** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}
[قصة عزير]
تقدم قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ } وهو في قوة قوله: هل رأيت مثل الذي حاج إبراهيم في ربه؟ ولهذا عطف عليه بقوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } روى ابن أبي حاتم عن ناجية بن كعب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: هو عزير.
ورواه ابن جرير عن ناجية نفسه . وحكاه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وسليمان بن بُرَيْدَة .
وقال مجاهد بن جبر: هو رجل من بني إسرائيل.
وأما القرية: فالمشهور أنها بيت المقدس مَرَّ عليها بعد تخريب بُخْتـَـنَصَّر لها وقتل أهلها. {وَهِيَ خَاوِيَةٌ } أي: ليس فيها أحد، وقوله: {عَلَى عُرُوشِهَا} أي: ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها، فوقف متفكرًّا فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة وقال: { أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} وذلك لما رأى من دثورها وشدة خرابها وبعدها عن العود إلى ما كانت عليه قال الله تعالى: {فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } قال: وعمرت البلدة بعد مضي سبعين سنة من موته وتكامل ساكنوها وتراجع بنو إسرائيل إليها. فلما بعثه الله عز وجل بعد موته كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه كيف يحيي بدنه؟ فلما استقل سويًّا قال الله له -أي بواسطة الملك-: { كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } قالوا: وذلك أنه مات أول النهار ثم بعثه الله في آخر النهار[1].
فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال: { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } وذلك: أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير فوجده كما فقده لم يتغير منه شيء، لا العصير استحال ولا التين حمض ولا أنتن ولا العنب تعفن، { وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ } أي: كيف يحييه الله عز وجل وأنت تنظر { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ } أي: دليلا على المعاد { وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا } أي: نرفعها فيركب بعضها على بعض.
وقد روى الحاكم في مستدركه عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: { كَيْفَ نُنشِزُهَا } بالزاي ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وقرئ: (ننشرها) أي: نحييها قاله مجاهد {ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا}.
وقال السدي وغيره: تفرقت عظام حماره حوله يمينًا ويسارًا فنظر إليها وهي تلوح من بياضها فبعث الله ريحًا فجمعتها من كل موضع من تلك المحلة، ثم ركب كل عظم في موضعه حتى صار حمارًا قائمًا من عظام لا لحم عليها ثم كساها الله لحمًا وعصبًا وعروقًا وجلدًا، وبعث الله ملكًا فنفخ في منخري الحمار فنهق كله بإذن الله عز وجل وذلك كله بمرأى من العزير فعند ذلك لما تبين له هذا كله { قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير } أي: أنا عالم بهذا وقد رأيته عيانًا فأنا أعلم أهل زماني بذلك وقرأ آخرون: «قَالْ اعْلَمْ» على أنه أمر له بالعلم.
(التفسير)
هذه الآية الكريمة في هذه القصة، قصة عزير الذي أحياه الله بعد موته وهي إحدى القصص الخمس في السورة الذين أحياهم الله، خمس قصص في هذه السورة كلها أحياهم الله بعد موتهم، وهي من الأدلة على البعث، وأن الله تعالى يبعث مَن في القبور، قال تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} [البقرة:259] معطوف على {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة:258] {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} يعني هذه من الأدلة على البعث، {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} وهو عزير، وقيل: غيره، ورجح أنه عزير، قيل: إنه نبي، وقيل: إنه رجلٌ صالح، مرّ على قرية وهي بيت المقدس أو غيرها، وقد خربت هذه البلدة، وتساقطت بيوتها وسقوفها، فهي خاوية على عروشها، يعني سقوفها ساقطة وقد خربت، واستبعد أن تعود هذه البلدة إلى حالتها السابقة، وأن تعود إليها العمارة مرة أخرى، ولهذا قال: {قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} بعيد أن تحيى هذه القرية بعدما رأي من تهدم بيوتها وسقوط منازلها وسقوفها، بعيد أن تحيى مرة أخرى وتعود إلى الحياة {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} فالله تعالى أراه في نفسه، كان معه حمار، ومعه طعام وشراب، فأماته الله مائة عام، ثم أحياه الله، فأول شيء أحياه الله عليه قال: {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} لأن الله أماته في أول النهار وأحياه في آخره، فظن أنه يوم واحد وأن شمس ذلك اليوم، قال له الملك: {قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} لم يتغير، الطعام والعصير على حاله، بعد مئة سنة، صالح للشرب في الحال، فالطعام على حاله، والفاكهة على حالها صالحة للاستعمال، والله على كل شيء قدير ما أصابها شيء بعد هذه المدة لا تعفن، ولا أصابه جراثيم ولا شيء، صالح؛ لأن الله تعالى بيده كل شيء {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ولهذا قال: {فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} انظر إلى طعامك وشرابك لم يتغير، على حاله، كل إن شئت واشرب إن شئت، {وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} أراه الله في الحمار، {وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا} وفي قراءة: كيف ننشرها، {ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} جعل ينظر إلى عظام الحمار تلوح، فبعث الله ريحًا فتجمعت هذه العظام، وركب بعضها بجوار بعض، ثم كساها الله لحمًا، ثم نفخ فيه الروح، فقام الحمار على حاله السابقة، عاد إلى حاله السابقة.
وقوله: {وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} ليكون عبرة ودليلًا على البعث {وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وفي قراءة: «اعلم أن الله على كل شيء قدير»، يقول له الملك: «اعلم أن الله على كل شيء قدير»، وفي قراءة شعبة عن حفص: {أعلم أن الله على كل شيء قدير} فصارت هذه القصة دلالة على البعث، وأن الله قادر على أن يُحيي الأرض بعد موتها، وفيه ردٌّ على مَن أنكر البعث من المشركين، هذه حادثة واقعة يعلمها كل أحد، ورآها عزير في نفسه ، فيه من الأدلة على قدرة الله على البعث، ومَن أنكر البعث فهو كافر، أنكر بعث الإنسان، الإيمان بالبعث أصل من أصول الإيمان.
والله تعالى يقرر الإيمان بالبعث، قلّ أن تكون سورة إلا وفيها تقرير البعث لاسيما السور المكية؛ لأن أغلب الكفار ينكرون البعث، ومنهم مَن يؤمن بالبعث، وينكرون التوحيد، وهم يعبدون مع الله غيره وينكرون البعث فلهذا كفروا بذلك. وعدم الإيمان بالبعث كفر مستقل، والشرك في العبادة كذلك كفر مستقل.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيم}.
[طلب خليل الله من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى]
ذكروا لسؤال إبراهيم عليه السلام أسبابًا، منها: أنه لما قال لنمروذ: { رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ} أحب أن يترقى من علم اليقين في ذلك إلى عين اليقين، وأن يرى ذلك مشاهدة فقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي }.
فأما الحديث الذي رواه البخاري عند هذه الآية: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال: رب أرني كيف تحيى الموتى؟ قال: أو لم تؤمن. قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي» فمعناه أننا نحن أحق بطلب اليقين([2]).
(التفسير)
هذه الآية فيها القضاء بالشك ليس شكًّا وإنما هو طلب الترقي من حالة إلى حالة أقوى.
هذه الآية فيها قصة أيضًا القصة الخامسة في إحياء الله الموتى في الطيور، طيور إبراهيم وإحياء عزير بعد موته، وإحياء الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243] وإحياء بني إسرائيل حين أصابتهم الصاعقة لما ذهبوا مع موسى، وإحياء القتيل قتيل بني إسرائيل الذي ادارءوا فيه وسألوا موسى فأمرهم بأخذ البقرة وأن يضربوه ببعضها، هذه خمس قصص كلها فيها إحياء الله الموتى، وهي دليل على البعث.
وهذه القصة الخامسة إحياء طيور إبراهيم، وإبراهيم سأل ربه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260] هل هذا شكٌّ من إبراهيم؟ قال الله: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} في "صحيح البخاري"([3]) ذكر حديث على هذه القصة، قال: "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: ربِّ أرني كيف تحيي الموتى" قال بعض الشراح: يعني إبراهيم لم يشك، ونحن لا نشك؛ لكن ليس هذا بجيد، المراد أن إبراهيم أراد أن يترقى من يقين إلى يقين، واليقين ثلاثة أنواع: وكل مرتبة أعلى من الأخرى:
المرتبة الأولى: مرتبة علم اليقين، وهذه تحصل بالأخبار الصادقة.
والثانية: مرتبة عين اليقين، وهذه تحصل بالمشاهدة والرؤية.
والثالثة: مرتبة حق اليقين، وهذه تحصل بالمباشرة.
فإبراهيم لم يشك لكن أراد أن يترقى من يقين إلى يقين أعلى منه، إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- متيقن أن الله يحيي الأموات، لأنه أقوى الناس يقينًا بعد نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- يؤمن بخبر؛ لكن أراد أن ينتقل من العلم إلى المشاهدة، يشاهد وهذه حالة أقوى.
وهناك حالة ثالثة وهي حالة المباشرة، مثلًا لو جاءك إنسان صادق وقال لك: سال الوادي، وهو ثقة صادق، فأنت تصدقه، ثم لقيك فلان فقال: سال الوادي، زاد تصديقك ، ثم لقيك عشرة فقالوا: سال الوادي، ثم لقيك مائة فقالوا: سال الوادي، ثم لقيك ألف فقالوا: سال الوادي، فهل تشك؟ الجواب لا.. بل تتيقن أنه سال الوادي، ثم بعد ذلك ذهبت بنفسك بسيارتك ووقفت على الوادي وهو يسيل، وشاهدت بعينيك فأيهما أقوى؟ هذه أقوى، حيث شاهدت بعينك، تشاهد وترى الوادي وهو يسيل، وهو يجري.
في أول الأمر أخبرك الصادقون فصدقتهم؛ لكن الآن زاد تصديقك ويقينك، ذهبت بنفسك وشاهدت، ثم بعد ذلك أردت أن تتحقق فنزلت إلى الوادي وشربت منه أو غسلت، فهذه أقوى وأقوى وهذه المرتبة الثالثة.
إبراهيم عليه السلام عنده المرتبة الأولى وهي علم اليقين، فأراد أن يترقى للمرتبة الثانية وهي الرؤية، يرى كيف يحيى الله هذه بعد موتها، فالأخبار صادقة الآن، المؤمن يؤمن بخبر الله، وما أخبر الله عنه في الجنة، والنار، والجزاء، والحساب، فإذا كان يوم القيامة ورآها وشاهد الجنة وشاهد النار، صار هذا يقينًا، انتقل من يقين إلى يقين أقوى وهو المشاهدة، فإذا دخل الجنة وباشرها صار حق اليقين، انتقل إلى أعلى مرتبة.
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر:1- 7] مشاهدة.
فإبراهيم لم يشك وإنما أراد أن يترقى من يقين إلى يقين، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال إبراهيم: ربِّ أرني كيف تحيي الموتى"([4]) يعني نحن أولى بالترقي من يقين إلى يقين.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
[جواب طلب الخليل]
وقوله: {ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ} اختلف المفسرون في هذه الأربعة: ما هي؟ وإن كان لا طائل تحت تعيينها، إذ لو كان في ذلك مُهم لنص عليه القرآن.
(التفسير)
يعني بعض المفسرين يقولون: ما هي هذه الأربعة؟ هذا واحد غراب، وواحد كذا، وواحد كذا ويعينها، من أي نوع من الطيور، هل هي من الغربان؟ ولا من كذا ، ولا من النسور؟ الله أعلم، إذ لا يترتب على هذا شيء، والمهم أنها أربعة طيور، ولا يترتب على هذا شيء، فلو كان فيه فائدة لبينها الله، وأخبر بأنها نسور، أو غربان، أو كذا، فما يترتب على هذا شيء، فاختلاف المفسرين بعضهم يقول كذا، وبعضهم يقول من الغربان، وبعضهم يقول من النسور، كل هذا من أخبار بني إسرائيل ما يترتب عليه شيء؛ لأن الله ما أخبرنا ما نوعها، المهم أربعة طيور، المهم الحادثة والواقعة، أما كونها من كذا أو من كذا فلا يترتب عليه شيء.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
وقوله: { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ [5]} أي: قطعهن. قاله ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير وأبو مالك، وأبو الأسود الدِّيلي، ووهب بن منبه، والحسن، والسدي، وغيرهم.
فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن، ثم قطعهن ونتف ريشهن، ومزقهن وخلط بعضهن ببعض، ثم جزأهن أجزاءً، وجعل على كل جبل منهن جزءًا، قيل: أربعة أجبل. وقيل: سبعة. قال ابن عباس: وأخذ رؤوسهن بيده، ثم أمره الله عز وجل، أن يدعوهن، فدعاهن كما أمره الله عز وجل، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم، والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض، حتى قام كل طائر على حدته، وأتينه يمشين سعيًا ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها، وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم، عليه السلام، فإذا قدم له غير رأسه يأباه، فإذا قدم إليه رأسه تركب مع بقية جسده بحول الله وقوته؛ ولهذا قال: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيم } أي: عزيز لا يغلبه شيء، ولا يمتنع منه شيء، وما شاء كان بلا ممانع لأنه العظيم القاهر لكل شيء، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
(التفسير)
هذه القصة فيها دلالة على قدرة الله، وقدرته على البعث، أربعة طيور أخذها إبراهيم حيث أمره الله بأن يأخذها ويذبحها، ويقطعها أو يخلط بعضها ببعض، ويجعل على كل جبل جزءًا منها، أربعة أجبل أو غيرها، وأخذ الرؤوس الأربعة بيده، فأراه الله لما أراد أن يحيي الموتى أن يُناديها، فلما ناداها انتفضت وانضم بعضها لبعض، والريش إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم حتى تركب الجسم بدون رأس ثم جاءت كل جثة إليه تريد أن تأخذ الرأس ليتركب معها، فإذا أعطاها الرأس الذي ليس لها يأبى، ويمتنع، حتى يعطيها الرأس الذي هو فيركب، ثم الثاني كذلك، إذا أعطاها الرأس الذي ليس لها أبت، حتى يعطيها الرأس الذي هو فيركب، ثم الثالث، ثم الرابع حتى قام الطائر، فلما رأى ذلك قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير.
{فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة:260] يعني قطعهنّ واذبحهنّ {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} حثيثًا لأخذ الرؤوس {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، فإبراهيم شاهد بعينه كيف يحيي الله الموتى، فزاد يقينه، كان اليقين الأول بخبر الله، واليقين الثاني بالمشاهدة.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن أيوب في قوله: { وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } قال: قال ابن عباس: ما في القرآن آية أرجى عندي منها.
وروى ابن أبي حاتم عن محمد بن المنْكَدِر، أنه قال: التقى عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، فقال ابن عباس لابن عمرو بن العاص: أي آية في القرآن أرجى عندك؟ فقال عبد الله بن عمرو: قول الله عز وجل: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ } الآية -فقال ابن عباس: لكن أنا أقول: قول الله عز وجل: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى} فرضي من إبراهيم قوله: { بَلَى } قال: فهذا لما يعترض في النفوس ويوسوس به الشيطان.
وهكذا رواه الحاكم في المستدرك مثله، ثم قال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
(التفسير)
يعني عبد الله بن عمرو قال: أرجى آية {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] هذه للتائبين، أن الله يقبل التوبة من كل شخص، وقال ابن عباس في قوله: { وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي }: هذه أرجى آية عندي.
{ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } ، فرضي منه بالإيمان فهو يدفع الوساوس، والشكوك .
وفيه أن الوساوس لا تؤثر طالما أن الإنسان علم أنه مؤمن، فالوساوس من عدو الله يريد أن يُتعب العبد، فبعض الناس يأتي ويقول: عندي شك في الجنة، وفي النار، نقول: هذا من الشيطان، أنت عالم أنك مؤمن بالله، تؤمن بنبيه، وتعلم أنك مؤمن بالبعث، والجنة والنار، فهذه الوساوس لا تضر وهي من الشيطان وهو عدو الله، قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، آمنت بالله ورسوله، هذه من عدو الله يريد أن يتعبك، أنت مؤمن والحمد لله.
[1] قال الشارح حفظه الله: فظن أنه يوم واحد بعد مائة سنة، أماته الله أول النهار وأحياه آخر النهار، فظن أنه يومٌ واحد بعد مائة سنة، وأن هذا هو اليوم الذي أماته الله فيه.
([2]) اختلف العلماء في معنى نحن أحق بالشك من إبراهيم على أقوال كثيرة أحسنها وأصحها ما قاله الإمام إبراهيم أبو إبراهيم المزني صاحب الشافعي وجماعات من العلماء معناه إن الشك مستحيل في حق إبراهيم فإن الشك في إحياء الموتى لو كان متطرقًا إلى الأنبياء لكنت أنا أحق به من إبراهيم وقد علمتم أني لم أشك فاعلموا أن إبراهيم عليه السلام لم يشك.
([3]) صحيح البخاري (3372 و4537) ومسلم (151).
([4]) صحيح البخاري (3372 و4537) ومسلم (151).
[5] قال الشارح حفظه الله: يعني اذبح، خذ أربعة طيور واذبحها وقطعها.