** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيم وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِين كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون}.
[نسخ هذه الآية]
قال الأكثرون: هذه الآية منسوخة بالتي قبلها وهي قوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}.
روى البخاري عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان بن عفان: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} قد نسختها الآية الأخرى فَلِمَ تكتبها -أو تدعها؟ قال: يا ابن أخي لا أغير شيئاً منه من مكانه.
ومعنى هذا الإشكال الذي قاله ابن الزبير لعثمان: إذا كان حكمها قد نسخ بالأربعة الأشهر فما الحكمة في إبقاء رسمها مع زوال حكمها، وبقاء رسمها بعد التي نسختها يوهم بقاء حكمها؟ فأجابه أمير المؤمنين بأن هذا أمر توقيفي، وأنا وجدتها مثبتة في المصحف كذلك بعدها فأثبتها حيث وجدتها.
روى ابن أبي حاتم: عن ابن عباس في قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} فكان للمتوفى عنها زوجها نفقتها وسكناها في الدار سنة، فنسختها آية المواريث فجعل لهن الربع أو الثمن مما ترك الزوج.
وروي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته يُنفَق عليها من ماله ثم أنزل الله بعد: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}.
فهذه عدة المتوفي عنها زوجها إلا أن تكون حاملًا فعدتها أن تضع ما في بطنها وقال: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم} [النساء:12] فبين ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة.
قال: وروي عن مجاهد والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل بن حيان، قالوا: نسختها {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}.
وروى البخاري: عن مجاهد: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} قال: كانت هذه العدة، تعتد عند أهل زوجها واجب فأنزل الله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ} قال: جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية إن شاءت سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت وهو قول الله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فالعدة كما هي، واجب عليها، زعم ذلك عن مجاهد: رحمه الله.
وقال عطاء: وقال ابن عباس: نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها فتعتد حيث شاءت وهو قول الله تعالى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قال عطاء: إن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت لقول الله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ} قال عطاء: ثم جاء الميراث فنسخ السكنى، فتعتد حيث شاءت ولا سكنى لها.
وقول عطاء ومن تابعه على أن ذلك منسوخ بآية الميراث إن أرادوا ما زاد على الأربعة أشهر والعشر فمسلم، وإن أرادوا أن سكنى الأربعة الأشهر وعشر لا تجب في تركة الميت فهذا محل خلاف بين الأئمة، وقد استدلوا على وجوب السكنى في منزل الزوج بما رواه مالك في موطئه عن زينب بنت كعب بن عُجْرَة: أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري م أخبرتها: أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خُدرة، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أَبَقوا، حتى إذا كان بطرف القَدُوم لحقهم فقتلوه. قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي في بني خُدرة فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نعم» قالت: فانصرفت، حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم -أو أمر بي فنوديت له-فقال: «كيف قلت؟» فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي. فقال: «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا. قالت: فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته، فاتبعه وقضى به.
وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح.
[وجوب متعة الطلاق]
وقوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِين} قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما نزل قوله تعالى: {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِين} [البقرة:236] قال رجل: إن شئتُ أحسنت ففعلت وإن شئتُ لم أفعل. فأنزل الله هذه الآية: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِين}.
وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة، سواء كانت مفوضة أو مفروضًا لها أو مطلقًا قبل المسيس أو مدخولًا بها.
وإليه ذهب سعيد بن جبير، وغيره من السلف واختاره ابن جرير.
وقوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِين} من باب ذكر بعض أفراد العموم.
وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} أي: في إحلاله وتحريمه وفروضه وحدوده فيما أمركم به ونهاكم عنه بيَّنه ووضحه وفسره ولم يتركه مجملًا في وقت احتياجكم إليه {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} أي: تفهمون وتتدبرون.
(التفسير)
هذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:240] هذه الآية تسمى آية التربّص، تربّص المرأة بعد وفاة زوجها سنة، وهذا كان أولًا، ثم نسخت هذه الآية بالآية التي قبلها وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}[البقرة:234] فنسخت آيةُ التربّص بأربعة أشهرٍ وعشرًا آيةَ التربّص بسنة.
كانت المرأة تتربص سنة أي تجلس سنة بعد وفاة زوجها في الجاهلية وفي أول الإسلام ثم نسخ الله ذلك بالآية {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} .
إذا لم تكن حاملًا، فإن كانت حاملًا فإن عدتها بوضع الحمل على كل حال سواء، كانت مطلقة أو متوفى عنها، وهذا من تيسير الله سبحانه وتعالى على النساء، كانت المرأة تجلس هذه المدة وكانت في الجاهلية أيضًا، كان عليها من الآصار والأغلال أن تكون في حجرة ضيقة مظلمة، ولا تمس ماءً، ولا يختلط بها أحد حتى يمضي عليها سنة، وفي حالة سيئة تتراكم عليها الأوساخ، والروائح الكريهة حتى إذا مضت السنة أعطيت بعرةً، فرمت بها إيذانًا بالخروج، ثم تفتض بدابة أو طير فقلما تفتض بشيءٍ إلا مات من شدة نتنها، فإنها تمسح به قبلها فيموت من شدة نتنها؛ لأنها جلست سنة كاملة ما مست ماء ولا نظفت نفسها، هذا من الآصار والأغلال التي كان أهل الجاهلية يفعلونها.
والله تعالى نسخ هذه المدة وهي سنة في ثلث المدة وهي أربعة أشهر وعشر أيام، وأباح لها أن تتنظف، وتغتسل، وتغيّر ثيابها، وتتكلم، وتعمل، إلا أنها تراعي الأمور الخمسة التي سبقت وهي: لزوم البيت، وتجنب الثياب الجميلة، وتجنب الطيب بأنواعه، وتجنب الحلي، وكذلك أيضًا تتجنب أدوات التحسين من الحناء والخضاب.
وهذه الآية منسوخة، منسوخ حكمها؛ لكن بقي لفظها، وهذا أحد أنواع النسخ، والنسخ ثلاثة أنواع:
نوع نسخ حكمه ولفظه، مثل الآية التي كانت في سورة النور نسخ لفظه وحكمه، مثل بعض الآيات التي نسخ لفظها وحكمها، اللفظ منسوخ والحكم منسوخ بشيءٍ آخر.
والنوع الثاني: أن يُنسخ الحكم ويبقى اللفظ مثل هذه الآية، حكمها منسوخ ولفظها باق، ومثل نسخ آية المصابرة، كان في أول الإسلام أوجب الله في الجهاد أن يقف المسلم أمام عشرة ولا يفر، فإذا زادوا عن عشرة فله أن يفر، ثم نسخ بالمصابرة مقابل اثنين لقوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الأنفال:66] الآية الأولى {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:65] هذه نسخ حكمها وبقي لفظها.
ومما نسخ لفظه، وبقي حكمه الآية التي في النور « والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم » اللفظ نسخ والحكم باق وهو (الرجم).
وقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] فيه دليل مشروعية متعة المرأة على مطلقها، فالزوج إذا طلق امرأته فقد أمر بأن يمتعها.
اختلف العلماء هل هو واجب أو مستحب؟
فمن العلماء مَن قال: إنه خاص بالمُفوضة، المُفوضة التي دخل بها زوجها، ولم يفرض لها مهرًا فإنه يُمتعها لقوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة:236].
وقال آخرون من أهل العلم: إن كل مطلقة لها المتعة، يستدل بهذه الآية {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] وهذه عامة، كل مطلقة يُمتعها زوجها، يعني يعطيها شيئًا على حسب يسره و سره، كما قال في الآية الأخرى {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة:236].
وذكر علماء أن أعلاها خادم، وأقلها كسوة، إذا كان فقيرًا يرسل لها كسوة مناسبة، وإذا كان غنيًّا يعطيها خادمًا، وهذا يختلف باختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة.
قال سبحانه: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} [البقرة:242] بيّن الله تعالى حدوده، وآياته، وأوامره، ونواهيه ليعقلها العباد ويفهموها ويعملوا بها.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُون وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيم مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون}.
[قصة هؤلاء الأموات]
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كانوا أهل قرية يقال لها: داوردان. وقال علي بن عاصم: كانوا: من أهل داوردان: قرية على فرسخ من قبل واسط.
وروى وكيع بن الجراح في تفسيره: عن ابن عباس: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} قال: كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارًا من الطاعون قالوا: نأتي أرضًا ليس بها موت حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال الله لهم {موتوا} فماتوا فمر عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم، فذلك قوله -عز وجل-: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ } الآية.
وذكر غير واحد من السلف أن هؤلاء القوم كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل استوخموا أرضهم وأصابهم بها وباء شديد فخرجوا فرارًا من الموت هاربين إلى البرِّية، فنزلوا واديًا أفيح، فملأوا ما بين عدوتيه فأرسل الله إليهم ملكين أحدهما من أسفل الوادي والآخر من أعلاه فصاحَا بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد فحيزوا إلى حظائر وبني عليهم جدران وقبور وفنوا وتمزقوا وتفرقوا فلما كان بعد دهر مَرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له: حزقيل فسأل الله أن يحييهم على يديه فأجابه إلى ذلك وأمره أن يقول: أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي، فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض، ثم أمره فنادى: أيتها العظام إن الله يأمرك بأن تكتسي لحمًا وعصبًا وجلدًا. فكان ذلك، وهو يشاهده ثم أمره فنادى: أيتها الأرواح إن الله يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره. فقاموا أحياء ينظرون قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة، وهم يقولون: سبحانك لا إله إلا أنت.
وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة ولهذا قال: { إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } أي: فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة والدلالات الدامغة، { وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُون } أي: لا يقومون بشكر ما أنعم الله به عليهم في دينهم ودنياهم.
وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لن يغني حذر من قدر وأنه، لا ملجأ من الله إلا إليه، فإن هؤلاء خرجوا فرارًا من الوباء طلبًا لطول الحياة فعوملوا بنقيض قصدهم وجاءهم الموت سريعًا في آن واحد.
ومن هذا القبيل الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد: عن عبد الله بن عباس: أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام فذكر الحديث فجاءه عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبًا لبعض حاجته فقال: إن عندي من هذا علمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه» فحمد الله عمر ثم انصرف.
وأخرجاه في الصحيحين.
[الفرار من الجهاد لا يقرب الأجل ولا يُبَعِّدُه]
وقوله: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيم} أي: كما أن الحذر لا يغني من القدر كذلك الفرار من الجهاد وتجنبه لا يقرب أجلًا ولا يُبَعِّدُه، بل الأجل المحتوم والرزق المقسوم مقدر مقنن لا يُزاد فيه ولا يُنقص منه كما قال تعالى: { الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين } [آل عمران:168] وقال تعالى: {وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلا أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء:77، 78] وروينا عن أمير الجيوش ومقدم العساكر وحامي حوزة الإسلام وسيف الله المسلول على أعدائه أبي سليمان خالد بن الوليد ط ، أنه قال:- وهو في سياق الموت: لقد شهدت كذا وكذا موقفًا وما من عضو من أعضائي إلا وفيه رمية أو طعنة أو ضربة وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت العير!! فلا نامت أعين الجبناء يعني: أنه يتألم لكونه ما مات قتيلًا في الحرب ويتأسف على ذلك ويتألم أن يموت على فراشه.
[القرض الحسن وثوابه]
وقوله: { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} يحث تعالى عباده على الإنفاق في سبيل الله، وقد كرر تعالى هذه الآية في كتابه العزيز في غير موضع. وفي حديث النزول أنه يقول تعالى «من يقرض غير عديم ولا ظلوم».
وقوله: { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } كما قال: { مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ } الآية [البقرة:261]. وسيأتي الكلام عليها.
وقوله: { وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} أي: أنفقوا ولا تبالوا فالله هو الرزاق يضيق على من يشاء من عباده في الرزق ويوسعه على آخرين، له الحكمة البالغة في ذلك {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون } أي: يوم القيامة.
(التفسير)
في هذه الآيات الكريمات أحكام:
الآية الأولى: في قصة الذين خرجوا حذر الموت فأتاهم الموت، ثم ماتوا، وهذه إحدى القصص الخمسة في سورة البقرة للذين أحياهم الله بعد موتهم، فإن في سورة البقرة خمس قصص لمن أحياهم الله بعد موتهم.
القصة الأولى: قتيل بني إسرائيل الذي قتل وتدارءوا فيمَن قتله، وجاءوا نبيهم موسى عليه السلام وسألوه فأمرهم أن يذبحوا بقرة، فذبحوا البقرة وأخذوا شيء من لحمها ولطخوه بالقتيل فقام، فأخبرهم بالذي قتله، أحياه الله ثم أعاده ميتًا، هذه القصة الأولى.
والقصة الثانية: بنو إسرائيل لما خرجوا مع موسى عليه السلام وقالوا: أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون، فتضرع موسى إلى ربه وسأل الله أن يُحييهم فأحياهم فقال: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:56].
والقصة الثالثة: هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت فجاءهم الموت.
والقصة الرابعة: طيور إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما سأل ربه قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[البقرة:260] أخذ أربعة من الطير قطعها، وجعل على كل جبل منها جزءًا، وأمسك رؤوسها، ولما أراد الله أن يُحييها طارت الطيور إليه، كل جسدٍ يأتي ليُركب مع رأسه، فإذا ركب الرأس على جثة ليست له امتنع حتى تكون الرأس موافق الجثة، ليركب بإذن الله .
القصة الخامسة: الرجل الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، وسيأتي {قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة:259] قيل: أنه نبي، وقيل: غيره، أماته الله مائة عام، ثم بعثه {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ}[البقرة:259] فأحياه الله وأحيا حماره، ومعه الفاكهة لم تتغير .. قضى مائة عام والفاكهة على حالها ما تغيرت ولا فسدت.
وهذه القصة من هذه الخمس: هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف، لا واحد ولا اثنين بل ألوف، حذر الموت: خوفًا من الموت، استوخموا البلد التي هم فيها، وقع فيها بلاء وأمراض وأسقام فخشوا من الموت فخرجوا يطلبون طول الحياة، فعاملهم الله بنقيض قصدهم، فأتاهم الموت في مكانهم في واديهم .
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243] فيه دليل كما قال المؤلف رحمه الله: أن الحذر لا يُغني من القدر، وأن قدر الله نافذ والحذر لا يُغني.
وفيه دليل على أن الأجل لا يتقدم ولا يتأخر، وأن مَن جاء أجله لابد أن يموت، ولا تنفع الأسباب، ولا ينفع الطب إذا جاء الأجل فليس فيه حيلة، فما ينفع الطب قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران:145] فهؤلاء خرجوا خوفًا من الموت فجاءهم الموت.
ومن ذلك ما ذكره الحافظ رحمه الله في قصة مجيء عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى الشام، لما قدِم على الشام أُخبر بأن فيه مرض الطاعون، طاعون عمواس، فاستشار الناس كما ثبت في الصحيحين في البخاري ومسلم ([1])، استشار المهاجرين وقالوا: نرى ألا تقدم بالجيش، فمعك الجيش ومعك وجوه الناس والقراء لا تقدم به على هذا الوباء، قال: ارتفعوا عني، ثم قال: عليَّ بالأنصار فشاورهم فاختلفوا، بعضهم قال: إنك جئت لأمر فامضِ لهذا الأمر، وبعضهم قال: ارجع بالجيش لا تقدم به على هذا الوباء، قال: ارتفعوا عني، ثم ليأتني مسلمة الفتح الذين أسلموا في فتح مكة، وشاورهم فقالوا: ارجع بالجيش وهكذا، ثم اختار -رضي الله عنه- أن يرجع بالجيش، فقال له أبو عبيدة منكرًا عليه: يا عمر أفرارًا من قدر الله؟ ترجع بالجيش فرارًا من قدر الله، فقال عمر قولته المشهورة: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعملنفر من قدر الله إلى قدر الله.
في جميع الأحوال لا نخرج عن القدر سواء أقدمنا أو رجعنا، أرأيت إن كان هناك عدوتان من الأرض: عدوة مخصبة، وعدوة مجدبة، في أيهما ترعى بعيرك؟ أترعاها الأرض المجدبة، أم المخصبة؟ قال: الأرض المخصبة، قال: أليس إن رعيت المخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رأيت المجدبة رعيتها بقدر الله؟ فكذلك نحن الآن لا نخشى قدر الله.
وكان عبد الرحمن بن عوف متغيبًا في حاجة فجاء، وهم يتحاورون فقال: إن عندي بذلك علمًا، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا وقع الطاعون في بلدٍ وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فرارًا منها، وإذا وقع وأنتم لستم فيها فلا تقدموا عليها" فحمد الله عمر -رضي الله عنه- أن وافق اجتهادُه النص، إذا جاء النص انقطع النزاع، إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
وهذا هو الحكم الشرعي أنه إذا وقع الوباء في بلد فلا يخرج الإنسان فرارًا منه، وإذا كان في البلد فلا يقدم عليه، ولهذا قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [البقرة:243] يعني لا يشكرون فضله سبحانه، وإحسانه إلى عباده لا ينكره إلا الجاحد المكابر ولهذا قال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} لا يعلمون حكمة الله.
وفي الآية الأخيرة الحض والحث على الإنفاق في سبيل الله، وأن النفقة في سبيل الله مضاعفة {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245] كما بيّن الله تعالى النفقة في الآية الأخرى مضاعفة بسبعمائة ضعف {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261] .
وقوله: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} [البقرة:245] يعني الله سبحانه وتعالى يوسع الرزق على مَن يشاء، ويُضيق الرزق على مَن يشاء لحكمة بالغة، له الحكمة البالغة؛ لأنه عليم بحال عباده وما يصلحهم {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. أي: إليه مرجعهم.
في هذه الآيات الكريمات أن الحذر لا يغني من القدر.
وفيه أن الأقدار مؤجلة، وأن الموت لا يتقدم ولا يتأخر.
وفيه فضل الله تعالى، وإحسانه إلى عباده.
وفيه أن كثيرًا من الناس لا يعلمون حكمة الله.
وفيه أن النفقة في سبيل الله مضاعفة بسبعمائة ضعف.
وفيه أن الله تعالى يوسع الرزق على مَن يشاء، ويضيق الرزق على مَن يشاء لحكمة بالغة.
وفيه إثبات البعث والجزاء والحساب في قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
([1]) صحيح البخاري (5729) ومسلم (2219).