شعار الموقع

شرح سورة البقرة من مختصر تفسير ابن كثير 47

00:00
00:00
تحميل
49

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}.

[الرشوة حرام]

قال علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس عليه فيه بَيِّنة، فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم آكل حرامٍ.

وكذا روي عن مجاهد، وسعيد بن جُبَير، وعكرمة، والحسن، وقتَادة، والسدّي، ومقاتل بن حَيّان، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا: لا تُخَاصمْ وأنت تعلمُ أنَّك ظالم.

[قضاء القاضي لا يُحل حرامًا ولا يحرم حلالًا]

وقد ورد  في الصحيحين عن أم سلمة: أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إنما أنا بَشَر، وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضَكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من نار، فَلْيَحْملْهَا، أو ليذَرْها". فدلت هذه الآية الكريمة، وهذا الحديث على أنّ حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر، فلا يُحلّ في نفس الأمر حرامًا هو حرام، ولا يحرم حلالا هو حلال، وإنما هو يلزم  في الظاهر، فإن طابق في نفس الأمر فذاك، وإلا فللحاكم أجرُه وعلى المحتال وزْره؛ ولهذا قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: تعلمون بطلان ما تدعونه وتروجونه في كلامكم.

قال قتادة: اعلم - يا ابن آدم - أن قضاء القاضي لا يُحِل لك حرامًا، ولا يُحقُّ لك باطلا وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى  ويشهد به الشهود، والقاضي بَشَر يخطئ ويصيب، واعلموا أنّ من قُضي له بباطل أنّ خصومته لم تَنْقَض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة، فيقضي على المبطل للمحق بأجودَ مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا.

(التفسير)

هذه الآية الكريمة في منع الرشوة تحريم الرشوة والاحتيال وأكل المال بالباطل والمخاصمة عند الحكام، والمراد بالحكام القضاة قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ}[البقرة:188] الحكام جمع حاكم وهم القضاة {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} في هذه الآية تحريم أكل المال بالباطل بأي وجه ومن ذلك الرشوة التي قد يدفعها إلى القاضي ليحكم له، وهذا من أكل المال بالباطل، يعطيه رشوةً ومالًا حتى يحكم له على خصمه، وهذا من الانحراف، إذا كان القاضي يأخذ الرشوة ثم يقضي له على صاحبه، وهؤلاء لهم طرق وهم الذين يدفعون رشى لهم طرق معروفة، لا يأتي مثلًا ويقول: هذه رشوة احكم لي، لا .. لكن يعطيه باسم هدية أو باسم كذا أو كذا فمثلًا إن كان صاحب مزرعة يأتيه بفاكهة من مزرعته، وإن كان صاحب بخور يعطيه بخورًا وهكذا.

هذه الآية الكريمة فيها: تحريم أكل المال بالباطل عن طريق الرشوة إلى الحكام، ولهذا قال -سبحانه وتعالى-: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الآية فيها نهي والنهي للتحريم، تحريم أكل أموال بالباطل؛ بأن يدفع للحكام مالًا من أجل أن يأكل مال خصمه فيعطيه مثلًا رشوة قبل الخصومة بأيام أو أسابيع يعطيه باسم الهدية أو باسم إذا كان مثلًا له مزرعة يعطيه من أول الفاكهة أو من أول التمر أو يعطيه من البخور أو يعطيه من الطيب أو يعطيه غير ذلك مما يناسبه، ثم بعد ذلك يأتي إليه في الخصومة بعد أسبوع أو بعد أسبوعين أو ثلاثة فيقضي له من أجل الرشوة التي أعطاه إياه فيقضي له على خصمه، وهذا من قوله {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} يدلي بها يجعلها كالدلاية رشوة كالوسيلة، كما أن الرشاء الذي هو وسيلة لاستخراج الماء من البئر الذي يربط بالدلو فكذلك هذه الرشوة وسيلة كالدلو الذي يدفعه للحاكم من أجل أن يتوصل بها إلى أكل مال أخيه {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا} يعني طائفة {مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.

هذا فيه تحريم أكل المال بالباطل والإدلاء بها للحكام من أجل أن يأكل شيئًا من مال أخيه بالإثم وهو يعلم ذلك، يعلم أنه ليس له حقٌ عليه، وهو يطالب بالباطل، ويخاصم بالباطل، والحاكم حكم له من أجل الرشوة.

وكذلك أيضًا ما يُدفع للموظف حتى يقدمه على غيره أو حتى يعطيه ما لا يستحق أو حتى يوليه وظيفة ليس أهلًا لها، كل هذا من أكل المال بالباطل.

وكذلك أيضًا ما يدفع للمصِّدق الذي يأخذ الصدقة في البوادي، والعمال الذين يأخذون الزكاة من البوادي زكاة الغنم وغيرها أو من أهل الزروع والثمار، فهؤلاء العمال قد يعطيهم بعض الناس رشوة فيأخذ منها أقل من الواجب من الزروع من الثمار، وكذلك من المواشي، كل هذا داخل في الرشوة، كل هذا من أكل المال بالباطل.

كذلك أيضًا ما يفعله بعض الناس إذا أراد أن ينقل موظفًا من بلد إلى بلد إلى المدن يقول: أعطني عشرين ألف أو خمسًا وعشرين ألف ، أنقل المدرسة إلى كذا أو أنقل مدرسًا إلى كذا، أعطني عشرين ألف أو ثلاثين ألف .. كل هذه رشوة، ولا يجوز أخذ الشفاعة بذلك.. إذا كنت تريد أن تشفع فاشفع لله، بدون شيء، وإذا كان عندك مشاوير تطلب أجرة المشاوير فقط، أما أن تأخذ آلافًا مؤلفة فهذا من الرشوة المحرمة، والشفاعة لله ما يؤخذ عليها أجر .. فعن أبي موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ»([1]) ، فاشفع لله وتوسط وانفع أخاك بجاهك ولا تأخذ على الجاه مالًا، فإن هذا باب من أبواب الربا.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

[السؤال عن الأهلة]

قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما سأل الناسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة، فنزلت هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} يعلمون بها حِلَّ دَيْنهم، وعدّة نسائهم، ووقتَ حَجِّهم ([2]).

وروى عبد الرزاق عن ابن عمر رضي الله عنهما  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فَعُدُّوا ثلاثين يومًا»([3]).

ورواه الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.

[مدار البر على التقوى]

وقوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} .

روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتَوْا البيت من ظهره، فأنزل الله {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}.

وكذا رواه أبو داود الطيالسي([4])، عن البراء، قال: كانت الأنصار إذا قدموا من سَفَرهم لم يدخل الرجل من قبل بابه، فنزلت هذه الآية.

وقال الحسن البصري: كان أقوام من أهل الجاهليّة إذا أراد أحدُهم سَفرًا وخرج من بيته يُريد سفره الذي خرج له، ثم بدا له بَعْد خُروجه أن يُقيم ويدعَ سفره، لم يدخل البيت من بابه، ولكن يتسوّره من قبل ظهره، فقال  الله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا [وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى]} الآية.

وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي: اتقوا الله فافعلوا ما أمركم به، واتركوا ما نهاكم عنه {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} غدا إذا وقفتم بين يديه، فيجزيكم بأعمالكم على التمام، والكمال.

(التفسير)

هذه الآية الكريمة فيها سؤال عن الأهلة {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ}[البقرة:189] فأجابهم الله تعالى بحكمة فيها قال: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} وهم سألوا عن الأهلة يعني مالها تبدو صغيرة، يبدو الهلال ضعيفًا، ثم ينمو حتى يتكامل في منتصف الشهر، ثم يضعف، والله تعالى بين لهم الحكمة، وهذا يسمى عند البليغ بأسلوب الحكيم.

أسلوب الحكيم هو أن تسأل عن شيء ثم يجيبك عن شيء أهم مما سألت عنه، هذا يسمى أسلوب الحكيم، يصرفك عن هذا الذي سألت عنه ويجيبك إلى شيء مهم، فكأنهم قالوا: يا رسول الله كيف هذه الأهلة؟ ما حالها؟ كيف تبدو صغيرة؟ فقال الله تعالى: الذي ينبغي لكم أن تعرفوه هو الحكمة وأن الحكمة أنها مواقيت للناس والحج، هذه الحكمة من وجودها، أما السؤال عن ذاتها وكيفيتها فهذه الفائدة قليلة إنما الفائدة المهمة أن تعلموا الحكمة.

قال تعالى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ} يعرف الناس بها الأشياء المؤقتة، الدين مؤقت من كذا إلى كذا بما تعرف، إيجار البيت من كذا لمدة سنة، وكيف تعرف السنة؟ بمضي الأشهر، كيف تعرف المرأة عدتها؟ عدة المرأة المطلقة، عدة المتوفى عنها زوجها بالأشهر أربعة أشهر وعشرة أيام، كذلك أيضًا الحج والصيام، والصيام كذلك يكون بالأهلة «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته»([5]) وكذلك الحج فهذه هي الحكمة من الأهلة، وهذا ما يسمى بالأسلوب الحكيم.

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ} الحكمة منها {هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} هذا توجيه من الله تعالى لما كانوا يفعلونه في الجاهلية من الشدة والمشقة على أنفسهم فكانوا إذا خرجوا لسفر ثم رجعوا، فإنهم يتسورون ويأتون من الجدار من فوق، ولا يدخلون من الباب، ويرون أن هذا فيه خير، بين الله تعالى ليس هذا من البر وإنما البر بتقوى الله -عز وجل- والدخول من الأبواب {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} تتسلقوا من الجدار {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} في تقوى الله وإتيان البيوت من أبوابها ادخل من البيت واتقي الله، هذا هو البر وليس من البر أن تشق على نفسك وتتسلق الجدار ولا تدخل من الباب {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} مَن اتقى الله وأخلص له العبادة وامتثل أوامره واجتنب نواهيه هذا هو المتقي ولهذا قال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} يعني لكي تفلحون، لعل: للتعليل يعني إن اتقيتم الله فأنتم أهل الفلاح، حصلتم على المطلوب ونجيتم من المرهوب وأهل الفلاح هم المؤمنون الذين يورثهم الله دار كرامته وجنته ويؤمنهم من عذابه وسخطه، فاتقوا الله لكي تكونوا من أهل الفلاح.

 

([1]) أخرجه البخاري (1432) وأبو داود (5132).

([2])  أخرجه الطبري (3/282) وابن أبي حاتم (1707).

([3]) مصنف عبد الرزاق (7306).

([4])  مسند الطيالسي (752).

([5]) أخرجه البخاري (1909) ومسلم (1081) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد