شعار الموقع

شرح سورة البقرة من مختصر تفسير ابن كثير 10

00:00
00:00
تحميل
125

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:40، 41] يقول تعالى آمرًا بني إسرائيل بالدخول في الإسلام، ومتابعة محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، ومُهَيِّجًا لهم بذكر أبيهم إسرائيل، وهو نبي الله يعقوب عليه السلام، وتقديره: يا بني العبد الصالح المطيع لله، كونوا مثلَ أبيكم في متابعة الحق، كما تقول: يا ابن الكريم، افعل كذا. يا ابن الشجاع، بارز الأبطال، يا ابن العالم، اطلب العلم، ونحو ذلك. 

ومن ذلك أيضا قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3]، فإسرائيل هو يعقوب - عليه السلام - بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي عن عبد الله بن عباس قال: «حَضَرَتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْيَهُودِ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمْ: "هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ يَعْقُوبُ؟ ". قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ اشْهَدْ»([1]).

وروى الطبري عن عبد الله بن عباس: أن إسرائيل كقولك: عبد الله.

وقوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} قال مجاهد: نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى، وفيما سوى ذلك أنْ فجَّر لهم الحجر، وأنزل عليهم المنَّ والسَّلوى، وأنجاهم من عبودية آل فرعون. 

وقال أبو العالية: نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب. 

قلت: وهذا كقول موسى - عليه السلام - لهم : {يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:20] يعني في زمانهم.

وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} أي: بلائي عندكم، وعند آبائكم لِمَا كان نجَّاهم به من فرعون، وقومه {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} قال: بعهدي الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم، أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه واتباعه، بوضع ما كان عليكم من الإصر، والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من إحداثكم.

وقال الحسن البصري: هو قوله: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} الآية [المائدة:12].

وقال آخرون: هو الذي أخذه الله عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبيًّا عظيمًا يطيعه جميع الشعوب، والمراد به محمد - صلى الله عليه وسلم -، فمن اتبعه غُفِرَ له ذنبه، وأُدْخِل الجنة، وجُعِلَ له أجران.

وقد أورد فخر الدين الرازي هاهنا بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم السلام بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وقال أبو العالية: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} قال: عهده إلى عباده: دينُ الإسلام وأن يتبعوه .

وقال الضحاك، عن ابن عباس: {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} قال: أرض عنكم، وأدخلكم الجنة. وكذا قال السدي، والضحاك، وأبو العالية، والربيع بن أنس.

وقوله : {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أي: فاخشون؛ قاله أبو العالية، والسدي، والربيع بن أنس، وقتادة. 

وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أي: إن أنزل بكم ما أنزل بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره . 

وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب، فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة، لعلهم يرجعون إلى الحق، واتباع الرسول، والاتعاظ بالقرآن، وزواجره، وامتثال أوامره، وتصديق أخباره، والله الهادي لمن يشاء إلى صراطه المستقيم؛ ولهذا قال :{وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} يعني به القرآن الذي أنزله على محمد النبي الأمي العربي بشيرًا ونذيرًا وسراجًا منيرًا مشتملاً على الحق من الله تعالى، مصدقًا لما بين يديه من التوراة والإنجيل.

قال أبو العالية - رحمه الله - في قوله: {وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} يقول: يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت مصدقًا لما معكم يقول: لأنهم يجدون محمدًا - صلى الله عليه وسلم - مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.

وروي عن مجاهد، والربيع بن أنس، وقتادة نحو ذلك.

وقوله:{وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} قال ابن عباس: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ}، وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم . 

وقال أبو العالية: يقول: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} أول من كفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - يعني من جنسكم أهل الكتاب بعد سماعكم بمحمد، وبمبعثه، وكذا قال الحسن، والسدي، والربيع بن أنس.

واختار ابن جرير أن الضمير في قوله: ( به ) عائد على القرآن، الذي تقدم ذكره في قوله: (بما أنزلت) وكلا القولين صحيح؛ لأنهما متلازمان، لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ومن كفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقد كفر بالقرآن .

وأما قوله :{أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} فيعني به أول من كفر به من بني إسرائيل.

الملف الصوتي رقم (7)

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

وأما قوله: {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} فيعني به أول من كفر به من بني إسرائيل؛ لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بشر كثير، وإنما المراد أولُ من كفر به من بني إسرائيل مباشرة، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن، فكفرهم به يستلزم أنهم أول من كفر به من جنسهم.

وقوله تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} يقول: لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها، فإنها قليلة فانية.

وقوله: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} روى ابن أبي حاتم: عن طلق بن حبيب، قال: التقوى أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله، وأن تترك معصية الله مخافة عذاب الله على نور من الله.

ومعنى قوله: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}  أي: أنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق، وإظهار خلافه ومخالفتهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه

قوله تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}، يقول تعالى ناهيًا لليهود عما كانوا يتعمدونه، من تلبيس الحق بالباطل، وتمويهه به، وكتمانهم الحق وإظهارهم الباطل: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} فنهاهم عن الشيئين معًا، وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به؛ ولهذا قال الضحاك، عن ابن عباس: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}  لا تخلطوا الحق بالباطل والصدق بالكذب

وقال قتادة: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام؛ إن دين الله الإسلام، وأن اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله . 

وروي عن الحسن البصري نحوُ ذلك

ورى محمد بن إسحاق عن ابن عباس :{وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}  أي: لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به، وأنتم تجدونه مكتوبًا عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم.

قلت: ويجوز أن يكون المعنى، وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار، إلى أن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب، بنوع من الحق لتروجوه عليهم. والبيان: الإيضاح، وعكسه الكتمان وخلط الحق بالباطل.

{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} قال مقاتل: قوله تعالى لأهل الكتاب {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} أمرهم أن يصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم {وَآتُوا الزَّكَاةَ} أمرهم أن يؤتوا الزكاة، أي: يدفعونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم . 

يقول: كونوا منهم ومعهم . 

وقوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي: وكونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم، ومن أخص ذلك وأكمله الصلاة. 

وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب الجماعة.

*****

(التفسير)

هذه الآيات الكريمات يخاطب الله تعالى فيها بني إسرائيل، ويأمرهم بأوامرَ، وينهاهم عن نواهٍ عظيمةٍ، هذه الأوامر والنواهي إذا امتثلوها حصلوا على خيري الدنيا والآخرة، وصاروا من المتقين، وصاروا من أحباب الله وحزبه، وليست هذه الأوامر خاصةً ببني إسرائيل، بل هي لهذه الأمة أيضًا، والله سبحانه وتعالى يخاطب بني إسرائيل وهم اليهود الذين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ويعاتبهم بأفعال آبائهم، وأجدادهم السابقين الذين ماتوا، كما حصل لهم مع نبيهم موسى من عبادة العجل وغير ذلك، كما سيأتي؛ لأنهم أقَرُّوهم ووافقوهم على ذلك، ولم يتبرءوا من فعلهم، فصار حكمُهم حكمَهم، والراضي كالفاعل.

وإسرائيل هو نبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام، قيل: إن إسرائيل اسم عجمي، وقيل: إسرائيل معناه عبد الله، مثل جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، عبد الله.

قال الله تعالى في سورة آل عمران: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ} [آل عمران:93] وهو يعقوب عليه السلام، حرم على نفسه لحم الإبل، {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} قبل أن تنزل بعد يعقوب بدهور على موسى، وجميع أنبياء بني إسرائيل من سلالة يعقوب عليه الصلاة والسلام.

قال الله تعالى: { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:40].

اثنتا عشرة وصية من الأوامر والنواهي، كلها موجهة إلى بني إسرائيل إذا امتثلوها حصلوا على خيري الدنيا والآخرة، وهذه الأمة مطالبةٌ بها.

{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} يذكرهم الله بنعمه عليهم إذ جعل منهم الأنبياء، وجعل منهم الملوك، فأنبياء بني إسرائيل يسوسون الناس، كلما هلك نبيٌّ خلفه نبيٌّ([1])، وهذا من أعظم النعم.

ومن أعظم النعم كذلك أنه وفقهم لاتباع الرسل، وأنزل عليهم الكتب، فأنزل التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى.

وأيضًا أنعم الله عليهم بنعم عظيمة لما كانوا في التِّيه، في الصحراء التي بين فلسطين ومصر، عاقبهم الله بالتيه لما نكلوا عن الجهاد، فقال لهم نبيهم: ادخلوا الباب، افتحوا بيت المقدس، فرفضوا حتى قالوا لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، قال الله تعالى: { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً}  [المائدة:26] وهذا تحريم قدَري.

فالتحريم نوعان: تحريم قدري، وتحريم شرعي، التحريم الشرعي مثل: حرمت عليكم الميتة، حرمت عليكم أمهاتكم، أما التحريم القدري مثل هذه. والمعنى: حرمنا عليهم، يعني منعناهم قدرًا، {أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} يدورون في التيه ولا يخرجون، مثل قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ} أي : موسى عليه السلام [القصص:12].

ومن النعم الحجر الذي يحملونه، فيضربه موسى بعصاه فيتفجر اثنتا عشرة عينًا، لكل سبط عين؛ حتى لا يتنازعوا كما سيأتي، {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} [البقرة:60].

ومن أعظم النعم إهلاك عدوهم فرعون وهم ينظرون.

ومن النعم كذلك أيضًا أن الله ظلل عليهم الغمام في التيه في الشمس الحارة، وينزل عليهم (المن) مثل العسل والزنجبيل و(السلوى) الطير.

قوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} هذا عام، يشمل إرسال الرسل والأنبياء وإنزال الكتب وإهلاك عدوهم، وغيره ذلك، كل هذه تحتاج إلى شكر، يعني اذكروا نعم الله واشكروها، واستعملوها في طاعة الله، فإن فعلتم ذلك أثابكم الله، وزادكم من نعمه، وإن أبيتم عاقبكم الله وحرمكم من هذه النعم.

وهذا أيضًا مخاطب لهذه الأمة، فإن هذه الأمة عليها أن تذكر نعم الله عليها، أعظم نعم الله على هذه الأمة بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، هذه أعظم منة، يقول تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّـهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:164] من الله عليهم بهذا النبي الكريم، وبهذا القرآن العظيم، وبالإيمان، فلا بد أن تشكر النعم.

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} من شكرها بقيت وقرَّت، ومن كفرها فرَّت وعوقب، كما قال تعالى لموسى: {وَإِذ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَئِن شَكَرتُم لَأَزيدَنَّكُم وَلَئِن كَفَرتُم إِنَّ عَذابي لَشَديدٌ} [إبراهيم:7].

قال بعض السلف:  مضى القوم ولم يبق سواكم، أما بني إسرائيل فقد ذهبوا، وبقي الخطاب لهذه الأمة إلى يوم القيامة، كلنا مأمور بهذه الأوامر، ومنهي عن هذه النواهي.

{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} هذا الأمر الثاني، والعهد هو ما أخذه الله تعالى عليهم من الإيمان بأنبيائه وبرسله، وأداء حقه والقيام بأمره، وكما أمر الله تعالى في آية المائدة، {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّـهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّـهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّـهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [المائدة:12]، هذا عهد، عهد من الله تعالى أنهم إذا أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة وآمنوا بالرسل وعزروهم ونصروهم، فإن الله تعالى يكفِّر عنهم سيئاتهم، ويدخلهم الجنة، وهذا هو الوفاء بالعهد في قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} فمن وفى بالعهد فإن الله يفي له بالعهد، يزيده من النعم ويكفر له سيئاته، ويدخلهم الجنات.

{وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} هذا هو الأمر الثالث {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أي خصوني بالرهبة، والخوف والرهبة والخشية، وتقديم المفعول يفيد الحصر، والمعنى ارهبوني دون غيري، والمعنى اخلصوا لي الرهبة؛ لأن الرهبة والخشية عبادتان، أي أخلصوا لله الرهبة والخشية، والمراد خشية العبادة، أما الخوف الطبيعي كالخوف من عدو أو سبع فلا يلام عليه الإنسان، لكن خوف السر بأن يخاف من المخلوق، ويعتقد أنه يضره، كأن يخاف من الميت فيدعوه من دون الله، ويخشى أن يحرمه دخول الجنة، أو يسلط عليه عدوه، أو يدخله النار، هذا هو خوف السر، هذا يجب إخلاصه لله تعالى.

الأمر الرابع وهو في قوله: {وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ} هذا خطاب لبني إسرائيل أي آمنوا بما أنزلت من القرآن، {مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ} من التوراة والإنجيل، فإن هذا القرآن يصدق الكتب السابقة، ويهيمن عليها، يزيف الزائف، ويبطل الباطل، {وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ} آمنوا بهذا القرآن، الذي هو مصدق لما معكم من التوراة يوافقها، كما قال سبحانه وتعالى في الآية الأخرى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48] مصدقًا للذي بين يديه من الكتب، والأنبياء متضامنون، والسابق بشر بالمتأخر، والمتأخر يصدق المتقدم، وكذلك الكتب.

{وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} هذا نهي، أي: لا تكونوا أول كافر بالقرآن من اليهود، احذروا أن تسبقوا إلى الكفر، آمنوا بي، وهذا نهي عن الكفر، وأمر لهم بالإيمان، وقد سبقهم إلى ذلك كفار قريش، لكن عليهم أن يحذروا أن يكونوا أول كافر من أهل الكتاب.

{ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا}، لا تشتروا أي لا تعتاضوا، الاشتراء من الاعتياض، لا تعتاضوا بآيات الله الثمن القليل، والدنيا كلها ثمنٌ قليل، والمعنى لا تعتاضوا بالدنيا عن آيات الله ، فإن الدنيا كلها قليل، {أَرَضيتُم بِالحَياةِ الدُّنيا مِنَ الآخِرَةِ فَما مَتاعُ الحَياةِ الدُّنيا فِي الآخِرَةِ إِلّا قَليلٌ} [التوبة:38]، والمعنى لا تعتاضوا عن الإيمان بآيات الله بالدنيا، فتؤثروا الدنيا على الآخرة، فتكونوا من الأخسرين الهالكين لهذه.

{وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} هذا أمر، وتقديم المفعول يفيد الحصر، مثل: إياك نعبد، والتقوى أصلها توحيد الله عز وجل، وإخلاص الدين له والقيام بحقه وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والناس يتفاوتون في التقوى، كل مؤمن له نصيب من التقوى، حتى العاصي الذي يعصي له تقوى؛ لأنه يتقي الشرك، والخلود في النار، ولكن قد يكون ظالمًا لنفسه بالمعاصي، فيدخل النار أو يعذب في القبر، أو يصاب بالشدائد في موقف يوم القيامة، أو يعفى عنه.

وأكمل منه الذي لم يظلم نفسه بشيء من المعاصي، أدى الواجب وترك المحرمات، فدخل الجنة من أول وهلة، وكان من المقتصدين.

وأكمل منه السابقون المقربون الذين أدَّوُا الفرائض والنوافل، وانتهَوْا عن المحارم، وتركوا المكروهات وفضول المباحات.

قال بعض السلف: "التقوى أن تأمر بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخشى عقاب الله".

{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} هذا نهي وتحذير من لبس الحق بالباطل، والمعنى: احذروا أن تلبسوا الحق بالباطل، بل أوضحوا الحق الذي أنزله الله في كتبكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وأمركم بالإيمان به، وكذلك أحكام التوراة، من إقامة الحدود لا تكتموها ولا تلبسوها.

{ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} نهى عن لبس الحق ونهى عن كتمان الحق، اللبس يُظهر شيئًا من الحق، لكنه مخلوط بالباطل، يظهر شيئًا من الحق غيرَ واضح، وكتمان الحق هو كتمان الحق بالمرة، وهذه الأمة منهية عن أن تلبس الحق بالباطل، فعليها أن توضح الحق الذي نزل وقد جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالواجب على العلماء أن يبينوا ويوضحوا، ولهذا توعد الله تعالى الذين يكتمون العلم، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّـهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَـٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159].

{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أمر بعبادتين رائعتين عظيمتين، أمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ولم يقل: وصلوا، لكنه قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} فإقامة الصلاة غير فعل الصلاة، أقيموها أي أدوها بحقوقها، بأركانها وشروطها، وخشوعها وهيئتها ووضوئها، والإخلاص فيها، والطمأنينة فيها، والأداء لها في الوقت، كلها داخلة في الإقامة، وليس المراد فعل الصلاة فقط، ولهذا لم يأت المدح على فعل الصلاة وحده؛ بل جاء الوعيد على فعل الصلاة مع السهو {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون}.

{وَآتُوا الزَّكَاةَ} أدوا الزكاة لأموالكم، طيبة بها نفوسكم إلى مستحقيها، فإقامة الصلاة فيه إحسان في عبادة الله، وإيتاء الزكاة فيه إحسان إلى عباد الله، فمن أقام  الصلاة وآتى الزكاة فقد أحسن عبادة الله، وأحسن إلى عباد الله فكان من المحسنين.

{وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} صلوا مع المصلين، شاركوا المصلين في هذا العمل النبيل، في هذا الأمر العظيم، الذي يرضاه الله ويأمر به، ولهذا ثبت عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، ولقد كان محصورًا، لما حاصره الثوار وحاصروا بيته لقتله، وحضرت الصلاة أراد أحد الثوار أن يصلي بالناس، فجاء رجل يسأل الخليفة فقال: يا أمير المؤمنين أنت إمام سنة، وهذا إمام بدعة، يريد أن يصلي بنا، هل نصلي خلفه؟ فقال: «الصَّلاَةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ، فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ، فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ» ([2]).

{وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} صلوا مع المصلين، استدل بها الكثير من العلماء على وجوب الجماعة، وأدلة وجوب الجماعة كثيرة.

هذه أوامرُ ونواهٍ عظيمةٌ لهذه الأمة ولبني إسرائيل، من أداها وامتثلها واجتنب النواهي، فله خير الدنيا والآخرة، وكان سعيدًا، وهو أن يذكر نعمة الله وأن يشكرها، وأن يفي بعهد الله إلى عباده أن يؤمنوا بالله وبرسله، وأداء حقه من فعل ذلك وفى الله له بالعهد، فأثابه وكفر عنه سيئاته وأدخله الجنة.

وكذلك تخصيص الله في الرهبة والخشية، والإيمان بما أنزل الله تعالى، والنهي عن الكفر والنهي عن العصيان، العصيان عن الإيمان بالله وبرسوله في الدنيا، وتخصيص الله بالتقوى، وعدم لبس الحق بالباطل، وعدم كتمان الحق، وإقامة الصلاة وإتاء الزكاة، والصلاة مع المصلين، هذه أوامر عظيمة واجبات ونواهٍ، يجب على كل مسلم أن يمتثلها، وأن يؤديها، بإخلاص ورغبة ورهبة حتى يكون من السعداء المتقين.

*****

/////

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}

يقول تعالى: كيف يليق بكم  يا معشر أهل الكتاب، وأنتم تأمرون الناس بالبر، وهو جماع الخير، أن تنسوا أنفسكم، فلا تأتمروا بما تأمرون الناس به، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب، وتعلمون ما فيه على من قصر في أوامر الله؟ أفلا تعقلون ما أنتم صانعون بأنفسكم؛ فتنتبهوا من رقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم.

وهذا كما قال عبدالرزاق عن معمر، عن قتادة في قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} قال: كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه، وبالبر، ويخالفون، فعيرهم الله عز وجل، وكذلك قال السُّدِّي 

وقال ابن جريج : {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} أهل الكتاب والمنافقون كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة، ويدعون العمل بما يأمرون به الناس، فعيرهم الله بذلك، فمن أمر بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة . 

وروى محمد بن إسحاق، عن ابن عباس: {وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} أي: تتركون أنفسكم، {وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أي: تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة، وتتركون أنفسكم، أي: وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي. 

والغرض أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع، ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف، وهو واجب على العالم، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به، ولا يتخلف عنهم، كما قال شعيب عليه السلام: {وَما أُريدُ أَن أُخالِفَكُم إِلى ما أَنهاكُم عَنهُ إِن أُريدُ إِلَّا الإِصلاحَ مَا استَطَعتُ وَما تَوفيقي إِلّا بِاللَّـهِ عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وَإِلَيهِ أُنيبُ} [هود:88] .

فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف.

قال الإمام أحمد: عن أبي وائل، قال: قيل لأسامة وأنا رديفه: ألا تكلم عثمان؟ فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم، إني لا أكلمه فيما بيني وبينه ما دون أن أفتتح أمرًا، لا أحب أن أكون أول من افتتحه، والله لا أقول لرجل: إنك خير الناس، وإن كان علي أميرًا بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قالوا: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول:» يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق به أقتابه، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار، فيقولون: يا فلان ما أصابك ؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه» ([3]).  

(التفسير)

المعنى أن أسامة ينصح عثمان سرًّا. لما قالوا: ألا تنصح عثمان؟ قال: ألا تظنون أني لا أتكلم إلا وأنتم تسمعون، أنا أكلمه سرًّا فيما بيني وبينه، لا أفتح بابًا لا أكون أول من فتحه، يعني أنصحه سرًّا، فالنصيحة لولاة الأمور تكون سرًّا، فيما بينه وبينهم، ولا تكون علنًا، فهذا أدعى إلى القبول.

///   ///

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

وقال إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: إني لأكره القصص لثلاث آيات؛ قوله تعالى {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} وقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ {٢} كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}  [الصف:2] وقوله إخبارًا عن شعيب: {وَما أُريدُ أَن أُخالِفَكُم إِلى ما أَنهاكُم عَنهُ إِن أُريدُ إِلَّا الإِصلاحَ مَا استَطَعتُ وَما تَوفيقي إِلّا بِاللَّـهِ عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وَإِلَيهِ أُنيبُ} [هود:88] 

(التفسير)

من كره القصص والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خشى أن يكون داخلًا في هذه الآيات، ولذلك يمتنع من القصص المواعظ.

//

وهذه الآية الكريمة فيها تحذير ونهي، لبني إسرائيل ولهذه الأمة من الأمر بالمعروف وتركه، والنهي عن المنكر وفعله، تحذير شديد لمن يأمر غيرَه بالمعروف، ثم لا يفعله، أو ينهى غيره عن المنكر، ثم يفعله، وعتاب وتوبيخ،  والمعنى: كيف تأمرون الناس بالبر، وتنسون أنفسكم ولا تأمرونها بالبر، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أين عقولكم؟ ولهذا قال بعض السلف، لما قيل: لما تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، قال: أخاف من ثلاثة آيات، هذه الآية {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} و{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} وقول الله عن شعيب: {وَما أُريدُ أَن أُخالِفَكُم إِلى ما أَنهاكُم عَنهُ}، فإذا أمر إنسان بأمر فالواجب أن يكون أول من يمتثل لله، وإذا نهى عن منكر يجب أن يكون أول المنتهين عنه، وكما جاء في الحديث: « يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلاَنُ مَا شَأْنُكَ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ المُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيهِ»([4])، والشاعر يقول ([5]):   

يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ

 هَلَّا لِنَفْسِك كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ

تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَى

كَيْمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ

ابْدَأْ بِنَفْسِك فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا

فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ

فَهُنَاكَ تُعْذَرُ إنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى

بِالْقَوْلِ مِنْك وَيُقْبَلُ التَّعْلِيمُ

لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ

عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ

 

ومع ذلك فكل إنسان لا يفعل الواجب الأول وهو الامتثال بالأمر، لا يسقط عنه الواجب الثاني وهو أمر الناس، وكل إنسان يرتكب النهي لا يسقط عنه الواجب الثاني، وهو ترك نهي الناس عن هذا، الإنسان عليه واجبان أن يأمر نفسه بالمعروف ويأمر غيره، فعليه واجبان: أن ينهى نفسه عن المنكر، وينهى غيره.

فإذا أخل بأحدهما لا يسقط الآخر، وإن كان هذا شنيع، كونه يأمر بالمعروف ولا يفعله، وينهى عن المنكر ويفعله، هذا شنيع، لكن أشنع منه كونه يترك الواجب الثاني، ولهذا يقول: إن أهل الكئوس، وهم يتعاطون الكئوس فيما بينهم، كل واحد يجب عليه أن ينهى الآخر.

وفي هذه الآية الكريمة: تغليظ وتشنيع في أمر الناس بالخير، وعدم الامتثال له ونهي الناس عن المنكر وعن الشر وفعله، يعني  يجب على الإنسان إذا أمر بالخير أن يكون أول الممتثلين، وإذا نهى الناس عن الشر أن يكون أول المنتهين، ولهذا نعى الله عن بني إسرائيل وهو نعي لهذه الأمة، وليس خاصًا ببني إسرائيل، ولهذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ   * كَبُرَ مَقْتًا} المقت أشد البغض، يعني عظم، المقت أشد من البغض، {عِندَ اللَّـهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} أعظم المقت وأعظم الظلم عند الله تعالى، أن يقول الإنسان شيئًا وهو لا يفعله، ويقول الله عن شعيب: {وَما أُريدُ أَن أُخالِفَكُم إِلى ما أَنهاكُم عَنهُ}.

 

([1]) كما في الحديث: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ» صحيح البخاري (3445).

([2]) صحيح البخاري (695).

([3])  صحيح البخاري (3267) وصحيح مسلم (2989).

([4]) أخرجه البخاري برقم (3267).

([5]) أدب الدنيا والدين (ص 34) وعيون الأخبار (2/24).

 

([1]) أخرجه أحمد في مسنده (1/273).

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد