** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
وهذا مثل المؤمنين المنفقين {أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} عنهم في ذلك {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}؛ أي: وهم متحققون مُتثَبتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء، ونظير هذا في معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا...» أي: يؤمن أن الله شرعه، ويحتسب عند الله ثوابه.
وقوله: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} أي: كمثل بستان بربوة. وهو عند الجمهور: المكان المرتفع المستوي من الأرض. وزاد ابن عباس والضحاك: وتجري فيه الأنهار.
وقوله: {أَصَابَهَا وَابِلٌ}: وهو المطر الشديد، كما تقدم، {فَآتَتْ أُكُلَهَا}؛ أي: ثمرتها {ضِعْفَيْنِ}؛ أي: بالنسبة إلى غيرها من الجنان. {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} قال الضحاك: هو الرَّذَاذ، وهو اللين من المطر. أي: هذه الجنة بهذه الربوة لا تمحل أبدًا؛ لأنها إن لم يصبها وابل فطل، وأيًّا ما كان فهو كفايتها، وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبدًا، بل يتقبله الله ويكثره وينميه، كل عامل بحسبه؛ ولهذا قال: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}؛ أي: لا يخفى عليه من أعمال عباده شيء.
(التفسير)
هذه الآية الكريمة ضرب الله فيها مثل المؤمن الذي أخلص عمله لله -عز وجل- وأنفق أمواله ابتغاء مرضاة الله، وهو على يقين وثبات من أن الله -سبحانه وتعالى- سيُجازيه وسيُثيبه على عمله، وهو متحقق من ذلك، وليس عنده شك، ضرب الله مثلًا بالجنة، بالبستان الذي في ربوة – وهي المكان المرتفع - وهذا البستان يصيبه مطر قوي شديد، وإذا لم يصبه مطرٌ قوي شديدٌ فإنه يصبه الرذاذ، وهو الطلُّ يعني الشيء اليسير الذي يكفيه، فهذا البستان في جميع الأوقات عنده ما يكفيه من المطر، وليس بحاجة -لا يكون محتاجًا- إلى شيء من الماء، فهو إما بين مطر شديد وبين مطر قليل.
وكذلك المؤمن عمله الصالح الخالص الذي يتقبله الله -عز وجل- ويُثيبه عليه، فعمله مثابٌ عليه في جميع أحواله، وفي جميع أوقاته، فهو بسبب إخلاصه، وإخلاص عمله وموافقته الشرع والسنة، فعمله صواب وهو خالص لله -عز وجل- وسواءٌ قلّ العمل أو كثر، فالواجبات التي يؤديها والمحارم التي ينتهي عنها والنوافل والمستحبات تزيد وتنقص فعمله دائم وثوابه موفرٌ وهو مأجور.
وهذا هو معنى قول الله -عز وجل-: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة:265] فهي تؤتي ثمرتها ضعف ما يؤتيه غيرها من البساتين، إما أن تُخرِج في السنة مرتين، وإما أن يكون الثمر مضاعفًا {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} يعني: فإن لم يصبها وابل أصابها الطلّ، وهو الرذاذ .
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} بصيرٌ بأعمالكم ونياتكم يُجازيكم عليها على حسب أعمالكم وإخلاصكم وصدقكم مع الله -عز وجل- وموافقتها للسنة وزيادة الحسنات والثواب والنوافل والمستحبات بحسبها قلة وكثرة.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}.
روى البخاري([1]) عند تفسير هذه الآية عن ابن عباس - رضي الله عنهما- وعن عبيد بن عُمَير أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- قال يومًا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فيمن ترون هذه الآية نزلت: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ...}؟ قالوا: الله أعلم. فغضب عمر فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس - رضي الله عنهما-: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. فقال عمر - رضي الله عنه-: يا ابن أخي، قل ولا تحقر نفسك. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ضربت مثلًا لعمل. قال عمر: أيُّ عملٍ؟ قال ابن عباس - رضي الله عنهما-: لعمل. قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله، ثم بعث الله له الشيطان فعمِل بالمعاصي حتى أغرق أعماله.
وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية، وتبيين ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أولًا ثم بعد ذلك انعكس سيره، فبدل الحسنات بالسيئات، عياذًا بالله من ذلك، فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من الصالح واحتاج إلى شيء من الأول في أضيق الأحوال، فلم يحصل له منه شيء، وخانه أحوجَ ما كان إليه، ولهذا قال تعالى: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ} وهو الريح الشديد {فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ}؛ أي: أحرق ثمارَها وأباد أشجارها، فأيّ حال يكون حاله؟
وقد روى ابن أبي حاتم ([2])، من طريق العَوْفي، عن ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: ضرب الله له مثلًا حسنًا، وكل أمثاله حسن، قال: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} يقول: صنعَه في شيبته {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} وولده وذريته ضعاف عند آخر عمره، فجاءه إعصار فيه نار فأحرق بستانه، فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله، ولم يكن عند نسله خير يعودون به عليه، وكذلك الكافر يوم القيامة، إذا ردّ إلى الله عز وجل، ليس له خير فيستعْتب، كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل بستانه، ولا يجده قدم لنفسه خيرًا يعود عليه، كما لم يُغْن عن هذا ولدُه، وحُرم أجره عند أفقر ما كان إليه، كما حرم هذا جنة الله عند أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته.
وهكذا، روى الحاكم في مستدركه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: «اللهم اجعل أوسع رزقك علي عند كبر سني وانقضاء عمري»؛ ولهذا قال تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}؛ أي: تعتبرون وتفهمون الأمثال والمعاني، وتنزلونها على المراد منها، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43].
(التفسير)
هذه الآية الكريمة ضرب الله فيها مثلًا بمَن عمِل صالحًا ثم أبطله بالسيئات والرياء وأن عمله السابق حبط وبطل، فلا يجد له أثرًا ولا يجد له عاقبة ولا يجد له ثمنًا؛ لأنه أبطله بالسيئات وبالرياء.
قال تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [البقرة:266] فهذا الرجل {لَهُ جَنَّةٌ} بستان {مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} عملها وورثها في وقت شبابه ونشاطه وقوته وقدرته واستطاعته، هذه الجنة وهذه الأعناب فيها من كل الثمرات، ثم لما كبرت سنه، وتقدمت به السن، وكان عنده أولادٌ صغار أصابها إعصار - وهو ريح الشديدة فيها نار - فاحترقت، هذا يحصل عليه، وأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها، وهو لا يستطيع أن يعمل؛ لأنه تقدم في السن، ولا يستطيع أن ينفق على أولاده فأصيب بالحسرات.
كذلك هذا ضربه الله مثلا لمَن يعمل أعمالًا صالحة ثم يبطلها بالرياء والسيئات التي تحبطها، فإنه إذا قدِم على الله -عز وجل- لا يجد عملًا يُثاب عليه، وإنما يجد الحسرة والندامة، هو لا يستطيع أن يحصل على ثواب الحسنات التي مضت؛ لأنه أحبطها وأبطلها.
هذا المثل ضربه الله -تعالى- لمَن عمل صالحًا ثم أبطله بالسيئات، ولهذا قال -سبحانه وتعالى-: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} ضرب الله هذه الآيات بهذا المثل لمَن يتفكر ويتأمل وينتقل بفكره وعقله من المثل الحسي إلى المثل المعنوي، وحينئذٍ يستفيد -هذا هو الذي يستفيد- أما مَن كان غافلًا ومعرضًا فإنه لا يستفيد بل يبقى على جهله وغفلته.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)}
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإنفاق -والمراد به الصدقة هاهنا؛ قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها. ومن الثمار والزروع التي أنبتها لهم من الأرض.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما-: أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه، ونهاهم عن التصدق بِرُذَالَةِ المال ودَنيه -وهو خبيثه - فإن الله طَيْب لا يقبل إلا طيبًا، ولهذا قال: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ}؛ أي: تقصدوا الخبيث {مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ}؛ أي: لو أعطيتموه ما أخذتموه، إلا أن تتغاضوا فيه، فالله أغنى عنه منكم، فلا تجعلوا لله ما تكرهون.
وقيل: معناه: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} أي: لا تعدلوا عن المال الحلال، وتقصدوا إلى الحرام، فتجعلوا نفقتكم منه.
روى ابن جرير ([3]) رحمه الله عن البراء بن عازب رضي الله عنه في قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ..} الآية. قال: نزلت في الأنصار، كانت الأنصار إذا كان أيام جذَاذ النخل، أخرجت من حيطانها أقناء البُسْر، فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل فقراء المهاجرين منه، فيعْمد الرجل منهم إلى الحَشَف، فيدخله في أقناء البسر-يظن أن ذلك جائز- فأنزل الله فيمن فعل ذلك: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (3).
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس – رضي الله عنهما -: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} يقول: لو كان لكم على أحد حق، فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه. قال: فذلك قوله: {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه!!
رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير، وزاد: وهو قوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون}([4]) [آل عمران:92].
وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي: وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها فهو غني عنها، وما ذاك إلا ليساوي الغني الفقير، كقوله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}[الحج: 37] وهو سبحانه غني عن جميع خلقه، وجميع خلقه فقراء إليه، وهو واسع الفضل لا ينفد ما لديه، فمن تصدق بصدقة من كسب طيب، فليَعلمْ أن الله غني واسع العطاء، كريم جواد، سيجزيه بها ويضاعفها له أضعافًا كثيرة من يقرض غَيْرَ عديم ولا ظلوم، وهو الحميد سبحانه؛ أي: المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
وقوله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .
روى ابن أبي حاتم: عن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن للشيطان لَمّة بابن آدم، وللمَلك لَمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك فليعلَمْ أنه من الله، فَلْيحمَد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان». ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا..}([5]) الآية.
وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سُنَنَيْهما جميعًا ([6]).
ومعنى قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} أي: يخوفكم الفقر، لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة الله، {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} أي: مع نهيه إياكم عن الإنفاق خشية الإملاق، يأمركم بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخَلّاق، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ} أي: في مقابلة ما أمركم الشيطان بالفحشاء {وَفَضْلًا} أي: في مقابلة ما خوفكم الشيطان من الفقر {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
وقوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما-: يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله.
روى الإمام أحمد عن ابن مسعود –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسلَّطه على هَلَكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها»([7]).
وهكذا رواه البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه([8]).
وقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}؛ أي: وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لبٌّ وعقل يعي به الخطاب ومعنى الكلام.
(التفسير)
هذه الآيات وجَّه الله تعالى فيها الخطاب للمؤمنين قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}[البقرة:267] ليكون ذلك أدعى للقبول، يا أيها الذين اتصفوا بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره امتثلوا هذا الأمر {أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} وهذا الأمر بالإنفاق أمر بالصدقة؛ أي: تصدقوا وأنفقوا في وجوه الخير وفي المشاريع الخيرية من الطيبات {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} ولا تنفقوا من الخبيث فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا {أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} أنفقوا الطيب، ولا تنفقوا الخبيث؛ وهو: الرديء والرُذال ولو كان لكم على أحد ثم أعطاكم هذا الرذال فلا تقبلونه إلا على وجه الإغماض والحياء، أو أن المعنى المراد بالخبيث: المحرّم، فلا تنفقوا المحرّم وإنما أنفقوا من الطيب الحلال؛ ولهذا قال –سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} .
هو -سبحانه وتعالى- غنيٌ عن العالمين، وغنيٌ عن نفقاتكم وصدقاتكم ولكنه -سبحانه وتعالى- أمركم بذلك لتمتثلوا أمره ولتربحوا عليه أعظم الربح، فهو -سبحانه وتعالى- حميد: يحمده عباده، وشكور: يشكرهم على ما وفقهم له من الهداية والإنعام.
ثم قال -سبحانه وتعالى-: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ}[البقرة:268] فالشيطان يخوفكم الفقر ويقذف في نفوسكم أن النفقة والإنفاق ينقص المال، حتى يحبس الإنسان عن النفقة، فهو يعد بالفقر ومع ذلك يأمر بالمعاصي والفحشاء، فلا تطيعوا الشيطان واحذروا من وعده وإيعاده، والله سبحانه وتعالى يعدكم مغفرة وفضلًا في مقابل وعد الشيطان بالفقر والفحشاء {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} وهو -سبحانه وتعالى- واسع الفضل والجود، وهو يقبل العمل اليسير ويُجازي عليه بالكثير، فامتثلوا أمر الله واحذروا من وعد الشيطان وإيعاده.
فهو -سبحانه وتعالى- يؤتي الحكمة مَن يشاء، وهي الفقه في الدين؛ معرفة الحلال والحرام والناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والظاهر والمؤول، فهذه الحكمة يؤتيها الله مَن يشاء، وهي العلم والبصيرة وهو -سبحانه وتعالى- يقسم بين عباده الأرزاق؛ أرزاق القلوب، وأرزاق الأبدان، وهذا من رزق القلوب، وهو أهم وأعظم من رزق الأبدان {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:269] وهذا الذي أتاه الله الحكمة والعلم مغبوط محسود حسد غبطة كما ثبت في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل أتاه الله مالًا فسلطته على هلكته بالحق" وفي لفظٍ: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل، وآناء النهار، ورجل أتاه الله علمًا فهو يعلمه آناء الليل، وآناء النهار"([9]) أو كما قال -عليه الصلاة والسلام- فهو -سبحانه- يؤتي الحكمة مَن يشاء وفق علمه وحكمته.
وقوله: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} مَن أتاه الله الحكمة فقد أتاه الله الخير الكثير؛ لأن هذه الحكمة ثوابها في الآخرة عظيم، بخلاف ما يحصل للإنسان في الدنيا فإنه محدود وأما الخير في الآخرة فهو لا نهاية له، {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ}: لا يتذكر ولا يتعظ ولا يؤثر ما يبقى على ما يفنى إلا أصحاب العقول السليمة، الذين أرشدتهم عقولهم الصائبة إلى سلوك الحق وسلوك طريق العلم حتى أتاهم الله الحكمة ففازوا بالربح العظيم.
([1]) صحيح البخاري (5438).
([2]) تفسير ابن أبي حاتم (2778).
([3]) تفسير الطبري (4/699).
([4]) تفسير الطبري (4/696) و(4/704) وتفسير ابن أبي حاتم (2789).
([5]) تفسير ابن أبي حاتم (2810).
([6]) الترمذي (2988) والنسائي (10985).
([7]) المسند (3651) و(4109).
([8]) البخاري (73) ومسلم (816) والنسائي (5809) وابن ماجه (4208).
([9]) تقدم تخريجه.