** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
يقول الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد}
[تفضيل بعض الأنبياء على بعض]
يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض كما قال: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [الإسراء:55] وقال هاهنا: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ} يعني: موسى ومحمدًا صلى الله عليه وسلم وكذلك آدم، كما ورد به الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} كما ثبت في حديث الإسراء حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء في السموات بحسب تفاوت منازلهم عند الله عز وجل.
فإن قيل: فما الجمع بين هذه الآية وبين الحديث الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودي في قسم يقسمه: لا والذي اصطفى موسى على العالمين.
فرفع المسلم يده فلطم بها وجه اليهودي فقال: أي خبيث؟ وعلى محمد صلى الله عليه وسلم! فجاء اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتكى على المسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تفضلوني على الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشًا بقائمة العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟ فلا تفضلوني على الأنبياء» وفي رواية: «لا تفضلوا بين الأنبياء»([1]).
فالجواب: أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر.
وأن مقام التفضيل ليس إليكم وإنما هو إلى الله عز وجل وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به.
وقوله: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} أي: الحجج والدلائل القاطعات على صحة ما جاء بني إسرائيل به، من أنه عبد الله ورسوله إليهم {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} يعني: أن الله أيده بجبريل عليه السلام ثم قال تعالى: {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ} أي: بل كل ذلك عن قضاء الله وقدره؛ ولهذا قال: {وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد}.
(التفسير)
هذه الآية الكريمة فيها: بيان من الله -عز وجل- أن الرسل يتفاضلون، قال سبحانه:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253] كما قال في الآية الأخرى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [الإسراء:55] فالتفضيل بين الأنبياء واقع ولهذا قال سبحانه: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253].
وأما ما ورد فيه النهي عن التفضيل، قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون» فهذا محمول على النهي عن التفضيل على سبيل العصبية والحمية عند التخاصم فهذا منهيّ عنه، ولهذا قال: «لا تفضلوني على الأنبياء» وفي رواية أخرى قال: «لا تخيروا فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول مَن يفيق» فهذه الصعقة إذا صعقة ثالثة، صعقة الموت في آخر الدنيا وهي نفخة يطولها إسرافيل، فيفزع الناس فلا يسمع أحدٌ الصوت إلا مات، وهي المذكورة في قوله تعالى في سورة النمل: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [النمل:87] ثم لا يزال الصوت يقوى ويقوى حتى يصعق الناس ويموتون، وهي الصعقة المذكورة في سورة الزمر في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر:68]، ثم يمكث الناس أربعين وينبتون وينزل الله مطرًا تنبت به أجساد الناس، وجسد بني آدم يبلى كله إلا عظم الذنب وهو العصعص عظمٌ صغير آخر العمود الفقري، في الحديث: «كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب»([2]) فهذا لا يبلى يعيده الله خلقًا جديدًا، لأنه قادر وعالم {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:4] .
ثم إذا تم خلقهم ونشئوا تنشئة قوية أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور نفخة الحياة، نفخة البعث، إذا نفخ نفخة البعث تطايرت الأرواح إلى أجسادها ودخلت كل روح في جسدها؛ لأن الأرواح لا تبلى، فالأرواح لا تموت إذا مات الإنسان نقلت روحه إلى الجنة ولا صلة بالجسد المؤمن، وإذا مات الكافر نقلت روحه إلى النار ولا صلة بالجسد، والجسد يبلى والروح باقية في عذاب أو في نعيم، والجسد ينال ما قُدر له مع الروح، تنعم الروح مفردة ومتصلة بالجسد وكذلك تعذب، فإذا بعث الله الأجساد وأذن لإسرافيل في نفخ الصور نفخة البعث تطايرت الأرواح ودخلت كل روح في جسدها فقام الناس من قبورهم، يزيلون التراب عن رؤوسهم حفاة بلا نعال، عراة لا ثياب عليهم، غرلًا غير مختونين، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104] يقفون بين الناس العراة قالت عائشة: «يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: الأمر أهم من ذلك»([3])، كلٌ تهمه نفسه لا ينظر أحد على أحد، فالمقام ليس مقام نظر، بل هو مقام رعب وفزع كلٌ خائف تهمه نفسه.
