يقول الشيخ عبد الرحمن بن سِعديُّ رحمه الله تعالى: (تقدَّم الكلامُ على البسمَلة. وأما الحروفُ الُمقطَّعة في أوائل السور، فايسمونلأسلَمُ فيها: السكوتُ عن التعرُّضِ لمعناها من غير مُستَنَدٍ شرعيٍّ، مع الجزم بأن الله تعالى لم يُنزِلها عبَثًا؛ بل لحكمةٍ لا نعلمُها.
وقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} أي: هذا الكتابُ العظيمُ الذي هو الكتابُ على الحقيقةِ، المُشتَمِلُ على ما لم تشتمِلْ عليه كتبُ المُتقدِّمين والمُتأخِّرين من العلم العظيم، والحق المبين.
فـ {لا رَيْبَ فِيهِ} ولا شكَّ بوجهٍ من الوجوهِ، ونفيُ الرَّيب عنه يستلزِمُ ضِدَّه، إذ ضدُّ الرَّيبِ والشكِّ اليقينُ، فهذا الكتابُ مُشتمِلٌ على علمِ اليقين المُزِيل للشكِّ والرَّيبِ. وهذه قاعدةٌ مُفيدةٌ: أن النفيَ المقصودَ به المدحُ لا بُدَّ أن يكون مُتضمِّنًا لضِدِّه، وهو الكمالُ؛ لأن النفيَ عدمٌ، والعدمُ المَحضُ لا مدحَ فيه. فلما اشتملَ على اليقينِ وكانت الهدايةُ لا تحصُلُ إلا باليقينِ، قال: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}.
قال الشارح حفظه الله: وهذا أيضًا كذلك النفيُ في صفاتِ الله، ليس نفيًا محضًا، وإنما مُشتملٌ على إثباتِ ضدِّه من الكمال، مثل: قوله سبحانه وتعالى: {لا تأخذه سنة ولا نوم} لكمال حياته وقيُّوميَّته، {لا يؤوده حفظهما} لكمال قوَّتِه وقُدرته، {لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض} لكمال علمِهِ، {لا يظلم مثقال ذرة} لكمال عدلِهِ، وهكذا. صفاتُ النفيِ تتضمَّنُ إثباتَ ضدِّه من الكمال، {لا تدركه الأبصار} لكمال عظمتِه وكونِه أكبر وأعظم من كل شيءٍ.
فالنفيُ في صفاتِ الله يتضمَّنُ إثباتَ ضدِّه من الكمال؛ لأن النفيَ المحضَ الصِّرف الذي لا يتضمَّنُ لا مدحَ فيه، ولأن المعدُوم يُوصَف بالنفيِ، والمعدُوم لا يُمدَح.
قال الشيخ العلامة عبد الرحمن بن سعدي: (فلما اشتملَ على اليقينِ وكانت الهدايةُ لا تحصُلُ إلا باليقينِ، قال: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}، والهُدى: ما تحصُلُ به الهدايةُ من الضلالةِ والشُّبَه، وما به الهدايةُ إلى سلوكِ الطُّرقِ النافعةِ، وقال: {هُدًى} وحذفَ المعمولَ، فلم يقُل: هُدًى للمصلحة الفُلانية، ولا للشيء الفُلاني، لإرادة العموم، وأنه هُدًى لجميع مصالح الدَّارَين، فهو مُرشِدٌ للعبادِ في المسائل الأصوليَّة والفروعيَّة، ومُبيِّنٌ للحقِّ من الباطلِ، والصحيحِ من الضعيفِ، ومُبيِّنٌ لهم كيف يسلكون الطرقَ النافعةَ لهم في دُنياهم وأُخراهم.
وقال في موضعٍ آخر: {هُدًى لِلنَّاسِ} فعمَّمَ، وفي هذا الموضع وغيره: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}؛ لأنه في نفسه هُدًى لجميع الخلق. فالأشقياءُ لم يرفعوا به رأسًا، ولم يقبَلوا هُدَى الله، فقامَت عليهم به الحُجَّة، ولم ينتفِعُوا به لشقائِهِم، وأما المُتَّقون الذين أتَوا بالسبب الأكبر لحصول الهداية، وهو التقوى التي حقيقتُها: اتخاذُ ما يقِي سخطَ اللهِ وعذابَه، بامتِثال أوامره، واجتِناب النواهِي، فاهتَدَوا به وانتفَعُوا غاية الانتفاع.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} فالمُتَّقون هم المُنتفِعُون بالآيات القرآنية، والآيات الكونية.
ولأن الهداية نوعان: هداية البيان، وهداية التوفيق. فالمُتَّقون حصَلَت لهم الهدايتان، وغيرُهم لم تحصُل لهم هدايةُ التوفيق. وهدايةُ البيان بدون توفيقٍ للعمل بها، ليست هدايةً حقيقيَّةً تامَّةً.
ثم وصفَ المُتَّقين بالعقائد والأعمال الباطنة، والأعمال الظاهرة، لتضمُّن التقوى لذلك، فقال: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}.
حقيقةُ الإيمان: هو التصديقُ التامُّ بما أخبرَت به الرسلُ، المُتضمِّنُ لانقياد الجوارح، وليس الشأنُ في الإيمان بالأشياء المُشاهَدة بالحِسِّ، فإنه لا يتميَّزُ بها المسلمُ من الكافِرِ، إنما الشأنُ في الإيمان بالغيبِ الذي لم نرَه ولم نُشاهِده، وإنما نُؤمنُ به لخبر الله وخبر رسوله.
فهذا الإيمانُ الذي يُميَّز به المسلمُ من الكافر؛ لأنه تصديقٌ مُجرَّدٌ لله ورسله. فالمؤمنُ يؤمنُ بكلِّ ما أخبر الله به أو أخبر به رسولُه، سواءٌ شاهدَه أو لم يُشاهِده، وسواءٌ فهِمَه وعقِلَه أو لم يهتدِ إليه عقلُه وفهمُه. بخلاف الزنادقة المُكذِّبين للأمور الغيبيَّةِ؛ لأن عقولهم القاصِرَة المُقصِّرَة لم تهتدِ إليها، فكذَّبوا بما لم يُحيطُوا بعلمه، ففسَدَت عقولُهم، ومرَجت أحلامُهم. وزكَت عقولُ المؤمنين المُصدِّقين المُهتَدين بهُدى الله.
ويدخل في الإيمانِ بالغيبِ: الإيمانُ بجميعِ ما أخبر الله به من الغيوبِ الماضية والمستقبلة، وأحوال الآخرة، وحقائق أوصاف الله وكيفيَّتها، وما أخبرت به الرسلُ من ذلك، فيُؤمِنُون بصفات الله ووُجُودِها، ويتيقَّنُونها وإن لم يفهموا كيفيَّتها.
ثم قال: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} لم يقُل: يفعلون الصلاة، أو يأتون بالصلاة؛ لأنه لا يكفي فيها مُجرَّد الإتيان بصورتها الظاهرة. فإقامةُ الصلاة: إقامتُها ظاهرًا بإتمام أركانها، وواجباتها، وشروطها. وإقامتُها باطنًا بإقامةِ رُوحِها، وهو حضورُ القلبِ فيها، وتدبُّر ما يقولُهُ ويفعلُهُ منها. فهذه الصلاةُ هي التي قال الله فيها: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} وهي التي يترتَّبُ عليها الثوابُ، فلا ثوابَ للإنسان من صلاته إلا ما عقَلَ منها، ويدخلُ في الصلاةِ فرائِضُها ونوافِلُها.
ثم قال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} يدخلُ فيه النفقاتُ الواجِبةُ كالزكاة، والنفقة على الزوجات والأقارب، والمماليك ونحو ذلك. والنفقاتُ المُستحبَّةُ بجميع طرق الخير. ولم يذكر المُنفَق عليهم، لكثرة أسبابه وتنوُّع أهله، ولأن النفقةَ من حيث هي قُربةٌ إلى الله، وأتى بـ {من} الدالَّة على التبعيض، ليُنبِّهَهم أنه لم يُرِد منهم إلا جُزءً يسيرًا من أموالهم، غير ضارٍّ لهم ولا مُثقِّل؛ بل ينتفِعُون هم بإنفاقِهِ، وينتَفِعُ به إخوانُهم.
وفي قوله: {رَزَقْنَاهُمْ} إشارةٌ إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم ليست حاصلةً بقُوَّتكم ومُلكِكم، وإنما هي رزقُ الله الذي خوَّلَكم، وأنعمَ به عليكم، فكما أنعمَ عليكم وفضَّلكم على كثيرٍ من عباده، فاشكروه بإخراجِ بعض ما أنعمَ به عليكم، وواسُوا إخوانَكم المُعدَمين.
وكثيرًا ما يجمعُ تعالى بين الصلاةِ والزكاةِ في القرآن؛ لأن الصلاةَ مُتضمِّنةٌ للإخلاص للمعبُود، والزكاة والنفقة مُتضمِّنةٌ للإحسانِ إلى عَبِيده، فعنوانُ سعادة العبد إخلاصُه للمعبُود، وسعيُه في نفعِ الخلقِ، كما أن عنوانَ شقاوَة العبدِ عدمُ هذَين الأمرَين منه، فلا إخلاصَ ولا إحسانَ.
ثم قال: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ} وهو القرآن والسنة، قال تعالى: {وَأَنزلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} فالمُتَّقون يُؤمِنون بجميع ما جاء به الرسول، ولا يُفرِّقون بين بعضِ ما أُنزِل إليه، فيُؤمِنون ببعضه ولا يُؤمِنون ببعضه، إما بجَحده أو تأويله على غير مُرادِ الله ورسوله، كما يفعلُ ذلك من يفعلُهُ من المُبتدِعة، الذين يُؤوِّلون النصوصَ الدالَّةَ على خلاف قولهم، بما حاصِلُهُ عدمُ التصديق بمعناها، وإن صدَّقُوا بلفظها، فلم يُؤمِنوا بها إيمانًا حقيقيًّا.
وقوله: {وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ} يشملُ الإيمانَ بالكتب السابقة، ويتضمَّنُ الإيمانُ بالكتب الإيمانَ بالرُّسُلِ وبما اشتملَت عليه، خصوصًا التوراةُ والإنجيلُ والزبُور، وهذه خاصيَّةُ المؤمنين يُؤمِنون بجميع الكتب السماوية، وبجميع الرُّسُلِ فلا يُفرِّقُون بين أحدٍ منهم.
ثم قال: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (الآخرة) اسمٌ لما يكون بعد الموت، وخصَّه بالذكر بعد العموم؛ لأن الإيمانَ باليوم الآخر أحدُ أركان الإيمان، ولأنه أعظمُ باعِثٍ على الرغبةِ والرهبةِ والعملِ، و (اليقين) هو العلم التامُّ الذي ليس فيه أدنَى شكٍّ، المُوجِبُ للعملِ.
{أُولَئِكَ} أي: الموصوفون بتلك الصفات الحميدة {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} أي: على هُدًى عظيمٍ؛ لأن التنكيرَ للتعظيم، وأيُّ هدايةٍ أعظمُ من تلك الصفاتِ المذكُورة المُتضمِّنة للعقيدة الصحيحة والأعمال المُستقِيمة، وهل الهدايةُ الحقيقيةُ إلا هدايتُهم، وما سِوَاها مما خالَفَها فهو ضلالةٌ.
وأتى بـ {على} في هذا الموضعِ الدالَّة على الاستِعلاء، وفي الضلالةِ يأتي بـ {في}، كما في قوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}؛ لأن صاحبَ الهُدى مُستَعلٍ بالهُدى مُرتفِعٌ به، وصاحبُ الضلالِ مُنغَمِسٌ فيه مُحتَقر.
ثم قال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} والفلاحُ هو الفوزُ بالمطلوبِ، والنجاةُ من المرهُوبِ، حصَرَ الفلاحَ فيهم؛ لأنه لا سبيلَ إلى الفلاحِ إلا بسلوك سبيلهم، وما عدا تلك السبيلِ فهي سُبُلُ الشَّقاءِ والهلاكِ والخَسارِ التي تُفضِي بسالِكِها إلى الهلاك.
فلهذا لما ذكَرَ صفاتِ المؤمنين حقًّا، ذكَرَ صفاتِ الكفار المُظهِرين لكفرهم، المُعانِدين للرسول، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.
*****
الملف الصوتي الثاني
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}
(يَقُولُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أَيْ: غَطوا الْحَقَّ وَسَتَرُوهُ، وَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُهُ، فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ}، وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُعَانِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} الآية، أَيْ: إِنَّ مَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةَ فَلَا مُسْعِد لَهُ، وَمَنْ أضلَّه فَلَا هَادِيَ لَهُ، فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، وَبَلِّغْهُمُ الرِّسَالَةَ، فَمَنِ اسْتَجَابَ لَكَ فَلَهُ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ، وَمَنْ تَوَلَّى فَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا يُهِمَّنَّك ذَلِكَ، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}، وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحرصُ أَنْ يُؤْمِنَ جَمِيعُ النَّاس ويُتَابعوه عَلَى الْهُدَى، فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ إِلَّا مَنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ السعادةُ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَضِلُّ إِلَّا مَنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ الشَّقَاوَةُ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ)([1]).
[معنى الختم]
{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
(قَالَ السُّدِّيُّ: {خَتَمَ اللَّهُ} أَيْ: طَبَعَ اللَّهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ إِذْ أَطَاعُوهُ؛ فَخَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ، فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ هُدًى وَلَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَفْقَهُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج: قَالَ مُجَاهِدٌ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} قَالَ: الطَّبْعُ، ثَبَتَتْ الذُّنُوبُ عَلَى الْقَلْبِ فَحَفَّتْ بِهِ مِنْ كُلِّ نَوَاحِيهِ حَتَّى تُلْقِيَ عَلَيْهِ، فَالْتِقَاؤُهَا عَلَيْهِ الطَّبْعُ، وَالطَّبْعُ الْخَتْمُ.قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْخَتْمُ عَلَى الْقَلْبِ وَالسَّمْعِ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْج: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثير، أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا يَقُولُ: الرَّانُ أَيْسَرُ مِنَ الطَّبْعِ، وَالطَّبْعُ أَيْسَرُ مِنَ الْإِقْفَالِ، وَالْإِقْفَالُ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ: أَرَانَا مُجَاهِدٌ بِيَدِهِ فَقَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْقَلْبَ فِي مِثْلِ هَذِهِ - يَعْنِي: الْكَفَّ -فَإِذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ ذَنْبًا ضُمَّ مِنْهُ، وَقَالَ بِأُصْبُعِهِ الْخِنْصَرِ هَكَذَا، فَإِذَا أَذْنَبَ ضُمَّ. وَقَالَ بِأُصْبُعٍ أُخْرَى، فَإِذَا أَذْنَبَ ضُمَّ. وَقَالَ بِأُصْبُعٍ أُخْرَى وَهَكَذَا، حَتَّى ضَمَّ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا، ثُمَّ قَالَ: يُطْبَعُ عَلَيْهِ بِطَابَعٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ: الرَّيْنُ.
قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم كما قال: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } ([2]).
وذكر حديث تقليب القلوب: «يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك»، وذكر حديث حذيفة الذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفاء فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مربادًا كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا» الحديث.
قال ابن جرير: والحق عندي في ذلك ما صَحّ بنظيره الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما رواه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن المؤمن إذا أذنب ذنبًا كانت نُكْتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزعَ واستعتب صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله تعالى: { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُون } [المطففين: 14].
رواه الترمذي والنسائي، وابن ماجه وقال الترمذي: حسن صحيح.
[إعراب غشاوة ومعناها]
واعلم أن الوقف التام على قوله تعالى: { خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ}، وقوله {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } جملة تامة، فإن الطبع يكون على القلب وعلى السمع، والغشاوة -وهي الغطاء-تكون على البصر، كما قال السدي في تفسيره عن ابن عباس، عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: { خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} يقول: فلا يعقلون ولا يسمعون، يقول: وجعل على أبصارهم غشاوة، يقول: على أعينهم فلا يبصرون.
(التفسير)
هاتان الآيتان في وصفِ الكفَّار، كما ذكرَ المؤلفُ، فالله سبحانه وتعالى افتتحَ سورةَ البقرة ببيانِ الأصنافِ الثلاثة:
الصنف الأول: المُؤمنون ظاهرًا وباطنًا، وصفَهم الله بأربع آيات، في قوله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُون}، هذه أوصافُ المؤمنين، وصفَهم الله بأنهم يُؤمنون بالغيبِ، وبأنهم يُقيمون الصلاة، وبأنهم يُنفِقون مما رزقَهم الله، وبأنهم يُؤمنون بما أُنزِل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما أُنزِل من قبلِه، وبأنهم يُوقِنون بالآخرة، هذه أوصافُهم. هؤلاء هم المُؤمنون باطنًا وظاهرًا، وهؤلاء هم أهلُ السعادة، وهم أهلُ الهداية، لهم الهدايةُ في الدنيا، ولهم الفلاحُ في الآخرة.
ولذلك حصرَ قال: {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون}، حصرَ الهدايةَ فيهم، وحصرَ الفلاحَ فيهم. فالهدايةُ في الدنيا، والفلاح في الآخرة، والفلاحُ الحصولُ على المطلُوب، والنجاةُ من المرهُوب، حصَلوا على رِضا الله، والتمتُّع بدارِ كرامتِه وجنَّته سبحانه وتعالى.
الصِّنفُ الثاني: الكفَّار ظاهرًا وباطنًا؛ كاليهود والنصارى والوثنيين، فهؤلاء كفَّار ظاهرًا وباطنًا، ذكرَهم الله في هاتين الآيتين، قال سبحانه: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} وصفُهم بأنهم لا يستفيدُون من الإنذار، ولا يستفيدُون من الوَعظ، كما قال الله تعالى عن قومٍ هودٍ أنهم قالوا: {سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين}. لا يستفيدُون بالإنذار، ولا يستفيدُون من الوَعظ، ولا يستفيدُون من التذكير؛ لأن قلوبَهم مُقفَلة، قلوبهم عليها طابِع، وعليها الرَّان، وعليها الخَتم، مُقفَلة. نسأل الله السلامة والعافية، فلا يدخلُها الخير، {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون}.
ثم قال سبحانه بيَّن الجزاءَ قال: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} الوقفُ على قوله: {وعلى سمعهم}، ثم الاستئناف: {وعلى أبصارهم غشاوة}، الختمُ يكون على القلوبِ والأسماع، والختمُ كما ذكرَ الحافظُ رحمه الله أنه يكون بعد الرَّان.
القلوبُ يكونُ عليها شيءٌ من الصدأ، يكونُ عليها مع الغفلة يكونُ عليها غَين، فيه غَين وفيه غَيم، فعَنِ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ، فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ»([3]) فمع الغفلة يكون عليها غطاء خفيف يُسمَّى (الغَين) بالنون، و(الغَيم) أيضًا، ثم إذا زادَت الذنوبُ صارَ على القلبِ الرَّان، فصار الغطاء أشد وهذا يُسمَّى الرَّان، ثم إذا كثُرت الذنوبُ والمعاصِي صارَ الخَتم والطَبع، ثم إذا كثُر صارَ الإقفال والعياذُ بالله، قلوبُ الكفرة عليها خَتم وطبع، واليهود، قال الله تعالى عنهم: {وقالوا قلوبنا غلف}، وقال عن الكفار: {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب}. نسأل الله السلامة والعافية.
ولهذا قال سبحانه مُبيِّنًا جزاءَهم، والجزاءُ من جنسِ العمل، لما لم يقبَلوا آيات الله، ولم ينتفِعُوا بالمواعِظ ولم يقبَلوها، عاقبَهم الله بالخَتم {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم}، فالختمُ يكون على القلوبِ والأسماع، وأما البصرُ يكون عليه غِشاوة، وهي الغِطاء، ولهذا قال سبحانه: {وعلى أبصارهم غشاوة}.
فالوقفُ على قوله: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم}، ثم الاستِئناف: {وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم}.
في هاتين الآيتين بيانُ حال الكفَّار في الدنيا، وبيان العقوبة، وأنهم لم يقبَلوا الإنذار، لم يقبَلوا آياتِ الله، ولم ينتفِعُوا بالمواعِظ، فعاقبَهم بأن ختمَ على قلوبهم وعلى سمعِهم، ختمَ على القلوبِ، والأسماع عليها ختمٌ وغلافٌ، وعلى الأبصار غِشاء وهي غطاء، ولهم عذابٌ أليم.
في هذه الآيات الكريمات: أنه ينبغي للمُؤمن أن يقبَل المواعِظ، وأن ينتفِع بها، وألا يرُدَّها، وأن ردَّ المواعِظ وعدم الانتِفاع بها من صفات الكفار.
وفيه من الأحكام: أن الله تعالى يُعاقِب الإنسانَ ويُجازِيه من جنسِ عملِه، كما قال تعالى في الآية: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}، وقال سبحانه: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة}، وقال سبحانه هنا: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون}، ثم قال: {ختم الله على قلوبهم}، هذا هو الجزاءُ.
فينبغي للمُسلم أن ينتفِع بالمواعِظ، وألا يرُدَّ النصيحةَ والموعِظةَ؛ تشبُّهًا بالكفار، فالمُؤمنون يقولون: سمِعنا وأطَعنا، والكفار يقولون: سمِعنا وعصَينا، {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا}، وقال في المؤمنين: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون}.
فعاقبَهم الله تعالى بالخَتم على القلوبِ والأسماع، والغِشاوة على الأبصار في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة، ولهذا قال سبحانه: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم}.
ثم ذكرَ الله تعالى الصِّنفَ الثالثَ من أصناف الناس، وهم المُنافِقون؛ المُؤمنون في الظاهر، والكفار في الباطِن، فلكل واحدٍ له وجه مع المُؤمنين وله وجه مع الكفار، ولما كان هذا الصِّنف يعيشُ بين المُسلمين كان خطرُهم عظيمًا، فالله تعالى جلَّى صفاتهم، وبيَّن أوصافَهم، وذكرَهم في كثيرٍ من سُور القرآن.
وفي هذه السورة ـ سورة البقرة ـ ذكرَ الله المُنافِقين في ثلاث عشرة آية، وضربَ لهم مثلًا مائيًّا ومثلًا ناريًّا، وكذلك أيضًا في أثناء السورة: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام}، وذكرَهم في سورة النساء، وفي سورة التوبة فالله تعالى لم يزَل يقول: ومنهم، ومنهم، ومنهم، حتى خافَ المُنافِقون أن يُسمَّوا بأسمائِهم، وسُورةُ المُنافِقون سورة كاملة في أوصافهم ، وسورة محمد ذكرَ الله أشياءَ من أوصافهم: {ولو نشاء لأريناكهم}.
كثيرٌ من السور ذكرَ الله فيها أوصافَ المُنافقين؛ لأنهم صِنفٌ يعيشُون بين المُؤمنين، فهم كفَّارٌ في الباطن، مسلمون في الظاهر، وهم أشدُّ خطرًا على الإسلام والمُسلمين من الكفَّار باطنًا وظاهرًا؛ لأن الكافر الظاهر هذا عدوٌّ مكشُوف تأخذُ حِذرَك منه، بخلافِ المُنافق فإنه عدوٌّ في الباطِن، يُظهِرُ الإسلام ويُبطِنُ الكُفرَ، يتربَّصُ بالمُسلمين الدوائِر، يُدبِّرُ المكائِد والحِيَل للقضاء على الإسلام والمُسلمين وهو يعيشُ بين المُسلمين.
وسُمِّي المُنافِق مُنافِقًا من نفِقَ اليربُوع، فاليربُوع له جُحرٌ ظاهرٌ وجُحرٌ خفِيٌّ، له جُحرٌ ظاهرٌ معروف، ويجعلُ الجُحر الخفِي يحفِرُ الأرض حتى إذا رقَّها وكادَ أن يخرِق الأرض جعلَ عليه تُرابًا، هذا جُحرٌ خفيٌّ، فإذا دخلَ أحدٌ من الجُحر الظاهر ورابَه ريبٌ، دفعَ الترابَ برأسه فخرجَ من النافِقاء، يُقال له: النافِقاء ولا يُقال: القاصِعاء.
وكذلك المُنافِق سُمِّي مُنافقًا؛ لأن له باطنًا وظاهرًا، فله باطنٌ مع الكفار، وله ظاهرٌ مع المُسلمين، فلذلك الله سبحانه وتعالى جلَّى أوصافَهم، وذكرَ أوصافًا كثيرةً لهم حتى يتبيَّن حالُهم للمُسلمين.
وكانوا يُسمَّون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مُنافقين، ثم بعد ذلك صارَ يُسمَّى المُنافِق زِندِيق، والزِّنديقُ يُطلَقُ على المُنافِق وعلى المُلحِد، ثم صارَ في هذا الزمن يُسمَّى المُنافِق علماني، والمُنافِقون يُسمَّون علمانيُّون، فالعلمانيُّون هم المُنافِقون، فالعلمانيُّ هو المُنافِق الذي يُظهِرُ الإسلام ويُبطِنُ الكفرَ.
وقد بيَّن الله تعالى أوصافَهم، ومن أوصافِهم أنهم: ينشرون الشرَّ والفسادَ على المُسلمين ويُسمَّونه الإصلاح، وهم يُفسِدون، ويُسمُّون إفسادَهم إصلاحًا، باسم الإصلاح، والتطوُّر، والمدنيَّة، والحضارة، ينشُرون الشُّرور والفسادَ على المُسلمين، ويُسمُّون هذا إصلاحًا وهم مُفسِدون في الأرض، كما قال الله تعالى: {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
[ذكر المنافقين]
لما تقدم وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات، ثم عرّف حال الكافرين بهاتين الآيتين، شرع تعالى في بيان حال المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس أطنب في ذكرهم بصفات متعددة، كل منها نفاق، كما أنزل سورة براءة فيهم، وسورة المنافقين فيهم، وذكرهم في سورة النور وغيرها من السور، تعريفًا لأحوالهم لتجتنب، ويجتنب من تلبس بها أيضًا([4])، فقال تعالى:
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِين ([5]) * يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُون }([6])
[معنى النفاق]
قال رحمه الله: (النفاقُ هو إظهارُ الخير وإسرارُ الشِّر([7]).
قال: (وهو أنواعٌ: اعتقاديٌّ، وهو الذي يُخلِّدُ صاحبَه في النار. وعمليٌّ، وهو من أكبر الذنوبِ، كما سيأتي تفصيلُه في موضعِه إن شاء الله تعالى).
(التفسير)
النِّفاقُ نوعان:
نفاقٌ اعتقاديٌّ، وهذا هو النِّفاقُ الأكبر الذي يُخرِجُ من الملَّة، وهذا يكونُ في القلبِ.
ونفاقٌ عمليٌّ، وهذا يكون بالعمل، بالمعاصِي.
النِّفاقُ الذي يكون في القلبِ أنواعٌ:
من أنواعه: تكذيبُ الله، إذا كان يُكذِّبُ الله في الباطِن فهذا مُنافِق.
ومنها: تكذيبُ الرسول عليه الصلاة والسلام، تكذيبُ الرسول في كل شيءٍ أو في بعض ما جاءَ عن الرسول.
النوعُ الثالث: بُغضُ الله - والعياذُ بالله - في القلبِ.
النوعُ الرابع: بُغضُ الرسول عليه الصلاة والسلام.
النوعُ الخامسُ: المسرَّة والسرور والفرح بانخفاضِ دين الرسول عليه الصلاة والسلام، وبضعفِ الإسلام والمُسلمين، إذا ضعُف الإسلامُ والمُسلِمون أو انخفضَ دينُ الرسول صارَ مسرورًا، هذا دليلٌ على النِّفاق الأكبر.
النوعُ السادس: الكراهية لانتصار دين الرسولِ عليه الصلاة والسلام، إذا انتصرَ المُسلمون وأعزَّ الله الإسلام والمُسلمين، وانتصرَ المُسلمون على الكفَرة كرِه ذلك وساءَه ذلك.
هذه الأنواعُ الستَّة كلُّها تُخلِّدُ صاحبَها في النار، هذا من النِّفاق الأكبر الذي يُخرِجُ من الملَّة.
وأما النِّفاقُ الأصغر فالنِّفاقُ العملي، يكون في العمل؛ كالكذِب في الحديث، وخُلف الوعد، والخيانةُ في الأمانة، والفُجور في الخُصومة، والغدرُ في العُهود، كما في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ »([8]).
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ "([9]).
ومنها: تأخيرُ الصلاة عن وقتها، ونقرُ الصلاةِ كنقرِ الغُراب، وعدمُ ذكرِ الله فيها إلا قليلًا، كما ثبتَ في الحديث في (صحيح مُسلم)([10]) في وصفِ المُنافِق، قال: «يَرْقُبُ الشَّمْسُ حَتَّى إِذَا كَادَتْ أَنْ تَغْرُبَ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيْهَا إِلَّا قَلِيْلًا»، قال في أول الحديث: «تِلْكَ صَلَاةُ المُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ المُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ المُنَافِقِ، يَرْقُبُ الشَّمْس حَتَّى إِذَا كَادَتْ أَنْ تَغْرُبَ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيْهَا إِلَّا قَلِيْلًا».
فوصفَ المُنافقين بثلاثة أوصاف:
منها: تأخيرُ الصلاة عن وقتها إلى غُروب الشمس.
ومنها: نقرُها كنَقر الغُراب.
ومنها: عدمُ ذكر الله فيها إلا قليلًا.
هذه من أوصاف المُنافقين العملية، هذه معاصِي لكنها تجُرُّ إلى الكفر الأكبر، كما في الحديث عن عبد الله بن عمرو: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيْهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيْهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ»([11])، وفي لفظٍ لمُسلم: «وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ»([12]).
قال العلماءُ: هذه الخِصالُ الأربعة كلُّ واحدةٍ منها خصلةٌ ومعصيةٌ من المعاصِي، من خِصال المُنافِقين العملية، لكنَّها إذا اجتمعَت واستحكَمَت تجُرُّ إلى النِّفاق الأكبر - والعياذُ بالله -.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
(وهذا كما قالَ ابنُ جُرَيجٍ رحمه الله: المُنافِقُ يُخالِفُ قولَه فعلُه، وسِرُّه علانيَتُه، ومدخلُهُ مخرَجَه، ومشهَدُه مغيبَه)([13]).
(التفسير)
النِّفاقُ ما كان إلا في المدينة، وأما مكة فلم يكن فيها نفاق؛ لأن الكفار هم الغالِبون، والنفاقُ إنما يُوجد عند قوةُ الإيمان فحينئذ يُلجِئ المنافقين إلى النفاقِ، ولهذا إذا وُجِد النِّفاقُ والمُنافِقُون كان وجودُهم دليلا على قوة المُسلمين؛ لأن المُسلمين ألجؤُوهم إلى أنهم يُبطِنون كُفرَهم.
ومكة لم يكن فيها نفاق؛ لأن الكفار يُعلِنون كُفرَهم؛ بل يُعذِّبون المُؤمنين، فليس هناك داعٍ يدعُوهم لإخفاء الكُفرَ.
وكذلك في أول الهجرة ما كان فيه نفاق، فلما وقعَت غزوةُ بدر وأعزَّ الله نبيَّه وحزبَه، وقُتِل من الكفار سبعون وأُسِر سبعون وهم صنادِيدهم، عند ذلك قال عبد الله بن أُبيٍّ: هذا أمرٌ قد توجَّه، فأظهر الإسلام وأبطنَ الكفرَ هو وجماعةٌ معه.
بعد غزوة بدر نجمَ النفاقُ، لما ظهرَت قوةُ المُسلمين، وإنما حصلَت القوةُ بعد غزوة بدر، صناديد قُريش قتلَهم الله على يدِ نبيِّه وحزبِه، قُتِل منهم سبعون وأُسِر سبعون، فأعزَّ الله نبيَّه، فخافَ من في قلبه مرضٌ كعبد الله بن أُبيٍّ، فأظهَروا الإسلام وأبطَنوا الكُفرَ، فقال عبدُ الله بن أُبيٍّ: هذا أمرٌ قد توجَّه، فوُجد النفاقُ من ذلك الوقت، بعد غزوة بدر.
ولماذا يُبطِنون الكُفرَ؟ فالجواب خوفًا على دمائِهم وأموالهم؛ لأنهم لو أظهَروا كفرَهم قُتِلوا وأُخِذَت أموالُهم، فهم يُظهِرون الإسلام ويُبطِنون الكفرَ حتى تسلَم دماؤُهم وأموالُهم، فلهذا وجودُ المُنافقين يدلُّ على قوة المُسلمين، فالمُسلمون ألجؤُوهم إلى أنهم يُبطِنون الكفرَ، لأنهم ما يستطيعون أن يُصرِّحوا بالكُفر؛ لأن المُسلمين أقوى منهم، لأنهم إذا صرَّحوا بالكفر طلَب المؤمنون بإحالتهم إلى المحكمة وإلى الحُكم عليهم بالحُكم الشرعي، وقتلهم، لأن حُكمهم القتل لقوله صلى الله عليه وسلم: «من بدَّل دِيْنَهُ فَاقْتُلُوهُ»([14])، ولهذا فهم لا يستطيعون إظهار كفرهم.
فلهذا وجودُ المُنافقين يدلُّ على قوة المُسلمين، ألجؤُوهم إلى إبطان الكُفر، ولكنهم يتحيَّنون الفُرص في وقت الأزمات، فالمُنافِقون يَظهَرُون في وقت الأزمات، في وقت الفتن، وقت الحروب، يُظهِرون كفرَهم، ويُصرِّحون بكفرهم، وفي وقتِ قوة المُسلمين ووقت الأمان يُخفُون كفرَهم
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
[بداية النفاق]
(وإنما نزلت صفاتُ المُنافقين في السُّور المدنيَّة؛ لأن مكةَ لم يكُن فيها نِفاقٌ، بل كان خلافُه([15])، من الناس من كان يُظهِر الكفرَ مُستكرَهًا وهو في الباطنِ مُؤمنٌ، .. فلما قدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ([16])، وأسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ من الأنصار من قبيلَتَي الأوس والخزرَج، وقلَّ من أسْلَمَ من اليهود إلا عبد الله بن سَلَام رضي الله عنه([17])، ولم يكُن إذ ذاك نِفاقٌ أيضًا؛ لأنه لم يكُن للمُسلمين بعدُ شوكةٌ تُخافُ([18])، بل قد كان عليه الصلاةُ والسلامُ وادَعَ اليَهودَ وقبائِلَ كثيرةً من أحياء العرب([19]) حوالِي المدينة فلما كانت وقعة بدر وأظهر الله كلمته، وأعز الإسلامِ وأهلِه، قال عبد الله بن أبيّ بن سلول، وكان رأسًا في المدينة، وهو من الخزرج، وكان سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يملّكوه عليهم، فجاءهم الخير وأسلموا، واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله.
(التفسير)
كانوا عزمُوا على أن يُتوِّجُوه ويُعصِّبُوه بالعِصابة، عِصابة المُلك، فلما هاجرَ النبي صلى الله عليه وسلم فاتَ عليه ذلك، فبقِيَت في نفسه بقيَّة.
ولهذا لما في السنة الأولى كان النبي صلى الله عليه وسلم راكبًا على حمارٍ يزورُ سعدَ بن عُبادَة - وكان مريضًا -، وكان عبدُ الله بنُ أُبيِّ وحوله أخلاطٌ من المُشركين والمُسلمين جالِس، فلما مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم راكبًا الحِمار، وأصابَه عَجاجَة الغُبار، غطَّى عبدُ الله بن أُبيٍّ أنفَه، خمَّر أنفَه بردائِه وقال: لا تُغبِّروا علينا! فقال بعضُ المُسلمين: لغُبارُه خيرٌ من كذا وكذا، فوقفَ النبي صلى الله عليه وسلم وجعلَ يدعُوهم إلى الله، ويدعوهم إلى الإسلام. فقال عبدُ الله بن أُبيٍّ: أيها المرء! لا أحسنَ مما تقول، لكن اجلِس في مكانِك في رحلِك، فمن جاءَك منَّا فاقصُص عليه. فقال بعضُ الصحابة: لا، اغشَنا في مجالِسِنا فإننا نُحبُّ ذلك، فتثاوَرَ الحيَّان. فلما ذهبَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عُبادة قال: «أَرَأَيْتَ مَا فَعَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ؟»، فقال: يا رسولَ الله! اعفُ عنه، فواللهِ إن الناسَ كادُوا يُتوِّجُونَه ويُعصِّبونَه بعِصابةٍ، ففاتَه ذلك، فاعفُ عنه يا رسول الله واصفَح.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال: (فلمَّا كانَت وقعَةُ بدرٍ قال: هذا أمرُ الله قد توجَّهَ، فأظهرَ الدخولَ في الإسلامِ، ودخلَ معهُ طوائِفُ ممن هُوَ علَى طريقتِهِ ونِحْلَتِهِ([20])، وآخرُون من أهلِ الكتابِ، فمِن ثَمَّ وُجِد النِّفاقُ في أهلِ المدينَةِ ومَنْ حَولَهَا من الأَعْرَابِ، فَأَمَّا المُهَاجِرونَ فلم يكُن فيهم أحدٌ نافَقَ([21])؛ لأنَّه لم يكُن أحدٌ يُهاجِرُ مُكرَهًا([22])، بل يُهاجِرُ فيترُكُ مالَه وولدَه وأرضَه رغبةً فيما عند الله في الدار الآخرة.
وروى محمدُ بن إسحاق عن ابن عباس: { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } يعني: المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم. وكذا فسَّرها بالمنافقين من الأوس والخزرج أبو العالية، والحسن، وقتادة، والسدي.
ولهذا نبَّه الله، سبحانه، على صفات المنافقين لئلا يغترّ بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم، وهم كفار في نفس الأمر، وهذا من المحذورات الكبار، أن يظن بأهلِ الفُجُورِ خيرٌ.
(التفسير)
من المحذُورات الكِبار: أن يُظنَّ بأهل الفُجور خيرٌ هذا محذُورٌ عظيم، كيف يُظنُّ بفاجِرٍ خبيثٍ يُظنُّ به خيرٌ؟! كما أنه لا يُظنُّ بالمُؤمن السليم يُظنُّ به شرٌّ، فالظنُّ بالمُؤمن السليم شرٌّ هذا من المحذُورات، والظنُّ بالفاجِر خيرٌ من المحذُورات أيضًا، بل يُظنُّ بالمُؤمن الخير، ويُظنُّ بالفاجِر الشرُّ، «إِنَّ اللهَ لَيُعِزُّ هَذَا الدِّيْنَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ» يعني: وهو على فُجوره في القتال، مثل: قصة الرجل الذي قاتلَ ثم قتلَ نفسَه بعد ذلك.
قد يكون له أسباب، قد يكون مثلًا يُعزُّ الله به الدِّينَ يُقاتلُ مثلًا انتصارًا لقومه، حميَّةً لقومه، فيُعزُّ الله به الدين وهو على فُجُوره.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
فقال تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} أي: يقولونَ ذلك قولًا ليس وراءه شيء آخر، كما قال تعالى: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون: 1] أي: إنما يقولون ذلك إذا جاؤوك فقط، لا في نفس الأمر؛ ولهذا يؤكدون في الشهادة بإن ولام التأكيد في خبرِها.
التفسير
{إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله} تأكيدات، هذا يقولونَه عند الرسولِ صلى الله عليه وسلم فقط، لكن ما يقولُونه في مكانٍ آخر، فإذا جاءُوا إلى الرسول من شدَّة إخفائِهم للكفر يقولون: {نشهد إنك لرسول الله} تأكيد، {نشهد} هذا إعلانٌ، {إنك} تأكيد، {لرسول الله} اللام تأكيد ثالث، ثلاث مُؤكِّدات: {نشهد إنك لرسول الله}، قال: {والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون}، مع التأكيدات شهِد الله أنهم كاذِبُون، {إذا جاءك} لا يقولونَها إلا إذا جاءُوا، لكن إذا دخلَ بعضُهم إلى بعضٍ يتكلَّمون بما عليه من الكفر، نعوذُ بالله.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
أكَّدُوا أمرَهم قالوا: آمنَّا باللهِ وباليومِ الآخِر، وليس الأمرُ كذلك([23])، كما كذَّبَهم الله في شهادتهم، وفي خبرهم هذا بالنسبة إلى اعتقادهم، بقوله: { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون } [المنافقون: 1]، وبقوله { وما هم بمؤمنين }، وقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} أي: بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر، يعتقدون بجهلهم أنهم يُخادِعون اللهَ بذلك([24])، وأن ذلكَ نافِعُهم عنده، وأنه يُرَوَّجُ عليه كما قد يُروَّجُ على بعضّ المُؤمنين، كما قال تعالى: {يوم يبعثهم الله جميعًا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون}.
(التفسير)
نسأل الله العافية، يبقَى معهم هذا النِّفاقُ حتى يوم القيامة، {يوم يبعثهم الله جميعا}، وفي الدنيا {يخادعون الله} يظنُّون أن خداعَهم ينفعُهم، وأنه يرُوجُ على الله، وفي يوم القيامة نفس الشيء يحلِفون، {يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء}، قال الله: {ألا إنهم هم الكاذبون}.
وحتى في موقِف القيامة، موقِف القيامة يُنادِي مُنادٍ: لتتبَعُ كلُّ أمةٍ ما تعبُد. فالنصارى يتَّبِعون ما يعبُدون، واليهود يتَّبِعون ما يعبُدون، ويتساقَطون في النار، كلُّ أمةٍ تعبُدُ معبودًا من دون الله تتبَعُ معبودَها وتتساقَطُ في النار، فتبقَى هذه الأمةُ فيها مُنافِقوها، فيها المُؤمن والمُنافِق، ما بقِيَ إلا المُؤمنون والمُنافِقون، فالمُنافِقون بقُوا مع المُؤمنين، يظنُّون أنهم سينتفِعون أيضًا؛ لأنهم كانوا معهم في الدنيا، قالوا: نبقَى معهم في الآخرة، فيتجلَّى الله لهم يتجلَّى الله للمُؤمنين مرَّاتٍ في موقِف القيامة، يتجلَّى في صُورةٍ، ثم يتجلَّى في صُورةٍ غير الذي يعرِفونَ، ثم يتجلَّى لهم في الصُّورة التي يعرِفون فيسجُدون لله، فيسجُدُ المُؤمنون لله، الله تعالى جعل لهم علامةً، هو الساقُ {يوم يكشف عن ساق}، فيعرِفونه بالعلامة فيسجُدون له، فيُريد المُنافقون أن يسجُدوا، فيجعل الله ظهرَ كلِّ واحدٍ منهم طبقًا عظمَة واحدة ما ينثنِي، {يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون}.
ثم بعد ذلك يمشُون مع المُؤمنين، فينطفِئ نورُ المُنافقين ويبقَون في الظُّلمة ويقولون للمُؤمنين: {انظرونا نقتبس من نوركم} انتظِروا نأخُذ من نوركم، بقِينا في الظُّلمة، ما نشُوف، ما نستطيع نمشِي {انظرونا} يعني: انتظروا {نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب}، ولذلك حصلَ الانفِصالُ بينهم وبين المُؤمنين.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
ولهذَا قابلَهم على اعتِقادِهم ذلك بقوله: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُون } يقول: وما يَغُرُّون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم، وما يشعرون بذلك من أنفسهم، كما قال تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142].
وروى ابن أبي حاتم عن ابن جُرَيْج، في قوله تعالى: { يُخَادِعُونَ اللّهَ } قال: يظهرون «لا إله إلا الله» يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم، وفي أنفسهم غير ذلك([25]).
قال: (وقال سعيدٌ عن قتادَةَ: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِين * يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُون } نعت المنافق عند كثير: خَنعُ الأخلاق يصدّق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله، يصبح على حال ويمسي على غيره، ويمسي على حال ويُصبِحُ على غيرِه([26])، ويتَكَفَّأُ تكَفُّؤَ السفينةِ كلَّما هبَّت ريحٌ هبَّ معها([27]).
[المراد بالمرض]
{في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون}([28])
(قال السُّدِّيُّ عن أبي مالكٍ وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: { في قلوبهم مرض } قال: شَكٌّ، { فزادهم الله مرضا } قال: شكًّا.
وكذلك قال مجاهد، وعكرمة، والحسن البصري، وأبو العالية، والرّبيع بن أنس، وقتادة.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: { في قلوبهم مرض } قال: هذا مرض في الدين، وليس مرضًا في الأجساد، وهم المنافقون. والمرض: الشك الذي دخلهم في الإسلام { فزادهم الله مرضا} قال: زادهم رجسًا، وقرأ: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُون * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124، 125] قال: شرًا إلى شرهم وضلالة إلى ضلالتهم.
وهذا الذي قاله عبد الرحمن، حسنٌ، وهو الجزاء من جنس العمل، وكذلك قالَه الأَوَّلُون([29])، وهو نظيرُ قوله تعالى أيضًا: { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُم } [محمد: 17].
وقوله: { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُون } وقرئ: «يكذِّبون»، وقد كانوا متصفين بهذا وهذا، فإنهم كانوا كذبة ويكذبون بالغيب يجمعون بين هذا وهذا.
(تنبيه) قول من قال: كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافقين إنما مستندُهُ حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقًا في غزوة تبوك الذين هموا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلماء الليل عند عقبة هناك؛ عزموا على أن ينفروا به الناقة ليسقط عنها فأوحى الله إليه أمرهم فأطلع على ذلك حذيفة.
فأما غير هؤلاء فقد قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} الآية، وقال تعالى: { لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً}([30])، ففيها دليلٌ على أنه لم يُغْرِ بهم، ولم يُدَلَّ([31]) على أعيانهم، وإنَّما كان تُذكَر له صفاتهم فيتَوَسَّمُها في بعضِهم([32])، كما قال تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول}.
وقد كان من أشهرهم بالنِّفاق: عبدُ الله بن أُبيِّ ابن سَلُول([33])، وقد شهِد عليه زيدُ بن أرقَم بذلك الذي سبق في صفات المنافقين ومع هذا لما مات صلى عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وشهد دفنَه كما يفعل ببقية المسلمين، وقد عاتبه عمر بن الخطاب فيه فقال: «إني أكره أن تتحدث العرب أن محمدًا يقتُلُ أصحابَه».
(التفسير)
وهذا ثابتٌ في (الصحيح)، في (صحيح البخاري)، لما مات عبدُ الله بن أُبيٍّ ودُلِّي في حُفرته، جاءَه النبي صلى الله عليه وسلم فاستخرَجَه من حُفرته، ونفَثَ فيه من رِيقِه، وألبسَهُ قميصَه وصلَّى عليه، فلما أراد أن يُصلِّي عليه جذبَه عُمر من ثوبِه وقال: تُصلِّي عليه وهو القائلُ كذا وكذا، يُعدِّدُ نفاقَه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرَ! فَإِنِّي خُيِّرْتُ»، فقيل: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرَّة}، «فَلَوْ أَعْلَمُ أَنِّي لَوْ زِدْتُّ عَلَى السَّبْعِيْنَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ لَزِدْتُّ عَلَى السَّبْعِيْنَ».
وهذا قبل أن ينهاه الله، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلَ ذلك مُراعاةً لرهطِه من الأَوس، ومُراعاةً لابنِه عبد الله، فإن له ابنًا اسمُه عبدُ الله، ومن خِيارِ المُؤمنين. وألبسَه قميصَه مُكافأَةً له؛ لأنه أعطَى قميصَه العباسَ يوم بدرٍ، وكان العباسُ طويلًا فلم يجِد له ثوب إلا ثوب عبدُ الله بن أُبيٍّ، لأنه طويلٌ مثلَه، فكافأَه النبي صلى الله عليه وسلم وألبسَه قميصَه، مُكافأَةً له أن أعطَى عمَّه القميص يوم بدرٍ، وصلَّى عليه لأنه لم يُنْهَ عن ذلك.
ثم بعد ذلك نزلَت الآية: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون}، فلم يُصلِّ بعد ذلك على مُنافِقٍ. رواه البخاري في (الصحيح)، في كتاب الجنائز.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
وفي رواية في الصحيح إني خيرت فاخترت وفي رواية لو أني أعلم لو زدت على السبعين يُغفر له لَزِدْتُّ»([34]).
[المراد بالفساد]
{وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}([35])
(قال السُّدِّيُّ في تفسيره عن ابن عباس، وعن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون } قال: هم المنافقون أما لا تفسدوا في الأرض، قال: الفساد هو الكفر، والعمل بالمعصية.
وقال أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله تعالى: { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض}يعني: لا تعصُوا في الأرض، وكان فسادهم ذلك معصية الله؛ لأنه من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله، فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطَّاعة، وهكذا قال الربيع بن أنس، وقتادة.
([1]) قال الشارح حفظه الله: والذِّكرُ الأول هو: اللَّوحُ المحفُوظ.
([2]) قال الشارح حفظه الله: يعني: بسببِ كُفرهم، فالباءُ للسببية.
([3]) صحيح مسلم (2702).
([4]) قال الشارح حفظه الله: حتى تُجتنَب أوصافُهم وأخلاقُهم الذميمة.
([5]) قال الشارح حفظه الله: هذا الوصفُ الأول: أنهم يُظهِرون الإيمان باللسان، ويُبطِنون الكفرَ بالقلبِ، {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر} يعني: بألسنتهم، {وما هم بمؤمنين} بقلوبهم، أثبتَ لهم الإيمان، ونفَى عنهم الإيمانَ، لكن الجهةُ مُنفكَّة؛ فلا يكون الشيء إذا أُثبِت ونُفِي في محلٍّ واحدٍ يُسمَّى تناقُض، كأن تقول: هذا الشخصُ موجود معدوم في آنٍ واحد، هذا ما يُمكن، ما يُمكن ثبوت النقيضان، فالنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، لا تقول: هذا الشيء موجود معدوم، ولا تقول: لا موجود ولا معدوم، بل لا بُدَّ من إثباتِ وصفٍ إما موجود وإما معدوم، إذا ثبتَ الوجود انتفَى العدم، وإذا ثبتَ العدم انتفَى الوجود، وإذا أثبتَّ الوجود ثبَت العدم، وإذا نفَيتَ الوجود ثبَت العدم.
لكن هنا الجهة مُنفكَّة، الله أثبتَ الإيمانَ ونفَى الإيمان، لكن الجهة مُنفكَّة، أثبتَ الإيمان باللسان، ونفَى الإيمان بالقلب، قال: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر} يعني: بألسنتهم، {وما هم بمؤمنين} بقلوبهم، فالجهةُ مُنفكَّة، محلُّ النفي غير محلِّ الإثبات، هذا وصفُهم. الوصفُ الأول: أنهم يُظهِرون الإيمان ويُبطِنون الكفر، يُظهِرون الإيمان بألسنتهم ويُبطِنون الكفرَ بقلوبهم.
([6]) قال الشارح حفظه الله: هذا الوصفُ الثاني: الخِداع، {يُخادِعون الله والذين آمنوا} هكذا أرشدَتهم عقولُهم، هكذا سوَّلَت لهم نفوسُهم وعقولُهم السيئة أنهم يُخادِعون اللهَ والذين آمنوا، والواقعُ أنهم ما يخدَعون إلا أنفسهم، ما يضُرُّون إلا أنفسَهم، لا يضُرُّون الله شيئًا ولا يضُرُّون المُؤمنين، والمُؤمنون لا بُدَّ أن يعرِفوهم، فالخِداعُ إنما يعودُ وبالُه على أنفسهم. من أوصافهم الخِداع، المُؤمن ما يُخادِع، ليس وصفُه أنه يُخادِع، أما هؤلاء وصفُهم الخِداعُ.
([7]) قال الشارح حفظه الله: هذا النِّفاقُ: إظهارُ الخير، وإسرارُ الشرِّ، يُظهِرُ الخيرَ ويُسِرُّ الشرَّ في نفسِه، فهؤلاء أظهَروا الخيرَ، والإيمانُ أعظمُ الخير، {قالوا آمنا بالله وباليوم الآخر}، وأسرُّوا الشرَّ، وهو الكفرُ بقلوبِهم {وما هم بمؤمنين}، فهذا النِّفاقُ: إظهارُ الخير وإسرارُ الشرِّ، إظهارُ الخير للناس، وإسرارُ الشرِّ في الباطِن.
([8]) صحيح البخاري (33).
([9]) صحيح البخاري (34).
([10]) صحيح مسلم (622).
([11]) صحيح البخاري (34).
([12]) صحيح مسلم (59).
([13]) قال الشارح حفظه الله: هذا هو المُنافِقُ، يُخالِفُ قولُه فعلَه، القولُ طيِّبٌ والفعلُ سيِّئٌ، يُخالفُ سِرُّه علانيتَه، الإعلانُ طيِّبٌ والإسرارُ سيِّئٌ، مدخلُه يُخالِفُ مخرجَه، مخرَجُه طيِّب ومدخلُه سيِّئٌ، (وهذا كما قالَ ابنُ جُرَيجٍ: المُنافِقُ يُخالِفُ قولُه فعلَه، وسِرُّه علانيَتُه، ومدخلُهُ مخرَجَه، ومشهَدُه مغيبَه) المشهَدُ إذا كان حاضِرًا يُظهِرُ الخيرَ، وإذا غابَ يُظهِرُ الشرَّ، يُخالفُ مشهَدُه مغيبَه.
([14]) صحيح البخاري (3017) و(6922).
([15]) قال الشارح حفظه الله: من الناس من يُخفِي الإسلام بسبب التعذيب، بعضُ المُسلمون يُخفُون إسلامَهم بسبب التعذيبِ، يختَفون.
([16]) قال الشارح حفظه الله: كان المدينة فيها الأنصار، وكانوا حيَّيْن مشهورَين: الأوس والخزرَج، كانا أخوَين في الأول أبوهما واحد، ثم صارَا حيَّيْن: حيَّ الأَوس والخَزرَج، وكانت بينهم حروبٌ قُبيل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، حصلَت بينهم حروبٌ توطِئةً لهِجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
([17]) قال الشارح حفظه الله: لأن اليهود قومٌ بُهتٌ، ما أسلمَ منهم إلا قليل، أسلمَ عبدُ الله بن سلام رضي الله عنه، عبدُ الله بن سلام الإسرائيلي المُبشَّر بالجنة، وهو من رُؤسائهم، ولكنَّ الله منَّ عليه بالإسلام، لكن الغالِبُ على اليهود أنه لا يُسلِم منهم إلا قلَّة، بخلاف النصارى فإن قلوبَهم ليِّنة.
ولهذا الآن المكاتِب الدعوة يُسلِم مئات من النصارى، لكن ما سمِعنا أن يهوديًّا واحدًا أسلَم، ولهذا لما أسلمَ عبدُ الله بن سَلَام رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسولَ الله! إن اليهودَ قومٌ بُهتٌ، وإنهم إن يعلَموا بإسلامي يغمِطوني حقِّي، فسَلْهم عنِّي قبل أن يعلَموا بإسلامي. فدخل اليهودُ جاءَ اليهود ودخلُوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فاختفَى عبدُ الله قبل أن يأتوا، كان مُختبِئًا في البيت. فسألَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، هم لم يعلَموا بإسلامه. قال: «ما تقُولُونَ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ؟»، قالوا: خيرُنا وابنُ خيرِنا، وسيِّدُنا وابنُ سيِّدنا، ورئيسُنا، فقال عليه الصلاة والسلام: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ؟»، قالوا: أعاذَه الله من ذلك. فخرجَ وقال: أشهدُ أن لا إله إلا الله، وأشهدُ أن محمدًا رسولُ الله. فقالوا في الحالِ: شرُّنا وابنُ شرِّنا، في الحالِ، وجعلُوا يسبُّونه. فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا الذي أخافُ يا رسولَ الله.
هم قومٌ بُهتٌ، ولهذا عندهم عُتُوٌّ وعنادٌ واستكبارٌ، لا يُسلِم منهم إلا قليل، بخلاف النصارى، ولهذا قال الله تعالى: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى}، فأخبرَ أن أشدَّ الناسِ عداوةً اليهودُ والمشركون، وأن أقربَهم مودَّةً النصارى.
([18]) قال الشارح حفظه الله: في أول الهِجرة، في السنة الأولى حتى حصلَت غزوةُ بدر.
([19]) قال الشارح حفظه الله: صالَحهم، وادَعَهم يعني: صالحَهم.
([20]) قال الشارح حفظه الله: يعني: وأبطنَ الكفرَ.
([21]) قال الشارح حفظه الله: الحمدُ لله، وقال: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق}. والمُهاجِرون ليس منهم، ليس فيهم مُنافِقون؛ لأن المُهاجرين هاجَروا بأنفسهم باختيارهم، تركُوا أموالَهم وأهلِيهم وأولادَهم.
([22]) قال الشارح حفظه الله: باختيارهم تركُوا ديارَهم وأموالَهم، بخلافِ الأَوسِ والخزرَج كان منهم النِّفاق، وكذلك من اليهود وُجِد النِّفاق.
([23]) قال الشارح حفظه الله: في هذه الآية، هم يقولون: {آمنا بالله وباليوم الآخر} تأكيد، يعني: هذا في الظاهر، يُظهِرون للناس، يقولون: {آمنا بالله وباليوم الآخر}، قال الله: {وما هم بمؤمنين} بقلوبِهم. فدلَّ على أن الإيمان الظاهر إنما هو باللسانِ لا يتجاوزُ اللسان، نعوذُ بالله.
([24]) قال الشارح حفظه الله: وهذا من جهلِهم وضعفِ عقولِهم، حينما يُظهِرون الإسلام ويُسِرُّون الكفرَ يظنُّون أنهم يخدَعون الله، وأنهم يخدَعون المُؤمنين، والواقعُ أنهم لا يخدَعون إلا أنفسَهم، هذا من جهلهم وضعفِ عقولهم، ورعونتِهم، والله تعالى لا تخفَى عليه خافية، هو الذي خلقَهم وأوجدَهم، وهو عليمٌ بأحوالهم ونيَّاتهم، كيف يُخادِعون ربَّهم؟!
([25]) قال الشارح حفظه الله: يُظهِرون كلمة لا إله إلا الله هي كلمة التوحيد، يُظهِرونها ويظنُّون أن ذلك سينفعُهم. يعني: يُظهِرون الإيمان، وفي أنفسِهم ما يُخالفُ ذلك، وأنهم ليسُوا بمُؤمنين.
([26]) قال الشارح حفظه الله: يعني: له وجهان، وجهٌ ظاهرٌ ووجهٌ باطنٌ.
([27]) قال الشارح حفظه الله: نسأل الله العافية.
([28]) قال الشارح حفظه الله: هذا من أوصافهم {في قلوبهم مرض} المراد مرض النفاق، مرض الشك والشبهة، والمرض نوعان: مرض شبهة ومرض شهوة؛ مرض الشبهة، وهو ينشأ عن الاعتقاد السيئ في العقيدة وهذا هو مرض المنافقين، ومرض أهل البدع؛ الجهمية والمعتزلة، وهو أشد من مرض الشهوة. أما مرض الشهوة: شهوة العصاة؛ الزنا ، أكل المال بالباطل.
ومن مرض الشهوة قول الله تعالى في سورة الأحزاب: {فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض} نهى الله عز وجل المؤمنات عن الخضوع بالقول لئلا يطمع العاصي، الذي في قلبه مرض الشهوة ـ الزنا ـ ، وهنا مرض الشبهة في الآية في سورة براءة: { ومنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا} هذا هو مرض الشبهة.
([29]) قال الشارح حفظه الله: الجزاءُ من جنسِ العمل، {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا}، من جنسِ عملهم، لما لم يقبَلوا الحقَّ عاقبَهم الله.
([30]) قال الشارح حفظه الله: وقال تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول}، فالنبي صلى الله عليه وسلم عرفَ بعضَ الأعيان، وأخبرَ بذلك حُذيفة، وبعضُهم لم يعلَمهم، ليس كلُّ المُنافقين يعلمهم عليه الصلاة والسلام، بعضُهم أعلمَه الله؛ كهذا الأربعة عشر الذين أرادوا أن يفتِكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، أخبرَ بهم حُذيفة؛ لأن الله أعلمَه بذلك، وبعضُ المُنافقين لم يُعلِمه الله، كما قال تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم}، وكما قال في الآية: {لا تعلمهم نحن نعلمهم}.
([31]) قال الشارح حفظه الله: في الأصل: ولم يُدلَّ، لم يدُلَّه الله، يعني: ما دلَّه الله على أعيانهم، ما أخبرَه الله.
السائل: لم يعرِفهم؟
الشيخ: فيها الآية: {لنغرينك بهم} يعني: على الآية، يحتمِل، مُحتمل هذا أن يُغرَى بهم، يُحتمل لكن ما دام الأصل، الأصل ايش؟ لم يعرِفهم ويُدلَّ على أعيانهم، في الأصل هكذا. هذا يدلُّ على أن المُختصر هذا فيه أخطاء مطبعيَّة.
([32]) قال الشارح حفظه الله: كما قال تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول}.
([33]) قال الشارح حفظه الله: وكان رئيسُ المُنافقين، وهو الذي تولَّى كِبرَ القول {والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم}.
([34]) قال الشارح حفظه الله: وهذا في البخاري، في (الصحيح) في كتاب الجنائز.
([35]) قال الشارح حفظه الله: وهذه من أوصاف المُنافِقين: أنهم يُسمُّون الفساد إصلاح، يُفسِدون في الأرض ويُظهِرون الفساد، ويدعُون إلى الشرِّ والفساد ويُسمُّونه إصلاح، وهذا موجودٌ في القديم والحديث، ينشُرون الشُّرور والبلاء على الناس ويُسمُّون هذا إصلاح وتقدُّم، {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون}، قال الله: {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} حصرَ الفسادَ فيهم، وأكَّد ذلك بـ (إنَّ).