شعار الموقع

شرح سورة البقرة من مختصر تفسير ابن كثير 25

00:00
00:00
تحميل
87

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)} .

يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه، حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها، كما أخبر الله عنهم في سورة المائدة أنهم قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]. فأكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم، ولو كانوا كما ادعوا لما كان الأمر كذلك، وكما تقدم من دعواهم أنه لن تمسهم النار إلا أيامًا معدودة، ثم ينتقلون إلى الجنة.

وردَّ عليهم تعالى في ذلك، وهكذا قال لهم في هذه الدعوى التي ادعوها بلا دليل ولا حجة ولا بينة، فقال {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} وقال أبو العالية([1]): أماني تمنوها على الله بغير حق. وكذا قال قتادة والربيع بن أنس.

ثم قال تعالى: {قُلْ} أي: يا محمد، {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} .

وقال أبو العالية ومجاهد والسدي والربيع بن أنس([2]): حجتكم. وقال قتادة([3]): بينتكم على ذلك. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي فيما تدعونه.

ثم قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي: من أخلص العمل لله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} الآية آل عمران: 20].

وقال أبو العالية والربيع([4]): {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} يقول: من أخلص لله.

وقال سعيد بن جبير([5]): {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ} أخلص، {وَجْهَهُ} قال: دينه، {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي: اتبع فيه الرسول ﷺ. فإن للعمل المتقبل شرطين، أحدهما: أن يكون خالصًا لله وحده والآخر: أن يكون صوابًا موافقًا للشريعة. فمتى كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يتقبل؛ ولهذا قال رسول الله ﷺ: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»([6]). رواه مسلم.

فعمل الرهبان ومن شابههم -وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله-فإنه لا يتقبل منهم، حتى يكون ذلك متابعًا للرسول محمد ﷺ المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، وفيهم وأمثالهم، قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39] وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)} .[الْغَاشِيَةِ:2-5].

وأما إن كان العمل موافقًا للشريعة في الصورة الظاهرة، ولكن لم يخلص عامله القصد لله فهو أيضًا مردود على فاعله وهذا حال المرائين والمنافقين، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 142]، وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ* الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ* وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 4 -7]، ولهذا قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاَءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].

وقال في هذه الآية الكريمة: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} .

وقوله: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور، وآمنهم مما يخافونه من المحذور فـ {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فيما يستقبلونه، {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما مضى مما يتركونه، كما قال سعيد بن جبير([7]): فـ {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} يعني: في الآخرة {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} يعني: لا يحزنون للموت.

*****

(التفسير)

يُبيِّن الله تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين تمنِّيَ كلٍّ من اليهود والنصارى، وهو: أن كلًّا من الطائفتين ادَّعت أنها أهل الجنة، فاليهود قالوا: أهل الجنة هم اليهود، والنصارى قالوا: أهل الجنة هم النصارى، قال الله عنهم:{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111]،يعني: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان من اليهود، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان من النصارى، فهذه دعوى وأماني! قال الله تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة:111] هذه أماني وأحلام، والتمنِّي لا تفيد شيئًا، فلابد له من البراهين؛ ولهذا قال: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة:111]؛ يعني: هاتوا دليلكم، هاتوا حجتكم على هذا القول، قال:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] يعني: إن كنتم صادقين في هذه الدعوى.

وهذا التمني قد بيَّنه الله تعالى في آياتٍ أخرى، كادعائهم بأنهم أبناء الله وأحباؤه، كما ذكر الله عنهم بقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18].

فرد الله تعالى عليهم بقوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} [المائدة:18]، وكذلك مِن تمنيهم أنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أيام معدودة، وذلك لما سألهم النبي r: «من أهل النار؟» قالوا: نحن ندخل النار أيامًا معدودة، قالوا: هي الأيام التي عبدوا فيها العجل أياما معدودة في الأصل، قالوا: ثم نخرج منها، وتخلفوننا، قال النبي: «كذبتم والله لا نخلفكم»([8]). وفي هذا يقول تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80]، فقال الله لهم ردًّا عليهم: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:80]يعني: هل عندكم عهد من الله؟ فالله تعالى لا يخلف عهده، ولكن في الواقع ليس لهم عند الله عهد.

فتبيَّن وظهر أنهم وقعوا في الأمر الثاني، وهو أنهم يقولون على الله ما لا يعلمون.

وفي هذه الآية كذلك، {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111] كل طائفة قالت: لن يدخل الجنة إلا من كان منها، قال الله تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة:111].

وفي هذه الآيات من الأحكام دليلٌ على أنَّ الأقوال التي ليست عليها دليلٌ تمنٍّ.

وفيها دليلٌ على أن الأقوال والدعاوَى لابد لها من بيِّنات، فإن لم يكن لها بينات، فهي باطلة مردودة، و أصحابها أدعياء، كدعوى اليهود والنصارى هذه.

وفي الآية دليلٌ على أن من قال قولًا، أو ادَّعى دعوىً فإنه مطالَبٌ بالدليل، والبينة، كما إذا ادَّعى شخصٌ أن له عند شخصٍ مالاً أو حقًّا، وادعى ذلك عند القاضي، فإنَّ القاضي يطالبه بالبينة والدليل، فإذا جاء بالبينة والدليل فذاك، وإلا فإنَّ الدعوى لا تُقبل، وفي الحديث «لو يُعطى الناس بدعواهم، لادَّعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر»([9])، وكذلك دعوى هؤلاء اليهود والنصارى ليس لها حجة، قال الله:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] فدل على أن هذه الدعوى باطلة؛ لأنه ليس عليها دليل، حيث لم يستطيعوا أن يقيموا الدليل والحجة والبرهان عليها فدل ذلك على بطلانها.

ثم بين اللهُ تعالى في الآية الثانية أهلَ الجنة، فقال: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:112] هؤلاء هم أهل الجنة، وهم الذين تحقق فيهم شرطان، الشرط الأول: إسلام الوجه، والشرط الثاني: الإحسان، وإسلام الوجه هو إخلاص العمل لله، {أَسْلَمَ وَجْهَهُ}؛ يعني: دينه وعمله، والإحسان هو أن يكون العمل موافِقًا للشريعة، وصوابًا على هدي رسول الله r، والشرط الأول: هو الإخلاص، وهو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، فإذا تخلف هذا الشرط حل محلَّه الشرك، والشرط الثاني:- الإحسان- هو مقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله، وإذا تخلَّف حل محلَّه البدع.

فإذًا: شرط صحة العمل، أن يكون العمل خالصًا لله، وهذا مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن يكون موافقًا للشرع، وهذا مقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله، وأصل دين الإسلام الشهادة لله –سبحانه وتعالى- بالوَحدانية، والشهادة لنبيه r بالرسالة، فمفتاح الإسلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فمن أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه؛ أي: له ثوابه، والأجر الجزيل عند الله وهو دخول الجنة، والتمتع بكرامة الله، والنظر إلى وجهه الكريم.

{وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة:112]؛ يعني: لاخوف عليهم في المستقبل، فلا يخافون من أهوال يوم القيامة، ولا يخافون من عذاب القبر، ولا يخافون من عذاب النار، لأن الله قد أمَّنهم، ولا هم يحزنون على ما خلَّفوا من أموال وأولاد، لأن الملائكة تخلُفهم، فهؤلاء هم أهل الجنة، لا كما يدَّعِي اليهود والنصارى، ولكن أهل الجنة هم: الذين أخلصوا أعمالَهم لله، وحَّدوا الله، وأخلصوا له العبادة، واستقاموا على دين الله، ووقفوا عند حدود الله، وكانت أعمالُهم موافقةً لشرع الله، وصوابًا على هدي رسول الله r، فهؤلاء هم أهل الجنة، وأهل الكرامة، وهم الذين يؤمَّنون من المَخاوف في المستقبل، ولا يحزنون على ما خلفوا من أموال وأولاد، -نسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم منهم-.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

وقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} يبين به تعالى تناقضهم وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم، كما روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس رضي الله عنهما([10])، قال: لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله ﷺ، أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله ﷺ، فقال رافع بن حُرَيْملة: ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى وبالإنجيل. وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء. وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة.

*****

(التفسير)

رافع بن حريملة من اليهود، وهو هنا يخاطب النصارى-نصارى نجران بقوله: ماأنتم على شيء أيها النصارى؛ أي: وإنما اليهود الذين على شيء، إلى آخر ماقال، والنصراني أيضا قال: مثل ذلك في حق اليهود، فكلُّ طائفة تكفر الطائفة الأخرى، اليهود تُكفِّر النصارى، والنصارى تُكفِّر اليهود، -نسأل الله العافية-.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

فأنزل الله في ذلك من قولهما {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} قال: إن كلَّا يتلو في كتابه تصديق من كفر به، أي: يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة، فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى، وفي الإنجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى، وما جاء به من التوراة من عند الله، وكل يكفر بما في يد صاحبه.

وقوله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} بيَّن بهذا جهل اليهود والنصارى فيما تقابلوا من القول، وهذا من باب الإيماء والإشارة. وقد اختلف فيمن عني بقوله تعالى: {الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} .

فقال الربيع بن أنس وقتادة([11]): {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} قالا وقالت النصارى مثل قول اليهود وقيلهم.

وقال ابن جُرَيج: قلت لعطاء([12]): من هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال: أمم كانت قبل اليهود والنصارى وقبل التوراة والإنجيل. 

وقال السدي([13]): {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} فهم: العرب، قالوا: ليس محمد على شيء.

واختار أبو جعفر ابن جرير([14]) أنها عامة تصلح للجميع، وليس ثمَّ دليلٌ قاطع يعين واحدًا من هذه الأقوال، فالحمل على الجميع أولى، والله أعلم.

وقوله تعالى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي: أنه تعالى يجمع بينهم يوم المعاد، ويفصل بينهم بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة. وهذا الآية كقوله تعالى في سورة الحج: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17]، وكما قال تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ:26].

*****

(التفسير)

هذه الآية الكريمة فيها:بيانُ تنازعِ اليهود والنصارى، وأن كلًا من الطائفتين تذم الأخرى، وتذم دينها، وتدَّعي أنها ليست على شيء، وتزعم أنها -نفسها- هي التي على الحق؛ قال سبحانه وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:113]، وهذا من العجب مع أنهم يتلون الكتاب الذي فيه تصديق كل طائفة للطائفة الأخرى، فاليهود يقرءون في التوراة تصديقَ عيسى، وأن عيسى رسول الله، وأنه على الحق، والنصارى أيضًا يقرءون في الإنجيل، أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى، وأنها حق من عند الله، ومع ذلك تنازعوا!

والأنبياء متضامنون، دينهم واحد، فمتقدِّمُهم قد بشَّر بالمتأخِّر، ومتأخِّرهم يصدِّق المتقدم؛ ولهذا قال النبي r: «إن معشر الأنبياء إخوة لعَلات، ديننا واحد، وأمهاتنا شتى»([15])، والإخوة العلات، هم: الإخوة من الأب، أبوهم واحد وهو الدين، وأمهاتهم شتى، وهي: الشرائع، فالشرائع مختلفة، كما قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48].

أما دينهم –عليهم السلام- فواحد، وهو: التوحيد، فكل الأنبياء قد أمَروا أُمَمَهم بالتوحيد، ونهوْهم عن الشرك، وأمروهم بالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الأخر، والقدر خيره وشره، والجنة والنار، و كل نبي فقد أمر أُمَّته بطاعة الأنبياء، وعدم عصيانهم، ولكن الشرائع - الحلال والحرام-فهي مختلفة، كما قال –سبحانه-: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]، ففي شريعة آدم يجوز للرجل أن يتزوج أخته، التي جاءت في بطن سابق، أو بطن لاحق؛ لأن حواء كانت تأتي بذكر وأنثى في كل مرة من مرات الولادة، فيحرم على الذكر أخته التي جاءت معه في بطن واحد، وأما أخته التي جاءت في بطن سابق أو لاحق فهي حلال له، يجوز له أن يتزوجها حتى كثُر الناس، فلمَّا كثُروا حرم الله نكاح الأخوات.

وفي شريعة يعقوب يجوز الجمع بين الأختين، ولكن في شريعتنا حرم الله الجمع بين الأختين، وفي شريعة التوراة وجوب القصاص-قتل القاتل-ولكن في شريعة الإنجيل التسامح والعفو؛ ولهذا في شريعة الإنجيل:(مَن ضربَك على خَدِّك الأيمن فأدرله الأيسر) أمَّافي شريعتنا فيُخيَّر أولياءُ القتيل بين القصاص وبين أخذ الدية أوالعفو مجانًا، فالشرائع تختلف، كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]؛ لكن الدين واحد، والله تعالى أخبرنا في هذه الآية عن اليهود أنهم طعنوا في النصارى، وقالوا: ليسوا على دين وليسوا على شيء، وأخبرنا عن النصارى أنهم طعنوا في اليهود، وقالوا: ليسوا على دين وليسوا على شيء، وهم يتلون الكتاب الذي فيه تصديق للنبي السابق واللاحق، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة:113]، الذين لا يعلمون من الأمم السابقة قبل اليهود والنصارى، أو من أمة العرب حينما طعنوا في نبوة النبي r و كذلك من طعن في دين نبي من الأنبياء، فحكمه حكمهم، ثم قال سبحانه: {فالله َيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النحل:124].

ففيه أن الله يحكم بين هؤلاء المتنازعين، يحكم بين النصارى الذين قالوا لليهود:ليس اليهود على شيء، وبين اليهود الذين قالوا: ليست النصارى على شيء، ويحكم أيضًا على الأمم التي طعنت في دين نبيها، وقالت: إنهم ليسوا على شيء، فالله تعالى حكمٌ العدل يحكم بين عباده.

وفي هذه الآيات: بيان اختلاف الأمم والطوائف، واليهود والنصارى، وأن هذا الاختلاف والتنازع مرده إلى حكم الله، فالله تعالى يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.

وفيها: أنَّ من تبع الأنبياء، وعمِل بشريعتهم، وصدق الأنبياء السابقين واللاحقين، ولم يفرق بين أحدٍ منهم، فهو على الحق، ومن عداه فهو على الباطل.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} المراد من الذين منعوا مساجد الله وسَعَوا في خرابها هم مشركو قريش.

كما رواه ابن جرير عن ابن زيد([16]) في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} قال: هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله ﷺ يوم الحديبية، وبين أن يدخلوا مكة حتى نحر هديه بذي طُوَى وهادنهم، وقال لهم: ما كان أحد يَصُد عن هذا البيت، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده. فقالوا: لا يدخل علينا مَنْ قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق.

وفي قوله: {وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} قال: إذ قطعوا من يَعْمُرُها بذكره ويأتيها للحج والعمرة.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس ([17])رضي الله عنهما: أن قُرَيشًا منعوا النبي ﷺ الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام، فأنزل الله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} .

لما وجه الله تعالى الذم في حق اليهود والنصارى، شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول ﷺ وأصحابه من مكة، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم، كما قال تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنفال:34]، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ* إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:17، 18]، وقال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فتَصُيِبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25]، فقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ} [التوبة: 18]، فإذا كان من هو كذلك مطرودًا منها مصدودًا عنها، فأي خراب لها أعظم من ذلك؟ وليس المراد من عمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط، إنما عمارتها بذكر الله فيها وإقامة شرعه فيها، ورفعها عن الدنس والشرك.

وقوله تعالى: {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ} هذا خبرٌ معناه الطلب، أي لا تُمَكِّنوا هؤلاء -إذا قَدَرتم عليهم-من دخولها إلا تحت الهدنة والجزية. ولهذا لما فتح رسولُ الله ﷺ مكة أمر من العام القابل في سنة تسع أن ينادى برحاب منى: «ألا لا يَحُجَّن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عُريان، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته»([18]) .

وهذا إنما كان تصديقًا وعملًا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} الآية [التوبة: 28].

وقيل: إن هذا بشارة من الله للمسلمين أنه سيُظْهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام أحدٌ منهم إلا خائفًا، يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل إن لم يسلم.

وقد أنجز الله هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام، وأوصى رسول الله ﷺ أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان، وأن تجلى اليهود والنصارى منها، ولله الحمد والمنة. وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام وتطهير البقعة المباركة التي بعث الله فيها رسوله إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا صلوات الله وسلامه عليه. وهذا هو الخزي لهم في الدنيا؛ لأن الجزاء من جنس العمل. فكما صدوا المؤمنين عن المسجد الحرام، صُدوا عنه، وكما أجلوهم من مكة أُجلوا عنها {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} على ما انتهكوا من حرمة البيت، وامتهنوه من نصب الأصنام حوله، والدعاء إلى غير الله عنده والطواف به عريان، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله.

وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة كما روى الإمام أحمد عن بُسْر بن أرطاة، قال: كان رسول الله ﷺ يدعو: «اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا ومِنْ عذاب الآخرة»([19]). وهذا حديث حسن.

*****

(التفسير)

هذه الآية الكريمة فيها: بيان أن من منع ذكرَ الله في المساجد، فإنه من أشد الناس ظلمًا.

وأن على المؤمنين إذا قدروا أن يُخرجوا هؤلاء المانعين من مكة، ومن البيت الحرام، وليس لهم بعدَ ذلك أن يدخلوها إلا خائفين عقوبةً لهم؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فكما صدُّوا المسلمين صُدُّوا عنه، فهم منعوا النبيَّ r وأصحابَه لمَّا جاءوا سنة ثمانية من الهجرة معتمِرين مُلَبِّين، منعوهم وصَدُّوهم، وقالوا: لا يدخل علينا هذا الذي قتل آباءَنا في بدر؛ ولهذا أنزل الله هذه الآية مبيِّنًا ظُلمَهم، وأن فعلهم هذا من أشد الظلم، إذ كيف تُمنع مساجد الله، وبيت الله من ذكره قولًا وفعلًا، والصلاة في المسجد الحرام، والطواف بالبيت، والاعتكاف، والركوع، والسجود، وتلاوة القرآن؟!

فهذا المنع هو الخراب لها، الخرابَ المعنويّ، وهذا هو المراد، فالمراد: الخراب المعنوي، وإن كان في عمارة المساجد حسِّيًّا فضل، إلا أن عمارتها معنوياًّ أعظم، فإن عمارتها الحسية وسيلة إلى عمارتها المعنوية.

ولهذا جاء في الحديث: «من بني لله مسجدًا، بني الله له بيتًا في الجنة»، وفي لفظ: «ولو كان مثل مفحص القطاة»([20])؛ وذلك لأنه وسيلة إلى عمارتها بالذكر، والصلاة، وتلاوة القرآن، وتعلُّم العلم، وتعليمه، و تشاور المسلمين فيما بينهم، كلُّ هذه تكون في المساجد، والمساجد تنطلق منها الجيوش، ويكون فيها المشاورات، وإبرام العقود؛ ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:114]. يعني: لا أحدَ أشدُّ ظلما ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، والمسجد الحرام هوأعظمُ المساجد وأولُها، فلا أحد أظلم ممن منع أن يذكر اسم الله فيه؛ لأنه إذا منعه من الذكر فقد سعى في خرابه بعدم الذكر فيه، فخراب المساجد: تعطيلها عن الذكر، والصلاة، والدعاء، والتعلُّم، والتعليم، هذا هو خرابها!

أمَّا إذا بنيت المساجد، لكن لا يصلى فيها، ولا يذكر الله فيها، فما الفائدة؟ بل تصير خرِبَةً، خرابا معنويّا؛ ولهذا لما صد المشركون النبيَّ r عن مكة، وعن المسجد الحرام، بين الله أن ذلك من الظلم، وأنه سعي في خرابها، فلا أحد أشد ظلمًا ممن منع المساجد أن يذكر فيها اسم الله، بالدعوة، والإرشاد، والوعظ، والتعليم، والتعلم، والصلاة، والركوع، والسجود، وتلاوة القرآن، والاعتكاف، وتشاور المسلمين فيما بينهم، فهؤلاء الذين صدوا المسلمين ومنعوهم، قد أمرنا الله بصدهم ومنعهم عند القدرة، وألا يَدخلوها، قال: {أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} [البقرة:114]، هذا خبر بمعنى الأمر.

والمعنى: إذا قدَرتم، فامنعوهم من دخولها؛ ولهذا لما فتح النبيُّ r مكة، في السنة الثامنة من الهجرة، حج أبو بكر بالناس في السنة التاسعة من الهجرة، ولم يحج النبي r ولكنَّه أمَّر على الحجيج أبا بكر، ثم أرسل عليًّا، وأردفه بمؤذِّنين يؤذِّنون للناس في الحج بمِنى، بأربع كلمات:الأولى:ألا يحج بعد العام مشرك، والثانية: ألا يطوف بالبيت عريان، و الثالثة: أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة.

والكلمة الرابعة: من كان له عهد فهو إلى عهده، ومن لم يكن له عهد فمدته أربعة أشهر، يُسْلم أو القتال، فمن كان له عهد فيبقى على عهده، ومن لم يكن له عهد فلابدَّ من إنظاره أربعة أشهر، ثم بعد ذلك إما الإسلام وإما السيف، وبعث بهذه الكلمات الأربعة لأن بعض الناس كانوا يحجون عراةً في الجاهلية!، ويحجون وهم مشركون، فهؤلاء المؤذنون الذين جاءوا يؤذنون بالناس في منى في السنة التاسعة في الحجة التي حج فيها أبو بكر، أعلموهم أنه لا يحج بعد هذا العام مشرك، والرسول –عليه الصلاة والسلام- لا يحب أن يرى المشركين في تلك البقعة المباركة على أحوالهم!، وكان الناس في الجاهلية إذا قدموا مكة ما يطوفون بثيابهم، يقولون ثيابنا هذه نجسة عصينا الله فيها، فماذا يعملون؟

كل واحد يطلب ثوبًا من رجل من أهل مكة يسمونهم: الحمس، فإنْ أعطاه أحدٌ ثوبًا طاف به، وإن لم يجِد أحدا يُعطيه طاف عريانًا، وكذلك المرأة تأتي وتطلب ثوبا، فإن وجدت طافت به، وإن لم تجد طافت عريانة، وتضع يدها على فرجها، وتطوف، وهي تقول:

 اليوم يبدو كله أو بعضه

 وما بدا منه فلا أحله

 

تعني: فرجها!، هكذا عقيدتهم، وهذا من جهلهم فكانوا يطوفون عراة، فلذلك أمر النبي r مؤذنين يؤذنون: ألا يطوف بالبيت عريان، فتأدب الناس، ثم حج النبي r في السنة العاشرة من الهجرة، فلم يحج في تلك السنة-والحمد لله- مشرك، ولم يطوف بالبيت عريان، والله تعالى أنزل هذه الآية في السنة التاسعة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28].

فلا يجوز للمشركين أن يدخلوا مكة، فضلًا عن أن يدخلوا المسجد الحرام، وهذا من خصائص مكة، بخلاف المدينة فإنها وإن كانت حرما فإنه يجوز أن يدخلها المشرك، بل النبي r ربط في سارية المسجد ثمامة بن أثال -وهو سيد بني حنيفة، وكان مشركًا- ثلاثة أيام ثم أسلم، أما مكة فمن خصائصها أنه لا يجوز أن يدخلها مشرك.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] فهذه الآية فيها بيان أن من منع المساجد، من الذكر، والتلاوة، والصلاة، والعبادة، فإنه من أظلم الناس، وكذلك يدخل في ذلك من هدمها؛ لأن هدمها منعٌ للذكر فيها، فالذين يهدمون المساجد على المصلين من أظلم الناس.

وفيها: أن الجزاء من جنس العمل، فإن الذين صَدُّوا المسلمين عن المسجد يُمنعون من دخول مكة، ولا يدخلونها إلا خائفين.

وفيها: أن الكفار الذين صَدُّوا المسلمين قد مُنعوا بعد ذلك من دخولها، وهذا خزي لهم في الدنيا، مع ما أعد الله لهم من العذاب العظيم في الآخرة، -نسأل الله السلامة والعافية-.

وفيها دليلٌ على أنه لا أمان إلا لأهل التوحيد، فهم الذين لهم الأمن في الدنيا والآخرة، كما قال –سبحانه وتعالى-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} يعني: بشرك {أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، أما أهل الشرك فليس لهم أمان، بل يمنعون من دخول المسجد الحرام، ولا يدخلونها إلا في حال الخفاء مع الخزي، وتوقع العقوبة مع ما أعد الله لهم من العقوبة في الآخرة، -نسأل الله السلامة والعافية-.

 

([1]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1095) .

([2]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1096) .

([3]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1097) .

([4]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1099) .

([5]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1100) .

([6]) أخرجه البخاري تعليقا قبيل (2142)، ومسلم (1718) .

([7]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1101) .

([8]) أخرجه ابن جرير في جامع البيان (2/ 174)، من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم حدثني أبي زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لليهود: «أنشدكم بالله وبالتوراة التي أنزلها الله على موسى يوم طور سيناء، من أهل النار الذين أنزلهم الله في التوراة؟» قالوا: إن ربهم غضب عليهم غضبة، فنمكث في النار أربعين ليلة، ثم نخرج فتخلفوننا فيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذبتم والله، لا نخلفكم فيها أبدا» فنزل القرآن تصديقا لقول النبي ﷺ، وتكذيبا لهم: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا} [البقرة: 80] إلى قوله: {هم فيها خالدون} [البقرة: 81].

قال ابن حجر في فتح الباري (10/ 246): مرسل.

([9]) أخرجه البخاري (4552)، ومسلم (1711) .

([10]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1103) .

([11]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1109) .

([12]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1108) .

([13]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1107) .

([14]) جامع البيان (2/ 439) .

([15]) أخرجه أحمد (9632)، وأصله في البخاري (3443)، ومسلم (2365) .

([16]) أخرجه الطبري في جامع البيان (2/521) .

([17]) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1110) .

([18]) أخرجه النسائي (2957)، وصححه الألباني في الإرواء (4/303).

([19]) أخرجه أحمد (17628)، والحاكم (6508)، وضعفه الألباني في السلسة الضعيفة (2907) .

([20]) أخرجه ابن ماجه (736)، والترمذي (318)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (11072) .

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد