شعار الموقع

شرح سورة البقرة من مختصر تفسير ابن كثير 69

00:00
00:00
تحميل
98

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

يقول الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)}

يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات وتَضَمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه ورجاء موعوده. وتوعد من لا يعمل بطاعته، بل خالف أمره وكذب خبره وعبد معه غيره، فقال: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} أي: يوم القيامة ينقذونهم من عذاب الله ونقمته.

[فضل إظهار الصدقة وإخفائها]

وقوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} أي: إن أظهرتموها فنعم شيء هي.

وقوله: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها؛ لأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة، من اقتداء الناس به، فيكون أفضل من هذه الحيثية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمُسِر بالقرآن كالمُسِر بالصدقة»([1]).

والأصل أن الإسرار أفضل لهذه الآية، ولما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل قلبه معلق بالمساجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»([2]).

وقوله: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي: بدل الصدقات، ولا سيما إذا كانت سرًّا يحصل لكم الخير في رفع الدرجات ويكفر عنكم السيئات.

وقوله {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي: لا يخفى عليه من ذلك شيء، وسيجزيكم عليه.

(التفسير)

ففي هذه الآيات الكريمات، فضل الإنفاق والصدقة والوفاء في النذور، إذا فعل، إذا أدى المؤمن هذه العبادات ابتغاء مرضاة الله، وتصديقًا لموعوده، ولهذا قال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة:270]، ما أنفقتم من نفقة في بر الوالدين، وفي صلة الأرحام، والإنفاق عليهم بالقربات، وذوي والحاجات، وفي المشاريع الخيرية، فلو نذرتم من نذر ووفيتم بهذا النذر، وقصدتم من ذلك ابتغاء مرضاة الله، {فَإِنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُهُ} وسوف يجازي على ذلك، الجزاء الأوفى، وقوله: {فَإِنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُهُ} يعني وسيجازي على ذلك، والمقصود أن الله يعلمه وسيجازي على ذلك، وأما من لم يؤمن بالله ورسوله، ولم يصدق خبره، ولم يمتثل أمره فهو ظالم، {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} ظالم الظلم الأكبر وهو ظلم الشرك، وفي الآية الثانية بين الله تعالى فضل الإسرار للصدقة على الإعلان، فقال سبحانه وتعالى: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} يعني فنعم إظهارها، فهي صدقة مقبولة إن قصد بذلك وجه الله، {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي أن إسرار الصدقة خير وأفضل من إعلانها، لأنه أقرب إلى الإخلاص، وأبعد عن الرياء، فالصدقة إذا كانت في السر أفضل من الصدقة إذا كانت في الإعلان، إلا إذا ترتب عليه المصلحة وكان يقتضى به، ويكون قدوة في الخير، فهو أفضل من هذه الحيثية، ولهذا لما جاء جماعة من مضر، فقراء ثيابهم مخرقة مشققة، مجتابي النمار، فتلون وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تغير، ثم أمر بلالًا فأذن ثم صلى، فلما صلى خطب الناس عليه الصلاة والسلام وحثهم على الصدقة، وقد تصدق رجل من بره، صاع من بره، من تمره، من ثوبه، ثم جاء رجل من الأنصار بكفيه شيء من الطعام، بكفيه حتى كانت كفاه تعجزان عنهما، ثم تتابع الناس واقتدوا به، فقال النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام: «من سن سنة الإسلام، فمن سن سنة حسنة فله أجره وأجر العاملين بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»([3]) فهذا الرجل أتى بهذه الصدقة إعلانًا، لكن اقتدي به فاقتدى بها الناس، فصار له أجرها وأجر من عمل بها، فهذا الإعلان ترتب عليه مصلحة، {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} فهو خير لكم لما فيه من الأجر والثواب العظيم، وتكفير السيئات، {وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} خبير بأعمالكم ونياتكم، وإخلاصكم وصدقكم مع الله، وسوف يجازيكم على ذلك، وفي هذه الآيات الكريمات فضل النفقة، والوفاء في وجوه الخير وفي وجوه البر، وفضل الوفاء بالبر، وأن الله يجازي على ذلك أحسن الجزاء، وفيه أن الظالم ليس له نصيرٌ يدفع عنه عذاب الله، الذي ظلم نفسه بالكفر أو بالمعاصي، قال سبحانه: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [آل عمران:192] من ناصرٍ يدفع عنهم، وقال سبحانه: {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان:19] وقال سبحانه: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] وأعظم الظلم الكفر والشرك، لأن المشرك وقع في الظلم، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، والمشرك وضع العبادة في غير موضعها، فأتى على حق الله، التوحيد وَعَبَدَ غيرَ الله، فوقع في أعظم الظلم، ثم يبين ظلم العباد بعضهم لبعض في دمائهم وأموالهم وأراضيهم، ثم ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله ودون الله فيما دون الشرك، وفي هذه الآيات الكريمات دليلٌ على أن صدقة السر أفضل من صدقة الإعلان، وكذلك جميع العبادات، إلا ما شُرع فيه الإعلان، كالصلوات الخمس، وصلاة الضحى في البيت أفضل، صلاة السنن والرواتب في البيت أفضل، صلاة الليل، إلا لما شرع فيه الإعلان كالصلوات الخمس وصلاة الكسوف، وصلاة الاستسقاء، وقيام رمضان، هذه مشروع فيها الإعلان، الأصل أن العبادات في السر أفضل منها في الإعلان إلا لو يترتب على هذا الإعلان مصلحة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمُسِر بالقرآن كالمُسِر بالصدقة»([4])، فالقراءة في السر أفضل إلا إذا ترتب مصلحة، كأن يكون حوله من يستمع أو يتدبر ويستفيد، أو كانت مثلًا أنشط له وأعون، وقراءته بالجهر يطرد النعاس، فهذا يترتب عليه مصلحة.

