** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيم}.
[لا إكراه في الدين]
يقول تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } أي: لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام فإنه بيِّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام، وشرح صدره ونوَّر بصيرتَه، دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبَه وختَمَ على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهًا مقسورًا.
وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار، وإن كان حكمها عامًّا.
وروى ابن جرير: عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مِقْلاةً فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوِّده، فلما أجليتْ بنو النَّضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا فأنزل الله عز وجل: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ }، وقد رواه أبو داود والنسائي.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن حميد عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: «أسلم» قال: إني أجدني كارهًا. قال: «وإن كنت كارهًا» فإنه ثلاثي صحيح، ولكن ليس من هذا القبيل فإنه لم يكرهه النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام بل دعاه إليه فأخبر أن نفسه ليست قابلة له بل هي كارهة فقال له: «أسلم وإن كنت كارهًا فإن الله سيرزقك حسن النية والإخلاص».
[التوحيد هو العروة الوثقى]
وقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيم } أي: من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله، ووحد الله فعبده وحده وشهد أن لا إله إلا هو {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} أي: فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم.
روى أبو القاسم البغوي: عن حسان بن فائد العبسي قال: قال عمر رضي الله عنه: إن الجِبت: السحر والطاغوت: الشيطان، وإن الشجاعة والجبن غرائز تكون في الرجال يقاتل الشجاع عمن لا يعرف ويفر الجبان من أمه، وإن كرم الرجل دينه، وحسبه خلقه، وإن كان فارسيًّا أو نبطيًّا.
ومعنى قوله في الطاغوت: إنه الشيطان. قوي جدًّا فإنه يشمل كل شَرٍّ كان عليه أهل الجاهلية، من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها.
وقوله: { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا } أي: فقد استمسك من الدين بأقوى سبب، وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصم فهي في نفسها محكمة مبرمة قوية وربطها قوي شديد ولهذا قال: { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا }.
قال مجاهد: { بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} يعني: الإيمان. وقال السدي: هو الإسلام.
وروى الإمام أحمد: عن قيس بن عباد قال: كنت في المسجد فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع، فدخل فصلى ركعتين أوجز فيهما فقال القوم: هذا رجل من أهل الجنة. فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله فدخلت معه فحدثته فلما استأنس قلت له: إن القوم لما دخلت قِبَل المسجد قالوا كذا وكذا. قال: سبحان الله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم وسأحدثك لِمَ: إني رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه: رأيت كأني في روضة خضراء -قال ابن عون: فذكر من خضرتها وسعتها- وفي وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء في أعلاه عروة، فقيل لي: اصعد عليه فقلت: لا أستطيع. فجاءني مِنْصَف -قال ابن عون: هو الوصيف -فرفع ثيابي من خلفي، فقال: اصعد. فصعدت حتى أخذت بالعروة فقال: استمسك بالعروة. فاستيقظت وإنها لفي يدي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه. فقال: «أما الروضة فروضة الإسلام وأما العمود فعمود الإسلام وأما العروة فهي العروة الوثقى، أنت على الإسلام حتى تموت».
قال: وهو عبد الله بن سلام أخرجاه في الصحيحين. وأخرجه البخاري من وجه آخر.
(التفسير)
عبد الله بن سلام إسرائيلي من بني إسرائيل، أسلم وهو من القلة الذين أسلموا، ولم يسلم من اليهود إلا قلة، وكان عبد الله بن سلام سيدًا في قومه، كان من بني إسرائيل منَّ الله عليه بالإسلام فأسلم، ولم يعلم اليهود بإسلامه فقال عبدالله بن سلام: يا رسول الله، إن اليهود قوم بُهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي يغمطوني حقي، وسأختفي فسلهم عني، فجاء اليهود واختفى عبد الله عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يعلموا به، فسألهم فقال: ما تقولون في عبد الله بن سلام، قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وجعلوا يثنون عليه ويذكرون بفضله، فقال: أرأيتم إن أسلم؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله بن سلام وهو يقول: أشهد أن لا إله الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فقالوا في الحال: شرنا وابن شرِّنا، وجعلوا يغمطون حقه، قال لرسول الله: ألم أقل لك إنهم قوم بهت([1])، هذا من خبث اليهود.
وهذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256] معناها واضح وهو أنه لا يُكره أحد على الإسلام لوضوحه، فالإسلام واضح، ومنهجه واضح، وأصوله واضحة وأدلته واضحة، فلا يحتاج أن يُكرِه أحدًا عليه، بل مَن علِم فضله وحسنه ونظر فيه فإنه يدخل في الإسلام بدون إكراه، بدون أن يُكره.
وقيل: إنها نزلت في اليهود، في أهل الكتاب خاصة اليهود، والنصارى وأنهم لا يكرهون على الإسلام وإنما يُخيرون بين الإسلام والجزية، فأهل الكتاب يخير الواحد منهم إما أن يُسلم، وإما أن يدفع الجزية، وإما أن يُقاتل بخلاف أهل الأوثان، الوثنيون يخيرون بين الإسلام وبين السيف، أما اليهود فلا يُكرهون على الدين، وأما الوثني يُكره، فالوثني إما أن يسلم وإما أن يُقاتل، وأما أهل الكتاب فلا يكرهون بل يُخيرون بين الإسلام وبين أن يبقوا على دينهم ويدفعون الجزية أو يقاتلون.
ولهذا قال سبحانه وتعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} الرشد: دين الإسلام، والغيِّ: دين الكفر.
قال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} العروة الوثقى: هي كلمة التوحيد، يكفر بالطاغوت: هو البراءة من كل معبود سوى الله، تتبرأ من عبادة كل معبود سوى الله، وأن تنكر عبادة غير الله، وتكفر أهلها وتعاديهم، هذا هو الكفر بالطاغوت، والطاغوت: كل ما خالف شرع الله، ولهذا قيل: هو الشيطان، وكل ما خالف شرع الله فهو طاغوت، والطواغيت كثيرون رؤوسهم خمسة: إبليس لعنه الله، ومَن عبِد وهو راض، ومَن دعا إلى عبادة نفسه، ومَن حكم بغير ما أنزل الله، ومَن عُبِد وهو راض، فالكفر بالطاغوت هو البراءة من كل معبود سوى الله والإيمان بالله، فلابد من أمرين في الإيمان: الأمر الأول: الكفر بالطاغوت وهو البراءة من كل معبود سوى الله، أن يتبرأ من كل معبود سوى الله، ويُنكر عبادة كل معبود سوى الله، ويكفر المشركين ويعاديهم، هذا هو الكفر بالطاغوت، ثم الإيمان بالله، وهو التخلية، تتخلى عن الشرك وأهله، ثم يتحلى بالتوحيد والإيمان.
وهذان الأمران موجودان في كلمة التوحيد لا إله إلا الله، وفيها أمران: الأمر الأول: الكفر بالطاغوت بقولك: لا إله، فلا إله: نفي لكل معبود سوى الله، إلا الله: الإيمان بالله، لابد من الأمرين ، كلمة التوحيد وهي على أصلين: الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله، البراءة من كل معبود سوى الله، ونفي عبادة كل ما سوى الله، وكل ما خالف شرع الله.
والثاني: الإيمان بالله، لو قال شخص: أنا أعبد الله وأصلي وأصوم وأحج وأعمل الصالحات، هل يكفيه هذا ليكون موحدًا؟ نقول له: ما يكفي، لابد أن تضيف أمرًا إلى ذلك وهو البراءة من كل ما سوى الله، ومن ذلك: تكفير المشركين، وتعترف أنهم على دين الباطل، وتكفر اليهود والنصارى وتعترف أنهم على دين الباطل، وتتبرأ منهم ومن دينهم، لأن الإنسان يكون يعبد الله لكن يعبد الله ويعبد غيره، كالمشركين كانوا يعبدون الله ويحجون ويصومون ويذكرون الله كثيرًا ويتصدقون لكن يعبدون معه اللات والعزى، ومنهم مَن يعبد المسيح، ومنهم مَن يعبد الملائكة، فلا يكفي كون الإنسان يعبد الله ليكون موحدًا، بل لابد أن يعبد الله وحده ولا يعبد غيره لا بد من هذا، لابد من أمرين: يعبد الله ولا يعبد غيره، ويتبرأ من عبادة كل معبود سوى الله ويعتقد بطلان كل دين سوى دين الإسلام لابد من هذا.
الشخص الذي يقول: «المسلمون على دين، واليهود على دين، والنصارى على دين ولا أقول فيهم بشيء»، نقول له: لست بمسلم، لأنك ما كفرت بالطاغوت، لا بد أن تقول: أن اليهود على دين الباطل، والنصارى على دين الباطل، والوثنية على دين الباطل حتى تتبرأ من عبادة كل ما سوى الله، وإلا فإنك ما كفرت بالطاغوت، تقول: اليهود على دين، والنصارى على دين، وكلٌّ يتدين بما يشاء، ولا تنكر دين اليهودية ولا دين النصرانية والوثنية، ولا تتبرأ منهم، ولا تعتقد أنهم على دين الباطل !!!
هذا من نواقض الإسلام، مَن لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم فهو كافر مثلهم حتى لو توقف وقال: أنا لا أدري هل هم كفار أم لا، فلابد أن تجزم أنهم كفار وتعتقد هذا، ومَن شك في كفر اليهود أو النصارى أو الوثنين أو صحح مذهبهم فهو كافر مثلهم، لابد في التوحيد من أمرين أصليين: الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله.
والكفر بالطاغوت يشمل اعتقاد كفر المشركين واليهود والنصارى والوثنيين، والبراءة منهم ومن عبادتهم، والتوحيد مبني على هذين الأصلين: الأصل الأول: الكفر بالطاغوت. والأصل الثاني: الإيمان بالله. كما في هذه الآية الكريمة {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} العروة الوثقى: كلمة التوحيد، والطاغوت كما قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب فسره فقال: الطاغوت دين أبي لهب، والرشد: دين محمد.
وقوله: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} إثبات اسمين من أسماء الله: السميع والعليم، وإثبات صفة السمع، والعلم.
وهذه الآية الكريمة فيها: أنه لا يكره أحد على الدين، وأن أهل الكتاب لا يُكرهون على الدين بل يخيَّرون بين الجزية وبين الإسلام وبين القتال، أما الوثنيون فإنهم يخيرون بين الإسلام وبين السيف، فلا تقبل منهم الجزية على الصحيح، لأن الله خصها بأهل الكتاب في قوله تعالى في سورة التوبة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}[التوبة:29] فاليهود والنصارى لهم حكم خاص، فقد خف كفرهم لأنهم أوتوا الكتاب، فصار لهم من الأحكام ما ليس لغيرهم منها، فصاروا يخيرون بين الإسلام وبين دفع الجزية، بخلاف الوثني.
ومنها: أن ذبائحهم تحل، فذبيحة الكتابي إذا ذبح - وجهلت الحال ما ذبح بالخنق ولا بالصعق ولا بذكر اسم المسيح بل جهلت الحال - فتحل ذبيحته.
ومنها: حل نسائهم، يجوز تزوج اليهودية والنصرانية إذا كانت محصنة عفيفة ولو كانت على دينها. لكن تركها أولى.
وهذه الآية هي عامة، وقيل: هي خاصة؛ لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقيل: إنها نزلت في اليهود والنصارى لا يكرهون في الدين، وأما الوثنيون فيكرهون على الدين، إما القتال أو السيف، وقيل: للعامة، هذا الدين لا يكره أحد عليه؛ لأنه واضح، ومنهجه واضح، وأصوله واضحة فلا يحل أن يكره أحد لوضوحه، لكن مَن أبى الإسلام قوتل.
ولهذا قال بعضهم: إنها خاصة بأهل الكتاب فلا يكرهون، وغيرهم يكرهون، يكره إذا دُعي إلى الله ولم يقبل مع وضوحه، فإنه يقاتل لئلا يحجب غيره عن الإسلام، ولئلا يقف حجر عثرة أمام مد الإسلام، ولأن الإسلام هذا خيرٌ له؛ لأنه إما أن يُسلم فيَسلم من الكفر ومن عذاب القبر، وإما أن يُقْتَل فيخف عذابه.
وقيل: لا إكراه في الدين قبل الجهاد، قبل شرعية الجهاد لا يُكره أحد على الدين فهذا قبل أن يشرع الجهاد، فلما شُرِعَ الجهاد قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] ونزل قول الله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36] فهذا كان أولًا عندما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة قبل أن يُشْرَع الجهاد قيل لا إكراه في الدين، وقيل: إنها في أهل الكتاب خاصة، فهذان قولان، وعلى هذا فلا إشكال في الآية، لا يكره في الدين قبل شرعية الجهاد، وما بعد شرعية الجهاد يكره المشركون، ولا إكراه في الدين هذا لأهل الكتاب خاصة؛ لأنهم مخيرون بين الإسلام وبين الجزية وبين القتال.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون}.
يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سُبُل السلام فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي المبين السهل المنير، وأن الكافرين إنما وليهم الشيطان يُزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات، ويخرجونهم ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك {أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون }.
ولهذا وحد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات؛ لأن الحق واحد والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة كما قال: { وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [الأنعام:153] وقال تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] وقال تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ} [النحل:48] إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق، وانتشار الباطل وتفرقه وتشعبه.
(التفسير)
في هذه الآية الكريمة: بيان أن الحق واحد لا يتعدد، وأن طرق الباطل متعددة وكثيرة، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[البقرة:257] النور هو الحق ودين الإسلام، وما جاء في القرآن الكريم واحد، والظلمات هي طرق الباطل المتعددة، فالله تعالى ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات، من طرق الباطل المتعددة من أنواع الشرك والشبهات إلى نور الإيمان والعلم واليقين، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ} من الحق {إِلَى الظُّلُمَاتِ} إلى طرق الباطل، ووحد النور؛ لأن سبيل الحق واحد، وجمع الظلمات؛ لأن طرق الباطل كثيرة ومتعددة، كما قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] فهو واحد، وهو طريق الحق {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} أي: طرق الشيطان {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}.
هنا قال سبحانه وتعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} وليهم يتولاهم وينصرهم ويؤيدهم ويكلؤهم ويحفظهم ويسددهم ويوفقهم، هو وليهم سبحانه وتعالى {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} هذا من ولايته لهم، يوفقهم للحق ويبعدهم عن الباطل، يخرجهم من الظلمات: طرق الباطل، طرق الضلال، إلى النور: إلى الحق {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} الذين كفروا يتولاهم الطواغيت {يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَات} يضلونهم حتى يخرجوهم من الحق إلى الباطل وأنواع الضلالة .
{أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أهل الباطل الذين في الظلمات (ظلمات الشرك) هم أصحاب النار، هم ملازمون لها لا يرحلون عنها ولا يظعنون، خالدون فيها أبد الآباد نسأل الله السلامة والعافية.
في هذه الآية الكريمة: دليل على أن طريق الحق واحد لا يتعدد، وأن طرق الباطل متعددة.
وفيه: أن طريق الحق نور لوضوحه، كالنور الحسي واضح لكل أحد وليس فيه لبس ولا تلبيس، وأما طرق الباطل فهي ملتبسة ومظلمة، ولهذا أخبر عنها الله وقال: {الظُّلُمَاتِ} كالظلمات الحسية التي لا يهتدي الإنسان فيها إلى الطريق، فكذلك ظلمات الجهالات والشكوك فيها تلبيس وحيرة، الإنسان لا يهتدي إلى الحق كمَن في ظلمة لا يهتدي إلى الخروج من هذه الظلمة، فكذلك مَن كان على الباطل من أهل الشرك ومن أهل الشبهات، فإنهم لا يهتدون ولا يخرجون من حيرتهم إلى الحق، نسأل الله السلامة والعافية.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين } هذا الذي حاج إبراهيم في ربه وهو ملك بابل: نمروذ بن كنعان بن كُوش بن سام بن نوح. ويقال: نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. والأول قول مجاهد وغيره.
قال مجاهد: وملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة: مؤمنان وكافران فالمؤمنان: سليمان بن داود وذو القرنين. والكافران: نمروذ وبختنصر. والله أعلم.
(التفسير)
أربعة ملكوا مشارق الأرض ومغاربها: اثنان كافران، واثنان مؤمنان، فالمؤمنان سليمان عليه السلام أتاه الله الملك والنبوة جميعًا، والثاني: ذو القرنين الذي بلغ مغرب الشمس ومشرقها وهو في زمن إبراهيم الخليل، وسليمان متأخر، وهو سليمان بن داوود بعد موسى من أنبياء بني إسرائيل، يكون ذو القرنين سابقًا وهو الأول في زمن إبراهيم، ولهذا قيل: إن إبراهيم التقى به ملكٌ صالح وهو (ذو القرنين)، و«القرنين» قيل: كقرني الشمس، والثاني سليمان.
وأما الكافران فالنمرود، وبختنصر الذي سلطه الله على بني إسرائيل، خرب بيت المقدس لما أفسدوا في الأرض كما قال: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:4] فلما أفسدوا سلط عليهم بختنصر، هو اسكندر وهو غير اسكندر المقدوني، وهما اثنان إسكندر ذو القرنين، وإسكندر المقدوني، وهذا الفيلسوف المتأخر الذي يقال له: أرسطوطاليس، يقال له: الإسكندر المقدوني، وهذا من فلاسفة اليونان، تتلمذ على يد أفلاطون، أفلاطون ومَن قبله من الفلاسفة في الجملة يعظمون الشرائع والإلهيات ويقول: أن العالم حادث، ويؤمنون بوجود الله، فلما جاء الاسكندر المقدوني يسمى أرسطو، ابتدع القول بقِدم العالم، وقال: العالم قديم، يعني ليس له بداية، وأنكر وجود الله، وكان مشركًا يعبد الأوثان، هذا قاله الاسكندر المقدوني وهو أرسطو، وهو ملحد من الملاحدة، ثم جاء بعده أبو نصر الفارابي، ثم جاء أبو علي ابن سينا هؤلاء الثلاثة الملاحدة، ملاحدة اليونان فلاسفة اليونان، بخلاف الفلاسفة قبلهم، أفلاطون وما قبله فإنهم في الجملة يعظمون الشرائع والإلهيات.
أما أرسطو فإنه لم يؤمن بوجود الله إلا من جهة كونه مبدأ عقليًا مبني على الكثرة، وكان يعبد الأصنام، وهو أول مَن وضع الحروف المنطقية (حروف المنطق) ثم جاء أبو نصر الفارابي فأخرج الحروف إلى الصوت، وجعل الصوت أوزان.
ثم جاء أبو علي بن سينا متأخر هذا بعد الإسلام حاول أن يقرب الفلسفة من دين الإسلام ولكنه في محاولة شديدة لم يصل إلى ما وصلت إليه الجهمية الغالية في التجهم، ولم يثبت وجودًا لله إلا في الذهن وفي اللفظ، وسلب عنه جميع الأسماء والصفات، وكذلك أنكر الملائكة قال: إن الملائكة أشباح وأشكال نورانية، وأنكر الرسل قال: الرسول رجل عبقري له صفات مَن استكملها فهو نبي، وأنكر الكتب وقال: إنها فيض، وأنكر البعث والجزاء والحساب والجنة والنار وقال: كل هذه تخيلات من الأنبياء ليسوسوا الناس - من السياسة – ولا يوجد في الحقيقة كما يقول أمر ولا نهي وحلال ولا حرام ولا جنة ولا نار؛ لكن هذا من السياسة، ويقول بأن الرسول رجل عاقل يسوس الناس ويرغبهم في الجنة ويرهبهم من النار، حتى يتعايش الناس في سلام، وينكروا البعث، نسأل الله السلامة والعافية، هذا محاولة ابن سينا تقريبه الفلسفة من الإسلام نسأل الله السلامة والعافية.
ومع ذلك فإن الملاحدة تسمى بأسماء المدارس، وابن سينا له كتاب في الطب «القانون في الطب»، وتسمى باسمه أسماء مدارس ومؤلفات وهو ملحد وهذا لا يجوز.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
ومعنى قوله: { أَلَمْ تَرَ } أي: بقلبك يا محمد.
(التفسير)
في قلبك: يعني يريد أنها رؤية قلبية، وليست رؤية بصرية، الرؤية تكون بصرية كأن أقول لك: ألم تر إلى السماء كيف رفعت؟ هذه رؤية بصرية، يعني انظر إليها، قد تكون رؤية قلبية مثل: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، يعني ألم تعلم، قد تكون الرؤية من الرؤية الحلم وهو ما يراه الإنسان في المنام، كقولك: رأيت رؤيا، والسياق هو الذي يحددها.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ} أي: في وجود ربه. وذلك أنه أنكر أن يكون ثم إله غيره كما قال بعده فرعون لملئه: { مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي } [القصص:38] وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة إلا تجبره، وطول مدته في الملك؛ ولهذا قال: { أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ} وكأنه طلب من إبراهيم دليلًا على وجود الرب الذي يدعو إليه فقال إبراهيم: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } أي: إنما الدليل على وجوده حدوث هذه الأشياء المشاهدة بعد عدمها، وعدمها بعد وجودها. وهذا دليل على وجود الفاعل المختار ضرورة؛ لأنها لم تحدث بنفسها فلا بد لها من موجد أوجدها وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له.
فعند ذلك قال المحاج -وهو النمروذ-: { أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ }.
قال قتادة ومحمد بن إسحاق والسدي وغير واحد: وذلك أني أوتى بالرجلين قد استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما فيقتل، وبالعفو عن الآخر فلا يقتل. فذلك معنى الإحياء والإماتة .
والظاهر -والله أعلم- أنه ما أراد هذا؛ لأنه ليس جوابًا لما قال إبراهيم ولا في معناه؛ لأنه غير مانع لوجود الصانع. وإنما أراد أن يَدّعي لنفسه هذا المقام عنادًا ومكابرة ويوهم أنه الفاعل لذلك وأنه هو الذي يحيي ويميت، كما اقتدى به فرعون في قوله: { مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي } ولهذا قال له إبراهيم لما ادعى هذه المكابرة: { فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ } أي: إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق، فإن كنت إلهًا كما ادعيت تحيي وتميت فأت بها من المغرب.
فلما علم عجزه وانقطاعه، وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام بهت أي: أخرس فلا يتكلم، وقامت عليه الحجة.
قال الله تعالى { وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} أي: لا يلهمهم حجة ولا برهانًا بل حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد.
وهذا التنزيل على هذا المعنى أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين: إن عدول إبراهيم عن المقام الأول إلى المقام الثاني انتقال من دليل إلى أوضح منه، ويُبَيّن بطلان ما ادعاه نمروذ في الأول والثاني، ولله الحمد والمنة.
وقد ذكر السُّدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمروذ بعد خروج إبراهيم من النار ولم يكن اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم فَجَرَتْ بينهما هذه المناظرة.
(التفسير)
وهذه المناظرة قصها الله سبحانه وتعالى علينا ليبيّن لنا سبحانه وتعالى أدلة وجوده ووحدانيته واضحة لكل أحد، فطر عليها الناس جميعًا، وكل انفتح إليه وبلغ سن الرشد يرى الأدلة شاهدة وواضحة على وحدانية الله، هذه السماء ذات أبراج، والأرض ذات فجاج، وبحار تذخر، ونجوم تزهر كلها تدل على اللطيف الخبير، ولهذا قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة:258] يعني ألم تعلم هذه المناظرة التي حصلت؟ يعني في وجوده وفي خلقه .
{قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} فقال النمرود: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} قال: كيف ذلك؟ قال: ائتِ برجلين استحقا القتل فأقتل أحدهما وأعفو عن الآخر، فهذا أمتُّه وهذا أحييتُه، فإبراهيم عدل عن هذه المسألة، إلى مسألة أوضح، قال إبراهيم له: إن كنت صادقًا تحيي وتميت {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} الإله هو الذي يتصرف في الكون علويه وسفليه، فالله يتصرف في الكون جعل الشمس منتظمة تشرق كل يوم من المشرق وتغرب من المغرب، فالله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب إن كنت صادقًا، في الصباح أتِ بها من المغرب، فبهت، وخنث، وعرف أنه لا قدرة له، فقال سبحانه وتعالى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} انقطعت حجته {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وهذه من الحجج التي يلهمها الله عباده وأولياءه وأنبياءه، هذه القصة جرت بين إبراهيم والنمرود بعد خروجه من النار -عليه الصلاة والسلام-.
*****
([1]) صحيح البخاري (3938) و(4480) والنسائي في الكبرى (8197).