** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)}.
نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة، عن كثرة سؤال النبي ﷺ عن الأشياء قبل كونها، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة: 101] أي: وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه؛ فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة.
ولهذا جاء في الصحيح: «إن أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته»([1]).
ولمّا سُئِل رسول الله ﷺ عن الرجل يجد مع امرأته رجلًا فإن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكتَ سكتَ على مثل ذلك؛ فكره رسول الله ﷺ المسائل وعابها. ثم أنزل الله حكم الملاعنة.
ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، وفي صحيح مسلم: «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه»([2]).
وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج. فقال رجل: أكُل عام يا رسول الله؟ فسكت عنه رسول الله ﷺ ثلاثًا. ثم قال، عليه الصلاة والسلام: «لا ولو قلت: نعم لوجَبَتْ، ولو وَجَبَتْ لما استطعتم». ثم قال: «ذروني ما تركتكم»([3]) الحديث.
وهكذا قال أنس بن مالك: نُهينا أن نسأل رسول الله ﷺ عن شيء، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع([4]).
وقوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} أي: بل تريدون. وقيل أو هي على بابها في الاستفهام، وهو إنكاري، وهو يعم المؤمنين والكافرين، فإنه، عليه الصلاة والسلام، رسول الله إلى الجميع، كما قال تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء: 153].
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس ([5])رضي الله عنهما، قال: قال رافع بن حُرَيْمَلة -أو وهب بن زيد-: يا محمد، ائتنا بكتاب تُنزلُه علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارًا نتبعك ونصدقك.
فأنزل الله من قولهم: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)}.
والمراد أن الله ذمَّ من سأل الرسولَ ﷺ عن شَيء، على وجه التعنُّت والاقتراح، كما سألت بنو إسرائيل موسى، عليه الصلاة والسلام، تعنتًا وتكذيبًا وعنادًا، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ} أي: من يَشْتَر الكفر بالإيمان {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي: فقد خرج عن الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء واتباعهم والانقياد لهم، إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها، على وجه التعنت والكفر، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ- جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم: 28، 29].
وقال أبو العالية: يتبدل الشدة بالرخاء.
*****
(التفسير)
هذه الآية الكريمة فيها: الإنكار على من سئل النبي-صلي الله عليه وسلم- أسئلة التعنت والاقتراح، والأسئلة التي لم تقع، والتي تكون أسئلة فردية على وجه التعنت، والتكذيب، والتشبه بأهل الكتاب الذين سألوا موسى أسئلة التعنت، حتى أنهم سألوا موسى عليه السلام من أسئلة أنهم قالوا أرنا الله جهره، فأخذتهم الصاعقة بظلمهم، وسألوه أن ينزل عليهم كتابًا من السماء، فالله تعالى نهى المؤمنين أن يتشبهوا بأهل الكتاب.
قال تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ}[البقرة:108]. أم تريدون أن تسألوا رسولكم أسئلة تعنت واقتراح على وجه التعنت والتكذيب والإيذاء والتعجيز للنبي-صلى الله عليه وسلم-، فهذه الأسئلة منهي عنها، وكذلك الذي يسأل أسئلة تعنت في الأحكام أيضًا كما قال النبي-صلى الله عليه وسلم-:«أن الله كتب عليكم الحج فحجوا» فقام رجل فقال: أفي كل عام، فقال له: «لا، ولو قلت: نعم لوجَبَتْ، ولو وَجَبَتْ لما استطعتم». ثم قال: «ذروني ما تركتكم»([6])، لا داعى لهذا السؤال.
قال: «إن أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته»([7])، ولهذا قال سبحانه: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ}[البقرة:108] هذا استفهام إنكاري، أو إضراب، ليس لكم أن تسألوا هذه الاسئلة فتشبهوا بأهل الكتاب.، ثم قال الله: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}[البقرة:108] من اشتري الكفر بدل الإيمان وكذب الرسل، وسألهم أسئلة تعنت وإيذاء واقتراح فهذا هو الضال، فهو ضال عن الطريق المستقيم، فالأسئلة التي ينهى عنها هي أسئلة التعنت والاقتراح، وكذلك أسئلة التعجيز، والإيذاء بالمسئول وإيقاعه في الحرج، وكذلك الأسئلة الفرضية التي لم تقع كما قال-سبحانه وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}[المائدة:101].
كذلك الأسئلة التي على وجه الرياء والسمعة، يسأل ليظهر نفسه، الرياء هو السمعة، يظهر للناس أنه يعلم، أما إذا سأل على وجه الاستفسار والتعلم فلا بأس كما قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[النحل:43].
يسأل أسئلة يستفيد، ليس على وجه التعنت، ولا على وجه إيذاء المسئول، ولا يسأل بقصد إيذائه وإيقاعه في الحرج، ولم يسأل على الفرضية، وإنما سأل للاسترشاد والتعلم، فلا بأس. كما قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[النحل:43]
وكذلك من سأل لأجل أن يعلم الناس حتى يستفيد الناس، ويكون عالم بالسؤال، ولكن يسأل حتى يستفيد إذا أجاب المسئول، كما فعل جبريل -عليه الصلاة والسلام- فإنه سأل النبي-صلى الله عليه وسلم- عن الإسلام وعن الإيمان وعن الإحسان وهو عالم، إنما سأل ليعلم الناس، سأل عن الإسلام، ثم سأل عن الإيمان ثم سأل عن الإحسان، ثم سأل عن الساعة، ثم سأل عن أماراتها.
ثم قال النبي-عليه افضل السلام-:«يا عمر أتدري من السائل؟» "، ثم قال النبي-عليه افضل السلام-:«هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم»([8])، وفى هذه الآية من الأحكام والفوائد تحريم أسئلة التعنت والإيذاء، على وجه إيقاع المسئول في الحرج والعنت، ويسأل أسئلة على وجه التعجيز، وأسئلة فرضية التي لم تقع، وفيه أن من تبدل الكفر بالإيمان، اختار الكفر بدل الإيمان أنهم من أضل الناس، وأشدهم كفرًا وضلالًا.
هذا هو العمى، كيف يختار الكفر على الإيمان، نسأل الله السلامة والعافية،
فإن قيل: ما هي الأسئلة الاقتراحية؟
الجواب: يقترح عليه أسئلة اقتراحية لو فعلت لنا كذا، مثل أسئلة الكفار حينما كانوا يقترحون، قالوا: يا محمد ادعوا الله أن يفسح هذه الجبال عنا ويجعلها أنهارًا.
*****
الملف الصوتي رقم (16)
................... باقي التفسير .....................
أو يجعل لنا جبل الصفا ذهبا وفضة، هذه أسئلة اقتراح، أما مسألة الاستشارة في الأمور التي فيها مجال للاسشارة، فليست داخلة في النهي، بل هي مسألة أخرى، لها وجه آخر، فإن الرسول – صلى الله عليه وسلم- أحيانا يستشير الناس في الأمور التي فيها مجال للاستشارة، أما هؤلاء الذين نُهِي عن فعلهم فإنما هم يقترحون عليه ويقولون: اسأل ربك أن يفسح عنا هذه الجبال-أي:يبعدها عنا، واسأل ربك أن يجعلها ذهبًا وفضةً، ويجعلها أنهارا كما في الشام، و مصر، و غيرها، فنزرع كما يزرعون، هذه مسألة الاقتراح والتعنت.
ويدخل في النهي أسئلةُ العلماء أسئلةَ تعنُّت وإيذاء، واقتراح وتكذيب وتعجيز، هذا هو الأصل، كذلك المسائل التي لم تقع بعد،فلا داعي إلى السؤال عنها، ولكن إذا وقعت فحينئذ يسأل عنها؛ ولذلك كثير من أهل العلم حين يُسأل عن مثل ذلك، يقول: هل وقع؟، فإذا قيل: لا، قال: دَعْه حتى يقع، ولذلك عاب النبي –صلى الله عليه وسلم- المسائل، كمسألة الرجل الذي جاء إلى النبي، فقال: يا رسول الله! أرأيت إذا وجد الرجل مع أهله رجلًا، ماذا يعمل؟ إن سكت، سكت عن أمر عظيم، وإن تكلم، تكلم عن أمر عظيم، فكرِه النبي-صلى الله عليه وسلم- المسائل وأعرض عنها، ثم ابتُلِي هذا الرجل بعد ذلك، فجاء الرجل فقال: يا رسول الله إن ما سَأَلتُ عنه قد ابتُليت به، فكما قيل: إن البلاء موكَّل بالمنطق، ولا حول ولا قوة إلا بالله،.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)} .
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طَرَائق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم. ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح. ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه.
وروى ابن أبي حاتم ([9])عن عبد الله بن كعب بن مالك أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرًا، وكان يهجو النبي ﷺ. وفيه أنزل الله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ} إلى قوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} .
وقال الضحاك، عن ابن عباس([10]) رضي الله عنهما: أن رسولًا أميًّا يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل والآيات، ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم، ولكنهم جحدوا ذلك كفرًا وحسدًا وبغيًا؛ ولذلك قال الله تعالى: {كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} يقول: من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئًا، ولكن الحسد حملهم على الجحود، فعيرَّهم ووبخهم ولامهم أشدَّ الملامة، وشرع لنبيه ﷺ وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنزل الله عليهم وما أنزل من قبلهم، بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم.
وقال الربيع بن أنس([11]): {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} من قبل أنفسهم. وقال أبو العالية([12]): {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} من بعد ما تبين لهم أن محمدًا رسول الله يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، فكفروا به حسدا وبغيًا؛ إذ كان من غيرهم. وكذا قال قتادة والربيع بن أنس([13]).
وقوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} مثل قوله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ} [آل عمران: 186].
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ([14])في قوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} نسخ ذلك قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} إلى قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فنسخ هذا عفوه عن المشركين.
وكذا قال أبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والسدي([15]): إنها منسوخة بآية السيف، ويرشد إلى ذلك أيضًا قوله تعالى: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} .
وروى ابن أبي حاتم عن أسامة بن زيد([16])، قال: كان رسول الله ﷺ وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وكان رسول الله ﷺ يتأوَّل من العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم بالقتل، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش. وهذا إسناد صحيح ولم أره في شيء من الكتب الستة ولكن له أصل في الصحيحين عن أسامة بن زيد.
وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} يَحُثُّهم تعالى على الاشتغال بما ينفعهم وتَعُودُ عليهم عاقبتُه يوم القيامة، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، حتى يمكن لهم الله النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 52]؛ ولهذا قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يعني: أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل، ولا يضيع لديه، سواء كان خيرًا أو شرًّا، فإنه سيجازي كل عامل بعمله.
*****
(التفسير)
في هاتين الآيتين الكريمتين بيانُ حسد اليهود، وما جُبِلوا عليه من الحسد للنبي r وأصحابه، وللمؤمنين، حتى إن هذا الحسد حملهم على الإصرار على الكفر والعناد، -نسأل الله السلامة والعافية-، وهذا من ضرر الحسد،فإنه أولًا يعود على الحاسد بالإيذاء والضرر، والحسد من الخصال الذميمة المحرمة، وقد وقع فيه إبليس، ووقع فيه اليهود، واتصف به الأرذلون، والله تعالى أمر بالاستعاذة من شر الحاسد، فقال: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5]، فهؤلاء اليهود والنصارى -وهم أهل كتاب-، يوَدُّون ويتمنَّوْن أن يَرُدُّوا المؤمنين عن إيمانهم، فيعودوا إلى الكفر، وهذا من حسدهم للمؤمنين، ولكن الله أمر نبيَّه محمداً والمؤمنين أن يعفوا ويصفحوا، فقال –سبحانه-: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة:109]، فالعفو والصفح إلى غاية أن يأتي الله بأمره.
ثم جاء الأمر بقتالهم في قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5]، وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، هذه الآية دلت على أن أهل الكتاب يُخيَّرون بين واحد من هذه الأمور الثلاثة: إما الإسلام، أو الجزية، أو القتال بالسيف، فإن أعطَوا الجزية نكفُّ عنهم، وإن أسلموا نكف عنهم، وإن أبوا الجزية وأبوا الإسلام قوتلوا.
فهذه الآية {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة:109]، مُغَيَّاة إلى غايةٍ!وقد أمر الله تعالى فيها نبيه بالعفو والصفح، كما أنزل الله آيات أخرى في العفو والصفح مثل قوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:13]، وقوله:{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:89]، ثم لما هاجر النبي r إلى المدينة شرعَ الله القتال.
ففي هذه الآية الكريمة:بيان حسد اليهود للمؤمنين، وأنهم يتمنَّون أن يردوا المؤمنين إلى الكفر -والعياذ بالله-، وأن ذلك من باب الحسد، ففيها تحريم الحسد، وتحريم الاتصاف بصفات أهل الكتاب، وفيها: الأمر بالعفو والصفح عنهم في أول الإسلام،وفيها: أن هذا العفو والصفح مغيَّا بغاية، في قوله: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة:109] وقد جاء الله بأمره، فأمر بقتالهم، فكانوا بعد ذلك مخيَّرين، بين الإسلام،أو الجزية، أو السيف، هذا في أهل الكتاب، وأما غير أهل الكتاب فهم مخيَّرون بين الإسلام، أوالسيف، إما أن يُسلِموا وإما أن يقاتَلوا، كما قال –سبحانه وتعالى-: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:109] فيه إثبات اسم القدير.
وأنه من أسماء الله تعالى، وفيه إثبات القدرة الله –عز وجل- وأن الله على كل شيء قدير، فهو قادر على أن يهديَ هؤلاء، وأن يُزيل ما في قلوبهم من الحسد، ويَمُنَّ على من شاء منهم بالهداية، كما منَّ على عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- فأسلم، وحسن إسلامه، وهو من أهل الكتاب وهو من المبشرين بالجنة –رضي الله عنه وأرضاه-.
وفي الآية الثانية: الأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والعمل الصالح، وأن يُقدِّم الإنسان لنفسه خيرًا، وأن أيَّ عمل يقدمه الإنسان فإنه سيجد ثوابه مدَّخرًا عند الله، لا يضيع منه شيء، والله تعالى لا يغفل عن شيء، ولا يضيع لديه شيء.
كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40]، وقال سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7]، {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:8]، وقال سبحانه: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقر0ة:197]، وهنا-في البقرة- قال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّه} [البقرة:110] يعني: قليلًا أو كثيرًا، وقد أمر الله تعالى بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة؛ لعظم شأنهما وأهميتهما،؛ ولأنهما آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، وقد أمر فيها بإقامة الصلاة، ولم يقل وصلُّوا.
لأن إقامة الصلاة ليست مجرد الصلاة؛ وذلك لأن الإنسان قد يُصلِّي صلاة صورية، ولكنه لا يقيمها، وإقامة الصلاة تقتضي أن يقيمها باطنًا وظاهرًا، (باطنًا) بالإخلاص والمحبة والصدق مع الله وحضور القلب، (ظاهرًا) بأن يؤدِّيَ شروطها، فيتوضأ، ويستقبل القبلة، ويأتي بالأركان والواجبات، والطمأنينة، ومتابعة الإمام، ويؤديها في الوقت، هذا هو إقامة الصلاة، فليس المراد أن يصلي صلاة صورية فقط؛ ولهذا النصوص التي فيها الأمر بالصلاة ليس فيها ترتيب الله الثوابَ والأجرَ الجزيل على مجرَّد فعل الصلاة،ولكن على إقامة الصلاة.
فالمصلي كثير، والمقيم للصلاة قليل، كما أن الراكب كثير، والحاجّ قليل؛ ولهذا قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّه إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:110] وفيها أن الله تعالى بصير بأعمال العباد، وخبير بأعمالهم ونياتهم، وأقوالهم وأفعالهم، وسوف يُجازيهم على ذلك، وفيه بيان كمال قدرة الله، وأنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد، وأعمال القلوب، وأعمال الجوارح، وأن الثواب مرتب على ذلك.
فإن قيل: مالمراد بآية السيف ؟
فالجوب: المراد بآية السيف قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5].
([1]) أخرجه البخاري (7289)، ومسلم (2358) .
([2]) أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337)، ولفظ البخاري «دعوني ما تركتكم».
([3]) أخرجه مسلم (1337) .
([4]) أخرجه مسلم (12) .
([5]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1074) .
([6]) سبق تخريجه .
([7]) سبق تخريجه .
([8]) أخرجه مسلم (8) .
([9]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1083) .
([10]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1084) .
([11]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1085) .
([12]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1087) .
([13]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1087) .
([14]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1089) .
([15]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1090) .
([16]) إسناده صحيح؛
أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير(1088)، وأصله في البخاري (4566)، من طريق أسامة بن زيد .