شعار الموقع

شرح سورة البقرة من مختصر تفسير ابن كثير 09

00:00
00:00
تحميل
129

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ*قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 31-33].

(التفسير)

الخليفة الذي يكون خليفة عنه هو إذا أراد أن يغيب الملك أو غيره سافر عهد إلى من يصرف البلاد، وأمور البلاد إلى غيره إلى خليفته بعده قال تخلفني بعدي أما الله فهو حاضر ليس بغائب سبحانه، فليس هناك أحد خليفة يخلف الله، والمراد أنهم يخلفوا بعضهم بعضًا نعم.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة، بما اختصه به من علم أسماء كل شيء دونهم، وهذا كان بعد سجودهم له، وإنما قدم هذا الفصل على ذاك، لمناسبة ما بين المقام، وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة، حين سألوا عن ذلك، فأخبرهم الله تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون؛ ولهذا ذكر تعالى هذا المقام عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم بما فُضل به عليهم في العلم، فقال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} قال الضحاك عن ابن عباس: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} قال : هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان، ودابة، وسماء، وأرض، وسهل، وبحر، وجمل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. 

وروى ابن أبي حاتم وابن جرير، من حديث عاصم بن كليب، عن سعيد بن معبد، عن ابن عباس: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} قال: علمه اسم الصحفة، والقدر، قال: نعم حتى الفسوة، والفسية. والصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها: ذواتها، وصفاتها، وأفعالها؛ كما قال ابن عباس حتى الفسوة والفسية. يعني أسماء الذوات والأفعال، المكبر والمصغر؛ وروى البخاري في تفسير هذه الآية من كتاب التفسير من صحيحه، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال، وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد، عن قتادة عن أنس - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: «يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا؟ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ أَبُو النَّاسِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، ويذكر ذنبه فيستحي؛ ائْتُوا نُوحًا فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُم. وَيَذْكُرُ سُؤَالَهُ رَبَّهُ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ فيستحي. فَيَقُولُ: ائْتُوا خَلِيلَ الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَهُ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكم؛ فَيَقُولُ: ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا كَلمه اللَّهُ، وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ، فَيَأْتُونَهُ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ قَتْلَ النَّفْسِ بِغَيْرِ نَفْسٍ، فَيَسْتَحْيِ مِنْ رَبِّهِ؛ فَيَقُولُ: ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ ورسولَه وكَلِمةَ اللَّهِ وَرُوحَهُ، فَيَأْتُونَهُ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُم، ائْتُوا مُحَمَّدًا عَبْدًا غَفَر اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَأْتُونِي، فَأَنْطَلِقُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ عَلَى رَبِّي، فيُؤذن لِي، فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وقعتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَسَلْ تعطه، وقل يُسْمَع، وَاشْفَعْ تُشَفَّع، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَحْمَدُهُ بِتَحْمِيدٍ يعلمُنيه، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ إِلَيْهِ، وَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَقُولُ: مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ»([1]).

وقد روى هذا الحديث: مسلم، والنسائي، وابن ماجه، ووجه إيراده هاهنا، والمقصود منه قوله عليه الصلاة والسلام: «فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فدل هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات».

(التفسير)

يقول: وعلمك أسماء كل شيء، ففيه دليل على أن الله علم آدم أسماء كل شيء، وهذا عام في الأشياء، الذوات، والصفات، والأفعال علمه أسماءها، وفيه دليل على شرف العلم، وفضل العلم، فإن آدم فُضِّل على الملائكة بالعلم. والعلم الشريف ومن اتصف بالعلم فله ميزة على غيره، حتى الحيوانات، فالكلب المعلَّم له ميزة على غير المعلَّم، الكلب المعلم يجوز اقتناؤه، وغير المعلم لا يجوز اقتناؤه، يقتنى الكلب المعلم للصيد، والكلب غير المعلم ورد فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: « مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، لَيْسَ بِكَلْبِ مَاشِيَةٍ، أَوْ ضَارِيَةٍ، نَقَصَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطَانِ »([2]) فإذا كان كلب معلم للصيد فهو جائز، ولا ينقص من أجره شيء، وهذا يدل على شرف العلم، حتى في الحيوانات، من اتصف بالعلم فله ميزة على غيره، قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].

{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} ما استطاع الملائكة {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} فأنبئهم بأسمائهم، فظهر شرفه.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

ولهذا قال: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} يعني: المسميات؛ كما قال عبدالرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: ثم عرض تلك الأسماء على الملائكة، {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}، ومعنى ذلك فقال: أنبئوني بأسماء من عرضتُه عليكم أيها الملائكة القائلون: أتجعل في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء، من غيرنا أم منا، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ إن كنتم صادقين في قيلكم: إني إن جعلت خليفتي في الأرض من غيركم عصاني ذريته، وأفسدوا، وسفكوا الدماء، وإن جعلتكم فيها أطعتموني، واتبعتم أمري بالتعظيم لي والتقديس، فإذا كنتم لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضت عليكم، وأنتم تشاهدونهم، فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} هذا تقديس، وتنزيه من الملائكة لله تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء، وأن يعلموا شيئًا إلا ما علمهم الله تعالى، ولهذا قالوا: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} أي: العليم بكل شيء، الحكيم في خلقك، وأمرك، وفي تعليمك من تشاء، ومنعك من تشاء، لك الحكمة في ذلك، والعدل التام.

قوله تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] قال زيد بن أسلم: قال: أنت جبريل، أنت ميكائيل، أنت إسرافيل، حتى عدد الأسماء كلها، حتى بلغ الغراب.

وقال مجاهد في قول الله: {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} قال: اسم الحمامة، والغراب، واسم كل شيء، وروي عن سعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، نحو ذلك.

فلما ظهر فضل آدم - عليه السلام -، على الملائكة - عليهم السلام - في سرده ما علمه الله تعالى من أسماء الأشياء، قال الله تعالى للملائكة : {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} أي: ألم أتقدم إليكم أني أعلم الغيب الظاهر والخفي، كما قال تعالى : {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7]، وكما قال إخبارًا عن الهدهد أنه قال لسليمان: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم} [النمل:25، 26].

وقيل في معنى قوله تعالى:  {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} غير ما ذكرناه؛ فروى الضحاك عن ابن عباس: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} قال: يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني: ما كتَمَ إبليسُ في نفسه من الكبْرِ والاغترار.

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس:  {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} فكان الذي أبدَوْا هو قولهم : {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا}، وكان الذي كتموا بينهم هو قولهم: لن يخلق ربنا خلقًا إلا كنا أعلمَ منه وأكرمَ. فعرفوا أن الله فَضَّلَ عليهم آدمَ في العلم والكرم.

(التفسير)

في هذه الآيات الكريمة كما سبق شرف العلم وفضله، وأن من اتصف به فهو شريف، فإذا وفقه الله للعمل بالعلم كَمُلت صفاته، وكمل شرفه، وإن لم يوفق في العمل صار وبالًا عليه.

وفيه: فضل آدم، وشرفه على الملائكة في تعليم الله له أسماء كل شيء.

وفيه: سعة علم الله عز وجل، وأن الله تعالى يعلم السر وأخفى، ولهذا قال: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}؛ لأن الله يعلم ما يُبْدِيه الإنسان وما يكتمه، وما يدور في خَلَدِهِ وذهنه، وصدره، كل ذلك يعلمه سبحانه وتعالى، وهو عليم بذات الصدور.

وفيه: إثبات الكلام لله عز وجل.

وفيه: إثبات المحاورة بين الله والملائكة.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم، امتنَّ بها على ذريته، حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدمَ.

وقد دل على ذلك أحاديثُ - أيضا - كثيرةٌ، منها حديث الشفاعة المتقدم، وحديث موسى - عليه السلام -: رب، أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة، فلما اجتمع به قال: أنت آدم الذي خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته؟ ولما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم دخل إبليس في خطابهم؛ لأنه - وإن لم يكن من عنصرهم - إلا أنه كان قد تشبه بهم وتوسَّم بأفعالهم؛ فلهذا دخل في الخطاب لهم، وذُمَّ في مخالفة الأمر.

وسنبسط المسألة إن - شاء الله تعالى - عند قوله: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50][3].

ولذا روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل.

وكان من سكان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهادًا، وأكثرهم علمًا؛ فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حي يسمون جِنًّا[4].

(التفسير)

إبليس كان من الملائكة، ولم يكن من جنسهم، بل من جنس آخر، من حي يقال لهم الجن، قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات:158] وقال: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ } [الصافات:158].

وكان من سكان الأرض وأهبط؟! قال: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة:38]، سكان الأرض الملائكة؟! هذا غريب، بل كان في السماء، لكنه كان من غير عنصر الملائكة، بل من طائفة يقال لها: الجن، طائفة من الملائكة، فيكون عنصرهم عنصرًا آخر غير عنصر الملائكة؛ الملائكة خُلقوا من نور.

وهذا الأثر ضعيف، لا يعوَّل عليه، لأن إبليس خُلِقَ من نار، والملائكة خلقوا من نور من غير عنصرهم كما في الحديث: ((«خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ»))(([5]))، لكن كان معهم في السماء.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

وقال قتادة في قوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} ، فكانت الطاعة لله، والسجدة لآدم أكرم الله آدم بها أن أسجد له ملائكته. وقال بعض الناس: كان هذا سجودَ تحية، وسلام، وإكرام، كما قال تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف:100]، وقد كان هذا مشروعًا في الأمم الماضية، ولكنه نسخ في ملتنا، قال معاذ: قَدِمْتُ الشَّامَ فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ، فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُسْجَدَ لَكَ، فَقَالَ: «لَا لَوْ كُنْتُ آمِرًا بَشَرًا أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا»([6])، ورجحه الرازي.

(التفسير)

الأرجح هذا القول الأول؛ أنه سجود عبادة، العبادة لله، والإكرام لآدم، هذا امتثال لأمر الله، فالله قال: {اسْجُدُوا لِآدَمَ}، وامتثال أمر الله عبادة، هم يعبدون الله بهذا السجود لآدم، ولكن الله أمرهم بالسجود تكريمًا لآدم، وهم امتثلوا الأمر عبادة لله، سجدوا لآدم، عبادةً لله لا لآدم، أما سجود أبوي يوسف وإخوته فسجود تحية وسلام، {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف:100]، ما أمرهم الله بأن يسجدوا له، فهذا سجود تحية في شريعتهم، أما في شريعتنا فنُسخ، هذا قول قتادة وهو الصحيح والصواب.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

 وقال قتادة في قوله تعالى: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} حَسَدَ عدوُ الله إبليسُ آدمَ - عليه السلام - على ما أعطاه الله من الكرامة، وقال: أنا ناري وهذا طيني، وكان بدء الذنوب الكبر، استكبر عدوُّ الله أن يسجد لآدم عليه السلام .

قلت: وقد ثبت في الصحيح: « لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ»([7])، وقد كان في قلب إبليس من الكبر - والكفر - والعناد ما اقتضى طرده، وإبعاده عن جناب الرحمة، وحضرة القدس.

وفي قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} إثبات الكلام لله عز وجل.

وفيه: أن امتثال الأمر عبادة، وأن الملائكة سجدوا لآدم عبادة لله، وفيه إثبات كفر إبليس، وأن إبليس كفره بالإباء والاستكبار أبى واستكبر عن عبادة الله.

والكفر يكون بالشرك، ويكون بالإباء، والرفض، والترك.

فالشرك له أنواع، من أنواعه ما يكون بالقول، كأن يدعو غيرَ الله، ويكون بالفعل كالسجود للصنم، ويكون بالرفض، والامتناع كرفض إبليس السجود لآدم كبرًا، فالرفض والترك قد يكون كفرًا، كأن يلفظ بأن (دين الله لا يقبله، ولا يتعلمه، ولا يعمل به)، فيكفر بهذا الرفض والترك، وإبليس كفره بالإباء والاستكبار.

والمستكبر عن عبادة الله كافر، والمشرك كافر، والمستسلم لله ولغيره؛ المنقاد لله ولغيره مشرك.

والمستكبر غير منقاد لله، والمسلم منقاد لله وحده لا لغيره.

فالناس ثلاثة أقسام: مستكبر، ومشرك، ومسلم، فالمستكبر هذا لا ينقاد لشرع الله فكان كافرًا، والمشرك ينقاد لله ولغيره فكان مشركًا، والمسلم مستسلم لله وحده لا لغيره، فمن استسلم لله ولغيره فهو مشرك، ومن أبى ولم يستسلم لعبادة الله فهو مستكبر، ومن استسلم لله لا لغيره فهو المسلم.

*****

 

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36] يقول الله تعالى إخبارًا عما أكرم به آدم: بعد أن أمر الملائكة بالسجود له، فسجدوا إلا إبليس: إنه أباحه الجنة يسكن منها حيث يشاء، ويأكل منها ما شاء رغدًا، أي: هنيئًا واسعًا طيبًا

 وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه، عن أبي ذر: قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَرَيْتَ آدَمَ، أَنَبِيًّا كَانَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، نَبِيًّا رَسُولًا كَلَّمَهُ اللَّهُ قُبُلًا فَقَالَ: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}».

(التفسير)

((قُبُلًا)): يعني من دون واسطة، بل كلمه الله عيانًا، والمقصود من المقابلة هنا الرؤية، لكن الصواب أن الله لم يره أحد في الدنيا.

وآدم مكلم ورسول إلى بنيه، وليس في الأرض غيرُ بنيه، ولم يقع الشرك في زمانه، مَضَتْ عشرةُ قرون، والناس على التوحيد حتى وقع الشرك في زمن نوح، فأرسل الله نوحًا، فنوحٌ أول رسول بعثه الله إلى الأرض بعد وقوع الشرك، وهو مرسل إلى بنيه وغير بنيه، وأما آدم فإنه رسول إلى بنيه، ولم يكن قد وقع الشرك، وإنما وقعت المعصية، وهي قتل قابيل أخاه هابيل، فآدم أُرسل إلى قوم مؤمنين، وهم بنوه، ولم يرسَلْ إلى غيرهم، وكذلك شيث بعده، ثم حدث الشرك بعد عشرة قرون في زمن نوح، فأرسل الله نوحًا، فهو أول رسول بعثه الله إلى الأرض بعد وقوع الشرك، وهو مرسل إلى بنيه وغير بنيه.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

 وسياق الآية يقتضي أن حواء خلقت قبل دخول آدم الجنة، وقد صرح بذلك محمد بن إسحاق، حيث قال: لما فرغ الله من معاتبة إبليس، أقبل على آدم، وقد علمه الأسماء كلها، فقال: {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} إلى قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} قال: ثم ألقيَتِ السِّـنَـةُ[8] على آدم فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم، عن ابن عباس وغيره - ثم أخذ ضلعًا من أضلاعه من شقه الأيسر، ولأم مكانه لحمًا، وآدم نائم لم يهب من نومه، حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حواء، فسواها امرأة ليسكن إليها. فلما كشف عنه السنة، وهب من نومه، رآها إلى جنبه، فقال - فيما يزعمون والله أعلم: لحمي ودمي وزوجتي. فسكن إليها. فلما زوجه الله، وجعل له سكنًا من نفسه، قال له قُبُلاً.

{يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}.

(التفسير)

أما كونها مخلوقةً منه فهذا نصَّ الله عليه {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]. أما قوله: إنها خلقت من الضلع ولأم مكانه... إنما ذكرها محمد بن إسحاق بلاغًا «كما بلغنا عن ابن عباس»، فهو منقطع، هذا من قول بني إسرائيل.

وكون النساء خلقت من ضلع ورد في الصحيح: « َإِنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ »([9])، وقال تعالى: {خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} فالآية صريحة في أن حواء مخلوقة من آدم، أما التفاصيل وكونه كذا وكذا، فهذا إنما ذكره بلاغًا كما سبق، والبلاغ منقطع.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

 وأما قوله: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}، فهو اختبار من الله تعالى وامتحان لآدم.

وقد اختلف في هذه الشجرة: ما هي؟ فقيل الكَرْم، وقيل: الحِنْطَة، وقيل: النخلة، وقيل: التينة، وقيل: الشجرة التي من أكل منها أحدث، وقيل: شجرة تأكل ثمرها الملائكة لخلدهم.

قال الإمام العلامة أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - : والصواب في ذلك أن يقال: إن الله ـ عز وجل ثناؤه ـ نهى آدم، وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة، دون سائر أشجارها، فأكلا منها، ولا علمَ عندنا بأي شجرة كانت على التعيين؛ لأن الله لم يضع لعباده دليلًا على ذلك في القرآن، ولا من السنة الصحيحة.

وقد قيل: كانت شجرة البر، وقيل: كانت شجرة العنب، وقيل: كانت شجرة التين. وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك علم إذا علم لا ينفع العالم به علمه، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به، والله أعلم.

وكذلك رجح الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره وغيره، وهو الصواب.

(التفسير)

وهنا لا يترتب على معرفتها شيء، الحكمة تترتب من كون الله عيَّن لهم شجرة، ونهاهم عن أكلها، فأكلا منها، أما كونها شجرة كذا أو كذا هذا كله ليس عليه دليل، بل من أخبار بني إسرائيل، ولا يترتب على تعيينها فائدة، ولو كان في تعيينها فائدة لعيَّنها الله، لكن لا يترتب عليها فائدة، لأن الحكمة أنه ابتلاهم بشجرة عيَّنَها لهما يعرفانها.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

وقوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} يصح أن يكون الضمير في قوله: عنها عائدًا إلى الجنة، فيكون معنى الكلام كما قرأ عاصم بن بهدلة ـ وهو ابن أبي النجود ـ: فأزالهما، أي : فنحاهما. ويصح أن يكون عائدًا على أقرب المذكورين، وهو الشجرة، فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادة: (فأزلهما) أي: من قبل الزلل ، فعلى هذا يكون تقدير الكلام {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} أي: بسببها، كما قال تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9] أي: يصرف بسببه من هو مأفوك؛ ولهذا قال تعالى: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} أي: من اللباس، والمنزل الرحب، والرزق الهنيء، والراحة .

{وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36] أي: قرار، وأرزاق، وآجال {إِلَى حِينٍ} أي: إلى وقت مؤقت، ومقدار معين، ثم تقوم القيامة، وروى بن أبي حاتم عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم –: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ رَجُلًا طوَالا كَثِيرَ شَعْرِ الرَّأْسِ»[10] .

« كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سَحُوق، فَلَمَّا ذَاقَ الشَّجَرَةَ سَقَطَ عَنْهُ لِبَاسُهُ، فَأَوَّلُ مَا بَدَا مِنْهُ عَوْرَتُهُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى عَوْرَتِهِ جَعَلَ يَشْتَد فِي الْجَنَّةِ، فَأَخَذَتْ شَعْرَه شجرةٌ، فَنَازَعَهَا، فَنَادَاهُ الرَّحْمَنُ: يَا آدَمُ، مِنِّي تَفِرُّ! فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَ الرَّحْمَنِ قَالَ: يَا رَبِّ، لَا وَلَكِنِ اسْتِحْيَاءً»([11])، وروى الحاكم عن ابن عباس، قال: ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس. ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أهبط آدم - عليه السلام - إلى أرض يقال لها دَحْنَا، بين مكة والطائف.

وعن الحسن البصري قال: أهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، وإبليس بدستميسان من البصرة على أميال، وأهبطت الحية بأصبهان، رواه ابن أبي حاتم[12].

وروى مسلم والنسائي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا»([13]).

(التفسير)

هذا حديث صحيح في أن آدم خُلق يوم الجمعة، وأُدخل الجنة يوم الجمعة، وأهبط منها يوم الجمعة، وفيه تقوم الساعة، كما في حديث آخر: « وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا وَهِيَ مُسِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، مِنْ حِينَ تُصْبِحُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ شَفَقًا مِنَ السَّاعَةِ »([14]).

وهذه الآيات {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ{35} فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} فيها من الفوائد إثبات الكلام لله عز وجل، والمحاورة بين الله وآدم - عليه السلام .

وفيها: أن الله تعالى لما خلق آدم وحواء أسكنهما الجنة، وأباح لهما الأكل من جميع أشكالها إلا شجرةً واحدةً، كان فيها الابتلاء والامتحان؛ لأن آدم كُلِّف في الجنة، وهذا التكليف هو أن يترك هذه الشجرة.

وفيها: أن الشيطان سوَّل لآدم وحواء، فأزلهما عنها وأخرجهما، وسبب في إخراجهم من الجنة، وذلك لأنه وسوس لهما، وزين لهما، وقاسمهما، وحلف أنه ناصح لهما، وأنها شجرة الخلد فاغترَّ.

وفيها: أن المعاصي لها آثار، فإن آدم لما أكل من الشجرة سقط اللباس، هذا يدل على أن المعاصي تكشف عورة صاحبه، وطفقا يخصفان يستران عوراتهما من أوراق الجنة.

وفيها: دليل على أن للمعاصي آثارًا في الدنيا والآخرة، من آثارها: أولاً: ظهور العورة، وكشف العورة، ومنها إهباطهما إلى الأرض، ومن آثار المعاصي جميع ما يحصل في الأرض من تهدر الهواء، وتغور المياه، وكثرة الأمراض كما في قوله تعالى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41]، وكذلك الشرور جميع الشرور آثارها المعاصي، وعذاب القبر وعذاب النار في الآخرة كلها بسبب المعاصي، والكفر، وفي الحديث: " لَمْ يَمْنَعْ قَوْمٌ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ "([15]).

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

 شبهة، وجوابها:

فإن قيل: إذا كانت جنة آدم التي أخرج منها في السماء كما يقوله الجمهور من العلماء كيف تمكن إبليس من دخول الجنة، وقد طرد منها طردًا قدريًّا، والقدري لا يخالف، ولا يمانع.

فالجواب: أن هذا بعينه استدل به من يقول: إن الجنة التي كان فيها آدم في الأرض لا في السماء[16]، كما قد بسطنا هذا في أول كتابنا البداية والنهاية.

وأجاب الجمهور بأجوبة أحدها: أنه منع من دخول الجنة مكرمًا، فأما على وجه السرقة والإهانة، فلا يمتنع، ولهذا قال بعضهم كما جاء في التوراة: أنه دخل في فم الحية إلى الجنة، وقد قال بعضهم: يحتمل[17].

وقد قال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو في الأرض، وهما في السماء ذكرها الزمخشري، وغيره[18].

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37] قيل: إن هذه الكلمات مفسرة بقوله تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، وروي هذا عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، والربيع بن أنس، والحسن، وقتادة، ومحمد بن كعب القرظي ، وخالد بن معدان، وعطاء الخراساني، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس: ({فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} قَالَ: قَالَ آدَمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ، أَلَمْ تَخْلُقْنِي بِيَدِكَ؟ قِيلَ لَهُ: بَلَى. وَنَفَخْتَ فِيَّ مِنْ رُوحِكَ؟ قِيلَ لَهُ: بَلَى. وعَطستُ فقلتَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، وَسَبَقَتْ رحمتُك غَضبَك؟ قِيلَ لَهُ: بَلَى، وَكَتَبْتَ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَ هَذَا؟ قِيلَ لَهُ: بَلَى. قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ تبتُ هَلْ أَنْتَ رَاجِعِي إِلَى الْجَنَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ).

وهكذا رواه العوفي، وسعيد بن جبير، وسعيد بن معبد، عن ابن عباس، بنحوه. ورواه الحاكم من حديث سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.

وقوله تعالى : {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أي: إنه يتوب على من تاب إليه وأناب، كقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة:104]، وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ} [النساء:110] الآية، وقوله :{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [الفرقان:71]، وغير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى يغفر الذنوب، ويتوب على من يتوب، وهذا من لطفه بخلقه، ورحمته بعبيده، لا إله إلا هو التواب الرحيم.

(التفسير)

وفي هذه الآية الكريمة منةُ الله تعالى على آدم وحواء حيث منَّ عليهم بالتوبة، وتلقى آدم من ربه كلمات، وجاءت في الآيات الأخرى {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].

وفيه: إثبات اسم العليم والحكيم من أسماء الله، وفيه: إثبات العلم، والحكمة كما في الآية السابقة أيضًا {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ{31} قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:31 ، 32]ـ وكل اسم مشتمل على صفة العلم، وصفة الحكمة.

وفيه: أن الله تعالى منَّ على آدم وحواء، ووفقهما للتوبة، وخذل إبليسَ، فلم يوفقه للتوبة، واستمر على عناده وكفره، ولله تعالى الحكمة البالغة يضل من يشاء بعدله، ويهدي من يشاء بفضله ومنته.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:38، 39] يقول تعالى مخبرًا عما أنذر به آدم، وزوجته، وإبليس حتى أهبطهم من الجنة، والمراد الذرية: أنه سينزل الكتب، ويبعث الأنبياء والرسل؛ كما قال أبو العالية: الهدى: الأنبياء، والرسل، والبينات، {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} أي: من أقبل على ما أنزلت به الكتب، وأرسلت به الرسل {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي: فيما يستقبلونه من أمر الآخرة {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما فاتهم من أمور الدنيا، كما قال في سورة طه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}، قال ابن عباس: فلا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]، كما قال هاهنا: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي: مخلدون فيها، لا مَحِيدَ لهم عنها، ولا مَحِيصَ .

(التفسير)

في هذه الآيات إثبات الكتب والرسل، وأن الله تعالى لم يخلق خلقه عبثًا، ولم يتركهم سُدًى، بل أرسل إليهم الرسلَ، وأنزل عليهم الكتبَ، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار.

وفيه أن الناس ينقسمون قسمين بعد مجيء الرسل والكتب، شقي وسعيد، منهم من وفقه الله فتبع الهدى، واستجاب للرسل، فهؤلاء هم أصحاب الجنة، لهم الجنة والكرامة، ومنهم من عصا ورد دعوة الرسل، ويكفر بالله، فهؤلاء هم أصحاب النار مخلدون فيها.

 

([1]) أخرجه البخاري برقم (4476) ومسلم (2652) وأبو داود (4701).

([2]) أخرجه البخاري برقم (5480)، ومسلم برقم (1574).

[3] قال الشارح حفظه الله: في سورة الكهف.

[4] قال الشارح حفظه الله: طائفة من الملائكة قالوا: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ}[الكهف:50].

([5]) صحيح مسلم (2996).

([6]) أخرجه أحمد في المسند (5/227).

([7]) أخرجه مسلم برقم (91).

[8] قال الشارح حفظه الله: السِّنَةُ: يعني النعاسَ، ومنه قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255].

([9]) أخرجه البخاري برقم (3331)، ومسلم برقم (1468).

[10] قال الشارح حفظه الله:  طوله في السماء ستون ذراعًا كما في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ المَلاَئِكَةِ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ ". رواه البخاري (3326). خلقه الله، فلا يزال الخلق ينقص حتى وصل إلى ما وصل إليه الآن.

([11]) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (1/129).

[12] قال الشارح حفظه الله: كل هذا من أخبار بني إسرائيل ليس عليها دليل، والله أعلم، المعلوم لنا أنه أهبط للأرض، أما قولهم هبط في جدة، وهبط في كذا، وهذا في كذا.. كل هذا ليس عليه دليل، وإنما هو من أخبار بني إسرائيل.

([13]) أخرجه مسلم برقم (854).

([14]) أصله في صحيح مسلم، وهو الحديث السابق، أخرجه أبو داود بهذا السياق برقم (1046).

([15]) أخرجه الطبراني في الكبير (12/446).

[16] قال الشارح حفظه الله: قال بعضهم: دخل، وقال آخرون: وسوس وهو خارج.

وبعضهم يقول: الجنة التي أدخلها آدم بستان في البساتين في الأرض، لكن هذا بعيد.

[17]  قال الشارح حفظه الله: هذه أخبار من بني إسرائيل كيف دخل في فم الحية؟ ودخلت الحية الجنة، ودخل معها؟! هذه من أخبار بني إسرائيل ليس عليها دليل.

[18] قال الشارح حفظه الله: والأقرب: أنه إما أنه دخل دخولًا خاصًّا مثل ما سبق، أو أنه وسوس لهم، وهو قريب منهما ووسوس ويخاطبهما، ويسمعان كلامه وهو قريب منهم. والله أعلم، هل هو داخل الجنة أم خارجها.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد