شعار الموقع

شرح سورة البقرة من مختصر تفسير ابن كثير 21

00:00
00:00
تحميل
68

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)}.

[دعوة اليهود إلى المباهلة]

روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس رضي الله عنهما: يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب. فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} أي: بِعِلْمِهِم بما عندهم من العلم بك، والكفر بذلك، ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات.

وقال الضحاك، عن ابن عباس: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} فسلوا الموت .

وروى عبد الرزاق عن عكرمة، قوله: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قال: قال ابن عباس: لو تمنى اليهود الموت لماتوا.

وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير-عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه.

وهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس.

وقال ابن جرير في تفسيره: وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا. ولرأوا مقاعدهم من النار. ولو خرج الذين يُباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلًا ولا مالًا».

ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الجمعة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ* قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 6-8] فَهُم -عليهم لعائن الله-لما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى، دعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم، أو من المسلمين. فلما نكلوا عن ذلك علم كل أحد أنهم ظالمون؛ لأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه لكانوا أقدموا على ذلك، فلما تأخروا علم كذبهم.

وهذا كما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران من النصارى بعد قيام الحُجَّة عليهم في المناظرة، وعتوّهم وعنادهم إلى المباهلة، فقال تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] فلما رأوا ذلك قال بعض القوم لبعض: والله لئن باهلتم هذا النبيّ لا يبقى منكم عين تطرف. فعند ذلك جنحوا للسلم وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فضربها عليهم. وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح أمينًا. ومثل هذا المعنى أو قريب منه قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75]، أي: من كان في الضلالة منا أو منكم، فزاده الله مما هو فيه ومَدّ له، واستدرجه، كما سيأتي تقريره في موضعه، إن شاء الله.

وقد فسرت الآية بتمني الموت دون التعرض للمباهلة، والأول أولى.

وسميت هذه المباهلة تمنيًا؛ لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر له ولا سيما إذا كان في ذلك حجة له فيها بيان حقه وظهوره، وكانت المباهلة بالموت؛ لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت.

[حرصهم على طول العمر]

ولهذا قال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ}: أي: أحرص الخلق على حياة أي: على طول عُمْر، لما يعلمون من مآلهم السيئ وعاقبتهم عند الله الخاسرة؛ لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم. وما يحذرون منه واقع بهم لا محالة، حتى وهم أحرص من المشركين الذين لا كتاب لهم.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} قال: الأعاجم.

وكذا رواه الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه .

وقال مجاهد: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: حُبِّبَت إليهم الخطيئة طول العمر.

وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} أي: وما هو بمنجيه من العذاب. وذلك أن المشرك لا يرجو بعثًا بعد الموت، فهو يحب طول الحياة وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي بما ضيع ما عنده من العلم.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية: يهود أحرص على الحياة من هؤلاء، وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة، وليس بمزحزحه من العذاب لو عَمَّر، كما أن عمر إبليس لم ينفعه إذ كان كافرًا.

{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي: خبير بصير بما يعمل عباده من خير وشر، وسيجازي كل عامل بعمله.

(التفسير)

في هذه الآيات الكريمات: بيان من الله سبحانه وتعالى لما كان عليه اليهود من علمهم بأنهم على ضلال وأن دعواهم أنهم على الحق، وأنهم أهل الله وأنهم أولياء الله وأحباؤه وأن لهم الجنة، وقولهم: إنهم سيدخلون النار عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل ثم يدخلون إلى الجنة كل هذا من باب العناد، وإلا فهم يعلمون أنهم على ضلال، ولهذا في هذه الآيات الكريمات أُمِرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يباهلهم أمره الله أن يباهلهم وأن يقول إن كنتم تزعمون أنكم على الحق وأننا على الباطل فلنتباهل، والمباهلة هي إذا كان الخلاف بين اثنين أو جماعتين أو بين طائفتين كلٌ يدعي الحق يجتمعان وكل يدعو على نفسه بالهلاك إن كان كاذبًا.

فالمحق الذي يعلم أنه على الحق لا يبالي، يدعو على نفسه إن كان كاذبًا ويعلمون أنه صادق لكن المبطل يعلم أنه على الباطل لا يمكن أن يوافق، ولهذا لما جاء وفد نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودخلوا المسجد أمرهم بالمباهلة وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم بعلي والحسن والحسين وضعهم على الكساء وقال اللهم أن هؤلاء أهلي ونزلت هذه الآية {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وأَبْنَاءَكُمْ ونِسَاءَنَا ونِسَاءَكُمْ وأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ} فلما جاء النصارى نظروا نظر بعضهم إلى بعض وعلموا أنهم على الباطل وقالوا والله إن باهلتم هذا الرجل لما تبقى منكم عين تطرف تهلكون أنتم وذراريكم ثم لجئوا إلى الجزية، وقالوا: نعطيك الجزية واتفقوا على أن الجزية تدفع مرتين بعد ستة أشهر كذا من الذهب ومن الفضة ومن الأقمشة ومن الحلل وقال ارسل معنا أمينًا قال لأبعثن معكم أمينًا حق أمين لأبعثن أبي عبيدة بن الجراح، وكذلك في هذه الآيات أمرهم الله بالمباهلة.

 


 

الملف الصوتي رقم (14)

(التفسير)

قال لأبعثن معكم أمينًا حق أمين لأبعثن أبا عبيدة بن الجراح، وكذلك في هذه الآيات أمرهم الله بالمباهلة، وقيل إنه أمر بالتمني بدون المباهلة، الله تعالي يقول: {قُلْ إن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ} أنتم تزعمون أنكم على الحق، تزعمون إنكم أهل الجنة وقلتم لن يدخل الجنة إلا اليهود والنصارى، وقلتم نحن أبناء الله وأحبائه، وقلتم الدار الآخرة خالصة لنا من دونكم، إن كنتم صادقين تمنوا الموت، حتى تصلوا إلى ما تحبون من الجنة والكرامة إن كنتم صادقين تمنوا الموت،{قُلْ إن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ} يعني خاصة بكم هكذا يقولون، يقولون لا يدخل الجنة إلا من كان يهوداً أو نصارى، ويرون أن المسلمون على الباطل وأنهم أهل النار {قُلْ إن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ} حتى تصلوا إلى ما أعد لكم من الكرامة إن كنتم صادقين، {قُلْ إن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ} قال الله: {ولَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} الباء السببية، بسبب ما قدمت أيديهم من الكفر والعناد وقتل الأنبياء والاستكبار عن عبادة الله لا يمكن أن يتمنوه، وظلمهم ظلم كفر ولهذا قال: {ولَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ واللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} ثم قال سبحانه وتعالى {ولَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ومِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} سوف تجد يا نبي الله هؤلاء اليهود أحرص الناس على حياة، حتى أنهم أحرص من الوثنيين، من الذين أشركوا،{ولَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ومِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} يعني يتمني لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ لأنه يعلم أنها ليس له إلا الدنيا، وأن ما بعد الدنيا هو الهلاك والدمار والخزي والعذاب السرمدي، فهو يتمني طول العمر ويتمني أن يمد له في الحياة، ويبتعد عن أسباب الموت بكل ما أوتي من قوة، لأنه يعلم أن نهايته الهلاك والعذاب، {ولَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ومِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} ولو يعمر ألف سنه هل ينفعه؟ ما ينفعه من العذاب، {ومَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أْن يُعَمَّرَ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} في هذه الآيات الكريمات بيان كذب اليهود، ولو تمنوا الموت لماتوا عن آخرهم، ولو باهلوا النبي صلي الله عليه وسلم، لماتوا عن آخرهم وما بقي يهودي، ولكنهم يعلمون أنهم كذبة، ولهذا امتنعوا ورفضوا المباهلة والتمني وتبين بذلك كذبهم، ففيه كذب اليهود وعتوهم وعنادهم ومعرفتهم أنهم على الباطل، وتكذيبهم في قولهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس.

وفيه: أن اليهود لا يتمنوا الموت، كل كافر لا يتمني الموت، لعلمه بما أعد الله له من العذاب، بخلاف المؤمن فقد يتمني المؤمن الموت، ولكنه منهي عن ذلك في حياته، قال النبي صلي الله عليه وسلم: في حديث صحيح «لا يتمنى أحدكم الموت، ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا» ([1])، وجاء في بعضها: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلْ: اللهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي»([2])، والآن الإنسان يتمني الموت، ففي هذه الآيات الكريمات بيان كذب اليهود في دعواهم أنهم أولياء الله وأحبائه، في دعواهم أنهم أهل الجنة ولا يدخل الجنة إلا من كان على دينهم.

وفيه: أن اليهود لا يمكن أن يتمنوا الموت وكل كافر لا يتمنى الموت.

وفيه: أن الكافر مهما مُتِّع في هذه الحياة مهما عاش فإنه لا ينفعه ولا يدفع عنه عذاب الله.

وفيه: أن الله تعالي بصيرٌ بأعمال العباد خبيرٌ بأعمالهم ونياتهم وسوف يجازيهم على أعمالهم ونياتهم.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}

قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري([3]): أجمع أهل العلم بالتأويل جميعًا أن هذه الآية نزلت جوابًا لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم.

وقال البخاري([4]): قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} قال عكرمة: جبر، وميك، وإسراف: عبد. وإيل: الله.

*****

(التفسير)

 يعني معني قل عكرمة يقول جبريل وميكائيل ومعناها ترجمة عبد الله، كلمة غير عربية تجمع عبد الله جبر هذا عبد إيل الله، ترجمته فجبريل معناه عبد الله ميكا عبد، إيل الله، إيل ترجمتها الله، جبريل وإسرافيل وميكائيل معني يكون عبد الله، مكون من كلمتين، ترجمتها فقال: عكرمة جبر هذا الكلمة الأولي عبد، إيل: الله، ميكا: عبد، إيل: الله، إسراف: عبد، إيل: الله هذا معناها يعني ترجمة جبرائيل: عبد الله، ميكائيل: عبد الله، إسرافيل: عبد الله نعم.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

ثم رواه عن أنس بن مالك([5])قال: سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله ﷺ وهو في أرض يخترف. فأتى النبي ﷺ فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: «أخبرني بِهن جبريل آنفًا».

قال: جبريل؟ قال: «نعم».

قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} «أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت».

قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله. يا رسول الله، إن اليهود قوم بُهُت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني.

فجاءت اليهود فقال لهم رسول الله ﷺ:«أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟» قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا. قال: «أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام». فقالوا: أعاذه الله من ذلك.

فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. فقالوا: هو شَرُّنا وابن شرِنا. وانتقصوه.

قال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله.

انفرد به البخاري من هذا الوجه وقد أخرجه من وجه آخر، عن أنس.

ومن الناس من يقول: «إيل» عبارة عن عبد، والكلمة الأخرى هي اسم الله؛ لأن كلمة «إيل» لا تتغير في الجميع، فوزانه: عبد الله، عبد الرحمن، عبد الملك، عبد القدوس، عبد السلام، عبد الكافي، عبد الجليل. فعبد موجودة في هذا كله، واختلفت الأسماء المضاف إليها، وكذلك جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ونحو ذلك، وفي كلام غير العرب يقدمون المضاف إليه على المضاف، والله أعلم.

*****

(التفسير)

المعني أن جبريل وميكائيل وإسرافيل فيه قولان، القول الأول: جبر. وميكا وإسراف: عبد. وإيل: الله، والقول الثاني: أنها بالعكس، إيل هي كلمة عبد، وأما جبريل تتغير والدليل على ذلك أمران، الأمر الأول أن كلمة إيل لا تتغير جبرائيل إسرافيل عزرائيل ميكائيل فإيل هي العبد، وأما الكلمة الأولي فهي تتغير مثل عبد الله، عبدالرحمن، عبد السلام، عبد القدوس، عبد الملك، عبد ما تتغير، فإيل ما تتغير، والكلمة الثانية هي اسم من أسماء الله، والأمر الثاني أن العجم يقدمون المضاف على المضاف إليه بخلاف العرب، العرب عبد مقدم، وأما العجم بالعكس وهذه كلمة أعجمية، مثل ما تشاهدون بعض العجم بعض إخواننا من الباكستان يقدمون يأخرون المضاف على المضاف على طريقة الأعاجم.

والقول الثاني يؤيد أن الكلمة الثانية هي عبد والكلمة الأولي هي اسم من أسماء الله.

وأما قصة عبد الله بن سلام رضي الله عنه الإسرائيلي الذي بادر بالإسلام، من الله عليه بالإسلام، عبد الله بن سلام كان سيدًا مطاعًا في بني إسرائيل في المدينة، فأسلم رضي الله عنه وبادر بالإسلام، لما قدم النبي صلي الله عليه وسلم المدينة من الله عليه بالإسلام، ولم تعلم اليهود، وجاء للنبي صلي الله عليه وسلم، فسأل عن ثلاث مسائل، قال: سائلك عن ثلاث مسائل لا يعلمهن إلا نبي، ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟

فقال: هذه الثلاث أخبرني بها جبريل أنفًا قريبًا، فقال عبد الله بن سلام، أن جبريل هو عدو اليهود من الملائكة، هو عدو اليهود من الملائكة وهذا هو الشاهد من الآية، وهو سيد مطاع في بني إسرائيل أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق من المغرب، وهذا يحتمل أن أشراط الساعة هو المتأخرة، أن أشراط الساعة الكبار كما أتي في النصوص في المهدي لكن أول أشراط الساعة هي المتأخرة، والثاني أول طعامها الجنة زيادة كبد الحوت، كبد الحوت الزيادة هي القطعة التي تكون في الكبد زائدة القطعة الصغيرة، قطعة من ألذ ما يكون، قطعه متعلقة بالكبد هذه زيادة كبد الحوت تكفي طعام لأهل الجنة كلهم، هذا الحوت ضخمة هذا الزيادة طعام لأهل الجنة؛ نُزُل، والثاني ينزع الولد إلى أعمامه ويكون شبه الآباء إذا سبق ماء الرجل، وإذا سبق ماء المرآة نزع إلى أخواله وصار يشبه أخواله، فقال عبد الله بن سلام أشهد إنك نبي وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وقال يا رسول الله أنا سيد مطاع في اليهود الآن لكن اليهود قومٌ بهت ما علموا بإسلامي يغمطوني حقي ويتنقصوني؛ لكن سأختفي الآن وإذا جاء اليهود سألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي فاختفوا عبد الله بن سلام دخل في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وجاءوا اليهود ودخلوا علي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الذي لهم، ما تقول في عبد الله بن سلام فقالوا: خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وجعلوا يثنون عليه من الأوصاف، فقال: أرأيتم إن أسلم فقال أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله بن سلام وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله، فقالوا في الحال: شرنا، وابن شرنا، وجعلوا ينتقصون، ما يستحون، في الحال، هذا يدل على خبث اليهود، يعني قبل أن يخرج، سيدنا وابن سيدنا فلما خرج وتشهد شهادة الحق، تنقصوه وقالوا: شرنا وابن شرنا في الحال، نسأل الله السلامة والعافية، نعوذ بالله من العناد.

واليهود قومٌ بهت، ولم يسلموا إلا قليل، ولهذا جاء في حديث فيما معناه: لو أسلم عشرة من اليهود لأسلم جميعهم، وأنتم تجدون الآن النصارى أرق قلوبًا، تجدون في مكاتب الدعوة الآن يسلم مئات من النصارى، لا يعدون ولا يحصون، لكن ما سمعوا أن يهوديًا واحدًا أسلم، هل سمعتم أن يهوديًا واحدًا أسلم؟ ما سمعتم أبدًا، اليهود عندهم عنادٌ وعتو وكبر نسأل الله السلامة والعافية.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

وأما تفسير الآية فقوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} الآية أي: من عادى جبريل فليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك، فهو رسول من رسل الله مَلَكي عليه وعلى سائر إخوانه من الملائكة السلام، ومن عادى رسولاً فقد عادى جميع الرسل، كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه الإيمان بجميع الرسل، وكما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا* أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء:150، 151] فحكم عليهم بالكفر المحقّق، إذْ آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعضهم وكذلك من عادى جبريل فإنه عدو لله؛ لأن جبريل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه، وإنما ينزل بأمر ربه كما قال تعالى: {وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ ...} الآية [مريم: 64] وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: 192-194].

وقد روى البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: «من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالحرب»([6]).

ولهذا غضب الله لجبريل على من عاداه، فقال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: مِنَ الكتب المتقدمة {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: هدى لقلوبهم وبشرى لهم بالجنة، وليس ذلك إلا للمؤمنين كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ...} الآية [فصلت: 44]، وقال تعالى: {وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ...} الآية [الإسراء: 82].

ثم قال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} يقول تعالى: من عاداني وملائكتي ورسلي -ورسله تشمل رسله من الملائكة والبشر، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75].

{وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ}، وهذا من باب عطف الخاص على العام، فإنهما دخلا في الملائكة، ثم عموم الرسل، ثم خُصصا بالذكر؛ لأن السياق في الانتصار لجبريل وهو السفير بين الله وأنبيائه، وقرن معه ميكائيل في اللفظ؛ لأن اليهود زعموا أن جبريل عدوهم وميكائيل وليهم، فأعلمهم الله تعالى أنه من عادى واحدًا منهما فقد عادى الآخر وعادى الله أيضًا؛ ولأنه أيضًا ينزل على أنبياء الله بعض الأحيان، ولكن جبريل أكثر، وهي وظيفته، كما أن إسرافيل موكل بالنفخ في الصور للبعث يوم القيامة؛ ولهذا جاء في الصحيح: أن رسول الله ﷺ كان إذا قام من الليل يقول «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»([7])

وقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} فيه إيقاع المظهر مكان المُضْمَر حيث لم يقل: فإنه عدو للكافرين بل. قال: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}.

وإنما أظهر الله الاسم هاهنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره، وإعلامهم أن من عادى أولياء الله فقد عادى الله، ومن عادى الله فإن الله عدو له، ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة، كما تقدم الحديث: «من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالمحاربة»([8]).

*****

(التفسير)

 في هذه الآيات الكريمات: الرد على اليهود في دعواهم أن جبريل عليه الصلاة والسلام، عدوهم من الملائكة وقالوا: لما سألوا النبي صلي الله عليه وسلم، من الذي ينزل عليك بالوحي؟ قال جبريل قال ذاك عدونا لو كان لميكائيل لينزل بالمطر والخيرات لكان جبريل عدونا ينزل بالعذاب وأهلك الأمم، لو كان ميكائيل لينزل بالقطر والنبات والخير والمطر فأنزل الله هذه الآية {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًا لِّجِبْرِيلَ فَإنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وهُدًى وبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)}.

هذا فيه بيان فضل جبريل عليه السلام ومكانته ومنزلته عند الله وهو أفضل الرسل، أفضل الملائكة، والرسل قسمان، رسل من البشر ورسل من الملائكة كما قال الله {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} فأفضل الرسل نبينا محمد صلي الله عليه وسلم من البشر، وأفضل الرسل من الملائكة جبريل، وقال بعض العلماء إن منزلته من الله كمنزلة الحاجب من الملك، عليه الصلاة والسلام وهو أفضل الملائكة، وهو الذي ينزل بالوحي على الأنبياء، فهو موكل بالوحي الذي فيه حياة القلوب والأرواح.

وميكائيل ينزل بالقطر والماء والمطر الذي فيه الحياة، الذي فيه النبات الذي تحيا به الأبدان، أبدان الحيوانات والأدميين.

وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي فيه إعادة الأرواح إلى الأجساد، فهؤلاء الثلاثة موكلون بما فيه الحياة، جبريل موكلٌ بما فيه حياة القلوب والأرواح وهو الوحي، وميكائيل موكلٌ بما فيه حياة الأبدان الناس والنبات وهو القطر، وإسرافيل موكلٌ بالنفخ في الصور الذي فيه إعادة الأرواح لأجسادها، ولما كان هؤلاء الملائكة الثلاثة موكلون بما فيه الحياة صاروا هم مقدمو الملائكة وأفضلهم، ولهذا توسل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بربوبية الله لهؤلاء الأملاك الثلاثة الذين وكلوا بما فيه الحياة، ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتهجد يقرأ هذا الاستفتاح: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من يشاء إلى صراط مستقيم»([9]) فتوسل النبي صلي الله عليه وسلم بربوبية الله لهؤلاء الأملاك الثلاثة الذين وكلوا بما فيه الحياة، فالله تعالى رد على اليهود في زعمهم أن جبريل عدوهم وأن ميكال وليهم، الله تعالي يقول: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًا لِّجِبْرِيلَ} انظر، هذه منزلته وهذه مكانته عند الله {فَإنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإذْنِ اللَّهِ} هو الذي نزل بالقرآن، من الذي نزل بالقرآن؟ جبريل نزل به من عند الله، كما قال الله تعالي في السورة {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} فجبريل سمع كلام الله، ثم نزل به على قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102]، {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًا لِّجِبْرِيلَ فَإنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإذْنِ اللَّهِ} بإذن الله القدري والشرعي، قدره وشرعه، الإذن يكون قدري ويكون شرعي، {فَإنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} يعني هذا القرآن يصدق الكتب التي سبقته ويوافقها، {وهُدًى} فيه هداية لقلوب المؤمنين {وبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} بالجنة، ثم قال سبحانه: {مَن كَانَ عَدُوًا لِلَّهِ ومَلائِكَتِهِ ورُسُلِهِ وجِبْرِيلَ ومِيكَالَ فَإنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} من كان عدوًا لرسل الله أو ملائكته فهو عدوٌ لله، ومن كان عدوًا لله فهو هالك، من كان عدوًا لله وملائكته عمومًا ورسله، الرسل من البشر ومن الملائكة وجبريل وميكائيل تخصيص بعض التعميم لأنهم دخلوا في الملائكة خصصهم لمزيتهم لأنهم مقدم الملائكة ولأن جبريل هو الذي عاداهم من الملائكة، وميكائيل هو الذي ادعوا أنه وليهم ـ كذبًا وزورًا ـ {فَإنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} من كان عدوًا لهم فإن الله عدوه، واليهود ادعوا أن جبريل عدوًا لهم فهم أعداء الله، ومن كان عدو الله أهلكه الله وكبه على وجهه في النار نسأل الله السلام والعافية.

 في هذه الآيات الكريمات بيان عناد اليهود واستمرارهم على الكفر ومعاداتهم لأنبياء الله ورسله من الملائكة والبشر، فهم أعداء الله، اليهود أعداء الله وأعداء أوليائه وأعداء ملائكته والله تعالى بيَّن في هذه الآيات أنهم أعداء الله وأنهم أعداء ملائكته ورسله، وفيه أن من أحب أحدًا فلابد أن يحب وليه فإن عادى وليه فهو عدو له، وتحب أعداء الحبيب وتزعم حبه، لا يمكن هذا، إن كنت محبًا لشخص فلابد أن تحب أوليائه فكيف تحبه وتبغضه؟ كذلك الرافضة يدعون محبة الرسول وهم يبغضون الصحابة، والصحابة أولياء الرسول عليه الصلاة والسلام، وهم أحبابه فمن أبغض الصحابة فقد أبغض الله، والصحابة الذين نقلوا الشريعة وحملوها إلينا ونقلوا الكتاب والسنة فمن جرحهم أو طعن فيهم، فقد طعن في الكتاب والسنة، قد أبطل الكتاب والسنة، كما قال بعض العلماء: الكتاب والسنة شهوده الصحابة فمن جرح شهوده فقد جرح الكتاب والسنة نسأل الله السلامة والعافية، كما قال القحطاني في نونيته:

مدحوا النبي وخونوا أصحابه...،

فمن أحب شخصًا لابد أن يحب أوليائه، ومن ادعي أنه عدوٌ له فلابد أن يكون عدوًا لأوليائه، ولهذا بين الله تعالي أن اليهود الذين يزعمون أن جبريل عدوهم أنهم أعدائه سبحانه وتعالي، وفيه بيان كفر اليهود، وأن اليهود على كفر؛ بل على أنواع من الكفر وأنهم أعداء الله وأعداء ملائكته وأعداء رسله، وفيه الرد على من قال أن اليهود على دين حق فهو كافر، ومن قال أن يجب التقريب بين اليهود وبين النصارى، وأنه يمكن أن يكون الدينان على حق فهذا ردة عن الإسلام بإجماع المسلمين، نسأل الله السلامة.

فاليهود كفار ومن لم يكفر اليهود أو النصارى أو الوثنين فهو كافر، من لم يكفر الكفار أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم فهو كافر بالإسلام، ولا يصح إسلام الإنسان وإيمانه حتى يعتقد أن اليهود على دينٍ باطل، وأنهم كفار ويعتقد أن النصارى على دينٍ باطل وأن الوثنيين على دينٍ باطل، فمن شك أو تردد فهو كافر بالإسلام، نسأل الله السلامة والعافية، نعم

 

([1]) أخرجه مسلم (2682)، من طريق أبي هريرة .

([2]) أخرجه البخاري (5671)، ومسلم (2680) .

([3]) ينظر: جامع البيان (2/377) .

([4]) أخرجه البخاري تعليقاً قبيل (4480) .

([5]) أخرجه البخاري (4480) .

([6]) كذا في ابن كثير (1/342)، ولفظ البخاري (6502) «من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب »، جزء من حديث أبي هريرة  .

([7]) أخرجه مسلم (770)، من حديث عائشة  .

([8]) أخرجه البخاري ( 6502)، جزء من حديث، أبي هريرة .

([9]) سبق تخريجه .

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد