شعار الموقع

شرح سورة البقرة من مختصر تفسير ابن كثير 12

00:00
00:00
تحميل
95

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ* وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة: 49-50]

يقول تعالى: اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم {وإذ نجيناكم من آل فرعون} أي: خلصتكم منهم وأنقذتكم من أيديهم صحبة موسى -عليه السلام، وقد كانوا يسومونكم، أي: يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب. وذلك أن فرعون -لعنه الله- كان قد رأى رؤيا هالته، رأى نارًا خرجت من بيت المقدس فدخلت بيوت القبط ببلاد مصر، إلا بيوت بني إسرائيل.

مضمونها: أن زوال ملكه يكون على يدي رجلٍ من بني إسرائيل، ويقال:  بل تحدث سُـمَّاره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجلٍ منهم، يكون لهم به دولةً ورفعة، فعند ذلك أمر فرعون -لعنه الله- بقتل كل ذي ذكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل، وأن تترك البنات، وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأرذلها.

وهاهنا فسر العذاب بذبح الأبناء، وفي سورة إبراهيم عطف عليه، كما قال:  {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [إبراهيم: 6] وسيأتي تفسير ذلك في أول سورة القصص، إن شاء الله تعالى، وبه الثقة والمعونة والتأييد.

ومعنى (يَسُومُونَكُمْ) أي:  يولونكم، قاله أبو عبيدة، كما يقال:  سامه خطة خسفٍ. إذا أوْلاه إياها.

وقيل:  معناه:  يديمون عذابكم، كما يقال:  سائمة الغنم من إدامتها الرعي، نقله القرطبي، وإنما قال هاهنا:  {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [إبراهيم: 6] ليكون ذلك تفسيرًا للنعمة عليهم في قوله:  {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} ثم فسره بهذا لقوله هاهنا {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} وأما في سورة إبراهيم فلما قال: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم: 5]، أي:  بأياديه ونعمه عليهم فناسب أن يقول هناك: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [إبراهيم: 6] فعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي على بني إسرائيل.

وفرعون: علمٌ على كل من ملك مصر كافرًا من العماليق وغيرهم.

كما أن قيصر: علمٌ على كل من ملك الروم مع الشام كافرًا.

وكسرى: علمٌ على كل من ملك الفرس.

وتُبَّع: علمٌ على كل من ملك اليمن كافرًا.

والنجاشي: علمٌ على كل من ملك الحبشة.

وقوله تعالى:  {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [إبراهيم: 6] قال ابن جرير: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا آباءكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون بلاءٌ لكم من ربكم عظيم. أي:  نعمةٌ عظيمة عليكم في ذلك.

وأصل البلاء الاختبار وقد يكون بالخير والشر، كما قال تعالى:  {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، وقال:  {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ}[الأعراف: 168]، قال ابن جرير:  وأكثر ما يقال في الشر:  بلوته أبلوه بلاءً، وفي الخير:  أبليه إبلاءً وبلاءً.

وقوله تعالى:  {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة: 50] معناه:  وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون، وخرجتم مع موسى، عليه السلام، خرج فرعون في طلبكم، ففرقنا بكم البحر، كما أخبر تعالى عن ذلك مفصلًا كما سيأتي في مواضعه ومن أبسطها ما في سورة الشعراء إن شاء الله.

(فَأَنْجَيْنَاكُمْ) أي:  خلصناكم منهم، وحجزنا بينكم وبينهم، وأغرقناهم وأنتم تنظرون؛ ليكون ذلك أشفى لصدوركم، وأبلغ في إهانة عدوكم.

وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء، كما قال الإمام أحمد عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال:  قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال: ((ما هذا اليوم الذي تصومون؟)). قالوا:  هذا يومٌ صالح، هذا يوم نجى الله -عز وجل- فيه بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:  ((أنا أحق بموسى منكم)). فصامه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأمر بصومه. وروى هذا الحديث البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه.

{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ* ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة: 51-53]

يقول تعالى:  واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم، لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه، عند انقضاء أمد المواعدة، وكانت أربعين يومًا، وهي المذكورة في الأعراف، في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142] قيل:  إنها ذو القعدة بكماله وعشرٍ من ذي الحجة، وكان ذلك بعد خلاصهم من قوم فرعون وإنجائهم من البحر.

وقوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} يعني:  التوراة (وَالْفُرْقَانَ) وهو ما يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) وكان ذلك -أيضًا- بعد خروجهم من البحر، كما دل عليه سياق الكلام في سورة الأعراف، ولقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 43].

(التفسير)

ففي هذه الآيات الكريمات يعدد الله تعالى نِعَمَهُ على بني إسرائيل حينما كانوا مع موسى - عليه الصلاة والسلام - وما جرى لهم مع عدوهم فرعون، وهذا الخطاب لبني إسرائيل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم- وإن كانوا هم لم يحضروا ولم يحصل لهم ما حصل إلا أن الله تعالى جعل نعمه على آبائهم نعمًا على أبنائهم، فالنعم التي تكون للآباء تكون للأبناء، فالله تعالى يعدد هذا على الأبناء، والأبناء ما حضروا ولم يروا موسى ولم يحصل لهم شيءٌ من ذلك، ولكن الله تعالى يعدد نعمه، وكذلك أيضًا يذكر ما حصل من آبائهم من الجرائم؛ لأن النعم على الآباء نعمٌ على الأبناء؛ ولأن الجرائم التي يفعلها الآباء إذا أقرها الأبناء ولم يتبرءوا منها، فإنهم يشاركونهم في الإثم، وفي هذا تحذير لبني إسرائيل الموجودين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم- من اليهود أن يسلكوا مسلك آبائهم من العناد فيصيبهم ما أصابهم، وحثٌ لهم على شكر نعم الله عز وجل- حيث أنعم عليهم سبحانه وتعالى- على آبائهم بنعمٍ متعددة، وفي هذا أيضًا تحذيرٌ لأمة تسلك مسالك الظالمين فيصيبهم ما أصابهم، ولهذا قال سبحانه: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49]، وإذ نجيناكم الخطاب لبني إسرائيل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم- نجينا آبائكم حينما كانوا مع موسى، {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة: 49]، وذلك لأن بني إسرائيل كانوا يُسْتَخْدَمون في الأعمال الشاقة، استعملهم فرعون وآل فرعون هم بمثابة العمال الممتهنين، يمتهنونهم، ويسومونهم سوء العذاب ويحتقرونهم، والقبط هم الأشراف، وبنو إسرائيل هم الأذلة، ولهذا قال تعالى- في أول سورة القصص: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} [القصص: 5-6]، مكن الله لهم في الأرض بعد هلاك فرعون، ولهذا قال سبحانه وتعالى-: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة:  49] اذكروا نعمتي عليكم، نعمتي على أبائكم، فهي نعمةٌ لكم أنتم أيها الأبناء، فاشكروا الله على هذه النعم، واعبدوه سبحانه وأخلصوا له العبادة، واحذروا أن تسلكوا مسالك المنحرفين فتهلِكوا، {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ} ونجينا آباءكم وأجدادكم من آل فرعون كانوا يسومون أباءكم سوء العذاب، فَسَّر (سوء العذاب) بأنهم يذبحون أبناءهم ويستحيون نسائهم، لهذا لما بلغه لما حصلت الرؤية التي رآها فرعون وأن هلاكه على يد رجل من بني إسرائيل أمر بأن يقتل الأبناء ويستبقى النساء، ولهذا قال تعالى:  {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة:  49]، يذبحون الأبناء الذكور خشية أن يوجد منهم من يكون زوال الملك على يديه، ويستحيون نسائهم يعني يبقونهم، يبقون البنات أحياء النساء، الخدم، ثم قيل له بعد ذلك، قيل لفرعون إن فنت بنو إسرائيل، فنيت بنو إسرائيل من يبقى لنا خدم؟ من يخدم؟ من يقوم بالأعمال؟ إذا قتلت أبناء بني إسرائيل ما بقي عمال ولا بقي أحد ليخدم، ولا بقي أحد في الأعمال الشاقة فعند ذلك أمر بأن يقتل الذكور في سنة ويبقون في سنة، سنة بعد سنة فَوُلِدَ هارون عليه الصلاة  والسلام- في السنة التي يبقى فيها الأبناء، وولد موسى في السنة التي يقتل فيها الأبناء، ومع ذلك قدر الله أنه يبقى ولو لم يستطيع فرعون قتله وكما أبقىصلى الله عليه وسلم- في سورة القصص أن الله تعالى ألهم موسى أوحى إليه قال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] فذهب هذا التابوت إلى فرعون ولهذا قال الله تعالى:  {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} [طه: 39]، {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، قد وصف الله هذه القصة في سورة القصص، فالمقصود أن الحذر لا يغني عن القدر، فرعون حذر من رجلٍ من بني إسرائيل يكون زوال ملكه على يديه، صار يقتل الأبناء، ويستحي النساء، ثم يقتل سنة ويبقي سنة، فتَرَبَّى موسى في بيته تحت حجر امرأته، ولده فكان هلاكه على يديه، هذا من آيات الله العظيمة، والله سبحانه وتعالى- يعدد نعمه على بني إسرائيل، {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة:  49] هذه نعمةٌ عظيمة، نجيناكم من العذاب الذي يسومكم فيه آل فرعون سوء العذاب، يذبحون الأبناء ويستبقون النساء {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49]  نعمةٌ عظيمةٌ عليكم، والنعمة على الآباء نعمةٌ على الأبناء، فاشكروا الله على هذه النعم واعبدوه وأخلصوا له العبادة، وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم- واتبعوه واتبعوا النور الذي أنزل معه كما قال سبحانه:  {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]، ثم قال سبحانه -يعدد نعمه على بني إسرائيل-: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة: 50] هذه من نعم الله على بني إسرائيل، {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} يعني بأجدادكم مع موسى  عليه السلام - فرقنا حينما أمر الله موسى فضرب البحر بعصاه فانفلق فكان كل فرقٍ كالطود العظيم فصار اثني عشر طريقًا وصار معه الماء السيال يبسًا في الحال، هذا من آيات الله العظيمة، ضرب موسى بعصاه فلما ضرب انفلق فصار اثني عشر طريق، كل سبط من بني إسرائيل يدخل معه طريق، كان اثني عشر طريق، اثني عشر شارع، شوارع وصارت البحار كالطود العظيم كالجبال، والأرض يبسًا في الحال، فسلك بنو إسرائيل كل سبطٍ سلك طريقًا، فلما وصل فرعون إلى البحر ورأى بني إسرائيل دخلوا، دخل، وجده يبسًا فتكامل، فلما تكامل بنو إسرائيل خارجين من الجهة الأخرى وتكامل فرعون ومن معه داخلين أمر الله البحر أن يعود إلى حالته، فانطبق عليهم فذهبت أجسامهم للغرق وأرواحهم للنار والحرق.

فهذه من نعم الله عليهم، قال: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} فرقناه وجعلناه انفلق، وصار اثني عشر طريقًا، فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم أخرجناكم حيث خرجتم من الجهة الأخرى، ودخل فرعون وقومه فانطبق عليهم وأمر الله البحر أن يعود إلى حالته، {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} يعني فرعون ومن معه {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} وهذا من كمال النعمة أن الله سبحانه وتعالى- أنجاهم وأهلك عدوهم وهم ينظرون بأعينهم، ثم جعل الله جسده دعاية، أخرج الله جسده، قيل إن سبب ذلك أن بني إسرائيل بسبب العذاب الذي يعذبه فرعون، والهلع الذي أصابهم، لا يصدقون حتى يرونه بأم أعينهم أنه غرق، فأخرجه الله فطفح على وجه الماء ورأوه هالكًا غارقًا، كما قال الله تعالى في سورة يونس فقال: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس: 92]، {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ* وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُون* ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 50-52] وهذا كله بعد إهلاك فرعون، ذهب موسى عليه السلام- لميقات ربه كما قال سبحانه وتعالى- في سورة الأعراف: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} فهو وعد موسى في ثلاثين ليلة وتم بعشر، ميقات ربه، ومناجاته في الطور أربعون ليلة، وأمر هارون أن يخلفه، وكان نبيًا كريمًا، قال موسى لأخيه هارون: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142] أمره بأن يخلفه وأن يقيم فيهم العدل، ويأمرهم بطاعة الله، وينهاهم عن معصيته؛ ولكنهم استهانوا بهارون، وليس لهارون عندهم الهيبة التي كانت لموسى، فصنع لهم السامري العجل من الحلي، حلي آل فرعون والذهب، صنع لهم عجلًا جسدًا له خوار فعبدوه من دون الله، فنهاهم نبي الله هارون، ونصح لهم، وكرر النصيحة وحذرهم أشد التحذير؛ ولكنهم لم يبالوا واستمروا على عبادة العجل، بعدما ذهب موسى أربعين ليلة لمدة طويلة عبدوا العجل، وهذا من العجائب؛ لأنهم بني إسرائيل الآن مع نبيهم هارون وموسى، وأنعم الله عليهم بنعمٍ عظيمة، وشاهدوا فرعون وما حصل له، وأن الله أغرقه فلما خرجوا مع موسى مروا على قومٌ يعكفون على أصنامٌ له، قالوا:  يا موسى اصنع لنا إلهًا كما لهم آلهة قال:  إنكم قومٌ تجهلون، ثم لما ذهب لميقات ربه أربعين ليلة عبدوا العجل، صنع لهم السامري العجل من حلي القوم، من الحلي الذهب والفضة، الذهب الذي أخذوه من آل فرعون صنع لهم عجلًا جسدًا له خوار فعبدوه، ولهذا قال سبحانه وتعالى-:  {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة: 51]،  اتخذوا عجل وعبدوه من دون الله، وقد أخبر الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام- فقال سبحانه:  {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ}[طه: 85] أخبره الله قبل أن يأتي أن بني إسرائيل عبدوا العجل، لكن لما جاء موسى ووصل إليهم، ووجدهم يعبدون العجل تأثر تأثرًا كبيرًا لا شك ليس الخبر كالمعاينة، أخبره الله؛ لكن تأثر، ولما رآهم وشاهدهم يعبدونه تأثر وغضب غضبًا شديدًا حتى ألقى الألواح التي فيها كلام الله وتكسرت من شدة غضبه، وجرّ هارونَ وأخذ برأسه ولحيته يجره من شدة الغضب وقال: كيف تتركهم يعبدون الأصنام؟ كيف تتركهم يعبدون العجل؟ من شدة غضبه جره وهو نبيٌ كريم مثله، فقال له هارون مستعطفًا له:  {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} هو ابن أمه هو أخوه من أمه وأبيه لكن من باب الاستعطاف، يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ما قصرت نصحتهم، إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت في الأعداء ولا تجعلني من الظالمين، في سورة طه قال:  {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}[طه: 94] ثم قال بعد ذلك:  {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[الأعراف: 151] وهذا فيه دليل على أن الغضبان لا يؤاخذ إذا كان غضبه لله ولهذا ألقى الألواح وتكسرت من شدة الغضب والله تعالى لم يؤاخذه، وجر أخاه من رأسه ولحيته، وهو نبيٌ كريم من شدة الغضب، ولهذا يقال: ليس الخبر كالمعاينة.

أخبره الله بأنهم عبدوا العجل وتأثر لكن لما رآهم بعينه، زاد تأثره واشتد غضبه حتى ألقى الألواح وتكسرت وجر أخاه، الله تعالى يذكرهم بنعمه عليهم وقال:  {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}[البقرة: 51] هذا أفعال الآباء والأجداد وبنو إسرائيل المخاطبون ما فعلوا شيئًا من ذلك، {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[البقرة: 51-52] عفا الله عما سلف والآية التي بعدها أن جعل من توبتهم أن يقتل بعضهم بعضًا {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة: 52-53] الكتاب هو التوراة أنزله الله على موسى بعد هلاك فرعون كما قال تعالى في سورة القصص: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 43].

  • وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} سُمِّيَ الفرقان لما فيه من التفريق بين الحق والباطل، {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لكي تهتدوا، في هذه الآيات الكريمات يعدد الله تعالى نعمه على بني إسرائيل، وأن من نعمه عليهم أن أنجاهم من عدوهم فرعون الذي يسومهم سوء العذاب يذبح الأبناء ويستحيي النساء.

ومن نعمه عليهم أنه تعالى نجاهم من عدوهم حيث فَرَقَ بهم البحر فنجاهم وأهلك عدوهم وهم ينظرون،

ومن نعم الله عليهم أنهم لما عبدوا العجل عفى الله عنهم، وتاب عليهم لما تابوا،

ومن نعم الله عليهم أن أنزل عليهم التوراة التي جاء فيها الفرقان بين الحق والباطل لهدايتهم، وهذه النعم التي عددها الله على بني إسرائيل نعمٌ على الآباء وهي نعمٌ على الأبناء فعليهم أن يشكروا هذه النعم، فمن شكرها زاده الله، ومن لم يشكر، ومن كفر النعم فإن الله تعالى يسلبها منه ويعاقبه سبحانه وتعالى- على عدم الشكر فمن كفرها وجحدها عاقبه الله تعالى في الدنيا والآخرة.

فهذه الآيات الكريمات كلها في بني إسرائيل، والله تعالى يقصها علينا لأخذ العظة والعبرة لنعتبر، ولئلا نسلك مسالك الظالمين فيصيبنا ما أصابهم، وللدلالة والعبرة أن من شكر نعم الله فإنها تبقى عليه ويزيده منها، ومن كفرها عذبه الله وسلب منه النعم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم}.

[توبة بني إسرائيل بقتل أنفسهم]

هذه صفَةُ توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل، قال الحسن البصري: في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} فقال: ذلك حين وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع حتى قال الله تعالى: { وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا ...} الآية [الأعراف: 149]. قال: فذلك حين يقول موسى: { يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ }.

وقال أبو العالية، وسعيد بن جبير، والربيع بن أنس: { فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ} أي: إلى خالقكم.

قلت: وفي قوله هاهنا: {إِلَى بَارِئِكُمْ} تنبيه على عظم جرمهم، أي: فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره.

وروى النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال الله تعالى: إن توبتهم أن يقتل كل واحد منهم كل من لقي من ولد ووالد فيقتله بالسيف، ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن. فتاب أولئك الذين كانوا خفي على موسى وهارون ما اطلع الله من ذنوبهم، فاعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا به فغفر الله تعالى للقاتل والمقتول.

وروى ابن جرير عن ابن عباس، قال: قال موسى لقومه: { فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم} قال: أمر موسى قومه - عن أمر ربه عز وجل - أن يقتلوا أنفسهم قال: وأخبر الذين عبدوا العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل، فأخذوا الخناجر بأيديهم، وأصابتهم ظلمةٌ شديدة، فجعل يقتل بعضهم بعضًا، فانجلت الظلمة عنهم، وقد أجلوا عن سبعين ألف قتيل، كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة.

(التفسير)

في هذه الآية الكريمة بيان لكيفية توبة الله علي بني إسرائيل، الله تعالى بين في هذه الآية أنه لما عبدوا العجل، ووقعوا في الشرك هذا ظلمٌ عظيم، {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ} هذا ظلم، الظلم الأكبر؛ الظلم ظلمان:  ظلمٌ اكبر، وظلمٌ أصغر، فالظلم الأكبر:  ظلم الشرك كما قال تعالى في القرآن: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان: 13]، والثاني:  ظلم النفس بالمعاصي، وهذا الظلم الأكبر، وقعوا في الظلم الأكبر، وهو ظلم الشرك حيث عبدوا العجل، وهم أيضًا مع نبيهم هارون، ونبيهم موسى ذهب لميقات ربه وهم يرون، يشاهدون نعم الله عليهم كيف أهلك عدوهم، وكيف أنجاهم، ونعم الله تتابع  عليهم وتثرى ومع ذلك عبدوا العجل، فالله تعالى جعل من توبتهم أن يقتل بعضهم بعضًا كما قال: {وإذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} يعني بعبادتكم العجل {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 54] بين الله تعالى في هذه الآية أن بني إسرائيل عبدوا العجل، وأنهم ظلموا أنفسهم بالشرك والكفر، وأن الله تعالى جعل من توبتهم أن يقتل بعضهم بعضًا ففعلوا فتاب الله عليهم.

{إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فيه اسمين من أسماء الله هو:  اسم التواب، واسم الرحيم.

وأما كيفية القتل الآية فيها أنهم قتلوا أنفسهم لكن في الكيفية جاء عن ابن عباس أنهم جاءت ظلمة بأخبار بني إسرائيل أن ما جاء في الظلمة، وأنهم جعل يقتل بعضهم بعضًا، كل يقتل من أمامه ولا يبالي، سواء الذي أمامه أباه أو أخاه، أو ابنه يقتل بعضهم بعضًا وأما يقول أن هؤلاء جلسوا عبدوا العجل ولم يعبدوا العجل أنهم جاءوا بالخناجر، أو إن جاءت الظلمة عن سبعين ألفًا -والله أعلم- يعني هذا كله من أخبار بني إسرائيل يحتاج إلى دليل ثابت عن النبي –صلى الله عليه وسلم- لكن الآية واضحة في أن الله جعل من توبتهم أن يقتل بعضهم بعضًا، فقتل بعضهم بعضًا فتاب الله عليهم –سبحانه وتعالى-.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُون  ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون}

[طلب خيارهم رؤية الله وإماتتهم وإحياؤهم]

يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق، إذ سألتم رؤيتي جهرة عيانًا، مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم، كما قال ابن جريج، قال ابن عباس في هذه الآية: { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} قال: علانية ، أي: حتى نرى الله.

وقال عروة بن رويم في قوله: {وَأَنتُمْ تَنظُرُون} قال: صعق بعضهم وبعض ينظرون، ثم بعث هؤلاء وصعق هؤلاء.

وقال السدي: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله، ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكتَ خيارهم { لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا} [الأعراف: 155]. فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل، ثم إن الله أحياهم فقاموا وعاشوا رجلٌ رجلٌ، ينظر بعضهم إلى بعض: كيف يحيون؟ قال: فذلك قوله تعالى: { ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون }.

وقال الربيع بن أنس: كان موتهم عقوبة لهم، فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم. وكذا قال قتادة (10).

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الآية: قال لهم موسى -لما رجع من عند ربه بالألواح، قد كتب فيها التوراة فوجدهم يعبدون العجل، فأمرهم بقتل أنفسهم، ففعلوا، فتاب الله عليهم، فقال: إن هذه الألواح فيها كتاب الله، فيه أمركم الذي أمركم به ونهيكم الذي نهاكم عنه. فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله علينا فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى! وقرأ قول الله: { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة، فصعقتهم فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم، وقرأ قول الله: { ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون } فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله. فقالوا: لا، فقال: أي شيء أصابكم؟ فقالوا: أصابنا أنا متنا ثم حَيِينا. قال: خذوا كتاب الله. قالوا: لا. فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم.

وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعد ما أحيوا. وقد حكى الماوردي في ذلك قولين: أحدهما: أنه سقط التكليف عنهم لمعاينتهم الأمر جهرة حتى صاروا مضطرين إلى التصديق؛ والثاني: أنهم مكلفون لئلا يخلو عاقل من تكليف، قال القرطبي: وهذا هو الصحيح لأن معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم؛ لأن بني إسرائيل قد شاهدوا أمورًا عظامًا من خوارق العادات، وهم في ذلك مكلفون وهذا واضح، والله أعلم.

التفسير

في هذه الآية الكريمة أيضًا يعد الله النعم على بني إسرائيل، إن الله تعالى أحياهم بعد موتهم لكي يشكروا الله سبحانه ويوحدوه ويخلصوا له العبادة وذلك أن من تعنتات بني إسرائيل من تعنتهم على أنبيائهم أنهم قالوا لموسى:  {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] لما جاء بالألواح قال هذه ألواح فيها كلام الله، قالوا:  ما نصدق أرنا الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون، الله تعالى لما سأله موسى الرؤية قال له:  لن تراني، لا يستطيع أحد أن يرى الله في الدنيا، ولا يستطيع ببشريته ولهذا ثبت في الحديث عن النبي أن –صلى الله عليه وسلم- «لما سئل هل رأيت ربك قبل الموت؟ فقال: نور أني أراه»، وفي لفظة موسى «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»، ما يستطيع أحد أن يرى الله في الدنيا، ولهذا لما سأل موسى الرؤية، قال:  لن تراني ولكن انظر إلى الجبل إن استطاع الجبل وثبت في الرؤية، تستطيع، فلما تجلى الله للجبل جعله دكًا وتدكدك وانساخ.

قال بعضهم: إن الله كشف له عن مقدار الإصبع الخنصر، ذكر هذا في أخبار بني إسرائيل أنه بمقدار الخنصر فانساخ الجبل، وتدكدك، وخر موسى صعقًا، فلا يستطيع أن يراه أحد في الدنيا، لكن في يوم القيامة ينشئ الله المؤمنين تنشئةً قوية، وينشئون تنشئةً قوية بأبصارٍ قوية، وأجسامًا قوية فيتحملون رؤية الله في الآخرة فيرى المؤمنون ربهم، أما في الدنيا لا يستطيع أحد أن يرى الله، ولهذا تدكدك الجبل وهؤلاء من تعنتاتهم قالوا: أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فماتوا، وهذا بعد أن ذهبوا معه هذا خيارهم ذهبوا مع موسى، فلما أهلكهم الله جعل موسى يسأل ربه ويدعو ربه ويتضرع إليه ويبكي ويقول:  يا ربي إذا رجعت إلى بني إسرائيل ماذا أقول؟ فأحياهم الله، أحياهم الله لكي يشكروه، فالله –سبحانه وتعالى- يعد نعمه على بني إسرائيل الموجودين في زمن النبي –صلى الله عليه وسلم- هذه نعمتي علي أبائكم وأجدادكم فاشكروا الله ووحدوه وأخلصوا العبادة له.

وفي هذا تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلك بني إسرائيل في العناد والعتو فيصيبها ما أصابهم.

*****

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد