** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
[الاختلاف بعد مجيء العلم دليل على البغي والضلال]
روى ابن جرير: عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق. فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا).
ورواه الحاكم في مستدركه، ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وكذا روى أبو جعفر الرازي، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب: أنه كان يقرؤها: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ».
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة في قوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} قال: كانوا على الهدى جميعًا، فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين منذرين فكان أول نَبي بعث نوحًا.
وروى عبد الرزاق: عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} الآية.
قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أوّلُ الناس دخولًا الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا له فالناس لنا فيه تبع، فغدًا لليهود، وبعد غد للنصارى».
وقال ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه في قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} فاختلفوا في يوم الجمعة، فاتخذ اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد. فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليوم الجمعة.
واختلفوا في القبلة؛ فاستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس، فهدى الله أمة محمد للقبلة.
واختلفوا في الصلاة؛ فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك.
واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعض النهار، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك.
واختلفوا في إبراهيم صلى الله عليه وسلم فقالت اليهود: كان يهوديًّا، وقالت النصارى: كان نصرانيًّا، وجعله الله حنيفًا مسلمًا، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك.
واختلفوا في عيسى عليه السلام فكذّبت به اليهود، وقالوا لأمه بهتانًا عظيمًا، وجعلته النصارى إلهًا وولدًا، وجعله الله روحه، وكلمته، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك.
وقوله: {بِإِذْنِهِ} أي: بعلمه بهم، وبما هداهم له. قاله ابن جرير: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي: منْ خلقه {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: وله الحكم والحجة البالغة.
وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: «اللهم، رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلفَ فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم».
وفي الدعاء المأثور: اللهم، أرنا الحق حَقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا ووفّقنا لاجتنابه، ولا تَجْعَلْه ملتبسًا علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إمامًا.
(التفسير)
هذه الآية الكريمة فيها بيان حال الناس منذ أن أهبط الله آدم عليه السلام إلى الأرض، وأن الناس مكثوا على التوحيد عشرة قرون ثم اختلفوا ووقع الشرك في قوم نوح فبعث الله النبيين؛ لهذا يقول الله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} يعني: على التوحيد والإسلام.
قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلها على الإسلام، وقال الله في الآية الأخرى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا}[يونس:19] ما كانت إلا أمة واحدة على التوحيد وعلى الإسلام، عشرة قرون كلها مضت على الإسلام ولم يقع الشرك، لكن وقعت المعصية والخطيئة بين ابني آدم، فقتل قابيل أخاه هابيل.
ولم يقع الشرك إلا في قوم نوح، مات رجال صالحون أسماؤهم: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فحزن الناس عليهم وقالوا: إذا صورنا صورهم كان أشوق لنا إلى العبادة، فصوروهم ثم لما مضى هؤلاء وجاء من بَعدَهم دب لهم الشيطان وقال لهم: إن آبائكم إنما صوروا أولئك لأنهم كانوا يستسقون بهم فينزل المطر، فعبدوهم، فوقع الشرك في قوم نوح.
فلما وقع الشرك بعث الله نوحا صلى الله عليه وسلم يأمر الناس بالتوحيد وينهاهم عن الشرك.
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} على ملة واحدة وهي الإسلام، كما في الآية الأخرى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا}[يونس:19] والتقدير: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فوقع الشرك، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
بعث الله النبيين بالبشارة والنذارة، وهذه وظيفة الرسل، مبشرين لمن أطاعهم بالجنة ومنذرين لمن خالفهم بالنار.
قال الله تعالى لنبيه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}[فاطر:24] وقال: {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:188] فهو بشير ونذير.
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ} مع النبيين، الكتاب: المراد به الجنس، يعني: الكتب التي أنزلت على الأنبياء.
{وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} بالحق والصدق والعدل.
{لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} فيه أنهم اختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات والذي حملهم على ذلك البغي.
فيه التحذير من الاختلاف في الكتاب سواء الاختلاف في تأويله والاختلاف في تنزيله.
وفيه التحذير من العصيان على بصيرة؛ ولهذا قال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} اختلفوا فيه الذين أوتوه بعد مجيء الحجج الواضحات، والذي حملهم على ذلك البغي، {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}.
{فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} وهذا إحسانه وفضله، هدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
فيه إثبات هداية التوفيق والتسديد، فهذه هداية التوفيق.
وهناك هداية الدلالة والإرشاد في قوله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الشورى:52]، وهنا: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} هداية التوفيق والتسديد، وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الشورى:52] خطاب لنبيه، هذه هداية الدلالة والإرشاد.
فهما هدايتان: هداية التوفيق والتسديد: هداية قبول الحق والرضا به واختياره وإيثاره، وهداية الدلالة والإرشاد.
والذي تكون له هداية الدلالة والإرشاد قد يؤمن وقد لا يؤمن، كما قال تعالى عن ثمود: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} يعني دللناهم {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}[فصلت:17].
{فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل افتتح صلاته قال: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اللهم اهدني لما اختلف فيه من الحق إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» توسل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء بربوبية الله لهؤلاء الأملاك الثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل؛ لأن هؤلاء الأملاك الثلاثة وكلوا بما فيه الحياة.
فجبريل موكل بما فيه حياة القلوب والأرواح وهو الوحي، وميكائيل موكل بالقطر الذي فيه حياة الناس والبهائم، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي فيه إعادة الأرواح لأجسادها فتعود الحياة.
توسل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء بربوبية الله لهؤلاء الأملاك الثلاثة. «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اللهم اهدني لما اختلف فيه من الحق إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» وهذا رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها وهذا أحد أنواع الاستفتاحات.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.
[لا يحصل النصر ودخول الجنة إلا بعد الاختبار والتمييز]
يقول تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} قبل أن تُبتَلَوا وتختبروا وتمتحنوا، كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم؛ ولهذا قال: {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} وهي: الأمراض؛ والأسقام، والآلام، والمصائب والنوائب.
قال ابن مسعود، وابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جبير، ومُرّة الهَمْداني، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع، والسّدي، ومقاتل بن حَيّان: {الْبَأْسَاءُ} الفقر .
وقال ابن عباس: {وَالضَّرَّاءُ} السّقم.
{وَزُلْزِلُوا} خَوْفًا من الأعداء زلْزالا شديدًا، وامتحنوا امتحانًا عظيمًا، كما جاء في الحديث الصحيح عن خَبَّاب بن الأرَتّ قال: قلنا: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ فقال: «إنّ من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفْرَق رأسه فيخلص إلى قدميه، لا يَصْرفه ذلك عن دينه، ويُمْشَطُ بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، لا يصرفه ذلك عن دينه».
ثم قال: «والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون».
وقال الله تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 -3].
وقد حصل من هذا جانب عظيم للصحابة رضي الله عنهم في يوم الأحزاب، كما قال الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} الآيات [الأحزاب: 10 -12].
ولما سأل هرقلُ أبا سفيان: هل قاتلتموه؟ قال: نعم. قال: فكيف كانت الحرب بينكم؟ قال: سِجَالًا يدال علينا ونُدَال عليه. قال: كذلك الرسل تُبْتَلى، ثم تكون لها العاقبة.
وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: سنتهم. كما قال تعالى: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} [الزخرف: 8].
وقوله: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} أي: يستفتحون على أعدائهم، ويَدْعون بقُرْب الفرج والمخرج، عند ضيق الحال والشدة. قال الله تعالى: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}. كَمَا قَالَ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشَّرْحِ: 5، 6].
وَكَمَا تَكُونُ الشِّدَّةُ يَنْزِلُ مِنَ النَّصْرِ مثلُها؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.
(التفسير)
في هذه الآية الكريمة بيان أنه لا بد من الامتحان والاختبار والتمييز بالأمراض والأسقام وتسليط الأعداء فيتميز بذلك المؤمن من الكافر والصادق من الكاذب عند الشدائد والمحن؛ ولهذا قال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} قبل التمحيص والابتلاء، فلا بد من حدوث الابتلاء أولًا، وبعد الابتلاء يحصل التمحيص والتطهير ثم بعد ذلك يصفو المؤمن ويخلص كالذهب الذي يوضع ويحمى على النار فيذهب ما علق به من التراب ومن الحديد ويظهر الذهب نقيًّا صافيًا بعد الامتحان والاختبار قال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: سنتهم.
{مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} البأساء: الفقر والشدة، والضراء: المصائب.
{وَزُلْزِلُوا} بتسليط الأعداء، {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ} من شدة الابتلاء والامتحان: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} قال الله: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.
في هذه الآية: دليل على أنه لا بد من الابتلاء والامتحان، وفي الحديث: «يبتلى المرء على قدر دينه»، وفي الحديث: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل»، «يبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة شدد عليه، وإن كان دون ذلك خفف عنه».
قال سبحانه: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}[العنكبوت:1-2] ابتلي الصحابة، خبيب وبلال وعمار، أوذوا في الله وأخيفوا في الله، وعذب بلال وسحب في الرمضاء ووضعت على صدره الصخرة ويقول: أَحَدٌ أَحَد، وعُذِّب أيضًا صهيب وسمية، وكذلك خبيب لما أسره المشركون، فكانت العاقبة الحميدة لهم.
ولما أصاب المؤمنين شدة وهم في مكة قالوا: يا رسول الله، ألا تدعوا لنا، ألا تستنصر لنا، فقال لهم: «إنّ من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفْرَق رأسه فيخلص إلى قدميه، لا يَصْرفه ذلك عن دينه، ويُمْشَطُ بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، لا يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون».
في هذه الآية بيان سنة الله في الابتلاء والامتحان، وأن الابتلاء والامتحان لا بد منه حتى يتبين الصادق من الكاذب، والمؤمن من الكافر، قال سبحانه: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:1-3].
وفيه أن الابتلاء يكون بالفقر، ويكون بالأمراض ويكون بتسليط الأعداء، ولهذا حصل لمن كان قبلنا: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ} من شدة ما هم فيهمن الابتلاء {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.
وفي الآية الأخرى في آخر سورة يوسف: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} يعني من عند أنفسهم، من شدة الابتلاء، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110].
ابتلى الله أيوب بالأمراض، وابتلى أيضا محمد صلى الله عليه وسلم بالكفار، قال: «إني مبتليك ومبتلي بك» الله سبحانه ابتلاه بالكفار، وابتلى الكفار به، «إني مبتليك ومبتلي بك ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظان».
وكذلك ابتلي الأنبياء السابقون منهم من قُتل، قال سبحانه: {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}[البقرة:87] قُتل زكريا ويحيى، ومنهم من كُذب.
وابتلي سليمان بعد أن أعطاه الله الملك، قال الله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ}[ص:34].
وابتلي داوود لما تسور عليه الملائكة المحراب، قال الله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}[ص:24].
ابتلى الله الصحابة في غزوة الأحزاب ابتلاء عظيمًا، قال الله تعالى في الكفار: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}[الأحزاب:10] قال الله: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}[ الأحزاب:11].
فعلى المسلم أن يوطن نفسه إذا أصابه أمراض، أو أكدار أو تسليط أعداء أو غير ذلك أو فقر أو شدة، فعليه أن يصبر ويتحمل وعليه أن يكون صابرًا وثابتًا على دينه، مطمئنًا بما عند الله عز وجل، مصدقا بوعد الله، موقنا بأن النصر حليفه، قال الله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[الأعراف:128] وقال هنا: {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}، وفي الحديث: «ولكنكم قوم تستعجلون»، وفي الحديث: « واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا».
هذه الآية وأمثالها من الآيات والأحاديث فيها دليل على سنة الابتلاء والامتحان.
وفيها: دليل أن العاقبة الحميدة للمؤمنين، وأنه لا بد من الابتلاء وأن نصر المؤمن مع الصبر وأن النصر والفرج يأتي بعد الابتلاء والامتحان.