شعار الموقع

شرح سورة البقرة من مختصر تفسير ابن كثير 08

00:00
00:00
تحميل
108

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

يقول الله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّـهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} محتجًا على وجوده وقدرته، وأنه الخالق المتصرف في عباده: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّـهِ} أي: كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره! {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} أي: وقد كنتم عدما فأخرجكم إلى الوجود، كما قال (تعالى): {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ {٣٥} أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ} [الطور:35، 36] وقال (تعالى): {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا} [الإنسان:1] والآيات في هذا كثيرة وقال ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} أمواتًا في أصلاب آبائكم، لم تكونوا شيئًا حتى خلقكم، ثم يميتكم موتة الحق، ثم يحييكم حين يبعثكم، قال: وهي مثل قوله (تعالى): {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11].

التفسير

هنا موتتان وحياتان، فالموتة الأولى، حين كانوا عدمًا، أو كانوا في أصلاب آبائهم، والموتة الثانية بعد الحياة، وحياتان، الحياة الأولى في الدنيا، والحياة الآخرة بعد البعث، قال تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ}.

وهذه الآية الكريمة، فيها إثبات الخالق سبحانه وتعالى، وإثبات ربوبيته، وأنه الخالق المحيي، المميت وفيه إثبات البعث، وأن الناس يرجعون إلى الله، وإثبات الحساب، والجزاء، يقول تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّـهِ} وفيه الإنكار على الكفار كيف يكفرون بالله، والله تعالى خلقهم وأوجدهم من العدم، ورباهم بنعمه، ثم يكفرون به ويعبدون معه غيره؟! فهذا استفهام تعجب، يعني كيف تكفرون بالله تعالى وكنتم أمواتًا في أصلاب آبائكم، أو كنتم عدمًا فأحياكم الله، {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وفيه إثبات البعث والجزاء في قوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .

هذه الآية فيها إثبات الخالق سبحانه وتعالى، وإثبات البعث والجزاء والنشور، وفيه أن الكافر وقع فيه أعظم الظلم، حيث أنه عبد غير الله، ولهذا تعجب الله من الكفار، وقال: كيف تكفرون بالله وهو الذي أحياكم ورباكم بنعمه، ثم يحييكم ثم يبعثكم يوم القيامة، وإليه ترجعون للحساب والجزاء.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، لما ذكر تعالى دلالة من خلقهم وما يشاهدونه من أنفسهم، ذكر دليلًا آخر مما يشاهدونه من خلق السماوات والأرض، فقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ} {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} أي: قصد إلى السماء، {فَسَوَّاهُنَّ } أي: فخلق السماء سبعًا، والسماء هاهنا اسم جنس؛ فلهذا قال: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي: وعلمه محيط بجميع ما خلق. كما قال:  {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:14]

وتفصيل هذه الآية في سورة «حم السجدة» وهو قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ {٩} وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ {١٠} ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ {١١} فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 9-12] ففي هذا دلالة على أنه (تعالى) ابتدأ بخلق الأرض أولًا، ثم خلق السماوات سبعًا، وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك، وقد صرح المفسرون بذلك، كما سنذكره بعد هذا إن شاء الله.

فأما قوله (تعالى): {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا {٢٧} رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا {٢٨} وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا {٢٩} وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا{٣٠} أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا {٣١} وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات:27-32] فقد قيل: إن (ثم) هاهنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر، لا لعطف الفعل على الفعل، رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس .

وقال مجاهد في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} قال: خلق الله الأرض قبل السماء، فلما خلق الأرض ثار منها دخان، فذلك حين يقول: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [ص:215] {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} قال: بعضهن فوق بعض، وسبع أراضين، يعني بعضها تحت بعض. 

وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء، كما قال في آيات سورة السجدة الماضية.

فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء، وفي صحيح البخاري  أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه، فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديمًا وحديثًا، وقد حررنا ذلك في سورة النازعات.

وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أخرج مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا {٣١} وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات:31-32] ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعًا فيها بالقوة، إلى الفعل لما أُكملت صورة المخلوقات الأرضية، ثم السماوية دحى بعد ذلك الأرض، فأخرجت ما كان مودعًا فيها من المياه، فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها، وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

التفسير

هذه الآية الكريمة فيها من الفوائد العظيمة، {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} استدل به العلماء على قاعدة أصولية، وهي أن الأصل في الأشياء الإباحة، وأن كل شيء مخلوق لبني آدم، فالأصل في الحيوانات والنباتات الإباحة، فإذا أشكل عليك هذا الحيوان، هل هو حرام أم حلال، فالأصل أنه حلال، حتى يأتي الدليل بخلاف ذلك، إذا أشكل عليك نبات، هل يجوز أكله أو لا يجوز، فالأصل أنه يجوز الأكل، ويباح لك، إلا بدليل يدل على ضد ذلك، يقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} هذه الآية سيقت للامتنان، فيها الامتنان من الله تعالى على عباده، بأنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا، من النباتات والحيوانات، وفيها دليل على إثبات الخالق سبحانه وتعالى وأن الله تعالى هو الذي خلق السماوات والأرض، وفيها أن الأرض خلقت قبل السماء؛ لأنها أسفل والسماء فوق، والبناء إنما يبدأ به من أسفل، فالباني حينما يبني البيت يبنى القواعد أولًا من أسفل، وفيها دليل على أن السماوات سبع، قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} فكل ما استوى إلى السماء، {ثُمَّ اسْتَوَىٰ} يعني قصد خلق الأرض، ثم تارة من الدخان ثم قصد إلى السماء والسماء جنس، ولهذا قال: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}، فالسماوات سبع والأرضين سبع، كما قال الله (تعالى): {اللَّـهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق:12] وفي الحديث الشريف: «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ»([1]) وتفصيل هذه الآية من سورة فصلت، بين الله (تعالى) أنه خلق الأرض والسماء، خلق السماء والأرض في ستة أيام، خلق السماء في يومين، والأرض في أربعة أيام، قال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ {٩} وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ} [فصلت:9-10] فخلق الأرض في يومين، وقدَّر فيها من الأقوات وما فيها في يومين، صارت أربعة أيام، وخلق السماء في يومين، فتكون الأيام ستة، هي التي خلق فيها السماوات والأرض، {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ {٩} وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ} والأرض خلقت أولًا، ثم السماء ثانيًا، خلق الله الأرض أولًا، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض، بعد خلق السماء، خلق السماء في صورتها، هكذا أولًا، ثم خلقت السماء، ثم دحيت الأرض، والدحي معناه إخراج ما فيها، فسر بقوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا {٣١} وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات:30-31] أخرج ما فيها من قوتها من النبات والماء، وأرساها بالجبال، وفيه الرد على من قال: إن الأرضين سبع قارات، هذا باطل، ليست سبع قارات، أو سبعة أقاليم، ولكنها طبقات بعضها تحت بعض، لقوله: {اللَّـهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} والحديث: «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» طوقه أي يكون طوقًا، وفيه إثبات سعة علم الله (عزَّ وجلَّ) وأنه لا يعزب عن علم الله شيئًا، فقال: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فيه دليل على أن الأصل في كل شيء الإباحة، وفيه إثبات أن الله (تعالى) هو الخالق لكل شيء، وفيه إثبات علم الله (تعالى) وفيه أن السماوات سبع، والأراضين سبع، وفيه أن الأرض خلقت أولًا، قبل السماء، نعم، وفيه امتنان الله على عباده، وأنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم، بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم، فقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} أي: واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة، واقصص على قومك ذلك، {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} أي: قومًا يخلف بعضهم بعضا قرنًا بعد قرن وجيلًا بعد جيل، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذي جَعَلَكُم خَلائِفَ الأَرضِ} [الأنعام:165] وقال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل:62]. وقال: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف:60]. وقال: {فَخَلَفَ مِن بَعدِهِم خَلفٌ} [مريم:59]، والظاهر أنه لم يرد آدم عينًا إذ لو كان كذلك لما حَسُن قول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} فإنهم إنما أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية؛ فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمإ مسنون، أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس، ما يقع بينهم من المظالم، ويردعهم عن المحارم والمآثم. قاله القرطبي.

وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد لبني آدم، كما قد يتوهمه بعض المفسرين، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول، أي: لا يسألونه شيئًا لم يأذن لهم، فيه وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقًا، قال قتادة: وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} الآية، وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون: يا ربنا، ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، أي: نصلي لك ـ كما سيأتي ـ، أي: ولا يصدر منا شيء من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيبًا لهم عن هذا السؤال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي: إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد، التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم؛ فإني جاعلٌ فيهم الأنبياء، وأُرْسِل فيهم الرسل، ويوجد منهم الصديقون والشهداء، والصالحون والعبَّاد، والزُّهاد والأولياء، والأبرار والمقربون، والعلماء العاملون والخاشعون، والمحبون له (تبارك وتعالى) المتبعون رسله، صلوات الله وسلامه عليهم

وقد ثبت في الصحيح: أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى، بأعمال عباده يسألهم وهو أعلم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون.

وذلك لأنهم يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر، فيمكث هؤلاء ويصعد أولئك بالأعمال كما قال عليه الصلاة والسلام: «يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل».

 فقولهم: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون من تفسير قوله لهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وقيل: معنى قوله تعالى جوابًا لهم :{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} إن لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء، والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها، وقيل: إنه جواب: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} فقال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي: من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به، وقيل: بل تضمن قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} طلبًا منهم أن يسكنوا الأرض بدل بني آدم، فقال الله تعالى لهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} من أن إبقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم. ذكرها الرازي مع غيرها من الأجوبة، والله أعلم.

وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية، على وجوب نصب الخليفة؛ ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويقطع تنازعهم، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود، ويزجر عن تعاطي الفواحش، إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

والإمامة تنال بالنص، كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي بكر، أو بالإيماء إليه كما يقوله آخرون منهم، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده، كما فعل الصديق بعمر بن الخطاب،  أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر، أو باجتماع أهل الحل والعقد، على مبايعته أو بمبايعة واحد منهم له، فيجب التزامها عند الجمهور. 

ويجب أن يكون ذكرًا حرًا بالغًا عاقلًا مسلمًا، عدلًا مجتهدًا بصيرًا سليم الأعضاء خبيرا بالحروب، والآراء قرشيًا على الصحيح .

(التفسير)

هذه هي الشروط إذا كان الاختيار والانتخاب بين المسلمين في الإمامة، والإمامة والخلافة تثبت بواحدة من أمور ثلاثة؛ الأمر الأول الاختيار والانتخاب من أهل الحل والعقد، كما ثبت للصديق، اختاره أهل الحل والعقد، في هذه الحالة، يختارون من يستوفي الشروط، لابد أن يكون قرشيًّا وأن تتوافر فيه هذه الشروط، وهي: ذكر، حر، عاقل، بالغ، عالم، بصير بالحروب، إلى آخره، ولابد أن يكون في قريش إذا كان فيهم من يصلح للخلافة، وكما ثبت في الصحيح: «لاَ يَزَالُ هَذَا الأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمُ اثْنَانِ»([2]) من أقاموا الدين، يعني إذا وجد من يقيم الدين من قريش، يجب أن يكون منهم، فإن لم يوجد من يقيم الدين منهم، فيختار من غيرهم، هذا هو الاختيار والانتخاب، إذا كان الاختيار والانتخاب للمسلمين يختارون من قريش، ممن تتوافر فيهم من الشروط، كما اختار الصحابة الصديق، فالصديق ثبتت إمامته بالاختيار والانتخاب، وهو قرشي.

 الأمر الثاني: تثبت الخلافة بولاية العهد من الخليفة السابق، كما ثبتت الخلافة لعمر بولاية العهد من أبي بكر.

الأمر الثالث: أن تثبت بالقوة والغلبة، إذا غلبهم بسيفه، وسلطانه وقهرهم ثبتت له الخلافة، ووجب له السمع والطاعة، كما في الحديث لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ»([3]) يعني تثبت له الخلافة، والمعلوم أنه العبد الحبشي ما بالقرشي، هذا بالقوة والغلبة، تثبت ولو للحبشي، إذا غلبهم وقهرهم بالسلطان، واستتب له الأمر وجبت له السمع والطاعة، وتثبت له الخلافة هذا هو الأمر الثالث لمن تثبت له الخلافة، إما بالاختيار والانتخاب من أهل الحل والعقد، أو بولاية العهد من الخليفة السابق، أو بالقوة والغلبة.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

ولا يشترط الهاشمي ولا المعصوم من الخطأ خلافًا لغلاة الروافض.

(التفسير)

نعم الروافض اشترطوا أن يكون الإمام معصومًا، فالروافض الشيعة: يقولون لابد أن يكون الإمام معصومًا.

ونحن نقول: لا يوجد معصوم إلا الأنبياء فهم المعصومون فيما يبلغون عن الله، وهم معصومون من الكبائر والشرك.

أما الروافض فلابد عندهم أن يكون الإمام معصومًا، ولهذا يرون إمامة جميع الأئمة باطلة، ويخرجون عليهم، فهم يرون أن كل إمامة الأئمة في كل زمان باطلة، إلا الإمام المعصوم منهم.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا ؟ فيه خلاف، والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة والسلام: «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا، عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ» وهل له أن يعزل نفسه؟ فيه خلاف، وقد عزل الحسن بن علي رضي الله عنه نفسه، وسلم الأمر إلى معاوية، لكن هذا لعذر وقد مدح على ذلك . 

فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر، فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام" فَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ جَمِيعٌ، فَاقْتُلُوهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ " وهذا هو قول الجمهور. 

(التفسير)

الخليفة لابد أن يكون واحدًا فقط من المسلمين، لا يكون اثنين، ولهذا في زمن هارون الرشيد كان يقول للصحابة: أمطري حيث شئتِ، فسيأتيني خراجك، كانت الخلافة واحدة، وكان في زمن الخلفاء الراشدين لا يكون غير خليفة واحد للمسلمين، وفي زمن الدولة الأموية والدولة العباسية والعثمانية، ولما سقطت الخلافة في الدولة العثمانية، أدى ذلك إلى تفكيك المسلمين إلى دويلات، كل دولة لها والي، ولكل إقليم ولكل جهة وال، فبعد ما سقطت الخلافة صار المسلمون دويلات كل بلد له حاكم، وكل إقليم له حاكم.

*****

 

 

 

الملف الصوتي رقم (6)

لقوله عليه الصلاة والسلام: «مَنْ جَاءَكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَكُمْ فَاقْتُلُوهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ»([4])، وهذا قول الجمهور.

التفسير

هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه؛ إذا بويع للخليفة الإمام، ثم جاء شخص ثانٍ ينازعه، يقتل الثاني؛ لأنه يريد أن يفرق المسلمين بعد اجتماعهم، واستتباب الأمن.

وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما، وتردد إمام الحرمين في ذلك.

هذا قول فيه تقييد بتباعد الأقطار.

وهذه الآيات الكريمات فيها أن الله سبحانه وتعالى أعلمَ الملائكةَ لما أراد خلقَ بني آدم، وقال لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}؛ يعني أناسًا يخلف بعضهم بعضًا، فقال بعض العلماء: الخليفةُ آدمُ.

ولكن استظهر الحافظ أنه ليس المرادُ بآدمَ، بل قوم يخلف بعضهم بعضًا. فالخليفة يكون خليفة عن ملك إذا أراد أن يغيب أو يسافر عَهِدَ إلى من يصرف أمور البلاد فيكون خليفته بعده؛ فيقول: اخلفني بعدي، أما الله فهو حاضر ليس بغائب سبحانه، فليس هناك خليفة يخلف الله، والمراد أنهم يخلفون بعضهم بعضًا.

وفي قوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} إثبات الكلام لله عز وجل، والرد على من أنكر ذلك. وفيه سؤال الملائكة لله عز وجل عن الحكمة في جعل الخليفة، وليس هذا اعتراضًا، {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} يعني ما الحكمة يا ربنا؛ لأن الخليفة إذا كان يخلف بعضهم بعضًا لابد أن يحصل بينهم نزاع وشقاق، وعصيان، وهذا من طبيعة البشر.

ومن قوله: {خَلِيفَةً} قال بعضهم: إن الله خلق أناسًا من الجن قبل آدم، فأفسدوا في الأرض، فقالت الملائكة يا ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها كما أفسدت الجن السابقون قال الله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}.

وفيه أن لله تعالى الحكمةَ البالغةَ فيما يخلقه، وفيما يقدره قال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي: أعلم الحكمة وأعلم ما لا تعلمون بأنه يوجد فيهم، فإن كان يوجد فيهم من يعصي فإنه يوجد فيهم الأنبياء، والرسل، والصديقون والشهداء، والصالحون، والأولياء، والزهاد، والعباد، ففي خلقهم من المصالح ما يَرْبُو على ما يصدر منهم من المفاسد.

 

([1]) صحيح البخاري (2452 و2453 و3195 و3198) من حديث سعيد بن زيد وعائشة رضي الله عنهما.

([2]) صحيح البخاري (3501) و(7140) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

([3]) صحيح البخاري (693) و(696) و(7142) من حديث أنس رضي الله عنه.

([4]) أخرجه نحوه مسلم برقم (1852).

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد