** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
[الأمر بإتمام الحج والعمرة]
لما ذكر تعالى أحكام الصيام وعَطَفَ بذكر الجِهَاد، شرَعَ في بيان المناسك، فأمرَ بإتمام الحجّ والعُمْرة، وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما ؛ ولهذا قال بعده: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} أي: صُدِدْتم عن الوصول إلى البيت ومنعتم من إتمامهما. ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعمرة مُلْزِمٌ
وقال مكحول: إتمامهما إنشاؤهما جميعًا من الميقات.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر عن الزهري قال: بلغنا أنّ عمر قال في قول الله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [قال]: من تمامهما أن تُفْرد كُلَّ واحد منهما من الآخر، وأن تعتمر في غير أشهر الحج؛ إن الله تعالى يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}.
وقال السدي في قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} أي: أقيموا الحج والعمرة.
وقال قتادة، عن زُرَارة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الحج عرفة، والعمرة الطواف. وكذا روى الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة في قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} قال: هي قراءة عبد الله:
«وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت» لا تُجاوز بالعمرة البيت. قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد ابن جبير، فقال: كذلك قال ابن عباس.
وقال سفيان عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة أنه قال: «وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت» وكذا روى الثوري أيضًا عن إبراهيم، عن منصور، عن إبراهيم أنه قرأ: «وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت».
[إذا أحصر المحرم في الطريق فليذبح وليحلق رأسه وليتحلل]
وقوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ذكروا أنّ هذه الآية نزلت في سنة ست، أيْ عام الحديبية، حين حال المشركون بين رسُول الله صلى الله عليه وسلم وبين الوصول إلى البيت، وأنزل الله في ذلك سورةَ الفتح بكمالها، وأنزل لهم رُخْصَةً: أن يذبحوا ما معهم من الهدي وكان سبعين بدنة، وأن يحلقوا رؤوسهم، وأن يَتَحَللوا من إحرامهم، فعند ذلك أمرهم عليه السلام بأن يحلقوا رؤوسهم ويتحللوا. فلم يفعلوا انتظارا للنسخ حتى خرج فحلق رأسه، ففعل الناس وكان منهم من قَصّر رأسه ولم يحلقه، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: "رَحِم الله المُحَلِّقين". قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ فقال في الثالثة: "والمقصرين". وقد كانوا اشتركوا في هديهم ذلك، كُلُّ سبعة في بَدَنة، وكانوا ألفًا وأربعمائة، وكان منزلهم بالحديبية خارج الحرم، وقيل: بل كانوا على طَرف الحرم، والله أعلم.
والحصر أعمّ من أن يكون بعدُوّ أو مرض أو ضلال - وهو التَّوَهان عن الطريق أو نحو ذلك.
روى الإمام أحمد عن الحجاج بن عمرو الأنصاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كُسِر أو عَرِج فقد حل، وعليه حجة أخرى".
قال: فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا: صدق.
وأخرجه أصحاب الكتب الأربعة من حديث يحيى بن أبي كثير، به. وفي رواية لأبي داود وابن ماجة: من عرج أو كُسر أو مَرض - فذكر معناه.
ورواه ابن أبي حاتم، ثم قال: وروي عن ابن مسعود، وابن الزبير، وعلقمة، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، ومجاهد، والنخعي، وعطاء، ومقاتل بن حيان، أنهم قالوا: الإحصار من عدو، أو مرض، أو كسر.
وقال الثوري: الإحصار من كل شيء آذاه.
وثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَل على ضُبَاعة بنت الزبير بن عبد المطلب، فقالت: يا رسول الله، إني أريد الحج وأنا شاكية. فقال: «حُجِّي واشترطي: أنَّ مَحِلِّي حيثُ حبَسْتَني». ورواه مسلم عن ابن عباس بمثله. فصح الاشتراط في الحج لهذا الحديث.
وقوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} روى الإمام مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي ابن أبي طالب أنه كان يقول: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} شاة.
وقال ابن عباس: الهَدْي من الأزواج الثمانية: من الإبل والبقر والمعز والضأن.
وروى عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قال: بقدر يَسَارته.
وقال العوفي، عن ابن عباس: إن كان موسرًا فمن الإبل، وإلا فمن البقر، وإلا فمن الغنم.
وقال هشام بن عروة، عن أبيه: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قال: إنما ذلك فيما بين الرّخص والغلاء.
والدليل على صحة قول الجمهور فيما ذهبوا إليه من إجْزَاء ذبح الشاة في الإحصار: أن الله أوجب ذبح ما استيسر من الهدي، أي: مهما تيسر مما يسمى هديًا، والهَدْي من بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم، كما قاله الحَبْر البحر ترجمان القرآن وابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد ثَبتَ في الصحيحين عن عائشة أمّ المؤمنين، رضي الله عنها، قالت: أهْدَى النبي صلى الله عليه وسلم مَرة غَنَمًا.
وقوله: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} معطوف على قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وليس معطوفًا على قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} كما زعمه ابن جرير، رحمه الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم، فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة، إن كان قارنًا، أو من فعْل أحدهما إن كان مُفْردًا أو متمتعًا، كما ثبت في الصحيحين عن حَفْصَةَ أنها قالت: يا رسول الله، ما شأن الناس حَلّوا من العمرة، ولم تَحِلّ أنت من عمرتك؟ فقال: «إني لَبَّدْتُ رأسي وقلَّدت هَدْيي، فلا أحلّ حتى أنحر».
[مَن حلق رأسه في الإحرام وجبت عليه الفدية]
وقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} روى البخاري عن عبد الرحمن بن الأصبهاني قال: سمعت عبد الله بن مَعْقل، قال: قعدتُ إلى كعب بن عُجْرَةَ في هذا المسجد - يعني مسجد الكوفة - فسألته عن {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} فقال: حُملْتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقملُ يتناثر على وجهي. فقال: «ما كنتُ أرَى أن الجَهد بلغ بك هذا! أما تجد شاة؟ ».
قلت: لا. قال: «صُمْ ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك». فنزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامة.
وروى الإمام أحمدُ: عن كعب بن عُجْرَة رضي الله عنه قال: أتى عَلَيّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر، والقَمْلُ يتناثَرُ على وجهي - أو قال: حاجبي - فقال: «يُؤْذيك هَوَامُّ رأسك؟».
قلت: نعم. قال: «فاحلقه، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة». قال أيوب: لا أدري بأيتهن بدأ.
ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاءَ بالأسهل فالأسهل: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} ولما أمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم كعبَ بن عجرة بذلك، أرشده إلى الأفضل، فالأفضل فقال: انسك شاة، أو أطعم ستة مساكين أو صم ثلاثة أيام. فكلّ حسن في مقامه. ولله الحمد والمنة.
[بيان التمتع في الحج]
وقوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} أي: إذا تمكنتم من أداء المناسك، فمن كان منكم مُتَمتِّعًا بالعُمرة إلى الحج، وهو يشمل من أحرم بهما، أو أحرم بالعمرة أولا فلما فرغ منها أحرم بالحج وهذا هو التمتع الخاص، وهو المعروف في كلام الفقهاء.
والتمتع العام يشمل القسمين، كما دلت عليه الأحاديثُ الصحاح، فإن من الرُواة من يقولُ: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وآخر يقول: قَرَن. ولا خلاف أنّه ساق الهدي.
وقال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} أي: فليذبح ما قدر عليه من الهدي، وأقله شاة، وله أن يذبح البقر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح عن نسائه البقر. وقال الأوزاعي،
عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح البقر عن نسائه، وكن متمتعات. رواه أبو بكر بن مَرْدويه.
وفي هذا دليل على شرعية التمتع، كما جاء في الصحيحين عن عمْران بن حُصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله، وفعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم لم يُنزل قرآن يُحَرّمها، ولم يُنْهَ عنها، حتى مات. قال رجل بِرَأيه ما شاء. قال البخاري: يقال: إنه عُمَر.
وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحًا به أن عمر، رضي الله عنه، كان ينهى الناس عن التمتع، ويقول: إن نأخذ بكتاب الله فإنّ الله يأمر بالتمام. يعني قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وفي نفس الأمر لم يكن عمر، رضي الله عنه، ينهى عنها محَرِّمًا لها، إنما كان يَنْهَى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين ومعتمرين، كما قد صرح به، رضي الله عنه.
[إذا لم يجد المتمتع الهدي فليصم عشرة أيام]
وقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} يقول تعالى: فمن لم يجد هَدْيًا فَلْيصمْ ثلاثة أيام في الحج، أي: في أيام المناسك.
وقال العوفي، عن ابن عباس: إذا لم يجد هَدْيًا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة، فإذا كان يومُ عرفة الثالث فقد تم صومه وسبعة إذا رجع إلى أهله.
وكذا رَوَى أبو إسحاق عن وبرة، عن ابن عمر، قال: يصوم يومًا قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة.
وكذا رَوَى عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي أيضًا.
فلو لم يَصُمْها أو بعضها قبل العيد يجوز أن يصومها في أيام التشريق؛ لقول عائشة وابن عمر في صحيح البخاري: لم يرَخّص في أيام التشريق أن يُصَمن إلا لمن لا يجد الهَدي.
وقد روي من غير وجه عنهما.
ورواه سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي أنه كان يقول: من فاته صيام ثلاثة أيام في الحج صامهن أيام التشريق.
وبهذا يقول عُبَيد بن عُمَير الليثي وعكرمة، والحسن البصري، وعروة بن الزبير؛ وإنما قالوا ذلك لعموم قوله: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ}.
وأما رواه مسلم عن قتيبة الهذلي، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله». فهذا عام ورواية عائشة وابن عمر مخصوصة منه.
وقوله: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} فيه قولان:
أحدهما: إذا رجعتم إلى رحالكم.
والقول الثاني: إذا رجعتم إلى أوطانكم؛ قال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري، عن يحيى بن سعيد، عن سالم، سمعت ابن عمر قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} قال: إذا رَجَع إلى أهله، وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَير، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والزهري، والربيع بن أنس.
وقد روى البخاري عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَجَّة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهَدْي من ذي الحُلَيفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهلَّ بالعمرة، ثم أهلَّ بالحج، فتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج. فكان مِنَ الناس مَنْ أهدى فساق الهَدْي، ومنهم من لم يُهْد. فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس: «من كان منكم أهدى فإنه لا يَحل لشيء حَرُم منه حتَى يقضي حَجّه، ومَنْ لم يكن منكم أهدى فَلْيَطُفْ بالبيت وبالصفا والمروة، وَلْيُقَصِّر وليَحللْ ثم ليُهِلّ بالحج، فمن لم يجد هديًا فليصُمْ ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله». وذكر تمام الحديث. والحديث مخرج في الصحيحين.
وقوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} قيل: تأكيد، كما تقول العرب: رأيت بعيني، وسمعت بأذني وكتبت بيدي.
وقال الله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وقال: {وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48]، وقال: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142].
وقيل: معنى {كَامِلَةٌ} الأمْرُ بإكمالها وإتمامها.
[لا يتمتع أهل مكة]
وقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} حاضروه هم أهل الحرم فلا متعة لهم.
وروى عبد الرزاق عن طاوس قال: المتعةُ للناس - لا لأهل مكة - مَنْ لم يكن أهله من الحرم. وذلك قول الله عز وجل: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قال: وبلغني عن ابن عباس مثلُ قول طاوس.
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي: فيما أمركم وما نهاكم {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي: لمن خالف أمره، وارتكب ما عنه زجره.
(التفسير)
هذه الآية الكريمة آية عظيمة بين الله فيها أحكام المناسك بعد أن ذكر الله الصيام والجهاد ذكر -سبحانه وتعالى- أحكام الحج في هذه الآية الكريمة قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196].
وإتمام الحج والعمرة هو إكمالهما بعد الشروع فيهما، وهذه الآية نزلت أولًا ثم نزلت بعد ذلك الآية التي أوجب الله فيها الحج {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] وأما هذه الآية ليست فيها إيجاب الحج وإنما فيها إتمامهما بعد الدخول فيهما، فمَن أحرم بالعمرة وجب عليه إتمامها، ومَن أحرم بالحج وجب عليه إتمامه حتى ولو كان الحج نافلة والعمرة نافلة.
وهذه من خصائص الحج والعمرة أنه لا يجوز قطعهما، بخلاف الصلاة، فإنه يجوز له قطعها في النافلة وكذلك الصيام النفل فالصائم إن شاء أتم وإن شاء أفطر، أما الحج والعمرة فمن خصائصهما أن مَن أحرم فيهما لا يجوز له الخروج منهما، إذا دخل في الحج بالإحرام أو دخل العمرة بالإحرام صار الإكمال فرضًا عليه أخذًا من هذه الآية الكريمة قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ففيه وجوب إتمام الحج والعمرة بعد الدخول فيهما وهذا من خصائصهما.
ثم قال -سبحانه وتعالى-: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} والإحصار هو المنع، في اللغة: المنع والمراد به: منع الحاج أو المعتمر من الحج أو من العمرة أو من إكمال الحج والعمر أو منعه من الطواف بالبيت، ومنعه من الوقوف بعرفة، فإذا أحصر ومنع وقد أحرم بالحج فإنه لا يتحلل حتى يذبح هديًا - رأس من الغنم من المعز أو الضأن - {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} أو من الإبل فيشترك فيها سبعة أو من البقر ويشترك فيها سبعة .
ومعنى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} يعني فاذبحوا ما استيسر من الهدي.
وهذه الآية نزلت في صلح الحديبية لما منع المشركون النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة - وكانوا محرمين - أن يدخلوا مكة، وصالحوهم، وكان من بنود الصلح أنهم يرجعون هذا العام ولا يتموا الحج والعمرة، ويأتون العام القادم، فالله تعالى أرشدهم إلى الهدي {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} .
والصحابة كانوا متشوقين إلى دخول لمكة فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: اذبحوا واحلقوا، فلم يفعل أحد وكرر عليهم قال: افعلوا اذبحوا وتحللوا، فلم يفعل ذلك أحد حتى شق عليه ذلك.
فعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ فَخَرَجْنَا مَعَهُ، وَأَحْرَمْنَا بِالْحَجِّ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَجْعَلْهَا عَمْرَةً، فَإِنِّي لَوْلَا أَنَّ مَعِي هَدْيًا لَأَحْلَلْتُ» فَقَالُوا: حِينَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ إِلَّا كَذَا وَقَدْ أَحْرَمْنَا بِالْحَجِّ، فَكَيْفَ نَجْعَلُهَا عَمْرَةً؟ قَالَ: «انْظُرُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا» قَالَ: فَرَدُّوا عَلَيْهِ الْقَوْلَ فَغَضِبَ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ غَضْبَانًا، فَرَأَتِ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَتْ: مَنْ أَغْضَبَكَ أَغْضَبَهُ اللهُ قَالَ: «وَمَا لِي لَا أَغْضَبُ وَأَنَا آمُرُ بِالْأَمْرِ فَلَا أُتْبَعُ»([1]).
والصحابة ما تركوا أمره عصيانًا، بل كانوا يرجون أن يسمح لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن ينسخ هذا الأمر، يقولون: لعله - إن شاء الله – يعدل عن الأمر، لعله يسمح لنا.
وفي الحديث: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الكِتَابِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا»، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ، اخْرُجْ ثُمَّ لاَ تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا، فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا.([2]).
وكان هذا رأيًا سديدًا من أم سلمة، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وذبح وحلق رأسه فتتابع الناس، وعرفوا أن الأمر انتهى وما فيه حيلة، فتتابع الناس حتى كاد يقتل بعضهم بعضًا غمًا، واقتدوا به -عليه الصلاة والسلام- فكان هذا رأيًا سديدًا من أم سلمة، فقد تكون المشورة من امرأة خيرًا من مشورة كثير من الرجال.
ففي هذه الآية الكريمة: وجوب إتمام الحج والعمرة.
وفيه: وجوب ذبح المحصر قبل أن يتحلل يعني يجب على المحصر الممنوع من الحج أو الممنوع من إكمال الحج أو الممنوع من الوقوف بعرفة أو من الطواف بالبيت حتى آيس وذهب وقته فإنه يذبح، فإن لم يجد صام عشرة أيام عند أهل العلم قبل أن يتحلل ثم يتحلل.
وفي هذه الآية: من الأحكام وجوب إكمال وإتمام الحج والعمرة بعد الدخول فيهما وهذا من خصائصهما.
وفيه: وجوب ذبح الهدي على المحصر ثم يتحلل، فإن لم يجد صام عشرة أيام ثم يتحلل، قال -سبحانه وتعالى-: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} هذه الآية عطف على قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} قوله: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} مَن ساق الهدي من الحجاج أو المعتمرين فإنه لا يحلق رأسه حتى يذبح هديه، وأما مَن اعتمر أو حج ولم يسق الهدي، فإنه يجوز له أن يحلق قبل أن يذبح، لكن الأفضل أن يرمي جمرة العقبة أولًا في الحج، ثم يذبح هديه، ثم يحلق رأسه، ثم يطوف بالبيت نرتبها كما رتبها النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن قدم بعضها على بعض فلا حرج، ولا سيما إذا كان ناسيًا أو جاهلًا، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما سئل عن شيء قدم ولا أُخر إلا قال: «افعل ولا حرج»([3])، هذا لمَن لم يسق الهدي، أما مَن ساق الهدي معه من بلده أو من الطريق اشتراها فإنه لا يحلق رأسه حتى يذبح هديه، يذبح هديه أولًا ثم يحلق لهذا قال -سبحانه وتعالى-: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ثم قال -سبحانه وتعالى-: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} ففيه دليل على أن مَن ساق الهدي فإنه لا يتحلل من إحرامه حتى يذبح هديه بعد أن يرمي جمرة العقبة يذبح هديه، ثم يحلق رأسه، وإن ساقه في العمرة فإنه يطوف ويسعى، ثم يذبح ثم يتحلل، يحلق ثم يتحلل.
قال -سبحانه وتعالى-: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} هذه الآية فيها الفدية للمريض الذي يحلق رأسه وبه أذى من رأسه فإنه يفتدي بالصيام أو الهدي أو الصدقة.
فالمحرم إذا فعل محظورًا فإنه يفديه إما بالذبح أو بالصدقة أو بالصيام، وهذه الآية نزلت في كعب بن عجرة -رضي الله عنه- وكان محرمًا في الحديبية فإنه آذاه هوام رأسه، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ، قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَسَأَلْتُهُ عَنِ الفِدْيَةِ، فَقَالَ: نَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً، وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً، حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ: «مَا كُنْتُ أُرَى الوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى - أَوْ مَا كُنْتُ أُرَى الجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى - تَجِدُ شَاةً؟» فَقُلْتُ: لاَ، فَقَالَ: «فَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ»([4]) فكانت رخصة لمَن فعل المحظور، إذا كان به أذى من رأسه إذا كان في رأسه جروح ويحتاج إلى مداواتها وقال له الطبيب: احلق شعرك، فإنه يحلق ولو كان محرمًا ويفدي إما أن يذبح شاة أو يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين.
لهذا قال -سبحانه وتعالى-: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} يحتاج إلى حلق الرأس {فَفِدْيَةٌ} يعني فليفعل الفدية {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} هذه الآية مجملة بينها حديث كعب بن عُجرة وأن الصيام ثلاثة أيام، وأن الصدقة إطعام ستة مساكين، وأن النسك ذبح شاة {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}.
وهذا عند الأمان، فإذا أمنتم ولم يكن هناك خوف لأن الآية في المحصرين، وحكم المحصر في الآية قبلها {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} فهذا يذبح لأنه ليس آمنًا، وأما مَن كان خائفًا ألا يتم حجه فإنه يشترط على ربه، يلبي بالحج أو العمرة ويقول: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني فعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهَا: «لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الحَجَّ؟» قَالَتْ: وَاللَّهِ لاَ أَجِدُنِي إِلَّا وَجِعَةً، فَقَالَ لَهَا: " حُجِّي وَاشْتَرِطِي، وَقُولِي: اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي "([5]) ، إذا كان الإنسان خائفًا ألا يتم حجه بسبب مرض أو غيره فإنه يشترط ويقول: محلي حيث حبستني، وإذا حصل له مانع يتحلل ولا شيء عليه، أما إذا كان لم يكن خائفًا فإن عليه أن يحسن الظن بالله ولا يَشْتَرِطْ. هذا هو الصواب، وذهب جمهور العلماء إلى أنه كل أحد يشترط، ولكن هذا مرجوح.
{فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} يعني المتمتع والذي أحرم بالعمرة أولًا ثم فرغ منها ثم حج من عامه هذا يسمى متمتعًا، وكذلك أيضًا مَن قرن الحج بالعمرة ولبى بهما جميعًا أو أحرم بالعمرة ثم أدخله عليها يسمى متمتعًا في عرف الشرع، هذا المتمتع عليه أن يذبح شاة هديًا يوم العيد، وهذا الهدي هدي شكران، حيث أن الله -سبحانه وتعالى- منَّ عليه بحصول نسكين حج وعمرة في سفرة واحدة، فعليه أن يشكر الله بذبح الهدي شكرًا لله تعالى لهذا قال تعالى: {فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} فما استيسر يعني فليذبح ما استيسر .
وقيل إن الهدي رأس من الغنم الضأن أو المعز، من المعز له سنة، ومن الضأن له ستة أشهر أو سبعة، ويشترك سبعة في بقرة لها سنتان أو في بعير له خمس سنين، فمَن لم يجد هديًا وهو متمتع قال الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} هذا الذي لا يجد الهدي وهو متمتع أحرم بالعمرة ثم بالحج، إن كان يجد الهدي يجب عليه أن يذبح وإن لم يجد يصوم عشرة أيام ثلاثة في الحج قبل العيد تبدأ من حين إحرامه بالعمرة ، وقيل: من دخول شهر ذي الحجة، والصواب أنه من حين دخوله الحج والعمرة، والأفضل أن تكون قبل يوم عرفة، يصوم مثلًا الثامن والسابع والسادس، والفقهاء يقولون: آخره التاسع، والأفضل أن يكون مفطرًا حتى يكون عونًا له على الذكر والدعاء فيصوم قبله، وإن صام التاسع فلا حرج وإن فاتت عليه يصومها بعد العيد يعني في أيام التشريق الثلاثة (الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر)، كما ثبت في البخاري من حديث عائشة وابن عمر أنهما قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي([6])، وهذا خاص بمن لم يجد الهدي، وإلا فإن أيام التشريق لا تصام، ولهذا يقال خمسة أيام في السنة يحرم صومها، يوم عيد الفطر، ويوم عيد الأضحى، وأيام التشريق الثلاثة (الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر) أما يوما العيد يوم الفطر ويوم الأضحى فهذه لا يجوز صومها بكل حال مطلقًا وصومها حرام، أما أيام التشريق فإنه يجوز صومها لصنفٍ من الناس وهو: الحاج المتمتع أو القارن الذي لا يجد الهدي وفاتت عليه أن يصومها قبل العيد فإنه يصوم أيام التشريق الثلاثة {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196] يعني التمتع والهدي لمَن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام بالأفقي وهو الأفقي، أما مَن كان أهله حاضري المسجد الحرام فليس عليه هدي حتى لو اعتمر في أشهر الحج فحج من عامه فليس عليه هدي.
وحاضرو المسجد الحرام اختلف العلماء فيهم، على ثلاثة أقوال:
قيل: حاضرو المسجد الحرام مَن كان داخل المواقيت.
وقيل: مَن كان بينه وبين المواقيت أقل من مسافة قصر ثماني كيلو.
وقيل: هم أهل الحرم خاصة.
وهذا هو الأرجح، أنهم أهل الحرم، ويدخل في هذا أيضًا أهل مكة إذا اتسعت، لأن مكة امتدت الآن وزادت عن الحرم.
وفي هذه الآية: من الأحكام زيادة على ما سبق أن المتمتع والقارن يجب عليه هدي يذبحه فإن عدمه صام عشرة أيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع فإن فاتت الثلاثة لكونه مريضًا أو لا يستطيع ضمهم على السبعة وصام عشرة أيام بعد الحج.
وفيه: أن أهل مكة من أهل المسجد الحرام فليس عليهم هدي .
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} يعني امتثال أوامره واجتناب نواهيه {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وهو -سبحانه وتعالى- شديد العقاب لمَن خالف أمره واجترح معاصيه.
([1]) أخرجه أحمد (4/286) والنسائي في الكبرى (9946).
([2]) أخرجه البخاري (2731) .
([3]) أخرجه البخاري (83) و(124).
([4]) أخرجه البخاري (1814 و1815 و1816 و1817) ومسلم (1201).
([5]) أخرجه البخاري (5089) ومسلم (1207).
([6]) أخرجه البخاري (1997).