شعار الموقع

شرح سورة البقرة من مختصر تفسير ابن كثير 06

00:00
00:00
تحميل
97

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِين * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[البقرة:23 ، 24]

ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو فقال مخاطبًا للكافرين: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا}[البقرة:23] يعني محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فأتوا بسورة مما جاء به إن زعمتم أنه من عند غير الله فعارضوه بمثل ما جاء به واستعينوا على ذلك بمَن شئتم من دون الله فإنكم لا تستطيعون ذلك، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: شهداءكم أعوانكم، وقال السدي عن أبي مالك: شركاءكم أي قومًا آخرين يساعدونكم على ذلك، أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم، وقال مجاهد -رحمه الله-: وادعو شهداءكم قال: الناس يشهدون به يعني حكام الفصحاء، وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن فقال في سورة القصص: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[القصص:49] وقال في سورة الإسراء: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:88] وقال في سورة هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[هود:13] وقال في سورة يونس: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[يونس:37] {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[يونس:38] وكل هذه الآيات مكية ثم تحداهم بذلك أيضًا في المدينة فقال في هذه الآية: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ} أي: شكٍ {مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} يعني محمدًا -صلى الله عليه وسلم- {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} يعني من مثل القرآن، قاله مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير والزمخشري والرازي ونقله عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن البصري وأكثر المحققين.

ورجح ذلك بوجوه من أحسنها أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميهم وكتابيهم، وذلك أكمل التحدي، وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممَن لا يكتب ولا يعاني شيئًا من العلوم، وبدليل قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} وقوله: {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}[الإسراء:88] فهذا التحدي عام لهم كلهم مع أنهم أفصح الأمم، وقد تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه، ومع هذا عجزوا عن ذلك ولهذا قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا}[البقرة:24] ولن لنفي التأبيد في المستقبل، أي: ولن تفعلوا ذلك أبدًا، وهذه أيضًا معجزة أخرى وهو أنه أخبر خبرًا جازمًا قاطعًا مقدمًا غير خائفٍ ولا مشفق أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الأبدين ودهر الداهرين، وكذلك وقع الأمر لم يُعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن وأنى يتأتى ذلك لأحدٍ والقرآن كلام الله خالق كل شيء، وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين؟.

ومَن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنونًا ظاهرة وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى، قال الله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[هود:1] فأُحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف، فكلٌ من لفظه ومعناه فصيح لا يحادى ولا يدان فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت ووقعت وفق ما أخبر سواءً بسواء، وأمر بكل خير ونهى عن كل شر كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا}[الأنعام:115] أي: صدقًا في الأخبار وعدلًا في الأحكام، فكله حقٌ وصدقٌ وعدلٌ وهدى ليس فيه مجازفةٌ ولا كذبٌ ولا افتراء كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها كما قيل في الشعر: إن أعذبه أكذبه، وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سَبُع أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئا إلا قدرة المتكلم المعين على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح ثم تجد له فيه بيتًا أو بيتين هي بيوت القصيد وسائرها هدرٌ لا طائل تحته.

وأما القرآن فجميعه فصيحٌ في غاية نهايات البلاغة عند مَن يعرف ذلك تفصيلًا وإجمالًا ممَن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة، سواءٍ كانت مبسوطة أو وجيزة، وسواءً تكررت أم لا وكلما تكرر حلا وعلا، لا يخلق عنك صلة الرد ولا يمل منه العلماء وإن أخذ في الوعيد والتهديد.

وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات فما ظنك بالقلوب الفاهمات؟ وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان ويشوق إلى دار السلام، ومجاورة عرش الرحمن كما قال في الترغيب: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[السجدة:17] وقال: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[الزخرف:71].

وقال في الترهيب: {أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ}[الإسراء:68] {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}[الملك:16] {أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}[الملك:17].

وقال في الزجر: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ}[العنكبوت:40].

وقال في الوعد: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ}[الشعراء:205] {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ}[الشعراء:206] {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}[الشعراء:207].

إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة، وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء كما قال ابن مسعود وغيره من السلف: إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن: (يا أيها الذين آمنوا) فأرعها سمعك، فإنها خيرٌ يأمر به أو شرٌ ينهى عنه، ولهذا قال تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}[الأعراف:157] الآية، وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال، وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأولياءه وأعداءه من النعيم والجحيم والملاذ والعذاب الأليم، بشرت به وحذرت وأنذرت ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات، وزهدت في الدنيا ورغبت في الآخرة وثبتت على الطريقة المثلى، وهدت إلى صراط الله المستقيم، وشرعه القويم ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم، ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطيَّ من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليِّ أرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة» لفظ مسلم([1]).

التفسير

يعني أن كل نبي أعطاه الله من المعجزات ما يكون سببًا في إيمان البشر كلهم، قال: وإنما كان الذي أوتيته وحيًا وهو القرآن أرجو أن أكون تابعًا.

أما معجزات الأنبياء فهي معجزات حسية مثل العصا واليد لموسى ، وعيسى يبرئ الأكمه والأبرص، وإنما الذي أوتيه النبي كان وحيًا يتلى ومعجزة باقية إلى يوم القيامة، أما معجزة الأنبياء فهي في زمانهم، تنتهي بزمانهم، ولهذا قال: وأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا، والحديث الآخر: " إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ "([2]) وهو القرآن لا يغسله الماء لأنه محفوظ في الصدور، مكتوب في المصاحف فلا يغسله الماء بخلاف الذي يكتب ولا يُحفظ هذا يغسله الماء.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وإنما كان الذي أوتيته وحيًا" أي: الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه بخلاف غيره من الكتب الإلهية فإنها ليست معجزة عند كثير من العلماء والله أعلم.

التفسير

والرسول -عليه الصلاة والسلام- أوتي معجزات كثيرة حسية كثرة الطعام، نبع الماء بين أصابعه لكن معجزة القرآن هي المعجزة العظمى وكذلك الأنبياء لهم معجزات لكن النبي الذي اختص به هذه المعجزة وهي القرآن، تحدى الله البشر أن يأتوا بمثله أو بعشر سور أو بسورة، عجزوا وهم أهل البلاغة واللسان والبيان والفصاحة والبلاغة.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

قوله - عليه الصلاة والسلام - من الآيات الدالة على نبوته وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر ولله الحمد والمنة.

التفسير

وقد ألف العلماء في هذا مؤلفات منها دلائل النبوة للبيهقي، وغيره من أهل العلم ألفوا مؤلفات في دلائل النبوة وفي كتب المسانيد والصحاح أيضًا نجد علامات النبوة ودلائل النبوة، كثيرة.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

 قوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[البقرة:24] أما الوقود بفتح الواو فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه كما قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا}[الجن:15] وقال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ  * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ}[الأنبياء:98،  99] والمراد بالحجارة هاهنا هي حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة وهي أشد الأحجار حرًا إذا حميت، أجارنا الله منها، وقيل: المراد بها حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}[الأنبياء:98] الآية، وقوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} الأظهر أن الضمير في أعدت عائدٌ إلى النار التي وقودها النار والحجارة، ويحتمل عوده إلى الحجارة ولا منافاة بين القولين في المعنى؛ لأنهما متلازمان، وأعدت: أي: رصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله، كما قال ابن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: أعدت للكافرين: أي: لمَن كانوا على مثل ما أنتم عليه من الكفر.

وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن لقوله تعالى: {أُعِدَّتْ} أي: أرصدت وهُيئت، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها: "تحاجت الجنة والنار" ومنها: "استأذنت النار ربها فقالت: ربِ أكل بعضي بعضًا فأذِن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف"([3]). وحديث ابن مسعود: "سمعنا وجبةً فقلنا: ما هذه؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هذا حجر ألقيَّ به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها"([4]) وهو عند مسلم، وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى.

التفسير

هذه الآيات فيها تقرير النبوة، الآية الأولى فيها تقرير الألوهية وأن الله هو المألوه والمعبود بالحق، والثانية فيها تقرير النبوة، فالمناسبة مناسبة الآيات الظاهرة يعني {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] فيه تقرير الألوهية وتقرير العبادة لله، {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] فيه تقرير النبوة.

فيها إثبات نبوة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وفيها إثبات أن القرآن كلام الله وأنه منزل غير مخلوق.

وفيها دليل على أن مَن شك في القرآن فهو كافر {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} .

وفيه دليل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بشر، عبد ليس إلهًا يُعبد {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} والعبد بشر ليس إلهًا، يصيبه ما يصيب الناس، يأكل ويشرب ويمرض ويموت لكنه نبيٌ كريم يطاع ويتبع ولا يعبد، فالعبادة حق الله، والمراد بالعبودية هنا العبودية الخاصة {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} .

وأشرف مقامات النبي -صلى الله عليه وسلم- العبودية الخاصة والرسالة، وهو محمد عبد الله ورسوله عبد: فيه رد على الغلاة، والرسول عبد على الجفاة، فهو عبد الله فليس إلهًا فيه رد على مَن قال: أنه جزء من الله وأنه نور، والعياذ بالله، ورسوله فيه رد على مَن لم يؤمن به وأنكر رسالته {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} .

وقد وصف الله نبيه بالعبودية في أشرف المقامات، في مقام التحدي هنا {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} وفي مقام الإسراء {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا}[الإسراء:1] وفي مقام الدعوة {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ}[الجن:19] فأشرف مقامات النبي -صلى الله عليه وسلم- العبودية الخاصة والرسالة الخاصة.

وفيه أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وفيه أن البشر لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن مع أن القرآن من الحروف الهجائية الثماني والعشرين التي يتكلم بها الناس، ومع ذلك لم يستطع الناس أن يأتوا بمثله، تحدى الله الناس الجن والإنس أن يأتوا بمثل هذا القرآن {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}[الإسراء:88] عجزوا ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}[هود:13] فعجزوا، فتحداهم أن يأتوا بسورة كما في هذه الآية {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} مَن يعينكم، شهداءكم: شفعاءكم ومَن يعينكم فلا يستطيعون، {مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}.

في هذه الآيات إثبات نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- وإثبات القرآن أنه كلام الله.

وفيها إثبات بشرية النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه بشر ليس بإله يُعبد بقوله: عبدنا.

وفيه معجزة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنهم لا يستطيعون في المستقبل {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا}[البقرة:24] في المستقبل {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ}.

وفيه إثبات الجنة والنار، والرد على مَن أنكر وجودهما وكما سمعنا الآن نصوص كثيرة قال عن النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} وقال عن الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} في تحدي للجنة والنار والوجبة التي سمعت، هذا حجر رمي به في شفير جهنم منذ سبعين سنة.

وفيه رد على المعتزلة الذين يقولون: أن الجنة والنار معدومتان، وإنما تخلقان يوم القيامة، هذا من جهلهم وضلالهم، المعتزلة ضُلاّل يقولون الجنة والنار ليست بموجودة الآن وإنما تخلقان يوم القيامة، لأن وجودهما الآن عبث، والعبث محال على الله !! وهم أهل عقول يعملون بعقولهم ويتركون النصوص وراءهم ظهريًا.

يقولون: لو كانتا موجودتين لبقيتا معطلتين مدة طويلة، وهذا عبث محال على الله، إنما تخلقان يوم القيامة.

نقول: أولًا: النصوص صريحة في أنهما موجودتان الآن {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} و{أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} يعني الجنة والنار.

وكذلك أيضًا وجودهما الآن فيه فوائد عظيمة منها: فتح باب من الجنة إلى المؤمنين، فيفتح لهم أبواب الجنة فيأتيهم من روحها وطيبها، والكافر يفتح له باب إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها، وأرواح المؤمنين تنعم في الجنة، وأرواح الكفار تعذب في النار، وفيها الحور الجنة وفي صلاة الكسوف كشف النبي عن الجنة والنار، وفي الإسراء أيضًا رأى الجنة والنار، كل هذا فيه الرد على المعتزلة الذين يقولون إنهما لا توجدان إلا يوم القيامة، المؤمن إذا مات نقلت روحه إلى الجنة ولها صلة بالجسد، والكافر تخرج روحه إلى النار، وروح الشهداء تسرح في الجنة، ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش، والمؤمن روحه تتنعم وحدها تأخذ شكل الطائر، يعلق في الجنة، فمَن قال إنهما معطلتان فهذا من جهل المعتزلة لأنهم يعملون بعقولهم ويتركون النصوص.

وفي هذه الآيات إثبات الجنة والنار والرد على المعتزلة.

وفيها إثبات النبوة نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- وإثبات القرآن وأن مَن شك في نبوة النبي أو شك في القرآن فهو كافر.

وفيه وجوب عبادة الله وتوحيد الله في الآية الأولى، وإخلاص الدين له وتحريم الشرك.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

 {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:25] لما ذكر تعالى ما أعد لأعداءه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال عطف بذكر حال أولياءه من السعداء المؤمنين به وبرسله، الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة وهذا معنى تسمية القرآن (مثاني) على أصح أقوال العلماء كما نبسطه في موضعه، وهو أن يذكر الإيمان ويُتبع بذكر الكفر أو عكسه أو حال السعداء ثم الأشقياء أو عكسه.

 

التفسير

هذا معنى (مثاني) {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر:23] تثنى فيه الأخبار، يذكر صفات المؤمنين ثم يذكر صفات الكافرين، يذكر الكفر ثم يذكر الإيمان، يذكر الأبرار ثم يذكر الفجار، تثنى الأخبار يجمع بين الترغيب والترهيب.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

وحاصله ذكر الشيء ومقابله، وأما ذكر الشيء ونظيره فذاك التشابه كما سنوضحه إن شاء الله فلهذا قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}[البقرة:25] فوصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار أي: من تحت أشجارها وغرفها، وقد جاء في الحديث أن أنهارها تجري في غير أخدود وجاء في الكوثر أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف ولا منافاة بينهما.

التفسير

وهذا من الآيات العجيبة ومن النعيم العظيم، الأنهار تجري من تحت الأشجار ومن تحت البيوت، وليست مثل بيوت الدنيا إن جرى تحتها الماء تسقط، فالبيوت لا تسقط وهي معدودة للبقاء وهي لبنة من ذهب ولبنة من فضة تجري من تحتها الأنهار، وفي غير أخدود يعني سواقي، أما في الدنيا إذا لم يكن لها أخدود ذهب الماء يمينًا وشمالًا ويتقطع كما يقول بعض الناس، لكن في الجنة تمشي الأنهار ولا تذهب من هنا ولا من هنا، في غير أخدود، من تحت البيوت، ومن تحت الأشجار، فأحوال الآخرة وأمور الآخرة ليست مثل الدنيا، الدنيا فيها نخيل والآخرة فيها نخيل {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}[الرحمن:68] نخيل الدنيا من الخشب، ونخيل الآخرة من الذهب والفضة.

*****

 

([1])  رواه البخاري في صحيحه برقم (4981) ومسلم في صحيحه برقم (152) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([2])  صحيح مسلم (2865) من حديث عياض بن حمار المجاشعي.

([3])  صحيح البخاري برقم (4850) وصحيح مسلم برقم (2846) .

([4])  صحيح مسلم برقم (2844).

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد