المسلمين إلا ويدخله هذا السفر المبارك بإذن الله، ويكون زادًا ممتعًا في أسفارهم، وذخر خير في حلهم وترحالهم، عسى الله أن يقدر ذلك وهو الموفق للخير، والهادي إلى سواء السبيل.
وصلى الله على خير خلقه محمد، وعلى آله وصحبه وبارك وسلم.
مقدمة الطبعة الثانية.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد أفضل الرسل وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واقتفى أثره إلى يوم الدين. وبعد،
فها هي الطبعة الثانية لكتاب «المصباح المنير في تهذيب تفسير ابن كثير» تقدمها مكتبة دار السلام للنشر والتوزيع بالرياض، وقد نفذت نسخ الطبعة الأولى لهذا الكتاب في أقرب فرصة، وحصل به من القبول بين أهل العلم، وإعجابهم به، وإقبالهم عليه ما يحثنا على الشكر لله سبحانه وتعالى على إحسانه العميم وفضله الكريم.
وبمناسبة هذه الطبعة الثانية رأى المسئولون القيام ببعض الأعمال في ضوء مشورة العلماء وأهل الاختصاص.
عدا ما تقدم ذكره في تقديم الطبعة الأولى. فكلفوا لجنة البحث والإعداد العلمي القيام بها.
وتتلخص تلك الأعمال فيما يلي:
- إخراج جميع الأحاديث الضعيفة التي لم ينجبر ضعفها، ولم تصل إلى درجة القبول فلا يوجد بحمد لله في هذه الطبعة إلا الأحاديث الصحيحة أو الحسنة أو الضعيفة التي انجبر ضعفها وارتقى إلى درجة القبول، وقد راجع الإخوة الباحثون لتحقيق هذا الغرض أقوال الأئمة وأهل العلم في تلك الأحاديث، أو في رواتها، حتى وصلوا إلى النتيجة النهائية في تعيين مرتبة الحديث من الضعف أو الحسن أو الصحة، فأخرجوا الضعيف وأسقطوه وتركوا البقية فجزاهم الله على هذا الجهد المشكور خيرًا.
- تشكيل الأحاديث المرفوعة ووضع الحركات على كلام النبي ﷺ حتى لا يقع الالتباس في المواقع الصعبة على عامة القراء، وتتضح المعاني الصحيحة، ويسهل على العامة قراءة ألفاظ النبي ﷺ على الوجه الصحيح.
وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وبارك وسلم.
(الشرح)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد، فهاتان المقدمتان للطبعة الأولى والطبعة الثانية لتهذيب هذا الكتاب العظيم للحافظ ابن كثير رحمه الله، وأن الذين قاموا بتهذيبه اعتنوا به عناية عظيمة، فحذفوا المكرر من الأحاديث وحذفوا الأحاديث الضعيفة، وأبقوا الأحاديث الحسنة والأحاديث الصحيحة.
وكذلك حذفوا الأقوال المكررة، وكذلك أيضا من ميزات هذه الطبعة الترقيم والتنظيم، وتخريج الأحاديث برقم الصفحة، يجعل لها رقم ثم يكتب أسفل جزء كذا وصفحة كذا، وكذلك أيضا العناية بالعناوين، يجعل عناوين بالخط الأحمر.
فهذا التهذيب جاء بحمد الله موفقا، حذف المكررات حذف الإسرائيليات، حذف الأحاديث المكررة وأخبار بني إسرائيل، التي أحيانا يطيل فيها، كما فعل الحافظ رحمه الله في آية السحر، كتب فيها صفحات كثيرة، ويأتي بقصص ويتكلم عنها ويبين حالها، لكنها طويلة تأخذ وقتًا كثير وهي غير ثابتة، ففي النهاية يبين ابن كثير أنها غير ثابتة وغير صحيحة.
فالذين قاموا بالاختصار والتهذيب حذفوا هذه القصص، وحذفوا هذه الإسرائيليات وحذفوا المكررات والأحاديث الضعيفة، وبقى الخلاصة واللب، نسأل الله أن ينفع به، نعم.
الطالب: هل تصرفوا في كلام الحافظ ابن كثير بالزيادة والنقصان؟
الشارح:
كلام الحافظ ابن كثير هو على حاله، ما حذفوا منه ولا غيروه، ولا أضافوا عليه من عند أنفسهم، إنما طريقتهم حذف المكرر وحذف الإسرائيليات، وحذف الزيادة في الأقوال، أما العبارة هي عبارة الحافظ ابن كثير، ما تصرفوا فيها.
(المتن)
ترجمة المؤلف
هو الإمام الجليل أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري الأصل، الدمشقي النشأة والتعليم.
ولد بمجدل القرية من أعمال بصرى سنة (701) هـ، وكان أبوه خطيب قرية، ومات أبوه وهو في الرابعة من عمره، ورباه أخوه الشيخ عبد الوهاب، وعلمه في مبدأ أمره، ثم انتقل إلى دمشق الشام المحروسة سنة (706) هـ في الخامسة من عمره.
شيوخه: تفقه بالشيخ برهان الدين إبراهيم بن عبد الرحمن الفزاري الشهير بابن الفركاح المتوفى سنة (729) هـ، وسمع بدمشق من عيسى بن المطعم، ومن أحمد بن أبي طالب الشهير بابن الشحنة والمتوفى سنة (730) هـ، ومن ابن الحجار المتوفى سنة (730) هـ ومن مسند الشام بهاء الدين القاسم بن مظفر بن عساكر المتوفى سنة (723) ه، ومن ابن الشيرازي، ومن إسحاق بن يحيى الآمدي شيخ الظاهرية عفيف الدين المتوفى سنة (725) هـ، ومن محمد بن زراد.
ولازم الشيخ جمال الدين يوسف بن الزكي المزي المتوفى سنة (742) هـ وبه انتفع وتخرج وتزوج بابنته.
وقرأ على شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية المتوفى سنة (728) هـ.
(يراجع الصوت عند الدقيقة: (00:13:44))
كما قرأ على الشيخ الحافظ المؤرخ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي المتوفى سنة (748) هـ وأجاز له من مصر أبو موسى القرافي وأبو الفتح الدبوسي وعلى بن عمر السواني وغيرهم.
قال الحافظ الذهبي في «المعجم المختص» عن الحافظ ابن كثير: هو الإمام، المفتي، المحدث البارع، فقيه متقن، ومفسر نقال، وله تصانيف مفيدة.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في «الدرر الكامنة»: اشتغل بالحديث مطالعة في متونه ورجاله، وكان كثير الاستحضار، حسن المفاكهة، سارت تصانيفه في حياته، وانتفع الناس بها بعد وفاته.
وقال المؤرخ الشهير أبو المحاسن جمال الدين يوسف بن سيف الدين المعروف بابن تغري بردي في كتابه «المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي»: هو الشيخ الإمام العلامة عماد الدين أبو الفداء، لازم الاشتغال، ودأب وحصل وكتب، وبرع في الفقه والتفسير والحديث، وجمع وصنَّف، ودرَّس وحدَّث وألَّف، وكان له اطلاع عظيم في الحديث والتفسير والفقه والعربية وغير ذلك، وأفتى ودرس إلى أن توفي رحمه الله، واشتهر بالضبط والتحرير، وانتهت إليه رئاسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير.
تلامذته:
وهم كثيرون، منهم ابن حجي، وقال فيه: أحفظ من أدركناه لمتون الأحاديث، وأعرفهم بجرحها ورجالها وصحيحها وسقيمها، وكان أقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك، وما أعرف أني اجتمعت به إلا واستفدت منه.
وقال ابن عماد الحنبلي في كتابه «شذرات الذهب في أخبار من ذهب»: هو الحافظ الكبير عماد الدين, كان كثير الاستحضار, قليل النسيان, جيد الفهم, يشارك في العربية وينظم نظما وسطا, وقال فيه ابن حبيب: سمع وجمع وصنف واطرب الأسماع بالفتوى وشنف وحدث وأفاد وطارت أوراق فتاويه إلى البلاد واشتهر بالضبط والتحرير.
مؤلفاته:
مؤلفاته كثيرة:
- منها ومن أعظمها تفسيره للقرآن الكريم، وهو من أحسن كتب التفسير بالرواية، وقد طبع عدة مرات واختصره عدة أشخاص.
- التاريخ المسمى بالبداية، وهو المطبوع في أربعة عشر مجلدا، باسم «البداية والنهاية» ذكر فيه قصص الأنبياء والأمم الماضية والسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي إلى زمنه، ثم ألف «الفتن وأشراط الساعة والملاحم وأحوال الآخرة» وهو المقصود بال«النهاية». وقد طبعت «البداية» أولا، ثم طبعت «النهاية» بمفردها وحققها عدة أشخاص.
- «التكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل» جمع فيه بين كتابي شيخيه المزي والذهبي «تهذيب الكمال في أسماء الرجال» و«ميزان الاعتدال في نقد الرجال» مع زيادات مفيدة في الجرح والتعديل.
- «الهدي والسنن في أحاديث المسانيد والسنن» وهو المعروف بجامع المسانيد، جمع فيه بين مسند الإمام أحمد بن حنبل والبزار وأبي يعلى الموصلي وابن أبي شيبة، مع الكتب الستة، الصحيحين والسنن الأربعة، ورتبه على الأبواب، طبع منه - حديثا - بعض الأجزاء.
- «طبقات الشافعية» مجلد وسط ومعه مناقب الشافعي.
- خرج أحاديث أدلة «التنبيه في فقه الشافعية».
- شرع في شرح صحيح البخاري ثم لم يكمله.
- شرع في كتاب كبير في الأحكام ولم يكمله، وصل فيه إلى الحج.
- مختصر كتاب «المدخل للبيهقي» وأكثره لم يطبع.
- اختصر علوم الحديث لأبي عمرو بن الصلاح وسماه «مختصر علوم الحديث» وطبعه الشيخ أحمد محمد شاكر المحدث المصري رحمه الله، مع شرح له، وسمى شرحه «الباعث الحثيث في شرح مختصر علوم الحديث» وقد طبع عدة مرات.
- السيرة النبوية مطولة ضمن «البداية»، ومختصرة وهما مطبوعتان.
- رسالة في الجهاد سماها «الاجتهاد في طلب الجهاد» وقد طبعت أكثر من مرة.
وفاته:
قال الحافظ بن حجر العسقلاني رحمه الله: وكان قد أضر –يعني فقد بصره- في آخر حياته، وتوفي بدمشق الشام المحروسة سنة (774 هــ) رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.
(الشرح)
رحمه الله، لقد توفي وعمره أربع وسبعين سنة، وهو حافظ إمام، وعالم وفقيه ومفسر ومحدث، ويلقب بالحافظ، وتجدون الآن كل العلماء لهم شيوخ ولهم تلاميذ، وبهذا يتبين أن طلب العلم لا يؤخذ إلا عن العلماء، ولا يكون الإنسان طالب علم من الكتب أبدًا، فالعلم إنما يؤخذ من أفواه العلماء.
فتجدون في تراجم العلماء كلهم شيوخه كذا وكذا، وتلاميذه كذا وكذا، ما في أحد يكون طالب علم من الكتب أبدًا؛ ولهذا يقولون: من كان شيخه كتابه فخطؤه أكثر من صوابه.
لأن العلماء يبينون للإنسان ويوضحون له معاني النصوص، وما دلت عليه النصوص والأحكام؛ ولأن الإنسان لو قرأ ساعات طويلة في اليوم حتى لو قرأ اثني عشرة ساعة، ويجلس بين يدي شيخه ساعة واحدة، فالفائدة من هذه الساعة تكون أكثر من فائدته من القراءة.
فالعالم يختصر عليه الطريق ويبين له؛ لأن العلماء قد سبقوه، فيبينون له المعاني.
لكن يقرأ الساعات الطويلة فلا يفهم ويفوت عليه أشياء كثيرة لا يفهمها، لكن جلسة مع أهل العلم تكون فيه الإفادة.
(يراجع الصوت عند الدقيقة: (00:21:00))
*****
المقدمة
قال الشيخ الإمام الأوحد، البارع الحافظ المتقن، عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر بن كَثير البصروي الشافعي: تعالى، ورضي عنه:
الحمد لله الذي افتتح كتابه بالحمد([1]) فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 2-4]،
(يراجع الصوت عند الدقيقة: (00:22:40))
وافتتح خَلْقه بالحمد، فقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]، واختتمه بالحمد، فقال بعد ذكر مآل أهل الجنة وأهل النار: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75]؛([2]) ولهذا قال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70].
فله الحمد في الأولى والآخرة، أي في جميع ما خلق وما هو خالق، هو المحمود في ذلك كله، كما يقول المصلى: «اللهم ربنا لك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد».
والحمد لله الذي أرسل رسله {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وختمهم بالنبي الأمي العربي المكي الهادي لأوضح السبل، أرسله إلى جميع خلقه من الإنس والجن، من لدن بعثته إلى قيام الساعة، كما قال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، وقال تعالى: {لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19].
فمن بلغه هذا القرآن من عرب وعَجَم، وأسودَ وأحمرَ، وإنس وجان، فهو نذير له؛ ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17]. فمن كفر بالقرآن ممن ذكرنا فالنار موعده، بنص الله تعالى، كما قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ} [القلم: 44].
وقال رسول الله ﷺ: «بُعِثتُ إلى الأحمر والأسود».
قال مجاهد: يعني: الإنس والجن. فهو - صلوات الله وسلامه عليه- رسول الله إلى جميع الثقلين: الإنس والجن، مُبَلِّغًا لهم عن الله تعالى ما أوحاه إليه من هذا الكتاب العزيز الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].
(الشرح)
وهذا من خصائصه ﷺ التي يتميز بها عن سائر الأنبياء، أن رسالته عامة للإنس والجن، للعرب والعجم، إلى الأحمر والأسود، وكل من وجد من بعثة النبي ﷺ إلى يوم القيامة فالنبي مرسل إليه: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}[الأنعام:19]، وقال سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}[الأعراف:158]، وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا}[النساء:79]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}[سبأ:28]، وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]، وقال ﷺ: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة»، وقال: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ».
فمن قال: إن رسالته خاصة بالعرب، أو قال: إن بعده نبي فهو كافر بإجماع المسلمين، ولا بد أن يؤمن كل مسلم بأن رسالة النبي عامة للثقلين الجن والإنس، العرب والعجم إلى قيام الساعة، فهو نبي الساعة لا نبي بعده ﷺ
(المتن)
[الأمر بفهم القرآن]
وقد أعلمهم فيه عن الله تعالى أنه نَدَبهم إلى فهمه، فقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ} [ص: 29]، وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله، وتفسير ذلك، وطلبه من مظانه، وتَعلُّم ذلك وتعليمه، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77].
فذم الله تعالى أهل الكتاب قبلنا بإعراضهم عن كتاب الله المنزل إليهم، وإقبالهم على الدنيا وجمعها، واشتغالهم بغير ما أمروا به من اتباع كتاب الله.
(الشرح)
يقول تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ } [آل عمران: 187]
والبيان يكون بالتعليم والإيضاح؛ ولهذا يجب على الأمة الإسلامية أن تدرس هذا الكتاب العظيم وأن تعتني به وأن توضح معانيه، وأن تتدبره، وأن تعلم بما فيه، وأن تصدق أخباره، وأن تنفذ أحكامه وأن تتحاكم إليه، وأن تحكمه في كل شأن من شئونها، حتى تكون سعيدة في الدنيا والآخرة، فطريق النجاة تحكيم هذا الكتاب العظيم والعمل بما فيه مع سنة النبي ﷺ والعناية بذلك، هذا هو طريق السعادة، وطريق النجاة العمل بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
والعمل يسبقه الفهم والتعلم، ولا بد أن يكون العمل مبني على العلم، لا الجهل، والعلم يحتاج إلى فهم وبيان، والفهم يكون عن طريق القرآن الذي يفسر بعضه بعضا، كما سيبين الحافظ رحمه الله، فيبين الآية بآية أخرى، أو بحديث، أو بأقوال الصحابة أو التابعين، أو باللغة، وهكذا.
قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ }[ص:29]، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }[محمد:24]، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ( }[النساء:82]، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ }[الفتح:28] الهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح، والعلم النافع هو المأخوذ من الكتاب والسنة.
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187] ذم الله أهل الكتاب تحذيرا لنا أن نسلك مسلكهم فيصيبنا ما أصابهم، كما قال بعض السلف: مضى القوم ولم يعنَ به سواكم، فهؤلاء مضوا واشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، يعني: اعتاضوا عنه ثمنا قليلا، والدنيا كلها ثمن قليل، لو اعتاضوا الدنيا كلها من أولها إلى آخرها يكون ثمنا قليلا.
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 187] أخذ عليهم الميثاق والميثاق هو العهد المؤكد، {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] فبماذا قابلوا هذا الميثاق، الله تعالى قال: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187] نبذوه أي: تركوه {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187] اشتروا به ثمنا قليلا، اعتاضوا بها الدنيا، آثروا الدنيا على الآخرة، اشتروا مناصب الدنيا ورئاساتها وأموالها، هذه كلها ثمن قليل، الدنيا كلها ثمن قليل، والله تعالى كثيرا ما يقول: {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا} والمقصود الدنيا كلها، لو أعطوا الدنيا كلها فهو ثمن قليل، ومعنى اشتروا: اعتاضوا، فذمهم الله بنبذهم الكتاب واعتياضهم عنه بالدنيا ومآكلها و ورئاساتها، وهو تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم فيصيبها ما أصابهم، ويجب على هذه الأمة أن تبتعد وتجتنب أفعال اليهود الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واعتاضوا عنه الدنيا، نعم.
(المتن)
فعلينا -أيها المسلمون-أن ننتهي عما ذمَّهم الله تعالى به، وأن نأتمر بما أمرنا به، من تَعَلُّم كتاب الله المنزل إلينا وتعليمه، وتفهمه وتفهيمه، قال الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نزلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد: 16، 17]. ففي ذكره تعالى لهذه الآية بعد التي قبلها تنبيه على أنه تعالى كما يحيي الأرض بعد موتها، كذلك يلين القلوب بالإيمان والهدى بعد قسوتها من الذنوب والمعاصي، والله المؤمل المسؤول أن يفعل بنا هذا، إنه جواد كريم([3]).
[أصول التفسير]
فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟([4])
فالجواب: إن أصح الطرق في ذلك أن يُفَسَّر القرآن بالقرآن([5])، فما أُجْمِل في مكان فإنه قد بُسط في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة([6]) فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]، وقال تعالى: {وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، ولهذا قال رسول الله ﷺ: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» يعني: السنة. والسنة أيضًا تنزل عليه بالوحي، كما ينزل القرآن؛ إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن.
والغرض أنك تطلب تفسيرَ القرآن منه، فإن لم تجدْه فمن السنة.
(الشرح)
يعني أن السنة وحي ثان، {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ }[النحل:44] وذكر العلماء أن السنة لها مع القرآن ثلاث أحوال، الحالة الأولى أن تأتي السنة بأحوال جاءت في القرآن مثل أمر الله بإقام الصلاة في القرآن والنبي ﷺ أمر بإقام الصلاة في السنة.
الثاني: أن تأتي السنة بما يوضح المجمل أو يخصص العام أو يقيد المطلق في القرآن.
الحالة الثالثة: أن تأتي بأحكام جديدة ليست في القرآن مثل تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وتحريم الجمع بين المرأة وخالتها، وتحريم كل ذي ناب من السباع، وتحريم كل ذي مخلب من الطير، والتحريم بالرضاع خمس رضعات، هذه كلها أحكام في السنة وليست في القرآن، فهي أحكام جديدة.
فالسنة إما أن تأتي بأحكام جاءت في القرآن، ويكون هذا من باب تضافر الأدلة وتواترها، وإما أن تأتي موضحة لما أجمل أو مخصصة للعام أو مقيدة للمطلق وإما أن تأتي بأحكام جديدة.
والسنة وحي من الله تعالى بدليل قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }[النجم:3-4] فالسنة وحي من الله، فالمعنى من الله واللفظ من الرسول ﷺ، إلا الحديث القدسي، مثل حديث أبي ذر: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا» هذا من كلام الله لفظا ومعنى؛ لأن الرسول ﷺ يرويه عن ربه، عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال، فأضافه إلى الله.
فالحديث القدسي من الله لفظا ومعنى مثل القرآن، إلا أن له أحكام تختلف عن القرآن، فالقرآن يُتعبد بتلاوته والحديث القدسي لا يتعبد بتلاوته، القرآن معجز والحديث القدسي ليس بمعجز، القرآن لا يمسه إلا متوضئ والحديث القدسي يمسه غير المتوضأ، وكلام الله يتفاضل، بعضه أفضل من بعض، نعم.
(المتن)
وإذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة([7])، فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم([8])، كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهتدين المهديين، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
روى الإمام أبو جعفر بن جرير عبد الله -يعني ابن مسعود -: قال والذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت؟ وأين نزلت؟ ولو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله منى تناله المطايا لأتيته([9]).
ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ابن عم رسول الله ﷺ، وترجمان القرآن وببركة دعاء رسول الله ﷺ له حيث قال: «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل».
وروى ابن جرير عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: نِعْم ترجمان القرآن ابنُ عباس. وهذا إسناد صحيح.
وقد مات ابن مسعود رضي الله عنه في سنة اثنتين وثلاثين على الصحيح، وعُمِّر بعده ابن عباس رضي الله عنهما ستًا وثلاثين سنة([10])، فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود؟.
وقال الأعمش عن أبي وائل: استخلف عليٌّ عبد الله بن عباس على الموسم، فخطب الناس([11])، فقرأ في خطبته سورة البقرة، وفي رواية: سورة النور، ففسرها تفسيرًا لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا.
ولهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره، عن هذين الرجلين: عبد الله بن مسعود وابن عباس، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب، التي أباحها رسول الله ﷺ حيث قال: «بَلِّغوا عني ولو آية، وحَدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حَرَج، ومن كذب عَلَىَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» رواه البخاري عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما؛ ولهذا كان عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك.
[حكم الروايات الإسرائيلية]
ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد، لا للاعتضاد، فإنها على ثلاثة أقسام([12]):
أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح([13]).
والثاني: ما علمنا كذبه مما عندنا مما يخالفه([14]).
والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم([15])، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني؛ كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف([16])، ولون كلبهم، وعددهم، وعصا موسى من أي الشجر كانت([17])؟ وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة([18])، ونوع الشجرة التي كلَّم الله منها موسى، إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى في القرآن، مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دينهم ولا دنياهم.
[مكانة تفسير التابعين]
(فصل) إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين، كمجاهد بن جَبْر فإنه كان آية في التفسير، كما قال محمد بن إسحاق: حدثنا أبان بن صالح، عن مجاهد، قال: عَرضْتُ المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه، وأسأله عنها([19]).
وروى ابن جرير عن ابن أبي مُلَيْكَة قال: رأيت مجاهدًا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن، ومعه ألواحه، قال: فيقول له ابن عباس: اكتب، حتى سأله عن التفسير كله. ولهذا كان سفيان الثوري يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به.
وكسعيد بن جُبَيْر، وعِكْرِمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، ومسروق ابن الأجدع، وسعيد بن المسيب، وأبي العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والضحاك بن مُزاحم، وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم، فتذكر أقوالهم في الآية فيقع في عباراتهم تباين في الألفاظ، يحسبها من لا علم عنده اختلافًا فيحكيها أقوالًا وليس كذلك، فإن منهم من يعبّر عن الشيء بلازمه أو بنظيره، ومنهم من ينص على الشيء بعينه، والكل بمعنى واحد في أكثر الأماكن، فليتفطن اللبيب لذلك، والله الهادي([20]).
[التفسير بالرأي]
فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام، لما رواه محمد بن جرير: عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ قال: «من قال في القرآن برأيه، أو بما لا يعلم، فليتبوأ مقعده من النار».
وهكذا أخرجه الترمذي والنسائي، وأبو داود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن([21]).
[السكوت عن تفسير غير المعلوم]
ولهذا تَحَرَّج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به، كما روى ابن جرير عن أبي مَعْمَر، قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أيّ أرض تقلّني وأي سماء تظلني؟ إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم.
وروي أيضًا عن أنس؛ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ على المنبر: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]، فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأبّ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر.
وهذا كله محمول على أنهما رضي الله عنه إنما أراد استكشاف علم كيفية الأبِّ، وإلا فكونه نبتا من الأرض ظاهر لا يجهل، لقوله: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا} الآية [عبس: 27، 28].
وروى ابن جرير عن ابن أبي مُلَيْكَة: أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها، فأبى أن يقول فيها: إسناده صحيح([22]).
وروى أيضًا عن ابن أبي مليكة، قال: سأل رجل ابن عباس عن قوله تعالى: {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة: 5]، فقال له ابن عباس: فما {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4]؟ فقال له الرجل: إنما سألتك لتحدثني. فقال ابن عباس: هما يومان ذكرهما الله تعالى في كتابه، الله أعلم بهما، فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم([23]).
وقال الليث، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: إنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن([24]).
وقال أيوب، وابن عَوْن، وهشام الدَّسْتوائِي، عن محمد بن سيرين: سألت عَبِيدة يعني السلماني، عن آية من القرآن فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيم أنزل القرآن؟ فاتَّق الله، وعليك بالسداد.
وروى عن الشعبي، عن مسروق، قال: اتقوا التفسير، فإنما هو الرواية عن الله.
فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم فيه؛ فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعًا، فلا حرج عليه([25])؛ ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير([26])، ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه، وسكتوا عما جهلوه([27])، وهذا هو الواجب على كل أحد؛ فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به، فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه، لقوله تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]، ولما جاء في الحديث الذي روي من طرق: «من سئل عن علم فكتمه، ألْجِم يوم القيامة بلجام من نار».
[وجوه التفسير]
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا مُؤَمَّل، حدثنا سفيان، عن أبي الزناد عن الأعرج قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه أحد إلا الله.
(الشرح)
هذه وجوه التفسير كما قال ابن عباس، ووجوه التفسير على أربع أنحاء، تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد فيه، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، ما هي هذه التفاسير؟
التفسير الذي تعرفه العرب من كلامها، هو التفسير بالمفردات اللغوية، مثل كلمة قرء: الطهر أو الحيض، الكهف هو الشق في الجبل، الأبُّ: نوع من النبات في الأرض، هذا تفسير تعرفه العرب من كلامهم.
والتفسير الذي لا يعذر أحد به هو الأمور التكليفية، فلا يعذر أحد في معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، ولا يعذر أحد في معرفة كيفية الصلاة والزكاة والصيام والحج، فالأمور التكليفية لا يعذر فيها أحد، فلا بد أن تعلم كيف تصلي كيف تصوم كيف تزكي كيف تحج.
والثالث: وتفسير يعلمه العلماء خاصة، مثل أسباب النزول ومعرفة العام والخاص ومعرفة المطلق والمقيد وما أشبه ذلك، هذا خاص بأهل العلم.
والرابع: تفسير لا يعلمه إلا الله، وهي كنه أسماء الله وصفاته وحقائق الجنة والنار وحقائق ما أخبر الله به في يوم القيامة وحقائق أسماء الله وصفاته على ما هي عليه، هذه مما استأثر الله تعالى بعلمه، لا نعلم كيفية أمر الجنة على ما هي عليه، الله تعالى أخبرنا أن في الجنة خمرا وعسلا، وفي الدنيا كذلك، لكن لا نعلم كيفية لبن الجنة وعسل الجنة، وإن كان يوافق ما في الدنيا من أسماء وفي أصل المسمى لكن اللون والطعم والرائحة لا يعلم كيفيتها إلا الله، فحقائق ما أخبر الله به من البعث والجزاء والجنة والنار، وحقائق كنه أسماء الله وصفاته، هذا مما استأثر الله تعالى بعلمه، لا يعلمه إلا الله.
هذا مبني على كلام ابن عباس: التفسير على أربع أنحاء، تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد فيه، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير استأثر الله تعالى بعلمه، نعم
(المتن)
[السور المكية والمدنية]
روي همام، عن قتادة قال: نزل في المدينة من القرآن البقرة، وآل عمرانَ، والنساء، والمائدة، وبراءة، والرعد، والنحل، والحج، والنُّور، والأحزاب، ومحمد، والفتح، والحجرات، والرحمن، والحديد، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والصف، والجمعة، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، و{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ}، إلى رأس العشر، وإذا زلزلت، وإذا جاء نصرُ الله. هؤلاء السور نزلت بالمدينة، وسائر السور نزل بمكة([28]).
[عدد آيات القرآن الكريم]
فأما عدد آيات القرآن فستة آلاف آية، ثم اختلف فيما زاد على ذلك على أقوال، فمنهم من لم يزد على ذلك، ومنهم من قال: ومائتي آية وأربع آيات، وقيل: وأربع عشرة آية، وقيل: ومائتان وتسع عشرة آية، وقيل: ومائتان وخمس وعشرون آية، أو ست وعشرون آية، وقيل: ومائتا، وست وثلاثون. حكى ذلك أبو عمرو الداني في كتاب البيان.
[عدد كلماته وحروفه]
وأما كلماته، فقال الفضل بن شاذان، عن عطاءِ بن يسار: سبع وسبعون ألف كلمة وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة.
وأما حروفُه، فقال عبد الله بن كثير، عن مجاهد: هذا ما أحصيناه من القرآن وهو ثلاثُمائِة ألفِ حرف وواحدٌ وعشرون ألفَ حَرْفٍ ومائَةٌ وثمانونَ حرفًا.
وقال الفضل، عن عطاء بن يسار: ثلاثمائة ألف حرف وثلاثة وعشرون ألفًا وخمسة عشر حرفًا([29]).
وقال سَلام أبو محمد الحمانيّ: إنّ الحجاج جمع القراء والحفاظ والكُتَّاب فقال: أخبروني عن القرآن كُلِّه كم من حرفٍ هو؟ قال: فحسبنا فأجمعوا أنه ثلاثُمائة ألفِ وأربعون ألفًا وسبعمائة وأربعون حرفًا.
[تقسيمات أخرى للقرآن الكريم]
قال: فأخبروني عن نصفه. فإذا هو إلى الفاء من قوله في الكهف: {وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف: 19]([30])، وثُلثه الأول عند رأس مائة آية من براءة، والثاني على رأس مائة أو إحدى ومائة من الشعراء، والثالث إلى آخره. وسُبُعُه الأول إلى الدال من قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ} [النساء: 55]. والسُّبُع الثاني إلى الباء من قوله في الأعراف: {حَبِطَتْ} [الأعراف: 147]، والثالث إلى الألف الثانية من قوله في الرعد: {أُكُلَهَا} [الرعد: 35]، والرابع إلى الألف من قوله في الحج: {جَعَلْنَا مَنْسَكًا} [الحج: 67]، والخامس إلى الهاء من قوله في الأحزاب: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} [الأحزاب: 36]، والسادس إلى الواو من قوله في الفتح: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح: 6]، والسابع إلى آخر القرآن. قال سلام أبو محمد: عملنا ذلك في أربعة أشهر.
قالوا: وكان الحجاج يقرأ في كلِّ ليلةٍ ربع القرآن، فالأول إلى آخر الأنعام، والثاني إلى {وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف: 19]، والثالث إلى آخر الزمر، والرابع إلى آخر القرآن([31]). وقد ذكر الشيخ أبو عمرو الداني في كتابه البيان خلافًا في هذا كله، والله أعلم.
[التحزيب والتجزئة]
وأما التحزيب والتجزئة فقد اشتهرت الأجزاء من ثلاثين كما في الربعات بالمدارس وغيرها، وقد ذكرنا فيما تقدم الحديث الوارد في تحزيب الصحابة للقرآن.
والحديث في مسند الإمام أحمدَ وسُنَن أبي داودَ وابن ماجَهْ وغيرهما عن أوس بن حُذَيفة أَنَّه سَأَلَ أصحابَ رسولِ الله ﷺ في حياته: كيف تُحَزِّبون القرآن؟ قالوا: ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرَةَ وثلاثَ عَشْرَةَ، وحزْبُ المُفَصَّل حتى تختم.
(الشرح)
الحزب الأول ثلاث سور: البقرة وآل عمران والنساء، والحزب الثاني خمس: المائدة والأنعام والأعراف والتوبة، والحزب الثالث: سبع: يونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل، والحزب الرابع: تسع، الإسراء والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان، وإحدى عشرة: الشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان وألم السجدة وسبأ وفاطر ويس.
وثلاث عشرة: الصافات وص والزمر وغافر وحم السجدة وحم عسق والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف والقتال والفتح والحجرات.
ثم بعد ذلك الحزب المفصل من ق إلى آخر القرآن.
هكذا كانت تختم الصحابة في سبعة أيام، اليوم الأول: ثلاث سور، والثاني: خمس سور، والثالث: سبع سور، والرابع: تسع سور، والخامس: إحدى عشر سورة، والسادس: ثلاث عشرة سورة، والسابع: حزب المفصل من ق إلى آخر القرآن.
([1]) قال الشارح -حفظه الله-: افتتح كتابه بالحمد، أي الحمد لله رب العالمين، وافتتح خلقه بالحمد، يبين الأشياء التي افتتحها الله تعالى بالحمد، منها الخلق ومنها القرآن.
([2]) قال الشارح -حفظه الله-: فله الحمد في المبتدا والمنتهى، افتتح كتابه بالحمد وافتتح خلقه بالحمد وختمه بالحمد حين يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار.
([3]) قال الشارح -حفظه الله-: نسأل الله أن يلين قلوبنها وأن يجعلنا ممن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، ونعوذ بالله من قسوة القلوب الله وصف أهل الكتاب بقوله: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾[البقرة:74] فوا عجبا لمضغة صارت أقسى من الحجارة.
([4]) قال الشارح -حفظه الله-: يبين ابن كثير رحمه الله أحسن طرق التفسير، وهو أن يفسر القرآن بالقرآن، فإن وجدت تفسير آية في آية أخرى فإنها تفسر بها، وإذا لم تجد تفسيرها في القرآن ووجدت تفسيرها في السنة فسرت بالسنة، وإذا لم تجد تفسيرها في القرآن ولا في السنة، ووجدت قول صحابي تأخذ بأقوال الصحابة؛ لأن الصحابة شهدوا التنزيل وكانوا مع النبي ﷺ وعرفوا أسباب النزول، فإن لم تجد في أقوال الصحابة ذهب بعض أهل التفسير إلى الأخذ بأقوال التابعين، وكذلك الرجوع إلى اللغة، كل هذه طرق، نعم.
([5]) قال الشارح -حفظه الله-: هذا هو الطريق الأول، إذا وجد تفسير القرآن بالقرآن فلا يعدل عنها، كما في آية: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ﴾[الماعون:4] جاء تفسيرها وراءها ﴿الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴾ ليس المقصود منها أن الويل لكل مصلي، فلو قُطع تفسير الآية عن الآية التي وراءها، صار المعنى: كل مصلٍ له الويل، فهل ينفع هذا؟ ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴾[الماعون:4-5] فسرتها الآية التي بعدها، نعم.
([6]) قال الشارح -حفظه الله-: هذا هو الطريق الثاني، إن أعياك تفسير القرآن بالقرآن فعليك بالسنة.
([7]) قال الشارح -حفظه الله-: هذا هو الطريق الثالث للتفسير.
الطريق الأول: تفسير القرآن بالقرآن، والطريق الثاني: تفسير القرآن بالسنة، والطريق الثالث: تفسير القرآن بأقوال الصحابة.
([8]) قال الشارح -حفظه الله-: فهم اختصهم الله بصحبة نبيهم، لا كان ولا يكون مثلهم، رضي الله عنهم وأرضاهم، اختارهم الله، لم يكن ليختار لنبيه إلا أفضل الناس، وأصحاب النبي أفضل أصحاب الأنبياء.
([9]) قال الشارح -حفظه الله-: يحلف عبد الله بن مسعود، يقول: والذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت؟ ولو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله منى تناله الإبل لرحلت إليه. والمطايا هي الإبل.
([10]) قال الشارح -حفظه الله-: لأنه كان دون العشرين عندما توفي النبي ﷺ.
([11]) قال الشارح -حفظه الله-: استخلف عليٌّ عبد الله بن عباس على الناس في موسم الحج.
([12]) قال الشارح -حفظه الله-: أخبار بني إسرائيل تذكر للاستشهاد بها لا للاعتماد عليها، يستأنس بها، والعمدة لكلام الله وكلام رسوله.
([13]) قال الشارح -حفظه الله-: هذا القسم الأول، ما وافق ما في كتاب الله وسنة رسوله فهذا مقبول، وهو ما جاء موافق لما في شرعنا.
([14]) قال الشارح -حفظه الله-:هذا القسم الثاني، ما جاء في شرعنا تكذيبه ورده فهذا مردود.
([15]) قال الشارح -حفظه الله-: القسم الثالث: ما سكت عنه شرعنا ولم يأتِ فيه تكذيبه أو تصديقه، فهذا لا نؤمن به ولا نصدقه ونحدث به؛ لقول النبي ﷺ: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»، ومن قوله: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم» هذا محمول على هذا النوع، الذي لم يأت شرعنا بتكذيبه ولا بتصديقه، يؤخذ للعبرة والاتعاظ، ولا يصدق ولا يكذب.
([16]) قال الشارح -حفظه الله-: يعني: غالب ذلك ما لا يتعلق به فائدة دينية، مثل أصحاب الكهف، ما هي أسمائهم؟ وما عددهم؟ ما هو لون كلبهم، أحمر أم أسود؟ هذا لا يتعلق به فائدة دينية، فلا يصدق ولا يكذب.
([17]) قال الشارح -حفظه الله-: عصا موسى، من أي شجرة كانت؟ لا يترتب على ذلك فائدة، أسماء الطيور التي قطعها إبراهيم؟ لو كان في تعيين ذلك فائدة لسماها الله.
([18]) قال الشارح -حفظه الله-: بقرة بني إسرائيل، وهل ضرب ظهر القتيل أو ضرب فخذه أو ضرب بطنه، الله قال: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى ﴾[البقرة:73] ضربوه ببعضها فأحياه الله، لكن ما هو هذا البعض؟ لا يترتب عليه فائدة، وينقل مثل هذا من أخبار بني إسرائيل.
([19]) قال الشارح -حفظه الله-: وهذا يدل على عناية عظيمة لمجاهد بن جبر وهو من أئمة التابعين، وكان ملازم لابن عباس، عرض المصحف من أوله لآخره عليه ثلاث مرات، يوقفه عند كل آية ويسأله عنها،؛ ولهذا نقل ابن تيمية في التدمرية وغيرها عن العلماء قولهم: إذا جاءك التفسير عن ابن مجاهد فحسبك به؛ لأنه لازم ابن عباس ملازمة طويلة، وعرض عليه المصحف من أوله لآخره ثلاث مرات، يوقفه عند كل آية يسأله عنها، هذا يدل على أنه متضلع من علم التفسير.
([20]) قال الشارح -حفظه الله-: تفسير التابعين أحيانا يختلف في اللفظ لكن المعنى واحد، وأحيانا يفسرون الشيء ببعضه، مثلا: يقول بعضهم في تفسير«الأمانة» في قوله سبحانه: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾[الأحزاب:72] فيقول الأمانة: الغسل من الجنابة، ويأتي آخر فيقول: الأمانة: الصلاة، ويأتي آخر فيقول الأمانة: الصدقة، أو الزكاة، أو الحج، فهؤلاء جميعا فسروا الأمانة ببعضها، أي بلازمها، أي يلزم من هذا حدوث هذا، فينبه الحافظ على ذلك، أنهم أحيانا يفسرون الشيء ببعض معناه، أو بلازمه، والمؤدى واحد، فيلزم من الصلاة الغسل من الجنابة، فلا تصح الصلاة بدون الغسل من الجنابة، نعم.
([21]) قال الشارح -حفظه الله-: وهذا وعيد شديد لمن فسر القرآن برأيه، «من قال في القرآن برأيه، أو بما لا يعلم، فليتبوأ مقعده من النار« والتفسير بالرأي هو الذي لا يستند إلى دليل، لا من الكتاب ولا من السنة، ولا يستند أيضا إلى معنى لغوي، إنما هو بالهوى، ولما سئل الصديق رضي الله عنه عن تفسير آية وهو لا يعلم عنها قال: أيّ أرض تقلّني وأي سماء تظلني؟ إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم. فالتفسير بالرأي حرام، ولا بد أن يكون عنده دليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله أو من أقوال الصحابة والتابعين، أو بما دلت عليه اللغة إذا لم يجد شيئا مما سبق، أما أن يفسر القرآن بالرأي المجرد فهذا حرام، نعم.
([22]) قال الشارح -حفظه الله-: وهذا يدل على ورعه رضي الله عنه، فينبغي للإنسان أن يتحلى بالورع وألا يتكلم في شيء لا يعلمه، والله تعالى قال لنبيه: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴾[ص:86] فلا يتكلف الإنسان شيئا لا يعلمه.
([23]) قال الشارح -حفظه الله-: في سورة المعارج: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾، وفي سورة السجدة: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾ قال العلماء: إن النزول خمسمائة سنة، والعروج خمسمائة سنة فالجميع ألف سنة، وأما قوله: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ فهذا يوم القيامة، يوم تزول السموات كلها، فهي المسافة من العرش إلى الفرش؛ لأنه يوم القيامة تزول السموات فلا يبقى إلى العرش والأرض، وذكر ذلك ابن القيم في النونية الكافية الشافية، نعم.
([24]) قال الشارح -حفظه الله-: من باب الورع، لا يتكلم إلا في المعلوم.
([25]) قال الشارح -حفظه الله-: والورع هنا محمول على الكلام فيما لا علم له به، أما من كان عنده علم من كتاب الله ومن سنة رسوله ومن كلام العرب فيتكلم بما عنده من العلم.
([26]) قال الشارح -حفظه الله-: يعني هؤلاء الذين روي عنهم السكوت عن التفسير روي عنهم الكلام في التفسير أيضا، فلا بد من الجمع بين هذا وهذا، فالروايات التي تروى عن الكلام في التفسير محمول على أن عندهم علم من الأثر أو من اللغة، وهذه الأقوال التي فيها المنع محمول على أنه إذا لم يكن عندهم علم.
([27]) قال الشارح -حفظه الله-: الإنسان يحفظ أشياء ويفوته أشياء، فالشيء الذي تعلمه تكلم فيه، والشيء الذي لا تعلمه تسكت عنه.
([28]) قال الشارح -حفظه الله-: السور مكية ومدنية، فالمكي: ما كان قبل الهجرة ولو لم ينزل في مكة، ولو نزل في البرية أو في أماكن أخرى، ما كان قبل الهجرة يسمى مكي، وكذلك السور المدنية هي ما نزلت بعد الهجرة ولو نزلت في مكة، أو في أي مكان آخر.
([29]) قال الشارح -حفظه الله-: وبكل حرف يقرأه المسلم فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، كما جاء في حديث ابن مسعود الذي رواه الترمذي: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» فهذا فضل عظيم.
([30]) قال الشارح -حفظه الله-: «وليتلطف » عندها نصف القرآن بحسب عدد الحروف.
([31]) قال الشارح -حفظه الله-: الحجاج كان يقرأ ربع القرآن كل ليلة، وكان مسرفا في القتل قتل خلقا كثيرا، فالحجاج ظالم وفاسق، ومع هذا كان يقرأ كل يوم ربع القرآن! هذا بعيد، ويحتاج إلى ثبوت، فلو كان كذلك لمنعه هذا من الظلم والقتل، ومن محاسنه أنه أول من أمر بتشكيل القرآن، لكنه أسرف في القتل، فلما قتل سعيد بن جبير، وبعد موته سئل عن حاله فقال قُتلت بكل قتيل قتلة، وأما سعيد بن جبير فقُتلت به كذا من القتلات، وأنا بعد ذلك أرجو ما يرجوا أهل التوحيد. لأنه موحد ليس بمشرك.
[التحزيب والتجزئة]
وأما التحزيب والتجزئة فقد اشتهرت الأجزاء من ثلاثين كما في الربعات بالمدارس وغيرها، وقد ذكرنا فيما تقدم الحديث الوارد في تحزيب الصحابة للقرآن.
والحديث في مسند الإمام أحمدَ وسُنَن أبي داودَ وابن ماجَهْ وغيرهما عن أوس بن حُذَيفة أَنَّه سَأَلَ أصحابَ رسولِ الله ﷺ في حياته: كيف تُحَزِّبون القرآن؟ قالوا: ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرَةَ وثلاثَ عَشْرَةَ، وحزْبُ المُفَصَّل حتى تختم.
(الشرح)
الحزب الأول ثلاث سور: البقرة وآل عمران والنساء، والحزب الثاني خمس: المائدة والأنعام والأعراف والتوبة، والحزب الثالث: سبع: يونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل، والحزب الرابع: تسع، الإسراء والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان، وإحدى عشرة: الشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان وألم السجدة وسبأ وفاطر ويس.
وثلاث عشرة: الصافات وص والزمر وغافر وحم السجدة وحم عسق والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف والقتال والفتح والحجرات.
ثم بعد ذلك الحزب المفصل من ق إلى آخر القرآن.
هكذا كانت تختم الصحابة في سبعة أيام، اليوم الأول: ثلاث سور، والثاني: خمس سور، والثالث: سبع سور، والرابع: تسع سور، والخامس: إحدى عشر سورة، والسادس: ثلاث عشرة سورة، والسابع: حزب المفصل من ق إلى آخر القرآن.