{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] يشيب فيه الولدان، فليس هو مقام نظر بل كلٌ مشغول بنفسه، والإنسان في الدنيا إذا أهمه شيء، وإذا صار مشغولا بشيء لا ينظر إلى مَن أمامه ولا يدري، تجد بعض الناس مهموما، يمرّ عليك وهو مهموم مشغول بأمر يفكر فيه حتى إذا سلم عليه أحمد لا يلتفت إليه، ثم إذا وقف الناس للحساب، فأول من يكسى إبراهيم عليه السلام كما جاء في الحديث، فإذا جاء الله لفصل القضاء صعق الناس صعقة كما في الحديث: «إن الناس يصعقون يوم القيامة» أما الصعقة الأولى صعقة الموت.
والصعقة الثانية: صعقة البعث، وهذه صعقة في موقف يوم القيامة سببها تجلي الله لفصل القضاء، إن الناس يصعقون يوم القيامة: يغشى عليهم، مَن أول مَن يفيق؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أكون أول من يفيق، فأجد موسى أخذًا بقائمة من قوائم العرش» هذه منقبة لموسى قال: «فلا أدري هل أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟»([4]) هل أفاق قبلي: هذه منقبة لموسى، أو أنه لم يصعق مجازاة له بصعقته بالطور، ينصعق يوم الطور {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا}[الأعراف:143] هذه صعقة الدنيا جوزي بها بصعقة يوم القيامة، فنبينا صلى الله عليه وسلم قال: أول مَن يفيق أنا، وأجد موسى باقي ليس عنده صعق، فهل أنه لم يصعق وجوزي له بصعقة الطور أو أنه صعق فأفاق قبلي، وفي كلا الحالتين منقبة لموسى، لكن المنقبة الخاصة لا تكن لا تقضي على المنقبة العامة.
فهذه الصعقة في موقف يوم القيامة سببها التجلي، الصعقة الأولى: صعقة الموت سببها قيام الساعة وخراب العالم وخلوه من التوحيد والإيمان، والصعقة الثانية: صعقة البعث، والثالثة: صعقة لتجلي الله لفصل القضاء، قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ}[البقرة:253] وهما: موسى ومحمد، موسى كلمه الله {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] من دون واسطة، سمع كلام الله فلما سمع كلام الله طمع في أن يرى الله فقال: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، لن تستطيع في الدنيا بمشاهدتك الضعيفة أن تتحمل، ولكن الجبل هل يثبت؟ لما تجلى الله للجبل ماذا حصل للجبل؟ قال بعض السلف: تجلى الله له يعني كشف له الحجاب بقدر خنصر، فانساخ الجبل وتدكدك ولم يثبت لرؤية الله، وأما موسى ماذا حصل له؟ صعق، وغشي عليه، فلما أفاق قال: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} إنه لا يراك أحد في الدنيا إلا مات، ولا جبل إلا تدكدك، فموسى كلمه الله، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج شارك نبينا موسى في التكليم كما أنه شارك إبراهيم في الخلة، فنبينا محمد خليل الله وكليم الله، {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} وهم: محمد وموسى وكذلك أيوب، ناداه الله كما في الحديث الذي رواه البخاري: «بينما أيوب عليه السلام يغتسل عريانًا فخر عليه جراد من ذهب، فجعل يحثو فناداه الله: يا أيوب ألم أكن غنيتك عن هذا؟ قال: بلى ولكن لا أغنى لي عن بركتك»([5]) .
وكذلك آدم ناداه الله وكلمه، ويوم القيامة يكلمه يقول: «يا آدم أخرج بعث النار، فيقول: من كم؟، فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعٌ وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة»([6])، ونادى الله الأبوين.
{مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} وهذه مزية {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} لما عرِج بنبينا صلى الله عليه وسلم في المعراج رأى يحيى وعيسى في السماء الثانية، ورأى إدريس في السماء الثالثة، ورأى يوسف في السماء الرابعة، ورأى هارون في السماء الخامسة، ورأى موسى في السماء السادسة، ورأى إبراهيم في السماء السابعة، رآه مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، وهي كعبة سماوية، في السماء السابعة يدخلها كل يوم ويطوفون والطواف هو الصلاة سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليها آخر الدهر لكثرة الملائكة، كل يوم سبعون ألف ولا يصلهم الدور إلى يوم القيامة من كثرة الملائكة، وهذه الكعبة السماوية (البيت المعمور) تحاذي الكعبة الأرضية، لو سقط لسقط على الكعبة الأرضية، إبراهيم بنى الكعبة الأرضية فأسند ظهر إلى الكعبة السماوية في البيت المعمور، والبيت المعمور في السماء السابعة، {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} إبراهيم في السماء السابعة، ونبينا صلى الله عليه وسلم تجاوز جده إبراهيم، حتى وصل إلى مكان يسمع فيه صوت صريف الأقلام (أقلام القدر) وسمع كلام الله كلمه الله بدون واسطة، لكنه لم ير ربه على الصحيح.
اختلفوا في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج على قولين:
القول الأول: أنه رآه ببصره، وهذا قولٌ ضعيف مرجوح.
والقول الثاني: رآه بعين قلبه، وهذا هو الصواب، أنه لم ير ربه ببصره. ولهذا قالت عائشة لمسروق لما سأل: هل رأى محمد ربه؟ قالت: «لقد قف شعري مما قلت، ثم قلت: مَن حدثك أن محمد رأى ربه فقد كذب»([7]) .
وهناك آثار كثيرة عن السلف في إثبات الرؤية، وبعضها في نفي الرؤية، روي عن ابن عباس أنه رأى ربه، وروي عن أنه رآه بفؤاده، والجمع بينهما أن الرؤية المطلقة تحمل على المقيدة، يعني رآه بفؤاده فيحمل المطلق والمقيد، ويجمع بين الآثار التي فيها أن النبي رأى ربه محمولة على رؤية الفؤاد، والآثار التي فيها نفي الرؤية محمولة على رؤية البصر، وهذا هو الصواب أن النبي لم ير ربه، ويدل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه لحديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رؤيَّ قال: هل رأيت ربك؟ قال: «رأيت نوره» وفي لفظ أخر: «نور أنى أراه»([8]) يعني النور حجابه يمنعه من رؤيته، وفي حديث أبي موسى في صحيح مسلم: «أن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»([9]) لو كشف الحجاب احترق الخلق، ومحمد خلقه ليس خارجًا من خلقه ولأن الرؤية نعيم، رؤية الله نعيم ادخره الله لأهل الجنة، ومحمد في الدنيا لا يرى نعيم ادخره الله لأهل الجنة، بل أعظم نعيم في الجنة هو رؤية الله -عز وجل- نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منه.
فقوله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} يشمل إبراهيم، ويشمل محمد عليه الصلاة والسلام، وكذلك موسى، وأيوب، وآدم {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} الحجج الواضحات على نبوته بها أنه يبرء الأكمه والأبرص بإذن الله، يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، كل نبي أعطاه الله من المعجزات ما برز به قومه.
فالقوم في زمن عيسى برزوا في الطب، وصلوا إلى شأن بعيد في الطب فأعطى الله عيسى من الآيات الباهرة ما فاق الأطباء، يبرئ الأكمه والأبرص فالأكمه الذي يولد وليس له عينان ما شق له عينان فيُبرئه عيسى بإذن الله، هذا ما يستطيعه الأطباء، ويبرئ الأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير يعني يصنع هيئة الطير، من الطين طير ثم ينفخ فيه فيخلق الله فيصير طيرًا بإذن الله، مَن يستطيع هذا؟ ما يستطيعه أحد، فاق الأطباء، فعرفوا أن هذا من عند الله، والناس في زمن موسى فاقوا في السحر وبلغوا شأنًا بعيدًا في السحر، حتى وصلوا إلى شأنٍ بعيد، فأعطى الله موسى الحية، فالعصا صارت حية، ولهذا لما اجتمع السحرة كل ساحرٍ عليم يُبرز، جمعوا جميع مملكة فرعون جُمِعوا لمناظرة موسى، وملئوا الصحراء الواسعة عصًا وحبالًا تتلوى، صارت كلها تتلوى في الزئبق كله حية وعقارب، حتى خاف الناس حتى موسى وجد في نفسه خيفة فقال الله: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:68] أعطاه الله العصا، إذا وضعها في الأرض صارت حية، وإذا أخذها صارت عصا، قال الله: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:68] {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} [طه:69] فلما ألقى العصا ابتلعت جميع ما في الوادي، كله ابتلعت ولحقته، فلما رأى السحرة علموا أن هذا من عند الله فخروا لله سجدًا {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70] توعدهم فرعون بأن يقطع أيديهم وأرجلهم، قيل إنه فعل ذلك، قالوا: لا نبالي لك، مهما تصنع بنا فالنهاية الموت، ونحن عرفنا الحق، اصنع بنا ما تريد، اقضِ ما أنت قاض إنما تقضي الحياة الدنيا، فقيل: إنه في أول النهار كانوا سحرة كفرة فجرة، وفي آخر النهار شهداء بررة، عرفوا أن هذا الاسم من عند الله.
{مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} فيه إثبات المشيئة والإرادة لله -عز وجل- وأنه لا يقع شيء في هذا الكون إلا بمشيئة الله وإرادته.
وفيه إثبات القضاء والقدر وأن ما قضاه الله وقدره لابد أن يحصل، ولا يمكن أن يتخلف، فالقضاء والقدر أصل من أصول الإيمان فلابد من الإيمان به، ومَن لم يؤمن بقضاء الله وقدره فليس بمؤمن، لتعلم أن ما أصابك لم يكن ليُخطئك، وما أخطأك لم يكن يُصيبك، تؤمن بعلم الله الأزلي وكتابته للأجل في اللوح المحفوظ وإرادته ومشيئته لكل الموجودات، لكل ما يحصل ويحدث، وتؤمن أن الله خالق لكل شيء، ومميت لكل شيء.
وهذه الآية الكريمة فيها: إثبات الرسل وأن الله أرسل للناس رسلًا في فضل الله وإحسانه إلى عباده حيث أرسل إليهم الرسل ليُبيّن لهم طريق النجاة والسعادة، ويحذرهم من طريق الشقاوة.
وفيه: دليل على أن الرسل يفضل بعضهم بعضًا فأفضل الرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثم يليه جده إبراهيم ثم يليه موسى ثم بقية أولي العزم الخمسة عيسى ونوح ثم بقية الرسل ثم بقية الأنبياء ثم الصديقون.
ومقدمهم الصديق الأكبر أبو بكر، وسمي صديقا؛ لأن قوة إيمانه وتصديقه يحرق الشبهات والشهوات فلا يمكن أن يصر على معصية، فإذا قوي الإيمان والتصديق لا يمكن أن يصر على معصية ولا كبيرة، وإذا ضعف الإيمان والتصديق جاءت المعاصي، فالصديقون يلون الأنبياء وهم فوق الشهداء، يليهم الشهداء الذين بذلوا أنفسهم لله وأتلفوا أجسادهم لله؛ لأن أغلى ما يملك الإنسان نفسه التي بين جنبيه فإذا بذلها لله بذل أغلى ما يملك ثم يليهم الصالحون وهم يتفاوتون، الصالحون المؤمنون، والصالحون على درجات منهم: السابقون المقربون الذين أدوا الفرائض والنوافل، وتركوا المحرمات والنواهي، ومنهم: المقتصدون الذين اقتصروا على فعل الواجبات وترك المحرمات، ومنهم: الظالمون لأنفسهم وهم المؤمنون الموحدون لكن فعلوا بعض المحرمات وتركوا بعض الواجبات وهم على خطر من العذاب، خطر من العذاب في القبر، وخطر من أهوال يوم القيامة، وخطر من دخول النار، منهم مَن يدخل النار، ومنهم مَن يعذب في قبره، ومنهم يعفى عنه، ومنهم مَن يشفع فيه ومآلهم إلى النجاة والسلامة، ومَن عذب منهم عذب مدة لأنه مات على التوحيد والإيمان، فيكونون ثلاث طبقات للصالحين: السابقون المقربون، ثم المقتصدون، ثم الظالمون لأنفسهم، وأما الشهداء والصديقون فهؤلاء مغفورٌ لهم ذنوبهم وهم لا يصرون على الكبائر.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُون}.
يأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم في سبيله سبيل الخير ليدخروا ثواب ذلك عند ربهم ومليكهم وليبادروا إلى ذلك في هذه الحياة الدنيا {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ} يعني: يوم القيامة {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ} أي: لا يباع أحد من نفسه ولا يفادى بمال لو بذله، ولو جاء بملء الأرض ذهبًا ولا تنفعه خلة أحد، يعني: صداقته بل ولا نسابته كما قال: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُون} [المؤمنون:101]{وَلاَ شَفَاعَةٌ} أي: ولا تنفعهم شفاعة الشافعين.
وقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُون} مبتدأ محصور في خبره أي: ولا ظالم أظلم ممن وافى الله يومئذ كافرا.
وقد روى ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار أنه قال: الحمد لله الذي قال: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُون} ولم يقل: والظالمون هم الكافرون.
(التفسير)
حصر الكفر بالظلم لم يحصر الظلم بالكفر، لأن الظلم أنواع: ظلم الإنسان لنفسه بينه وبين الله، وفي ظلم الإنسان للعباد، وفي ظلم النفس بالكفر، فالكافر ظالم، وأما الظالم قد يكون كافرًا وقد لا يكون كافرًا، فالظالم قد يكون ظالمًا؛ لأنه اعتدى على الناس في دمائهم، أو اعتدى على الناس في أموالهم أو ظلم نفسه بالمعاصي فيما بينه وبين الله، وأما الكافر فإنه بلغ الظلم منذ الكفر، حيث وضع العبادة في غير محلها، العبادة حق الله والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وضَعَ العبادة في غير محلها، العبادة حق الله والكافر عبد غير الله، فوقع في أعظم الظلم.
هذه الآية فيها نداء من الله تعالى للمؤمنين بالإنفاق {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254] أمر بالإنفاق في وجوه الخير، وأعظم ذلك النفقات الواجبة كالزكاة والنفقة على الأهل والأولاد وصلة الأرحام والأقارب والأيتام {أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ} وهو يوم القيامة {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ} لا يُباع فيه ولا يُخالل فيه، ليس فيه خلة جديدة، فالخلة التي بين الناس والصداقة كلها تنقلب عداوة إلا نوعا واحدا وهي الخلة في الله، فالمتقون الذين خلتهم ومحبتهم لله تبقى يوم القيامة، وأما الذين محبتهم لغير الله، ومحبتهم للأصنام، والأوثان أو على البدع أو على المعاصي كلها تنقلب عداوة وتخونهم أحوج ما كانوا إليه {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} لا تنفع الشفاعة ولا تنفع الخلة .
{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} بلغوا قمة الظلم حيث عبدوا غير الله ووضعوا العبادة في غير أهلها ولغير مستحقها، لأن الله هو مستحق العبادة، العبادة حق الله، فالمشرك وقع في أعظم الظلم حيث وضع العبادة في غير محلها ولغير مستحقها؛ لأن الظلم هو وضع الشيء في غير محله.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم}.
[فضل آية الكرسي]
هذه آية الكرسي ولها شأن عظيم قد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها أفضل آية في كتاب الله. روى الإمام أحمد([10]): عن أبي -هو ابن كعب-أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: «أي آية في كتاب الله أعظم»؟ قال: الله ورسوله أعلم. فرددها مرارًا ثم قال أبى: آية الكرسي. قال: «لِيَهْنك العلم أبا المنذر، والذي نفسي بيده إن لها لسانًا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش» ورواه مسلم ([11]) وليس عنده زيادة: «والذي نفسي بيده...» إلخ.
(التفسير)
ليهنك العلم يعني: هنيئًا لك العلم، وأبو المنذر: كنية أُبيِّ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يُهنيه بالعلم، يُهنيه على علم عظيم فقد عرف أعظم آية في القرآن، ما هي أعظم آية في القرآن؟ قال: آية الكرسي، فقال: هنيئًا لك العلم، أهنئك بالعلم، هذا العلم هو العلم الشرعي، العلم بالله وأسمائه وصفاته وبشرعه ودينه لكن الناس الآن عكست القضية فصار الناس يطلقون العلم على العلم التجريبي، يسمون العلم علم الكيمياء، وعلم الطب، وعلم الهندسة، وعلم الفلك، وعلم الرياضة، والزراعة ، ويسمون رواد الفضاء العلماء وهذا خطأ، العلم هو العلم الشرعي، والعلماء هم علماء الشريعة، أما العلم التجريبي يقيد، فيقال: علم فلك، علم زراعة، علم جيولوجيا، وعالم زراعة، عالم فلك، عالم طب لكن الناس عكست القضية، أما كلمة علماء إذا أطلقت فالمراد علماء الشريعة {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] والعلم إذا أطلق هو العلم الشرعي.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال هنيئًا لك العلم أبا المنذر، هنيئًا لك علم عظيم، متى يحصل على هذا يحصل الإنسان على خير عظيم.
أعظم آية في القرآن: آية الكرسي، وأعظم سورة في القرآن الفاتحة، اعلم هذا، واعلم أن هذا علم عظيم، النبي هَنَّأ أُبيًّا حيث عرف أن أعظم آية في القرآن آية الكرسي، فمَن عرف هذه يُهنأ، وهذه الآية لها شان عظيم كما قال المؤلف -رحمه الله-.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
وروى الإمام أحمد([12]) عن أبي أيوب: أنه كان في سهوة له تمر، وكانت الغول تجيء فتأخذ فشكاها إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: «فإذا رأيتها فقل باسم الله أجيبي رسول الله». قال: فجاءت فقال لها: فأخذها فقالت: إني لا أعود. فأرسلها فجاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما فعل أسيرك؟» قال: أخذتها فقالت لي: إني لا أعود، إني لا أعود. فأرسلتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنها عائدة» فأخذتها مرتين أو ثلاثًا كل ذلك تقول: لا أعود. وأجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: «ما فعل أسيرك؟» فأقول: أخذتها فتقول: لا أعود. فيقول: «إنها عائدة» فأخذتها فقالت: أرسلني وأعلمك شيئًا تقوله فلا يقربك شيء: آية الكرسي، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: «صدقت وهي كذوب».
ورواه الترمذي ([13]) في فضائل القرآن وقال: حسن غريب. الغول في لغة العرب هو الجان إذا بدا في الليل.
(التفسير)
أرسلتها يعني تركتها، والغول يعمل الجن والشياطين، يأخذ التمر، وهذا التمر هو صدقة الفطر، تأتي الشياطين تأخذ منه، والشياطين تأكل وتبول، وتتغوط كبني آدم ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للجن لما أتوه: قَالَ: «لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ». فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ»([14]) لأنه زاد الجن، العظم لا تستنجي به يعود لحمًا كما كان للجن، والبعرة يعود حبها علفًا لدوابهم أو يأكله.
فهذا الجني غول على شكل رجل ويحتمل امرأة جاء يسرق من الصدقة ولما كشف أمره ذهب يقول أنا ضعيف، أنا مسكين، ولي عيال فرحمه أبو أيوب وتركه، فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: سيعود مرة ثانية وثالثة.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
وقد ذكر البخاري مثل هذه القصة عن أبي هريرة فروى في كتاب «فضائل القرآن» وفي كتاب «الوكالة» وفي «صفة إبليس» من صحيحه ([15]): عن أبي هريرة قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة. قال: فخليت عنه. فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟» قال: قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالًا فَرحِمْتُه وخليت سبيله. قال: «أما إنه قد كَذَبك وسيعود» فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه سيعود» فرصدته فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال لا أعود. فرحمته وخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟» قلت: يا رسول الله شكا حاجة وعيالًا فرحمته فخليت سبيله. قال: «أما إنه قد كذبك وسيعود» فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا آخر ثلاث مرات أنَّك تزعم أنك لا تعود ثم تعود. فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها.
قلت: ما هن. قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما فعل أسيرك البارحة؟» قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله. قال: «ما هي؟» قال: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح. وكانوا أحرص شيء على الخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما إنه صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب مُذْ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟» قلت: لا قال: «ذاك شيطان». كذا رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم وقد رواه النسائي في «اليوم والليلة»([16]).
(التفسير)
كان أبو هريرة وكل بزكاة الفطر، وكل بحفظ الزكاة، في مكان فجاء الشيطان يسرق منها.
وهذا الحديث فيه أن الغول ترك أبا هريرة المرة الثالثة لأنه حريص على الخير، مرة ثالثة وقال: أعلمك كلمات ينفعك الله بها، وكان حريصا على الخير فلما أعطاه هذه الكلمات قال له النبي صلى الله عليه وسلم صدقك.
وفيه دليل على قبول الحق ممن جاء به ولو كان شيطانا، ولو كان يهوديًا فالحق يقبل ممَن جاء به سواء من اليهودي أو النصراني أو الشيطان، لهذا قال: لقد صدق وهو كذوب، فيه دليل على أنه قد يصدق الكذوب، والنبي كذب الشيطان لكن قد يصدق، صدق في هذه المرة لنصيحته ليُخلص نفسه، قد يصدق الكذوب، وقد للتقليل.
وفيه دليل على قبول الحق ممَن جاء به إذا كان حقًا لا يرد، يقبل الحق ويرد الباطل .
وفيه فضل آية الكرسي وآية الكرسي لها فضل بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لا بقول الشيطان وحده، فالنبي صدّق قال: صدق وهو الكذوب، فصارت بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لها هذه المزية، "مَن قرأها في ليله لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح".
([1]) صحيح البخاري برقم (3408) وصحيح مسلم برقم (2373).
([2]) صحيح البخاري (4935) وصحيح مسلم (2955).
([3]) صحيح البخاري (6527).
([4]) صحيح البخاري (2411).
([5]) صحيح البخاري (3391).
([6]) صحيح البخاري (3348 و6530) وصحيح مسلم (222).
([7]) صحيح البخاري (4855).
([8]) صحيح مسلم (178).
([9]) صحيح مسلم (179).
([10]) مسند أحمد (5/141).
([11]) صحيح مسلم (810).
([12]) رواه أحمد في المسند (5/423).
([13]) سنن الترمذي (2880).
([14]) صحيح مسلم (450).
([15]) صحيح البخاري (2311) و(3275) و(5010).
([16]) سنن النسائي الكبرى برقم (10795) ..