شعار الموقع

شرح سورة البقرة من مختصر تفسير ابن كثير 40

00:00
00:00
تحميل
37

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

يقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّـهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّـهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّـهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}.

[أحوال المشركين في الدنيا والآخرة وتبري المتبوعين من تابعيهم يوم القيامة]

يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا، ومآلهم في الدار الآخرة، حيث جعلوا له أندادًا، أي: أمثالًا ونظراء يعبدونهم معه، ويحبونهم كحبه، وهو الله لا إله إلا هو، ولا ضد له ولا ند له، ولا شريك معه، وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك». 

وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ} ولحبهم لله وتمام معرفتهم به، وتوقيرهم وتوحيدهم له، لا يشركون به شيئًا، بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه، ويلجئون في جميع أمورهم إليه، ثم توعد تعالى المشركين به، الظالمين لأنفسهم بذلك فقال: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعًا} يقول: لو يعلمون ما يعاينونه هنالك، وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل، على شركهم وكفرهم، لانتهوا عما هم فيه من الضلال. 

ثم أخبر عن كفرهم بأوثانهم، وتبري المتبوعين من التابعين، فقال: { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون، أنهم يعبدونهم في الدار الدنيا، فتقول الملائكة: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص:63] ويقولون: {سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} [سبأ:41] والجن أيضًا تتبرأ منهم، ويتنصلون من عبادتهم لهم، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّـهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف5-6]، وقال تعالى: { وَاتَّخَذوا مِن دونِ اللَّـهِ آلِهَةً لِيَكونوا لَهُم عِزًّا * كَلّا سَيَكفُرونَ بِعِبادَتِهِم وَيَكونونَ عَلَيهِم ضِدًّا} [مريم81-82]، وقال الخليل لقومه: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّـهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ} [العنكبوت:25]، وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّـهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ31-32]، وقال تعالى: {وَقالَ الشَّيطانُ لَمّا قُضِيَ الأَمرُ إِنَّ اللَّـهَ وَعَدَكُم وَعدَ الحَقِّ وَوَعَدتُكُم فَأَخلَفتُكُم وَما كانَ لِيَ عَلَيكُم مِن سُلطانٍ إِلّا أَن دَعَوتُكُم فَاستَجَبتُم لي فَلا تَلوموني وَلوموا أَنفُسَكُم ما أَنا بِمُصرِخِكُم وَما أَنتُم بِمُصرِخِيَّ إِنّي كَفَرتُ بِما أَشرَكتُمونِ مِن قَبلُ إِنَّ الظّالِمينَ لَهُم عَذابٌ أَليمٌ} [إبراهيم:22] وقوله: {وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} أي: عاينوا عذاب الله، وتقطعت بهم الحيل وأسباب الخلاص، ولم يجدوا عن النار معدلًا ولا مصرفًا. 

قال عطاء عن ابن عباس: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} قال: المودة، وكذا قال مجاهد في رواية ابن أبي نجيح. 

وقوله: { وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} أي: لو أن لنا عودة إلى الدار الدنيا، حتى نتبرأ من هؤلاء ومن عبادتهم، فلا نلتفت إليهم، بل نوحد الله بالعبادة، وهم كاذبون في هذا، بل لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون، كما أخبر الله تعالى عنهم بذلك، ولهذا قال: {كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّـهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} أي: تذهب وتضمحل كما قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان:23]، وقال تعالى: { مَثَلُ الَّذينَ كَفَروا بِرَبِّهِم أَعمالُهُم كَرَمادٍ اشتَدَّت بِهِ الرّيحُ في يَومٍ عاصِفٍ} الآية [إبراهيم:18]، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} الآية [النور:39]، ولهذا قال تعالى: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}.

(التفسير)

في هذه الآيات الكريمات: بيان حال المشركين، الذين أشركوا مع الله غيره، وعبدوا غيره وصرفوا العبادة – وهي محض حقه سبحانه وتعالى - لغيره، ومآلهم مع معبوديهم، وأن معبوديهم تبرؤوا منهم يوم القيامة، وأنهم ندموا أشد الندم، وحاق بهم العذاب، ولم ينفعهم الندم لأنه فات وقته.

قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّـهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّـهِ} وهم المشركون، المقصود هنا بالناس المشركون، فهذا عموم يراد به الخصوص، كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران:173] وهم الصحابة، {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} وهم كفار قريش.

وهنا قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّـهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّـهِ} فقوله: {من الناس} هم المشركون {من يتخذ من دون الله أندادًا} يعني أمثالًا، ونظراء يساوونهم بالله، في المحبة والتعظيم، ولهذا قال: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّـهِ}.

والمراد هو محبة العبادة، وليس المراد المحبة الطبيعية، فالمحبة الطبيعية ليست داخلة في هذا، وليست المرادة، والمحبة الطبيعية كمحبة الظمآن للماء، ومحبة الجائع إلى الطعام، ومحبة الوالد إلى ولده، هذه محبة رحمة وإشفاق، ومحبة الولد لوالده، وهي محبة إجلال واحترام وتقدير، ومحبة المشتركين في عمل أو صناعة أو تجارة، هي محبة أنس وألف، هذه كلها محبة طبيعية، المحبة الطبيعية لا تدخل في هذا، ولا يلام عليها الإنسان.

ولكن المراد بالمحبة هنا هي محبة العبادة، المحبة الخاصة، وهي محبة العبادة، العبادة هي حق الله عز وجل فمن صرفها لغيره فقد وقع في الشرك، وهؤلاء صرفوا العبادة لغير الله، فحق الله أن يفرد بالعبادة في جميع أنواعها، في الدعاء وفي الصلاة، وبالذبح وبالنذر وبالطواف بالبيت، إلى غير ذلك من أنواع العبادة، وبالتوكل والرجاء والخوف، والخشية والرهبة والإنابة فهذا هو حق الله عز وجل.

وهؤلاء اتخذوا أندادًا من دون الله، وساووهم بالله في المحبة، والتعظيم، فصرفوا لهم العبادة من دون الله، وخافوهم من دون الله، وتوكلوا عليهم، ورجوهم من دون الله، فلذلك وقعوا في أعظم ذنب، فأعظم الذنب هو الشرك بالله عز وجل، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّـهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّـهِ} لم يساووهم بالله في الخلق ولا في الرزق، ولا في الإماتة ولا في الإحياء، ما قالوا أنهم يخلقون ويرزقون ويميتون ويحيون وينفعون ويضرون، وإنما ساووهم بالله في المحبة والتعظيم والإجلال، كما أخبر الله تعالى عنهم أنهم في النار لما دخلوا النار، قال الله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} [الشعراء:94-96]، العابدون والمعبودون { تَاللَّـهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97، 98] ساووهم بالله تعالى في المحبة والتعظيم، فما ساووهم بالله في الخلق ولا في الرزق ولا في الإماتة.

ثم قال: {إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 98-102] يعني رجعة إلى الدنيا.

وفي هذه الآيات: بين الله سبحانه وتعالى أنه تبرأ العابدون من العابدين {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّـهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّـهِ} هذا هو أعظم الذنب يعني أمثالًا ونظراء، يساوونهم بالله في المحبة والتعظيم، والإجلال والخشية والرغبة والرهبة، وفي العبادة التي تستلزم الطاعة، وتستلزم الخضوع وتستلزم الذل، هذه هي محبة العبادة، لابد فيها من خضوع ومحبة وذل، لابد من اجتماع الأمرين حتى تكون عبادة، فمن أحب شيئًا ولم يخضع له، لم يكن عابدًا له، ومن خضع له ولم يحبه، لم يكن عابدًا له، فإذا أحبه وخضع له صار عابدًا له، قد يحب الإنسان شيئًا، ولكنه لا يخضع له ولا يذل له، ولا يطيعه في حق الله عز وجل، وقد يخضع الإنسان لسلطان وظالم، ولكنه لا يحبه، فإذا اجتمع خضوع ومحبة، هذه هي العبادة.

قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّـهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّـهِ} قيل المعنى: يحبونهم كحب المؤمنين لله تعالى، {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ} من محبة المشركين لآلهتهم، لأن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة المشركين مشتركة، والمحبة الخالصة أكمل.

وقيل المعنى: والذين آمنوا أشد حبًا لله من محبة المشركين لله، لأن المشركين يحبون الله، لكنها محبة مشتركة، مع أصنامهم وأوثانهم، {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ} من محبة المشركين لآلهتهم.

والمعنى الثاني: والذين آمنوا أشد حبًا لله من محبة المشركين لله، لأن المشركين يحبون الله، والمؤمنون يحبون الله، لكن محبة المؤمنون خالصة، ومحبة المشركين مشتركة، والمحبة الخالصة أكمل.

ففي هذه الآية الكريمة: بيان أن من أشرك مع الله غيره، بأن جعل لله ندًا، يساويه بالله في المحبة، أو التعظيم أو الخلق أو الرزق، أو الإماتة أو الإحياء، أو النفع أو الضر، قد جعله ندًا لله، واعتقد أنه يتصرف في الكون، واعتقد أنه يخلق أو يرزق أو يميت أو يحيي، أو ينفع أو يضر، أو يستحق العبادة، فصرف له حق الله، فقد جعله ندًا ومثيلًا لله.

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} هذا فيه بيان حال المشركين، وأنهم أفضوا إلى العذاب الشديد، وأنهم لن تنفعهم هذه المحبة الشركية، وإنما أوردتهم النار.

{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} والمراد هنا بالظلم هو الشرك، ظلموا أنفسهم بالشرك، فقد عبدوا مع الله غيره، وجعلوا لله ندًا ومثيلًا ونظيرًا، يستحق العبادة.

{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} ففيه دليل على أنهم حق عليهم العذاب، وخلدوا في النار، وبين الله سبحانه وتعالى، أن كلًا من الفريقين قد تبرأ من الآخر، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} فالذين اتُّبِعوا وهم المعبودون تبرءوا من عابديهم، فالملائكة تبرءوا ممن عبدهم، والأنبياء تبرءوا ممن عبدهم، والصالحون تبرءوا ممن عبدهم، وكذلك المشركون تبرءوا يوم القيامة ممن عبدهم.

والله بيَّن هذا في المحاورة بين المتبوعين والتابعين، وأن كلًّا منهم صار في النار، ما عدا الملائكة والأنبياء والصالحين، الذين لم يرضوا بعبادة غير الله تعالى، وإلا فإنهم صاروا معهم في النار، كما قال الله تعالى في سورة سبأ: {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ {٣١} قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّـهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [سبأ:31-33] كلهم دخلوا النار.

قال الله تعالى في الآية الأخرى يبين فيها المحاورة بين السادة والكبراء والأتباع: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب:67، 68] .

وقال في سورة الأعراف: {حَتّى إِذَا ادّارَكوا فيها جَميعًا قالَت أُخراهُم لِأولاهُم رَبَّنا هـؤُلاءِ أَضَلّونا فَآتِهِم عَذابًا ضِعفًا مِنَ النّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعفٌ وَلـكِن لا تَعلَمونَ* وَقالَت أولاهُم لِأُخراهُم فَما كانَ لَكُم عَلَينا مِن فَضلٍ فَذوقُوا العَذابَ بِما كُنتُم تَكسِبونَ} [الأعراف:38، 39] .

فهذه المحاورات بين المتبوعين والتابعين، وبين السادة وبين أتباعهم، هذه إنما هي زيادة تألم وحسرات عليهم يوم القيامة، وكلهم دخلوا النار التابعون والمتبوعون، حتى الشيطان يخطب خطبة يوم القيامة في أتباعه، ويتبرأ منهم، وخطبة الشيطان قد بينها الله تعالى في كتابه، فهو يخاطب أتباعه يوم القيامة، قال تعالى: {وَقالَ الشَّيطانُ لَمّا قُضِيَ الأَمرُ إِنَّ اللَّـهَ وَعَدَكُم وَعدَ الحَقِّ وَوَعَدتُكُم فَأَخلَفتُكُم وَما كانَ لِيَ عَلَيكُم مِن سُلطانٍ إِلّا أَن دَعَوتُكُم فَاستَجَبتُم لي فَلا تَلوموني وَلوموا أَنفُسَكُم ما أَنا بِمُصرِخِكُم وَما أَنتُم بِمُصرِخِيَّ إِنّي كَفَرتُ بِما أَشرَكتُمونِ مِن قَبلُ إِنَّ الظّالِمينَ لَهُم عَذابٌ أَليمٌ} [إبراهيم:22] هذه خطبة الشيطان تبرأ منهم، {فَلا تَلوموني وَلوموا أَنفُسَكُم ما أَنا بِمُصرِخِكُم وَما أَنتُم بِمُصرِخِيَّ إِنّي كَفَرتُ بِما أَشرَكتُمونِ مِن قَبلُ إِنَّ الظّالِمينَ لَهُم عَذابٌ أَليمٌ} هذه خطبة الشيطان، لا تلوموني ولكن لوموا أنفسكم، فأنتم الذين اتبعتموني على الباطل، أعوذ بالله، نسأل الله تعالى السلامة والعافية.

وهنا قال سبحانه: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} المودة والحيل، التي تخلصهم من النار تقطعت، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} يعني رجعة إلى الدنيا {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّـهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}.

ففي هذه الآيات الكريمات: بيان أن من جعل مع الله ندًا، ونظيرًا في العبادة، أو في الخلق أو في الرزق أو في الإماتة أو في الإحياء، فإنه مشرك، وأنه إذا مات على ذلك، فهو مشرك مخلد في النار.

وفيه: دليل على أنه من مات على الشرك فإنه مخلد في النار، {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} وفيه بيان ندم المشركين، وحسرتهم وأن ندمهم لا يفيدهم في شيء، ولهذا قال تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمّا رَأَوُا العَذابَ} [يونس:54] وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ:33] .

وفيه: دليل على أن التابعين يتمنون الرجعة إلى الدار الدنيا، ليعملوا صالحًا، ولكنهم كاذبون، قالوا: {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} وفي الآية الأخرى قال الله تعالى: {وَلَو رُدّوا لَعادوا لِما نُهوا عَنهُ وَإِنَّهُم لَكاذِبونَ} [الأنعام:28] .

ففيه: أن من مات على الشرك فلا حيلة في إنقاذه من النار، ولا حيلة في خلاصه، ولا أحد ينقذه من عذاب الله، ولا تنفعه شفاعة، ولا يستطيع أن يفدي نفسه، ولو أوتي بملأ الأرض ذهبًا، لا حيلة فيه، ولا يشفع فيه أحد، ولو كان من أولاد الأنبياء أو من آبائهم، من مات على الشرك فلا حيلة فيه.

هذا إبراهيم الخليل أفضل الناس بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، أخبرنا الله عنه أنه نصح أباه وتلطف معه فقال: {يا أَبَتِ إِنّي قَد جاءَني مِنَ العِلمِ } [مريم:43]، { يا أَبَتِ لا تَعبُدِ الشَّيطانَ} [مريم:44] {يا أَبَتِ إِنّي أَخافُ أَن يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحمـنِ فَتَكونَ لِلشَّيطانِ وَلِيًّا} [مريم:45] {وَاذكُر فِي الكِتابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدّيقًا نَبِيًّا * إِذ قالَ لِأَبيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعبُدُ ما لا يَسمَعُ وَلا يُبصِرُ وَلا يُغني عَنكَ شَيئًا * يا أَبَتِ إِنّي قَد جاءَني مِنَ العِلمِ ما لَم يَأتِكَ فَاتَّبِعني أَهدِكَ صِراطًا سَوِيًّا * يا أَبَتِ لا تَعبُدِ الشَّيطانَ إِنَّ الشَّيطانَ كانَ لِلرَّحمـنِ عَصِيًّا *يا أَبَتِ إِنّي أَخافُ أَن يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحمـنِ فَتَكونَ لِلشَّيطانِ وَلِيًّا} [مريم:42-45] .

هذا تلطف في الخطاب، وهذا هو أبلغ النصح، يسديه ابنٌ لأبيه، يود له الخير ويود نجاته، لكن ماذا قال الوالد الذي لم يوفق للهداية، قال: {قالَ أَراغِبٌ أَنتَ عَن آلِهَتي يا إِبراهيمُ لَئِن لَم تَنتَهِ لَأَرجُمَنَّكَ وَاهجُرني مَلِيًّا} [مريم:46] فرد عليه وقال: {قالَ سَلامٌ عَلَيكَ سَأَستَغفِرُ لَكَ رَبّي إِنَّهُ كانَ بي حَفِيًّا} [مريم:47] .

وقد ثبت في «صحيح البخاري»([1]) أَنَّ إِبْرَاهِيمَ يَلْقَى أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ لَهُ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ، الْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: أَيْ رَبِّ، أَلَمْ تَعِدْنِي أَنَّكَ لَا تُخْزُنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ وَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ؟ فَيُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، انْظُرْ مَا وَرَاءَكَ. فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُتَلَطِّخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ.

فعند ذلك مسخ الله أباه، فصار ذيخًا، وهو الذكر من الظبي، متلطخًا بعذرته، فقيل: انظر ما تحتك يا إبراهيم، فإذا هو ذيخ، فأُخذ به، حتى تزول الرحمة له والرقة له، مسخه الله تعالى وصار ذيخًا وأُخذ بقوائمه وأُلقي في النار، من مات على الشرك لا حيلة فيه، وليس له شفاعة فلا شفاعة له، كما قال تعالى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48] وقال تعالى: {لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] نسأل الله السلامة والعافية ونسأل الله أن يهدي قلوبنا، وأن يثبتنا على دينه القويم، نعم.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.

(التفسير)

نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حرص على هداية عمه أبي طالب، وكان أبو طالب يحميه ويأويه، ويدافع عنه، فحرص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على هدايته، يدعوه في حياته، وكذلك لما حضرته الوفاة كان حريصًا على هدايته كما في «صحيح البخاري»([2]) سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ المُغِيرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَالِبٍ: «يَا عَمِّ، قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ المَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} [التوبة: 113] الآيَةَ.

فدعاه، وقال له: «يا عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله»، وكان عنده قرناء السوء، ومنهم عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فقالوا له وذكروه بالحجة الملعونة، قالوا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! هذه هي الحجة الملعونة، اتباع الآباء والأجداد في الباطل، فكأنهم يقولون له: عيب عليك، أتترك ملة أبيك وجدك؟! كما يقول بعض العامة.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله»، فأعادوا عليه الحجة الملعونة: أترغب عن ملة عبد المطلب؟!

وكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك»، فجاء النهي، فأنزل الله تعالى: {ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذينَ آمَنوا أَن يَستَغفِروا لِلمُشرِكينَ وَلَو كانوا أُولي قُربى مِن بَعدِ ما تَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُم أَصحابُ الجَحيمِ} [التوبة:113] وأنزل الله تعالى في أبي طالب: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـكِنَّ اللَّـهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص:56] وهي هداية القلوب.

والنبي صلى الله عليه وسلم، خصه الله بأن يشفع لعمه، شفاعة خاصة وهي شفاعة التخفيف، لأنه خف كفره وشركه بنصرة النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يشفع شفاعة تخفيف، ولكنه لا يخرج من النار، هذه شفاعة خاصة بأبي طالب، وخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه من الشفاعة الخاصة .

وقد ثبت في «صحيح البخاري»([3]) عن العَبَّاس بْن عَبْدِ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أنه قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: «هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ».

وفي لفظ عن النُّعْمَان قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ لَرَجُلٌ، تُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَةٌ، يَغْلِي مِنْهَا دِمَاغُهُ»([4]).

وفي لفظ: «إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ رَجُلٌ، عَلَى أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ، يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي المِرْجَلُ وَالقُمْقُمُ»([5]).

وفي لفظ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ»([6]) وهو يظن أنه أشد الناس عذابًا من شدة ما يجد، وهو أخفهم وأحسنهم، فالذي مات على الشرك لا حيلة فيه، لا حيلة في نجاته، وإخراجه من النار، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

[الأمر بأكل الحلال، والنهي عن اتباع خطوات الشيطان]

لما بين تعالى أنه لا إله إلا هو، وأنه المستقل بالخلق، شرع يبين أنه الرزاق لجميع خلقه، فذكر في مقام الامتنان، أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض، في حال كونه حلالًا من الله طيبًا، أي: مستطابًا في نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان، وهي: طرائقه ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه، من تحريم البحائر والسوائب والوصائل، ونحوها مما زينه لهم في جاهليتهم، كما في حديث عياض بن حمار، الذي في صحيح مسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى: إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال» وفيه: «وإني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم».

وقوله: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} تنفير عنه وتحذير منه، كما قال: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6] وقال تعالى: {أَفَتَتَّخِذونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَولِياءَ مِن دوني وَهُم لَكُم عَدُوٌّ بِئسَ لِلظّالِمينَ بَدَلًا} [الكهف:50]، وقال قتادة، والسدي في قوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان. 

وروى عبد بن حميد: عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ما كان من يمين أو نذر في غضب، فهو من خطوات الشيطان، وكفارته كفارة يمين. 

 وقوله: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي: إنما يأمركم عدوكم الشيطان بالأفعال السيئة، وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه، وأغلظ من ذلك، وهو القول على الله بلا علم، فيدخل في هذا كل كافر وكل مبتدع أيضًا.

(التفسير)

في هاتين الآيتين الكريمتين: نداء من ربنا سبحانه وتعالى إلى جميع الناس، قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} وفي هذا أمر ونهي، أمر بالأكل من الطيبات، وهذا الأمر للإباحة.

وفيه: دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة، إلا ما دل دليل على تحريمه {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} كلوا من الأرض حلالًا طيبًا مما ينفع الأجساد، مما فيه تغذية للأجساد، وهو طيب ليس في نفسه مستخبث، هذا يخرج المستخبثات ويخرج السموم، وكل أكل أو شرب، أو دواء ضار يخرج من قوله {حلالًا طيبًا} ليس حلالًا طيبًا.

وفيه: دليل على أن الله تعالى أباح لعباده أن يأكلوا من الطيبات وأن يتباعدوا عن المحرمات.

والنهي في قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} يعني طرقه ومسالكه، ويدخل في ذلك جميع المعاصي.

{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} وفيه: شدة عداوة الشيطان لبني آدم.

وفيه: أن المعاصي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: السوء والفحشاء والقول على الله بلا علم، والسوء بفعل جميع المعاصي، فكلها سيئة، والفحشاء ما غلظ منها واشتد فحشه كالزنا واللواط، وغير ذلك من الفواحش العظيمة، والقول على الله بلا علم، هذا أعظمها، لأنه يدخل فيها الشرك، فالشرك من القول على الله بلا علم.

وفي الآية الأخرى: بين الله تعالى أن المعاصي أقسام، وأن أعظمها القول على الله بلا علم، {قُل إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وَما بَطَنَ وَالإِثمَ وَالبَغيَ بِغَيرِ الحَقِّ وَأَن تُشرِكوا بِاللَّـهِ ما لَم يُنَزِّل بِهِ سُلطانًا وَأَن تَقولوا عَلَى اللَّـهِ ما لا تَعلَمونَ} [الأعراف:33] قول الله بلا علم فوق الشرك، لأنه يشمل الشرك وغيره، فالقول على الله بلا علم، هذا شرك، كالكذب على الله، والكذب على رسوله، وغير ذلك من الأنواع التي تدخل في هذا، القول على الله بلا علم، وجعله هو أعظمها.

وفي هذه الآية: جعل المعاصي ثلاثة أقسام: السوء والفحشاء والقول على الله بلا علم، وأنه أعظمها هو القول على الله بلا علم، وهو يشمل الشرك ويشمل غيرها، وهو أشدها وأعظمها، ثم الفحشاء وهي الفواحش العظيمة، ثم السوء وهي المعاصي.

وفي هذه الآيات الكريمات: دليل على أن الأصل في الأشياء الحل والإباحة، وأن المسلم مأمور أمر إباحة، بأن يأكل مما أباح الله له وأحله، وأن يشكر الله تعالى على ذلك.

وفيه: التحذير من الشيطان، ومن المعاصي ومن خطوات الشيطان.

وفيه: بيان من ربنا سبحانه وتعالى أن الشيطان عدو لنا، والعدو لا يألو جهدًا في الإضرار بعدوه.

وفيه: أن الشيطان يأمر بمعصية الله عز وجل.

وفيه: أن المعاصي على ثلاث أقسام: يأمر بالسوء، والفحشاء والقول على الله بلا علم، وإذا عجز على القول على الله بلا علم، أمر بالفحشاء، وإذا عجز عن الفحشاء، أمر بالسوء.

وفيه: تحذير من الله عز وجل، من ارتكاب هذه الأنواع من المعاصي، وأن كلها محرمة، ولكن أشدها القول على الله بلا علم، ثم الفواحش ثم المعاصي.

*****

 

([1])  صحيح البخاري برقم (3350) .

([2])  صحيح البخاري (1360).

([3])  صحيح البخاري (3883).

([4])  صحيح البخاري (6561).

([5])  صحيح البخاري (6562).

([6]) صحيح مسلم (362).

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد