شعار الموقع

شرح سورة البقرة من مختصر تفسير ابن كثير 29

00:00
00:00
تحميل
91

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

 {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى(125)}.

[فضل بيت الله]

قال العوفي عن ابن عباس قوله تعالى:  {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} يقول: لا يقضون فيه وطرًا، يأتونه، ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه.

وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} يقول: {وأمنًا}: من العدو، وأن يُجعل فيه السلاح، وقد كانوا في الجاهلية يُتَخَطَّف الناس من حولهم ، وهم آمنون لا يُسْبَون.

وروي عن مجاهد، وعطاء، والسدي، وقتادة، والربيع بن أنس، قالوا: من دخله كان آمنًا.

ومضمون هذه الآية: أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفًا به شرعًا وقدرًا من كونه مثابة للناس، أي: جعله مَحَلا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه، ولا تقضي منه وطرًا، ولو ترددَت إليه كلَّ عام، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم -عليه السلام- في قوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} إلى أن قال: {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم:37 - 40] ويصفه تعالى بأنه جعله آمنًا، من دخله أمن، ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنًا.

وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولا وهو خليل الرحمن، كما قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} [الحج: 26] وقال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ* فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:96، 97].

وفي هذه الآية الكريمة نَبَّه على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده. فقال: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}.

[مقام إبراهيم]

وقال سفيان الثوري عن سعيد بن جبير: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} قال: الحَجر مقام إبراهيم نبي الله، قد جعله الله رحمة، فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل الحجارة. ولو غَسل رأسَه كما يقولون لاختلف رجلاه.

*****

(التفسير)

 بعض الناس يشكل الكلمة من باب الزينة يعني إذا قال: بفتح الحاء المهملة، وفتح الجيم، لأن المعنى واضح، أنه الحَجَرُ وليس بالحِجْر، الحِجر ما وجد إلا متأخرًا في زمان قريش، أما في زمن إبراهيم فليس هناك حِجر، يعني أن إبراهيم بنى الكعبة كلها وليس فيها حِجر، ولكن أُخرج جزءٌ من الكعبة في زمن قريش بعده، والسبب في إخراج الحِجر هذا: أن قريشًا رأت تصدعَ الكعبة، وأرادوا أن يبنوها، فقالوا: لا نجعل فيها إلا المال الحلال، لا نجعل فيه الحرام، لا من ربا، ولا من كذا، فجمعوا مالًا حلالًا، فلم يجدوا مالًا حلالًا يكفي لبناء الكعبة، فقالوا: نبني بعضه ونخرج البعض، فأخرجوا الحِجر، أما في زمن إبراهيم فليس هناك حِجر، لأنه لم يخرج جزءًا من الكعبة.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

الحجر مقام إبراهيم نبي الله[1]

الحَجر مقام إبراهيم نبي الله، قد جعله الله رحمة، فكان يقوم عليه، ويناوله إسماعيل الحجارة. ولو غَسل رأسَه كما يقولون لاختلف رجلاه.

وقال السدي: المقام: الحَجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه. حكاه القرطبي وضعفه، ورجحه غيره، وحكاه الرازي في تفسيره عن الحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس.

وروى ابن أبي حاتم عن جابر يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم قال له عمر: هذا مقام أبينا؟ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله -عز وجل-: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}.

وقال البخاري: باب قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} مثابة: يثوبون: يرجعون.

ثم روى عن أنس بن مالك، قال: قال عمر بن الخطاب: وافقتُ ربي في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل الله آية الحجاب. وقال: وبلغني مُعَاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، فدخلت عليهن فقلت: إن انتهيتن أو ليبدلَن الله رسوله خيرًا منكن، حتى أتيت إحدى نسائه، فقالت: يا عمر، أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تَعظهن أنت؟! فأنزل الله: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مسلمات..} الآية [التحريم:5].

وروى ابن جرير عن جابر –رضي الله عنه- قال: استلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الركن، فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا، ثم التفت إلى مقام إبراهيم، فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}.

*****

(التفسير)

 وهذا في طوافه الأول؛ يعني لما استلم الركن رمل ثلاثًا؛ يعني أسرع في المشي في الأشواط الثلاثة ومشى أربعًا، وهذا السنة في الطواف الأول: الرمل أول طوافٍ يقدمه لمكة لحجٍ أو عمرة يرمل، يسن فيه الرمل، والرمل: هو إسراع المشي مع مقاربة الخطى في الأشواط الثلاثة الأول، ويمشي أربعًا.

وهناك سنةٌ ثانية في هذا الطواف، وهي الاضطباع، وهو كشف الكتف الأيمن، بأن يجعل وسط ردائه تحت إبطه الأيمن، وطرفه على عاتقه الأيسر، ويكون عاتقه الأيمن مكشوفًا.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

فجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين.

وهذه قطعة من الحديث الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه.

وروى البخاري بسنده، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت ابن عمر –رضي الله عنهما- يقول: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعًا، وصلى خلف المقام ركعتين.

فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحَجَرُ الذي كان إبراهيم عليه السلام، يقوم عليه ببناء الكعبة، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل، عليه السلام، به ليقومَ فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار، وكلَّما كَمَّل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى، يطوف حول الكعبة، وهو واقف عليه، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها، وهكذا، حتى تم جدران الكعبة، كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت، من رواية ابن عباس عند البخاري. وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه، ولم يزل هذا معروفًا تعرفه العرب في جاهليتها؛ ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة باللامية:

ومَوطئُ إبراهيم في الصخر رطبة

 على قدميه حافيًا غير ناعل

 

وقد أدرك المسلمون ذلك فيه، فعن أنس بن مالك –رضي الله عنه- قال: رأيت المقام فيه أثر أصابعه -عليه السلام- وإخْمَص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم.

قلت: وقد كان هذا المقام ملصقًا بجدار الكعبة قديمًا، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحِجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك.

*****

*****

(التفسير)

يعني: بعد الباب، بين الباب والحِجر، وهكذا كان موجودًا إلى عهدٍ قريب، ثم بعد ذلك أُبعد، وكان هذا بفتوى في زمن الملك عبد العزيز من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- مفتي الديار السعودية في زمانه، وآخر.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

 وكان الخليل -عليه السلام- لما فرغ من بناء البيت، وضعه إلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك؛ ولهذا -والله أعلم- أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه، وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عُمَرُ بن الخطاب -رضي الله عنه-  أحدُ الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين، الذين أُمِرْنا باتباعهم، وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا باللَّذَين من بعدي أبي بكر وعمر»([2]).

وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده؛ ولهذا لم ينكر ذلك أحد من أصحابه -رضي الله عنهم أجمعين.

قال عبد الرزاق، عن ابن جُرَيج، حدثني عطاء وغيره من أصحابنا: قال: أول من نقله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه.

وروى عبد الرزاق أيضًا عن مجاهد قال: أول من أخر المقام إلى موضعه الآن: عمر بن الخطاب -رضي الله عنه.

وروى الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين البيهقي عن عائشة -رضي الله عنها-: أن المقام كان زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزمان أبي بكر ملتصقًا بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب -رضي الله عنه. وهذا إسناد صحيح مع ما تقدم.

*****

(التفسير)

 في هذه الآية الكريمة نوَّه الله تعالى بشأن الكعبة المشرفة، قال سبحانه:

{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، (وإذ): ظرف، والمعنى: اذكر يا محمد للناس إذ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمنًا، وهذا تنويهٌ بشأن الكعبة المشرفة، فإن الله تعالى جعلها مثابة، يعني: يثوبون إليها، ويرجعون إليها، ويشتاقون، ولا يقضون منها وطرًا، مهما ترددوا عليها، ومهما أتوا إليها، في حجٍ، أو عمرة أو طواف، فإن نفوسهم تشتاق إليها، وترجع إليها مرةً بعد مرة.

والمثابة: هو الرجوع، والمعنى: يرجعون إليها ولا يقضون منها وطرًا، (وأمنًا)؛ يعني: جعلها الله آمنة، جعل الله البيت آمنًا، وهذا أمرٌ من الله تعالى بتأمينه، {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}، وهو مؤمن، في كثيرٍ من الأوقات، والله تعالى قدر أن يكون آمنًا، ولكن قد يكون في بعض الأزمان غير آمن، ولكن هذا معصية ممن أخاف الناس؛ ولهذا نهي عن إخافة الناس في البيت، وعن القتال في مكة.

ولهذا لما كان عمرو بن سعيد -أمير المدينة- يبعث البعوث إلى مكة لقتال ابن الزبير، نصحه أبو شريح، وروى له حديث النبي في النهي عن القتال في مكة([3])، وأن الله تعالى جعل هذا البيت آمنًا، وأمر بأن يؤمن، قال سبحانه: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}أمرٌ من الله تعالى بالصلاة خلف مقام إبراهيم، والصلاة خلف مقام إبراهيم سنة بعد الطواف، يشرع للمسلم أن يصلي ركعتين خلف المقام، وهذه الشرعية، وهذه السنية، وهذا الأمر على سبيل السنية([4])، هذا الأمر على سبيل الاستحباب، وليس للوجوب، فلو صلاهما في أي مكان صح طوافه، بينما هذا  على سبيل الاستحباب.

ففي هذه الآيات الكريمة: تنويهٌ من الله تعالى بشأن الكعبة، وفيه فضل الكعبة، وأن الناس يثوبون إليها، ولا يقضون منها وطرًا، وفيه الأمر بتأمين البيت، وعدم الإخافة -إخافة الناس.

وكانوا في الجاهلية لا يهيجون القاتل، ولا غيره حتى يخرج من الحرم، وفيه الأمر باتخاذ الصلاة خلف مقام إبراهيم، وأنه سنة مستحبة للطائف.

ومن أحدث في الحرم، هذا ليس له أمان؛ لأنه هو الذي انتهك حرمة الحرم، فالسارق في الحرم، والقاتل يقتل، لكن الذي يلجأ إلى الحرم، ويأتي من خارج الحرم، هذا هو الذي كانوا لا يهيجونه، بعضهم قال: نضيق عليه، أو كذا، أو يمنع من الطواف حتى يخرج.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِين وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)}.

 [الأمر بتطهير بيت الله]

قال الحسن البصري -رحمه الله تعالى- قوله: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} قال : أمرهما الله أن يطهراه من الأذى والنَّجَس ولا يصيبه من ذلك شيء.

وقال ابن جريج: قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره.

وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قوله: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} قال: من الأوثان.

وقال مجاهد، وسعيد بن جُبَير: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} أن ذلك من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس.

وأما قوله تعالى: {لِلطَّائِفِينَ} فالطواف بالبيت معروف. وعن سعيد بن جبير أنه قال في قوله تعالى: {لِلطَّائِفِينَ}؛ يعني: من أتاه من غُرْبة، {وَالْعَاكِفِينَ} المقيمين فيه.

وهكذا روي عن قتادة، والربيع بن أنس: أنهما فسرا العاكفين بأهله المقيمين فيه، كما قال سعيد بن جبير.

وأما قوله تعالى: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فروي، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} قال: إذا كان مصليًا فهو من الركع السجود، وكذا قال عطاء وقتادة.

وتطهير المساجد مأخوذٌ من هذه الآية الكريمة، ومن قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور: 36] ومن السنة في أحاديث كثيرة، من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك، من صيانتها من الأذى والنجاسات، وما أشبه ذلك؛ ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: «إنما بنيت المساجد لما بنيت له»([5]). وقد جَمَعْتُ في ذلك جزءًا على حدة ولله الحمد والمنة.

 [تحريم مكة]

وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}.

*****

(التفسير)

وفي هذه الآية الكريمة: الأمر بتطهير البيت والمساجد، تطهيرًا حسيًا، وتطهيرًا معنويًا، التطهير الحسي: تطهير المساجد، وتطهير البيت من الأقذار والنجاسات، وتطييبها وتنظيفها وكنسها وفرشها، كل هذا من تطهيرها الحسي.

وتطهيرها معنويًا: من الشرك، واللغو، والرفث، والكلام السيئ، وقول الزور، إلى غير ذلك.

 وعمارتها عمارة المساجد نوعان:

- عمارةٌ حسية: ببنائها وتنظيفها وفرشها وتطييبها.

- وعمارةٌ معنوية، عمارةٌ بالذكر والصلاة وتلاوة القرآن، وتعلم العلم وتعليمه، إلى غير ذلك.

{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ}، هذا أمر من الله تعالى {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا}، أمرٌ من الله تعالى لإبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت، {لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}، لثلاثة أصناف من الناس؛ الطائفون: الذين يقدمون على مكة؛ الغرباء، والعاكفون: هم المقيمون في مكة، والركع السجود: هم المصلون.

أمر الله إبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت؛ لهذه الأصناف الثلاثة؛ للطائفين: الواردين إلى مكة؛ الغرباء، والعاكفين: المقيمين فيها، والمصلين، فيؤخذ من هذه الآية الكريمة، الأمر بتطهير المساجد، وكذلك النصوص دلت على هذا من الكتاب والسنة.

كقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ(36) رِجَالٌ} [النور:36]، وجاء في الحديث الصحيح الأمر بتنظيف المساجد وتطييبها، ومنع الأذى منها([6])، ولما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- نخامةً في المسجد غضب وحكها، قال الراوي: وأحسبه جعل مكانها طيبًا([7]).

وثبت في الحديث الصحيح: أن رجلًا -أو امرأة-  كان يقم المسجد -يعني: يخرج القمامة منه وينظفه- ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنه مات -مات ليلًا ودفنوه-  قال: «هلا آذنتموني, دلوني على قبره »([8])، فدلوه على قبره، فصلى عليه -عليه الصلاة والسلام.

فالواجب: تطهير المساجد، حسيًا ومعنويًا، تطهيره حسيًا: بتنظيفها وتطييبها، وفرشها، وإزالة الأذى والقمامة منها، ومعنويًا: تطهيرها عن اللغو والرفث، والكلام السيئ، وكل ما حرم الله، وأعظم من ذلك الشرك، والفسوق والبدع، إذا كانت توضع في مكان ثم تخرج، فلا بأس، تجمع في مكان، ثم تخرج.

*****

 

([1]) قال الشارح حفظه الله: الحجر الذي يقوم عليه، والذي في المقام ترونه الآن في الزجاج هو موطئ إبراهيم كما قال أبو طالب - موطئ إبراهيم كما في قصيدته المعروفة.

وموطئ إبراهيم في الصّخر رطبة … على قدميه حافيا غير ناعل

ينظر: خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب (2/62).

 

([2])  أخرجه أحمد في "المسند" (5/382) من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما.

([3]) رواه البخاري (104) عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ، أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ: - وَهُوَ يَبْعَثُ البُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ - ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَمِيرُ، أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغَدَ مِنْ يَوْمِ الفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ: حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلاَ يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلاَ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا، فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ، وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ " فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ مَا قَالَ عَمْرٌو قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ لاَ يُعِيذُ عَاصِيًا وَلاَ فَارًّا بِدَمٍ وَلاَ فَارًّا بِخَرْبَةٍ.

([4])  روى البخاري (402) قَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، " وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلاَثٍ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَنَزَلَتْ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125].

وروى مسلم في صحيحه (1218) عن جابر قال: ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ،  كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ.

([5]) صحيح مسلم (569).

([6])  عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:  «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ، وَأَنْ تُطَيَّبَ وَتُنَظَّفَ» أخرجه وأبو داود في "السنن" (455) والترمذي (594) وابن حبان في "الصحيح" (1634).

([7])  عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى نُخَامَةً فِي القِبْلَةِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ، فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ، فَقَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاَتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ القِبْلَةِ، فَلاَ يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ» ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ، فَبَصَقَ فِيهِ ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: «أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا». رواه البخاري (405).

([8]) صحيح البخاري (458).

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد