** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِين}.
[قصة اليهود في طلبهم الملك والقتال، واستقامة القليل منهم وانتصارهم]
قال مجاهد: هو شمويل عليه السلام.
وقال وهب بن منبه وغيره: كان بنو إسرائيل بعد موسى عليه السلام على طريق الاستقامة مدة من الزمان، ثم أحدثوا الأحداث وعبد بعضهم الأصنام، ولم يزل بين أظهرهم من الأنبياء من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويقيمهم على منهج التوراة إلى أن فعلوا ما فعلوا فسلط الله عليهم أعداءهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا خلقًا كثيرا وأخذوا منهم بلادًا كثيرة، ولم يكن أحد يقاتلهم إلا غلبوه وذلك أنهم كان عندهم التوراة والتابوت الذي كان في قديم الزمان وكان ذلك موروثًا لخلفهم عن سلفهم إلى موسى الكليم عليه الصلاة والسلام فلم يزل بهم تماديهم على الضلال حتى استلبه منهم بعض الملوك في بعض الحروب وأخذ التوراة من أيديهم ولم يبق من يحفظها فيهم إلا القليل وانقطعت النبوة من أسباطهم ولم يبق من سبط لاوي الذي يكون فيه الأنبياء إلا امرأة حامل من بعلها وقد قتل فأخذوها فحبسوها في بيت واحتفظوا بها لعل الله يرزقها غلامًا يكون نبيًّا لهم ولم تزل المرأة تدعو الله -عز وجل- أن يرزقها غلامًا فسمع الله لها ووهبها غلامًا، فسمته شمويل: أي: سمع الله دعائي ([1]). ومنهم من يقول: شمعون وهو بمعناه.
فشب ذلك الغلام ونشأ فيهم وأنبته الله نباتًا حسنًا فلما بلغ سن الأنبياء أوحى الله إليه وأمره بالدعوة إليه وتوحيده، فدعا بني إسرائيل فطلبوا منه أن يقيم لهم مَلِكًا يقاتلون معه أعداءهم وكان المُلك أيضًا قد باد فيهم فقال لهم النبي: فهل عسيتم إن أقام الله لكم ملكًا ألا تفوا بما التزمتم من القتال معه {قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا} أي: وقد أُخِذت منا البلاد وسُبِيت الأولاد؟ قال الله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِين} أي: ما وفوا بما وعدوا بل نكل عن الجهاد أكثرهم والله عليم بهم.
(التفسير)
هذه القصة في بني إسرائيل بعد موسى عليه الصلاة والسلام وذلك أن الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى كلهم كلفوا بالعمل بالتوراة حتى ختمهم الله بعيسى عليه الصلاة والسلام، فأنزل الله عليه الإنجيل فكان فيه تخفيف لبعض الأحكام، وتحليل لبعض المحرمات كما يقول الله تعالى: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50] وكان الأنبياء قبل كلفوا بالعمل بالتوراة، أنبياء بني إسرائيل داوود، وسليمان، وزكريا، ويحيى.
وهذه القصة فيها هؤلاء الملأ من بني إسرائيل {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246] لأنهم أُخرِجوا من ديارهم، واستُلِب ملكهم، واستولى عليه الظلمة وهم يريدون أن يستردوا ملكهم وأموالهم، وهذا النبي قيل له: شمويل، وقيل: غيره، فقالوا للنبي: ابعث لنا ملكًا نقاتل في سبيل الله، اسأل ربك يولي علينا ملكًا يخبرنا مَن هذا الملك حتى نكون تحت رايته، ونقاتل في سبيل الله، فيه دليل على أن الجهاد في سبيل الله مشروع للأمم السابقة، فقال لهم نبيهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} قال: أخشى أنكم لا تمتثلوا إن كتب الله عليكم القتال، وعيّن لكم ملكًا لعلكم تمتنعوا، قالوا: لا كيف نمتنع، ونحن مظلومون، وأُخرجنا من ديارنا وأبنائنا، كيف لا نقاتل في سبيل الله؟ {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} قال الله: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} الأكثر نكلوا، وامتنعوا ولم يفوا بما وعدوا، ولم يصبر إلا القليل.
وهذا فيه: دليل على أن الأنبياء في بني إسرائيل كلما هلك نبي خَلَفَهُ نبي، وأن الله تعالى يبعث الأنبياء في بني إسرائيل يُقيموا للناس دينهم، وليأمروهم بالعمل بالتوراة، وبعدما بعث نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ختمت النبوة، والرسالة بنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فليس بعده نبي، لكن صار العلماء بعده دعاة يجددون الدين فهم بمثابة أنبياء بني إسرائيل.
وفي هذه القصة أن هؤلاء ظلِموا بسبب ذنوبهم وعصيانهم، سلط الله عليهم مَن سلب ملكهم، ثم بعث الله هذا النبي سألوه أن يجعل لهم ملكًا فعيّن لهم ملكًا؛ ولكنهم لم يفوا، ولم يفِ إلا القليل.
وفيه: دليل أن الكثرة هي الهالكة وأن الصابرين قليلون، وأن المؤمنين قليلون كما قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] بعد هذه الآيات تأتي تفاصيل القصة.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم}.
أي: لما طلبوا من نبيهم أن يعين لهم ملكًا منهم فعين لهم طالوت وكان رجلًا من أجنادهم ولم يكن من بيت المُلك فيهم؛ لأن المُلك فيهم كان في سبط يهوذا، ولم يكن هذا من ذلك السبط فلهذا قالوا: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} أي: كيف يكون ملكًا علينا {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ} أي: هو مع هذا فقير لا مال له يقوم بالملك، وقد ذكر بعضهم أنه كان سقاء وقيل: دباغًا.
وهذا اعتراض منهم على نبيهم وتعنت وكان الأولى بهم طاعة وقول معروف ثم قد أجابهم النبي قائلًا {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} أي: اختاره لكم من بينكم والله أعلم به منكم. يقول: لست أنا الذي عينته من تلقاء نفسي بل الله أمرني به لما طلبتم مني ذلك {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} أي: وهو مع هذا أعلم منكم، وأنبل وأشكل منكم وأشد قوة وصبرًا في الحرب ومعرفة بها أي: أتم علمًا وقامة منكم. ومن هاهنا ينبغي أن يكون الملك ذا علم وشكل حسن وقوة شديدة في بدنه ونفسه ثم قال: {وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء} أي: هو الحاكم الذي ما شاء فعل ولا يُسأل عما يفعل وهم يسألون لعلمه وحكمته ورأفته بخلقه؛ ولهذا قال: {وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم} أي: هو واسع الفضل يختص برحمته من يشاء عليم بمن يستحق الملك ممن لا يستحقه.
(التفسير)
هذه الآية فيها تعنت بني إسرائيل، وهم معروفون بالتعنت والاعتراض على الأنبياء، والاعتراض على الله، لما عيّن لهم هذا النبي الملك كما طلبوا اعترضوا على الله {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة:247] أي: ها أنتم طلبتم تعيين الملك الذي تقاتلون تحت رايته فهذا هو الملك طالوت، فاعترضوا على الله وقالوا: كيف يكون طالوت ملكًا، وطالوت ليس عنده مؤهلات الملك؟ فلم يكن في السبط الذي فيه الملك، السبط: أي القبيلة؛ لأن بني إسرائيل تسمى الأسباط، والعرب قبائل، فكانت النبوة في سبط، والملك في سبط من أسباط بني إسرائيل أي: هناك قبيلة معروفة يكون فيها الأنبياء، وقبيلة معروفة فيها الملوك، وطالوت هذا ليس في القبيلة التي يكون منها الملوك ، ولهذا اعترضوا {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} هكذا يقولون لنبيهم ولربهم، والعياذ بالله، وهذا اعتراض، وهم معروفون بالتعنت والعناد، قالوا: أنَّى . وهذا اعتراض على الله . يعني كيف يكون له الملك علينا، ونحن أحق بالملك منه، ولم يؤت سعة من المال، فهو فقير وليس في السبط الذي يكون منه الملوك، كيف يكون ملكًا علينا؟ .
{قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] أي أن الله هو الذي اختاره واختصه، وفضله عليكم وهو أفضل منكم على كل حال؛ لأن الله اصطفاه وأيضًا زاده بسطة في العلم والجسم، وقد أعطاه الله من العلم والإدراك والحنكة والقدرة على السياسة؛ وقيادة الجيش ما لم يكن عندكم، وكذلك أيضًا أعطاه بسطة في القامة والجسم.
وهذه مؤهلات الملك يكون عنده علم وقوة وقدرة على إدارة الملك وسياسة الناس، ولهذا كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قدّر الله لكل نبي أن يرعى الغنم، يسوسُها قال العلماء: هذا تمرين وتدريب ينتقل من سياسة الغنم إلى سياسة الأمم والدول، ولهذا جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الغَنَمَ»، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ»([2]) موسى رعى الغنم وهكذا، قال العلماء: هذا تمرين وتدريب ينتقل من سياسة الغنم إلى سياسة الأمم والدول.
ولهذا قال الله لهم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:247] أي وفق حكمته سبحانه وتعالى فهو حكيم يضع الأمور في مواضعها {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
في هذه الآيات: تعنت بني إسرائيل واعتراضهم على أنبيائهم، وفيه التحذير من فعلهم فهذه الحكاية قصها الله علينا لأخذ العبرة، والنظر، ففيها عبرة وعظة لنا؛ لأنه لا يجوز الاعتراض على شرع الله، ولا على حكمه، ولا على أنبيائه، بل يجب التسليم لشرع الله ودينه، ولأوامره ونواهيه، واعتقاد أنها خيرٌ، ورحمة، ولا يجوز للإنسان أن يعترض على حكم الله، ولا على شريعته، قد يصل إلى الكفر وإلى الردة إن اعترض على الله واعترض على شرعه ودينه، بل يجب التسليم لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- ويمتثل لحكم الله ولشرعه ودينه؛ لأن الله أعلم حيث يختار {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} فيه أن الملك، وكذلك المال، وكذلك الجاه، والسلطان هبة من الله، تقدير من الله وفق حكمته وله الحكمة البالغة، فهو بصير بعباده قدّر أن يكون هذا ملكًا، وهذا يكون أميرًا، وهذا وزير، وهذا فقير، وهذا غني، وهذا صعلوك، وهذا عالم، وهذا جاهل.. فله حكمة بالغة سبحانه وتعالى.
قال: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} وفي الآية الأخرى يقول الله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26] ينزع الملك في لحظة من هذا، ويعطيه لهذا، وله الحكمة البالغة.
قالت بعض بنات ملوك العرب: كنا في أول النهار، وليس أحد في الأرض إلا وهو يحسدنا، وما أمسينا إلا وما في الأرض أحد إلا وهو يرحمنا.
أرادت أنهم كانوا في الصباح ملوكًا يحسدونهم على الملك، وفي آخر النهار سُلِب ملكهم فصار الناس يرحمونهم، صرن يطفن في الأسواق يسألن، وفي أول النهار كنّ ملكات يحسدهنّ الناس ويغبطونهنّ ويخشونهنّ، فلما سُلِب ملكهنّ صار الناس يرحمونهنّ، هكذا الدنيا دول .
{وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ينزع الملك ممن يشاء، ويعز مَن يشاء، ويذل مَن يشاء، يبسط الرزق لمَن يشاء، ويقدر الرزق على مَن يشاء، له الحكمة البالغة، {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:83]خلافًا للجبرية الذين ينفون الحكمة، ويقولون بأن المشيئة الإلهية تخبط خبط عشواء، فتفرق بين المتماثلات، وتجمع بين المختلفات، وليس هناك حكمة ولا علة. نسأل الله السلامة، هذا قول أهل البدع من الجبرية وغيرهم ينفون حكمة الله، وهذا من جهلهم وضلالهم وانحرافهم.
وقد دلت النصوص على إثبات الحِكم والعلل والأسباب والغرائز {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:83] {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} [الإسراء:59] هذا الحكمة والأسباب {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال:11] {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8]، وفيه سعة علم الله وأن الله سبحانه وتعالى واسع عليم، يحيط علمه بكل شيء.
والإنسان عليه أن يفعل الأسباب المشروعة والجائزة، عليه أن يفعلها ولا يُعطل الأسباب، ولكن بعد أن يفعل الأسباب يتوكل على الله في حصول النتيجة، فإذا كان له أرض يبذرها ويزرعها، ثم يتوكل على الله في حصول النتيجة، يبذل الجهد في طلب العلم، يبذل الجهد في طلب الرزق، ويسعى، فيفعل الأسباب المشروعة، ثم يتوكل على الله.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} يقول لهم نبيهم: إن علامة بركة ملك طالوت عليكم أن يرد الله عليكم التابوت الذي كان أخذ منكم.
{فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} قيل: معناه وقار وجلالة.
قال عبد الرزاق عن مَعْمَر عن قتادة {فِيهِ سَكِينَةٌ} أي: وقار. وقال الربيع: رحمة. وكذا روي عن العوفي عن ابن عباس.
وقوله: {وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} روى ابن جرير: عن ابن عباس في هذه الآية: {وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} قال: عصاه ورضاض الألواح. وكذا قال قتادة والسدي والربيع بن أنس وعكرمة وزاد: والتوراة.
وقال عبد الرزاق: سألت الثوري عن قوله: {وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} فقال: منهم من يقول قفيز من مَنٍّ([3]) ورضاض الألواح. ومنهم من يقول: العصا والنعلان.
وقوله: {تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ} قال ابن جريج: قال ابن عباس: جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت، والناس ينظرون.
قال السدي: أصبح التابوت في دار طالوت فآمنوا بنبوة شمعون وأطاعوا طالوت.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ} أي: على صدقي فيما جئتكم به من النبوة، وفيما أمرتكم به من طاعة طالوت: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} أي: بالله واليوم الآخر.
(التفسير)
هذه الآية علامة على صدق هذا النبي فيما اختاره لهم من الملك، قال: إن آية ملكه أي: علامة ملكه طالوت {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} [البقرة:248] والتابوت سُلِب منهم لما ضيعوا أمر الله سُلِط عليهم بعض الظلمة فسلبوا منهم هذا التابوت، التابوت من عهد موسى كان فيه التوراة، وفيه كذا، {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} الذي فقدتموه {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} سكينة وجلالة {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} والله أعلم بهذه البقية، منهم مَن قال: العصا، أو النعلان أو شيء من التوراة، أو رضاض الألواح التي أوتي موسى والله أعلم، بقية {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} وهذا التابوت أيضًا الذي سلب منكم فصار عنده إما كان في بيت طالوت، أو إنها نزلت به الملائكة، المهم وجدوا هذا التابوت، فصار علامة على صدقه.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} يعني إن كنتم مؤمنين حقًا، فهذه آية ودلالة على صدق نبوة نبيكم، وهذا شرط إن كنتم مؤمنين هذه علامة لكم، فصدقوا فإن لم يصدقوا فليسوا بمؤمنين.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِين}
يقول تعالى مخبرًا عن طالوت ملك بني إسرائيل حين خرج في جنوده ومن أطاعه من ملأ بني إسرائيل وكان جيشه يومئذ فيما ذكره السدي ثمانين ألفًا فالله أعلم، أنه قال: {إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم} أي: مختبركم بنهر. قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: وهو نهر بين الأردن وفلسطين يعني: نهر الشريعة المشهور {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} أي: فلا يصحبني اليوم في هذا الوجه {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} أي: فلا بأس عليه قال الله تعالى {فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} قال ابن جريج: قال ابن عباس: من اغترف منه بيده روي، ومن شرب منه لم يرو.
وقد روى ابن جرير عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر، وما جازه معه إلا مؤمن. ورواه البخاري بنحوه.
ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} أي: استقلوا أنفسهم عن لقاء عدوهم لكثرتهم فشجعهم علماؤهم العالمون بأن وعد الله حق فإن النصر من عند الله ليس عن كثرة عَدد ولا عُدد. ولهذا قالوا: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِين}.
(التفسير)
في هذه الآية الكريمة: أن بني إسرائيل أذعنوا بعد ذلك وقبلوا ملك طالوت وخضعوا له وسار الجيش معه لقتال عدوهم جالوت ومَن معه، فابتلاهم الله قبل أن يلقوا عدوهم بنهر على سبيل الاختبار قال لهم طالوت: إن الله مبتليكم بنهر {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} [البقرة:249] لما سار بهم {قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} ستمرون بنهر، وهو نهر الأردن بين الأردن وفلسطين {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} . قال لهم: لا تشربوا، فالذي يشرب لا يكون معي، ولا يكون من الجيش، بل يطرد من الجيش، والذي لا يشرب يتبيّن صبره وتحمله فكونه يصبر على الماء يفيد بأنه يصبر في الحرب، ويتحمل، والذي لا يصبر ولا يملك نفسه عن شرب الماء لا يكون له صبر في الحرب.
وقد استثنى الله قال: {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} غرفة واحدة لا بأس بها، فلما مروا بالجيش شرب أكثرهم {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا} ما بقي إلا قليل وأكثرهم شربوا، قال بعضهم: كانوا ثمانين ألفًا، ولم يبق إلا ثلاثمائة وبضعة عشر، وهذا فيه دليل على أن الصبر قليل وأن كثيرًا منهم قليل الصبر والتحمل والصبر على أوامر الله، والصبر عن نواهي الله، قليلٌ في الناس، فالكثير شربوا ولم يكبحوا جماح نفوسهم، ولم يصبروا ولم يتحملوا، فمنعهم طالوت، وقال: الذين شربوا لا يخرجون معي، ولا يبقى إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر، وقيل: بضعة عشر، على عدد أهل بدر الذين قاتلوا المشركين ثلاثمائة وبضعة عشر كما في البخاري إن عدة أهل بدر عدة جيش طالوت([4])، فجاز بهؤلاء الذين صبروا وتحملوا ولم يشربوا من النهر إلا غرفة، فلما جاز بهم النهر ورأوا عدوهم، أرهبهم عدوهم صار عندهم رهبة واستقلوا أنفسهم وقالوا: كيف نقاتل هذا العدو الكثير نحن عددنا قليل، ثلاثمائة وثلاثة عشر، والعدو معه عُدة وعُدد؟! فشجعهم العلماء وأهل التقوى وبينوا لهم أن النصر من عند الله ليس بالعَدد، والعُدد.
{قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ} يعني يتيقنون، الظن بمعنى اليقين ، الظن يأتي بمعنى اليقين لأن مَن شك في لقاء الله فهو كافر، فليس المراد هنا الشك؛ لأن الظن يأتي بمعنى اليقين كما ههنا {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ} أي: تيقنوا أنهم ملاقوه.
{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} كم للتكثير، يعني أن كثيرًا من الفئات القليلة غلبت فئة كثيرة؛ لأن النصر من عند الله.
وأهل بدر كم عددهم؟ ثلاثمائة وثلاثة عشر، والمشركون ألف وزيادة معهم عَدد وعُدد، والمسلمون ليس معهم دواب بل يتعاقبون كل ثلاثة يتعاقبون على جمل ومعهم فرس، أو فرسان، فالنصر من عند الله.
قال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} يعني حثهم على الصبر، فاصبروا فالله مع الصابرين، ففيه صفة المعية لله والمعية توفيق وتسديد وتأييد، فالمعية معيتان: معية عامة: للمؤمن والكافر، فالله مع الجميع بإحاطته واطلاعه وسمعه وبصره ونفوذ قدرته ومشيئته، لا تخفى عليه شيء من عباده. والله مع الصابرين ومع المؤمنين بعونه وتأييده وتوفيقه وتسديده، والله مع الصابرين.
وفيه دليل على أن أكثر الناس ليس عندهم صبر، ولا تحمل على أوامر الله، وفيه أن القلة هي الصابرة، وفيه أن الله ينصر القلة القليلة على الكثرة الكثيرة، وأن هذا يقع كثيرًا، وفيه إثبات معية الله للصابرين.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى : {وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِين تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين}
أي: لما واجه حزب الإيمان - وهم قليل - من أصحاب طالوت لعدوهم أصحاب جالوت -وهم عدد كثير-{قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} من عندك أي: أنزل علينا صبرًا من عندك {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} أي: في لقاء الأعداء وجنبنا الفرار والعجز {وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين}.
قال الله تعالى: {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ} أي: غلبوهم وقهروهم بنصر الله لهم {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} ذكروا في الإسرائيليات: أنه قتله بمقلاع كان في يده رماه به فأصابه فقتله، وكان طالوت قد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته ويشاطره نعمته ويشركه في أمره، فوفى له ثم آل الملك إلى داود عليه السلام مع ما منحه الله به من النبوة العظيمة؛ ولهذا قال تعالى: {وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ} الذي كان بيد طالوت {وَالْحِكْمَةَ} أي: النبوة بعد شمويل {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء} أي: مما يشاء الله من العلم الذي اختصه به صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} أي: لولا الله يدفع عن قوم بآخرين، كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة داود لهلكوا كما قال تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} الآية [الحج:40].
وقوله: {وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِين} أي: مَنٌّ عليهم ورحمة بهم، يدفع عنهم ببعضهم بعضا وله الحكم والحكمة والحجة على خلقه في جميع أفعاله وأقواله.
ثم قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين} أي: هذه آيات الله التي قصصناها عليك من أمر الذين ذكرناهم بالحق أي: بالواقع الذي كان عليه الأمر، المطابق لما بأيدي أهل الكتاب من الحق الذي يعلمه علماء بني إسرائيل {وَإِنَّكَ} يا محمد {لَمِنَ الْمُرْسَلِين} وهذا توكيد وتوطئة للقسم.
(التفسير)
هذه الآيات فيها: بيان النتيجة للجهاد وأن العاقبة الحميدة للمؤمنين، لإيمانهم وصبرهم وثباتهم وتضرعهم ودعائهم لله -عز وجل-، بيّن الله تعالى في هذه الآيات الكريمات أنه لما تبارز الجمعان، والتقى الجمعان دعا طالوت والمؤمنون الله تبارك وتعالى، وتضرعوا إليه وسألوه أن يصبرهم، وأن يُثبت أقدامهم، وأن ينزل عليهم الصبر لئلا يفروا، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بدر اسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ»، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ ([5]).
هكذا المؤمن يجمع بين القوة الروحية والقوة الجسمية يأخذ السلاح، يعدّ السلاح، والعُدة، ويُقدم ويصبر ويصابر ويتضرع إلى الله ويسأل الله النصر، والعون، يجمع بين الأمرين، أسباب مادية يفعلها وكذلك الدعاء والتضرع إلى الله، واستنزال النصر من عنده سبحانه وتعالى، لهذا قال: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:250] لما برز المؤمنون طالوت ومَن معه من المؤمنين دعوا الله {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} فاستجاب الله دعاءهم ونصرهم على عدوهم، ولهذا قال الله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:251] هزم المؤمنون الكفار، هزموهم بإذن الله بتقديره.
والإذن نوعان: إذن تقديري، وإذن شرعي هزموهم بإذن الله (تقديري) {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} وكان داوود في جيش طالوت كان صغيرًا آنذاك يقال: طالوت وعده بأنه إذا قتل جالوت أن يزوجه ابنته، وأن يشركه في الملك، فقتل داوود جالوت قائد الكفرة {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} آل الملك أو النبوة إليه، آلت النبوة إليه بعد نبيهم شمويل، وآل الملك إليه بعد طالوت جمع الله له بين الملك والنبوة {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} .
ومن ذلك أن الله علمه صنعة الدروع قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء:80] كان داوود عليه السلام أتاه الله الملك والنبوة، وأعطاه الله قوة في العبادة، اشتهر بالصلاة والصيام والجهاد وهو نبي وملك، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا»([6]) فكان ينام نصف الليل، ونحن الآن ننام لآخر الليل، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى العشاء أوى إلى فراشه، عكس ما نحن عليه الآن.
كان نبي الله داوود ينام نصف الليل، ثم يقوم ثلثه السدس الرابع والخامس، ثم ينام السدس السادس حتى يستعين على عمل النهار؛ لأنه حاكم وقاض وملك يحكم بين الناس، فهو يستعين بالنوم في السدس الأخير على عمل النهار، هذا أفضل، فأفضل الصلاة صلاة داوود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه.
وفي الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي، فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ "([7]) .
وثلث الليل هو السدس الخامس والسادس، وعلى هذا فيكون النصف الأخير ثلاثة أسداس، السدس الرابع والخامس والسادس كله فاضل، السدس الرابع والسدس الخامس هذا قيام داوود، والثلث السادس والخامس هذا ثلث الليل، وقت التنزل الإلهي، ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا، فيكون النصف الأخير أفضل من النصف الأول، النصف الأخير كله فاضل، الثلث الرابع والخامس والسادس، وكان داوود عليه السلام في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان البخاري ومسلم: "أفضل الصلاة صلاة داوود، وأفضل الصيام صيام داوود كان يصوم يومًا ويفطر يومًا"([8])، مع أنه نبي وملك يفطر يومًا، ويصوم يومًا، مدى الدهر يصوم يوما ويفطر يوما، وفي الليل ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وفي الجهاد كان لا يفر إذا لاقى.
انظروا هذا النبي وهذا الملك، اشتهر بالصلاة، والصيام، والجهاد وكان يصنع الدروع، بيده {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ} [الأنبياء:80] ، وهو قاض يحكم بين الناس ما عنده وقت ولا عنده فراغ وكثير من الناس أوقاتهم كلها ضائعة.
لما قتل جالوت أعطاه الله الملك والحكمة، ورث الملك من طالوت، وورث النبوة من شمويل صار نبيًا بعده، وصار ملكًا بعد طالوت، ولهذا قال سبحانه: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} الحكمة: النبوة .
{وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} هذه سنة التدافع، يدفع هؤلاء بهؤلاء حكمة فالله تعالى دفع شر جالوت وهؤلاء الكفرة بالمؤمنين، طالوت دفع شرهم وإلا لو استولى الكفرة على المؤمنين لأبادوهم وانتهى الإيمان، لكن حكمة وسنة التدافع يدفع هؤلاء بهؤلاء .
{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} ولكن تفسد الأرض لولا الجهاد؛ ما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذلوا، ومَن لم يغز غُزِي، فالكفرة إذا لم يُغزوا غَزوا كما هو الحال الآن أن الكفرة هم الذين يغزون المسلمين، والذين يغزون المسلمين غزوهم في عقر دارهم، مَن ترك الجهاد ذل، ومَن لم يغز غُزِي، {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} باستيلاء الكفرة، وقضائهم على المسلمين.
{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} ومن فضله وإحسانه أن يُهيئ المؤمنين ويوفقهم ويُسددهم ويقوي إيمانهم حتى يقاتلوا الكفرة حتى لا يفسدوا في الأرض {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}.
ثم قال الله لنبيهم محمد -صلى الله عليه وسلم-: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة:252] هذه القصة واقع نتلوها عليك بالحق كأنك تشاهد عيان هذا هو الحق، هذه القصة التي سمعتها واقعة {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} تأكيد مقسوم القسم، فهو عليه الصلاة والسلام من المرسلين وهو أفضلهم وآخرهم وخاتمهم عليه الصلاة والسلام.
وكان نوح نجارًا، وكان داوود حدادًا، ونبينا يرعى الغنم، وموسى يرعى الغنم فكان بيدهم صنعة، وفيه دليل على أن الحرف ليس فيها عيب، بعض الناس يظن أن الحِرف فيها عيب، بل العيب في البطالة.
([1]) قال الشارح حفظه الله: سمع الله دعائي: يعني استجاب، مثل سمع الله لمَن حمده يعني: استجاب، استجاب الدعاء.
([2]) صحيح البخاري (2262).
([3]) قال الشارح حفظه الله: المنّ والسلوى الذي نزل عليهم، المنّ مثل العسل ينزل على الأشجار، والسلوى طائر.
([4]) ينظر صحيح البخاري (3958 و3959) وتفسير الطبري (4/489 و 491) وتفسير ابن أبي حاتم (2522).
([5]) صحيح مسلم (1763).
([6]) صحيح البخاري (1131) وصحيح مسلم (1159).
([7]) صحيح البخاري (1145) وصحيح مسلم (758) .
([8]) صحيح البخاري (1131) وصحيح مسلم (1159).