** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
[عدة المتوفى عنها زوجها]
هذا أمر من الله للنساء اللاتي يُتَوّفى عنهن أزواجهن: أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع، ومستنده في غير المدخول بها عُمُوم الآية الكريمة، وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي: أن ابن مسعود سُئِل عن رجل تزوّج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها، ولم يفرض لها؟ فترددوا إليه مرارًا في ذلك فقال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكُن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه: أرى لها الصداق كاملًا. وفي لفظ: لها صداق مثلها، لا وكس، ولا شَطَط، وعليها العدّة، ولها الميراث. فقام معقل بن يسار الأشجعي فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قَضى به في بَرْوَع بنت واشق. ففرح عبد الله بذلك فرحًا شديدًا. وفي رواية: فقام رجال من أشجع، فقالوا: نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به في بَرْوَع بنت وَاشِق.
ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها، وهي حامل، فإن عدّتها بوضع الحمل، ولو لم تمكث بعده سوى لحظة؛ لعموم قوله: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]. ولما ثبتت به السنة في حديث سُبيعة الأسلمية، المخرج في الصحيحين من غير وجه: أنه توفي عنها زوجها سعد بن خولة، وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، وفي رواية: فوضعت حملها بعده بليال، فلما تَعَلَّتْ من نفاسها تجملت للخُطَّاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بَعْكَك، فقال لها: ما لي أراك مُتَجَمِّلة؟ لعلك ترجين النكاح. والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعَشْر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حلَلَتُ حين وضعتُ حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي.
[حكمة هذه العدة]
وقد ذكر سعيدُ بن المسيب، وأبو العالية وغيرهما: أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا؛ لاحتمال اشتمال الرحم على حمل، فإذا انتظر به هذه المدة ظهر إن كان موجودًا، كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين وغيرهما: «إن خلق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح».
فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر، والاحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور، ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه، والله أعلم.
[عدة أم الولد المتوفى عنها سيدها]
ومن هنا ذهب من ذهب إلى أن عدة أم الولد عدة الحرة هاهنا؛ ويؤيدهم ما رواه الإمام أحمد عن عمرو بن العاص أنه قال: لا تُلْبِسوا علينا سنة نبينا، عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر. ورواه أبو داود وابن ماجه .
[وجوب الإحداد في هذه العدة]
وقوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} يستفاد من هذا وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها مدة عدتها، لما ثبت في الصحيحين، من غير وجه، عن أم حبيبة وزينب بنت جحش أُمَّيِ المؤمنين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا».
وفي الصحيحين أيضًا، عن أم سلمة: أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابنتي تُوفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينُها، أفنكْحُلُها؟ فقال: «لا». كل ذلك يقول: «لا» مرتين أو ثلاثًا. ثم قال: «إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة». قالت زينب بنت أم سلمة: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حِفْشًا([1])، ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيبًا ولا شيئًا، حتى تمر بها سنة، ثم تخرج فتعطى بَعْرة فترمي بها، ثم تؤتى بدابة -حمار أو شاة أو طير -فَتَفْتَضَّ به فقلما تفتض بشيء إلا مات.
والغرض أن الإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب، ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحُلِيٍّ وغير ذلك وهو واجب في عدة الوفاة قولًا واحدًا.
ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن، سواء في ذلك الصغيرة والآيسة والحرة والأمة، والمسلمة والكافرة، لعموم الآية.
وقوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي: انقضت عدتهن. قاله الضحاك والربيع بن أنس، {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} قال الزهري: أي: على أوليائها {فِيمَا فَعَلْنَ} يعني: النساء اللاتي انقضت عدتهن . قال العوفي عن ابن عباس: إذا طُلقت المرأة أو مات عنها زوجها، فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنَّع وتتعرض للتزويج، فذلك المعروف . روي عن مقاتل بن حيان نحوه ، وقال ابن جريج عن مجاهد: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قال: النكاح الحلال الطيب . وروي عن الحسن، والزهري، والسدي نحو ذلك .
(التفسير)
هذه الآية الكريمة في عدة المتوفى عنها زوجها، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} هذه عدة المتوفى عنها زوجها تتربص أربعة أشهر وعشرة أيام، وهذه الآية ناسخة لما جاء بعدها {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} فإن هذه الآية فيها أن المرأة تتربص سنة، حولًا كاملًا، فنسخ الله هذه الآية بتلك الآية، وإن كانت قبلها في التلاوة ولكنها ناسخة لها في الحكم، فنسختْ آيةُ التربص بأربعة أشهر وعشرًا آيةَ التربص بالحول.
وهذه الآية كما ذهب إليه الحافظ ابن كثير رحمه الله أنها عامة لجميع المتوفى عنها زوجها مُطْلقًا، سواء كانت كبيرة أم صغيرة، حرة أم أمة، مسلمة أم كافرة، الصغيرة والآيسة إلا الحامل، فالحامل عدتها بوضع الحمل؛ لعموم قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4].
فالحامل عدتها بوضع الحمل مطلقًا سواء كانت مطلقة أم متوفى عنها زوجها، وسواء كانت أمة أم حرة، عامٌّ، الحامل عدتها بوضع الحمل، من أي فراق.
والمتوفى عنها زوجها عدتها أربعة أشهر وعشرة أيام، وهذه المدة الحكمة فيها حتى يُعْلَم براءة الرحم من الحمل؛ لأن أربعة أشهر وعشرًا يتحرك الحمل وينفخ فيه الروح، ثم زيد عشرة أيام احتياط لتحرك الحمل وتكملة للأشهر التي قد تكون نقصت؛ ولهذا قال الله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}.
والمتوفى عنها زوجها عليها الإحداد لهذه المدة، والإحداد هو ترك الزينة وما شاكلها.
ومن الأمور التي ينبغي أن تراعيها المرأة المحادة؛ المتوفى عنها زوجها:
الأمر الأول: لزوم البيت فلا تخرج إلا لضرورة أو لحاجة لا بد منها كأن تخرج إذا طُلبت إلى المحكمة أو للمستشفى إن اضطرت لهذا، أو لتخرج لشراء ما تحتاج إليه مضطرة إليه إذا لم يكن عندها أحد، فتخرج نهارًا تشتري ما تحتاج إليه من الخبز إذا لم يكن عندها أحد، نهارًا لا ليلًا، أو تخرج للتعليم إذا كانت مدرسة أو طالبة، وما عدا ذلك فلا تخرج من البيت؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «امكثي حتى يبلغ الكتاب أجله».
فلا تخرج للأسفار حتى إلى الحج، لا تسافر، ولا تخرج للرحلات والزيارات والذهاب والإياب، لا تخرج وتبقى في البيت حتى يبلغ الكتاب أجله.
والأمر الثاني: اجتناب الثياب الجميلة التي تلفت أنظار الرجال إليها، كالأحمر القاني والأصفر الفاقع والأبيض الناصع وما فيه جمال أو أصباغ أو نقوش تلفت أنظار الرجال إليها.
والأمر الثالث: ترك الحلي بجميع أنواعها، الذهب في يديها، في ساعديها، في رجليها، في أذنيها، في رقبتها، في أنفها، جميع الحلي تتجنبها.
الأمر الرابع: الطيب بأنواعه، تتجنب الطيب فلا تتطيب، إلا إذا كانت شابة وكانت تحيض فلا بأس أن تتبخر بعد الطهر من الحيض بنوعين من الطيب وهما القسط أو الأظفار كما في الحديث: «نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ» والقسط والأظفار نوعان من الطيب لقطع الرائحة.
والأمر الخامس: تجتنب الكحل والخضاب، أدوات التحسين كالكحل والخضاب والحمرة في شفتيها.
هذه الأمور التي يجب أن تراعيها المرأة المحادة، وما عدا ذلك فإنها تغتسل وتتنظف وتغير ثيابها، ولها أن تتكلم في الهاتف وتسلم على أقاربها، وتصافح محارمها فلا بأس.
ولها أن تخرج من البيت إلى الحوش وإلى السطح وإلى الحديقة، كل هذا لا بأس منه.
والعوام لهم عجائب في هذا، يقولون لها: لا تخرج ولا تكلم ولا تخرج إلى الحوش ولا ضوء القمر، كل هذا من خرافات العوام.
وقد كانت المرأة في الجاهلية عليها الآصار والأغلال كما قالت زينب بنت أم سلمة: كانت المرأة في الجاهلية إذا مات عنها زوجها دخلت حفشة، أي: غرفة مظلمة صغيرة، ولا تمس الماء مدة سنة، ولا الطيب ولا تغير ثيابها ولا تختلط بأحد، وتبقى هذه المدة فيبقى ثوبها لمدة سنة عليه طبقات من الأوساخ والروائح المنتنة، فإذا مضت سنة أعطوها بَعْرة فترمي بها، ثم تَفْتَضَّ بدابة - حمار أو شاة أو طير – يعني: تمسح به قبلها، فقلما تفتض بشيء إلا مات، يموت الطير هذا من شدة نتنها ورائحتها الكريهة.
هذه من الآصار، والله تعالى كرمها في الإسلام فأسقط عنها ثلثي هذه المدة بدلًا من سنة أصبحت أربعة أشهر، وتعمل كل شيء ما عدا الأمور الخمسة.
فلها أن تعجن وتطبخ وتنظف ثيابها وتكلم وتؤاكل وتشارب وتتحدث، كل شيء تعمله ما عدا الأمور الخمسة.
وإذا مضت هذه المدة فإنها تترك الإحداد، حتى لو لم تعلم بموت زوجها إلا بعد مضي أربعة أشهر وعشرة أيام فليس عليها إحداد، انتهت المدة وخرجت من العدة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} إذا مضت المدة فلا بأس أن تتجمل للخطاب، ولا بأس أن تُخطب، بعد انتهاء المدة؛ ولهذا قال: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
وأما الحامل فعدتها إلى وضع الحمل، إذا وضعت حملها ولو بعد وفاة زوجها بلحظة خرجت من العدة، سواء عدة وفاة أو طلاق؛ لحديث سبيعة أنها لما توفي عنها زوجها، وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها، فدخل عليها أبو السنابل بن بَعْكَك، فوجدها تجملت للخُطَّاب فقال لها: ما لي أراك مُتَجَمِّلة؟ لعلك ترجين النكاح. والله ما أنت بناكح حتى يمضي عليك أربعة أشهر وعَشْر أيام، فَهِمَ ذلك من الآية، فلما قال ذلك، وأمست جمعَتْ عليها ثيابها، ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستفته فأفتاها أنها يجوز لها أن تتزوج وأنها خرجت من العدة.
دل ذلك على أن الحامل مستثناة من هذه المدة.
وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فهو خبير بأعمالكم ونياتكم فاحذروه سبحانه؛ فإنه يجازي على الأعمال والنيات والأقوال والأفعال.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
[إباحة التعريض بالخطبة في العدة والنهي عن النكاح فيها]
يقول تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أن تُعَرّضوا بخطبة النساء في عدتهن من وفاة أزواجهن من غير تصريح. قال الثوري وشعبة وجرير وغيرهم، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} قال: التعريض أن يَقُول: إني أريد التزويج، وإني أحب امرأة من أمرها ومن أمرها - يعرض لها بالقول بالمعروف - وفي رواية: وددت أن الله رزقني امرأة ونحو هذا. ولا يَنْتصِبُ للخِطْبة . ورواه البخاري تعليقًا، عن ابن عباس: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} هو أن يقول: إني أريد التزويج، وإن النساء لمن حاجتي، ولوددت أنه يُيَسَّر لي امرأة صالحة .
وهكذا قال مجاهد، وطاوس، وعكرمة، وسعيد بن جُبير، وإبراهيم النخَعي، والشعبي، والحسنُ، وقتادة، والزهري، ويزيد بن قُسَيط، ومقاتل بن حيَّان، والقاسم بن محمد، وغير واحد من السلف والأئمة في التعريض: أنه يجوز للمتوفى عنها زوجها من غير تصريح لها بالخطبة. وهكذا حكم المطلقة المبتوتة يجوز التعريض لها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس، حين طلقها زوجها أبو عَمْرو بن حَفْص: آخر ثلاث تطليقات. فأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، وقال لها: «فإذا حَلَلْت فآذنيني». فلما حلَّتْ خطب عليها أسامة بن زيد مولاه، فزَوّجها إياه.
فأما المطلقة: فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها ولا التعريض لها، والله أعلم.
وقوله: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} أي: أضمرتم في أنفسكم مِن خطْبَتَهُنّ وهذا كقوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص:69] وكقوله: {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ} [الممتحنة:1] ولهذا قال: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} أي: في أنفسكم، فرفع الحرج عنكم في ذلك، ثم قال: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا}.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} لا تقل لها: إني عاشق، وعاهديني ألا تتزوجي غيري، ونحو هذا. وكذا رُوي عن سعيد بن جُبير، والشعبي، وعكرمة، وأبي الضحى، والضحاك، والزهري، ومجاهد، والثوري: هو أن يأخذ ميثاقها ألا تتزوج غيره.
وقوله {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} قال ابن عباس، ومجاهد وسعيد بن جبير، والسدي، والثوري، وابن زيد: يعني به: ما تقدم من إباحة التعريض. كقوله: إني فيك لراغب. ونحو ذلك.
وقال محمد بن سيرين: قلت لعَبِيدة: ما معنى قوله: {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا}؟ قال: يقول لوليها: لا تسبِقْني بها، يعني: لا تزوِّجْهَا حتى تُعلمني. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} يعني: ولا تعقدوا العقدة بالنكاح حتى تنقضي العدة.
قال ابن عباس، ومجاهد، والشعبي، وقتادة، والربيع بن أنس، وأبو مالك، وزيد بن أسلم، ومقاتل بن حيان، والزهري، وعطاء الخراساني، والسدي، والثوري، والضحاك: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} يعني: ولا تعقدوا العَقْد بالنكاح حتى تنقضي العدة.
وقد أجمع العلماء على أنه لا يصح العَقْد في مدة العِدَّة.
وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر، ثم لم يُؤْيِسْهُم من رحمته، ولم يُقْنطهم من عائدته، فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}.
(التفسير)
هذه الآية الكريمة فيها جواز التعريض بالخطبة للمتوفى عنها زوجها، وللمطلقة البائن، قال تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ}.
فالتعريض وكذلك الإضمار في النفس جائز، ولا يلام الإنسان عليه، والتصريح بالخطبة محرم وكذلك عقد النكاح محرم.
أمران جائزان وأمران محرمان تجاه المطلقة البائن، والمتوفى عنها زوجها.
أمران جائزان: الأول التعريض بالخطبة بدون تصريح؛ كأن يقول: إني في مثلك لراغب، وددت امرأة صالحة، وددت أن الله يوفقني لامرأة صالحة، هذا كله تعريض لا بأس به.
والأمر الثاني: إذا أضمر في نفسه أنه سيتزوجها بعد العدة فلا بأس بذلك، لا يلام الإنسان أن يضمر في نفسه؛ ولهذا قال الله: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} يعني: علم الله أن الإنسان سيذكر هذا في نفسه وهذا شيء لا يلام الإنسان عليه، وقد لا يستطيع دفعه.
أما الأمران الممنوعان؛ فالأول: التصريح، كأن يصرح بالخطبة فيقول لها: أخطبك لنفسي، أو يخطبها من وليها صراحة، وكذلك عقد النكاح محرم، وإذا عقد النكاح في العدة فالعقد فاسد، وكذلك المحْرِمة، إذا كانت محرمة بحج أو عمرة فالعقد عليها فاسد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينكح المحْرِم ولا يُنكح».
ولهذا قال سبحانه: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} يعني في نفوسكم {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} يعني: لا تصرحوا بذلك {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} القول المعروف: هو التعريض، كقوله: إني في مثلك لراغب، وددت أن الله ييسر لي زوجة صالحة، وأنا أبحث عن امرأة صالحة، أو ما أشبه ذلك من التعريض الذي ليس فيه تصريح.
وأما الثاني: فيجوز لها أن تقول: مثلك رجل صالح، مثلك لا يرغب عنه، وما أشبه ذلك، هذا هو التعريض.
قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} تهديد لمن أضمر الشر، فمن أضمر الشر أو أضمر مخالفة الشرع، فعليه الوعيد الشديد، فالله عليم بنيته وسوف يجازيه، ولم يقنطه سبحانه فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} هو غفور حليم؛ يحلم على عباده فلا يعاجلهم بالعقوبة ويفتح لهم باب التوبة، وغفور لما يكنه الإنسان ويضمره في نفسه لأن هذا أمر لا بد منه ولا يستطيع الإنسان دفعه.
وفيه: إثبات اسمين من أسماء الله وهما «الغفور» و«الرحيم».
وفي هذه الآية الكريمة: جواز التعريض بخطبة المتوفى عنها زوجها، والبائن، وجواز إضمار الخطبة في النفس.
وفيه: تحريم التصريح بالخطبة وتحريم عقد النكاح؛ ولهذا قال: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}.
وقوله: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} يعني لا تعقدوا النكاح {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} حتى تخرج من العدة.
هذا الحكم للمتوفى عنها زوجها، والمطلقة البائن، فاطمة بنت قيس لما طلقها زوجها الطلقة الثالثة قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا حللت فآذنيني»، فخطبها ثلاثةٌ؛ أسامة، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبو جَهْم، وكلُّ واحدٍ لا يدري عن خطبة الآخر وإلا ما جاز له أن يخطب على خطبة أخيه.
فقال النبي: «أما معاويةُ فصعلوكٌ لا مال له، وأما أبو جَهْم فلا يضع عصاه عن عاتقه» قيل: إنه كان ضراب للنساء، أو أنه كثير الأسفار، ثم قال لها: «انكحي أسامة بن زيد» فكرهته ثم قال: «انكحي أسامة» فنكحته فجعل الله فيه خيرًا.
هذا الحديث فيه المشاورة، وهذا ليس من الغيبة، هذا من النصيحة، ثلاثة خطبوا، كل واحد في وقت ولا يدري عن الثاني، فاستفتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر لها صلى الله عليه وسلم ما في كل واحد منهم:
«أما معاوية فصعلوك، لا مال له» كان فقير في ذلك الوقت، ثم صار خليفة بعد ذلك، «وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه» فكان كثير الأسفار، وقيل: ضراب للنساء، ثم قال لها: «انكحي أسامة» قالت: فنكحتُهُ فاغتبطتُ به.
أما المطلقة الرجعية، المطلقة الطلقة الأولى أو الثانية، فلا يجوز التصريح ولا التعريض؛ لأنها زوجة، إلا لزوجها، ويحرم التعريض والتصريح بخطبة المطلقة الرجعية حتى تخرج من العدة، فإن خرجت من العدة صار زوجها السابق خاطب من الخطاب، وأما في العدة فيحرم التصريح والتعريض؛ لأنها زوجة، ولو بقي عليها لحظة من العدة فهي زوجة.
فإن قيل: لماذا يحرم التعريض بالزواج للمطلقة طلاقا رجعيًّا؟
فالجواب: لأن العدة حماية لحقوق الزوج.
([1]) قال الشارح -حفظه الله-: يعني: غرفة صغيرة.