فائدة: هل المراد بالسر  أن يقرأ الإنسان بقلبه ولا بشفتيه؟

الجواب: لا، القراءة بالقلب ما تسمى قراءة، كما يفعل بعض الناس، ينظر في المصحف ولا يحرك شفتيه، هذه ليست قراءة هذه تأمل، القراءة لابد أن تحرك شفتيك ولسانك وتسمع نفسك، حتى في الصلاة، بعض الناس ما يتكلم، هذا الأخرس، الأخرس يعني معذور يقرأ بقلبه، لكن الغير أخرس ما له عذر، ما تجزئه، فإذا صلى ولم يحرك شفتيه فصلاته باطلة.

فلابد أن تحرك شفتيك وتسمع نفسك أيضًا، تسمع نفسك في وقت أيش، في الوقت الذي ليس فيه هناك أصوات عندك، أما لما يكون هناك أصوات، كان فيه أصوات مزعجة هذا ما يصير فيه أن تسمع فيه نفسك، تسمع نفسك لو لم يكن هناك أصوات حينها تسمع نفسك، وإلا ما تسمى قراءة، القراءة إنما تكون بإجراء الحروف على اللسان، والسمع، والأذن تسمع قراءتك، أما كونه يقرأ بالقلب فهذا الأخرس الذي يقرأ بقلبه، لكن الغير أخرس لابد من أن يتكلم، ولا تسمى قراءة ولا كلام التي تكون في القلب، الأشاعرة هم الذين يقولون: أن الكلام في القلب، وهذا من الباطل، يقول الكلام في القلب، ولهذا قالوا: أن القرآن معني قائم بنفس الرب لا يسمع منه، الرب ما يتكلم، لأنه لو تكلم لحلت الحوادث في ذاته، فقالوا: القرآن معنى قائم بنفسه في ذاته، وقالوا: القرآن هذا ما فيه كلام الله، هذا عبارة عن كلام الله، تأدى به كلام الله، وقد أنكر عليهم العلماء وبينوا فساد هذا المذهب، وأنهم مبتدعون في هذا، نعم، ولهم استدلال بقول الأخطل النصراني:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
   

   

جعل اللسان على الفؤاد دليلًا
 

 

وهذا البيت مصنوع ولا يوجد فيه دليل، لا في الأخطل ولا في غيره، ثم أن الأخطل نصراني ولا يحتج بقوله، متأخر مولدًا، لكن أهل الباطل يتعلقون بخيط العنكبوت، المقصود أن القراءة لابد فيها من إجراء القراءة على الشفتين واللسان، تحريك اللسان، والقراءة بالحروف وإخراج الحروف من مخارجها وتسمع نفسك، هذه هي القراءة، أما الذي يقرأ بقلبه فهذه ليست قراءة، ولا تحسب له صلاة بإجماع العلماء، وصلاته باطلة.

ولابد أن ينتبه الإنسان لهذا، قد يوجد بعض الناس يلتبس عليه الأمر، ويظن أن القراءة هي قراءة السر التي هي يقرأ بقلبه، كما لو يجيز بعض الناس، كما حكي لي من بعض الناس أن الوضوء يمسح، يمسح يديه ويمسح رجليه، ويمسح وجهه، هكذا يبل يديه ويمسح وجهه واليدين يمسح يديه، لابد من إجراء الماء على العضو ، لكن بدون إسراف، على الوجه واليدين والرجلين، والرأس هي التي تمسح.

 

وهنا تنبيه: بعض الناس يقرأ بصوت لكن ما يوضح الحروف ولا المخارج؟

وهذا لا يصح، في الصلاة، لابد أن يقرأ قراءة مفهومة، يُخرج الحروف من مخارجها، فلو أسقط حرف من الفاتحة بطلت صلاته!

ما المقصود بالصوت؟

الجواب: المقصود القراءة المفهومة، التي فيها إخراج الحروف من مخارجها، ولهذا قال العلماء: القراءة في الفاتحة لو أسقط حرف منها، وفيها إحدى عشر شدة، فلابد أن يأتي بها، فإذا أسقطَ شدةً فمعناه أنه أسقطَ حرفًا: {الْحَمْدُ لِلَّـهِ} هذه هي الشدة الأولى، {رَبِّ} هذه هي الشدة الثانية، {الرَّحْمَـٰنِ}، {الرَّحِيمِ}، {الدِّينِ}، {إِيَّاكَ}، {وَإِيَّاكَ}، {الصِّرَاطَ}، {الَّذِينَ}، {وَلَا الضَّالِّينَ}: شدتين، الضاد واللام.

كيف يسقط الإنسان الشدة؟ يقرأ مثلا: (الحمد لله رَبِ العالمين) هنا ما شدد، {رَبِّ الْعَالَمِينَ} هنا شدد، لكن هو قال: (الحمد لله رَبِ العالمين) هنا أسقط حرفًا، أو أقرأ: {الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ} (الرَحْمن)، {الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ} لابد أن يأتي بالشدة، (مالك يوم الدِين)، {يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] يقرأها (إِيَاك)، اقرأها: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] لابد أن تشدد، شدد، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} [الفاتحة:6] يقرأها: (الصِرَاط)، وهكذا، الشدة لابد أن يؤتى بها.

فإن قيل: فما حكم صلاة من يحرك شفتيه من دون أن يسمع نفسه؟

الجواب: إذا حرك شفتيه فإنها لا تُعَدُّ قراءة، فقد يحرك شفتيه ولا يخرج الحروف من مخارجها، فإذا أخرجها من مخارجها فلابد أن هناك صوتًا خفيفًا حتى تسمع نفسك، ليس معنى ذلك أن بعض الناس تشوش على الذي بجواره.

فائدة: هل الآية تدل على فضل النذر ابتداءً ؟

الجواب: لا، الآية تدل على فضل الوفاء بالنذر، كما قال الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] أما ابتداء النذر فمكروه أو حرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال: « إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل»([5]) فالنذر منهي عنه، إما للتحريم أو للكراهة، أما الوفاء بالنذر فإذا كان لطاعة فإنه يمدح عليه، ولهذا مدح الله الأبرار حين يوفون بالنذر، قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)}

[الصدقة للمشركين]

قال أبو عبد الرحمن النسائي: عن ابن عباس قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين فسألوا، فرخص لهم، فنزلت هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}([6]).

وقوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} كقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِه} [فصلت: 46، الجاثية: 15] ونظائرها في القرآن كثيرة.

وقوله: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} قال الحسن البصري: نفقة المؤمن لنفسه، ولا ينفق المؤمن -إذا أنفق -إلا ابتغاء وجه الله([7]).

وقال عطاء الخراساني: يعني إذا أعطيت لوجه الله، فلا عليك ما كان عملُه([8]).

وهذا معنى حسن، وحاصله أن المتصدق إذا تصدق ابتغاء وجه الله فقد وقع أجرُه على الله، ولا عليه في نفس الأمر لمن أصاب: أبَرّ أو فاجر أو مستحق أو غيره، وهو مثاب على قصده، ومستَنَدُ هذا تمام الآية: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} والحديث المخرج في الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال رجل: لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبح الناس يتحدثون: تُصُدقَ على زانية! فقال: اللهم لك الحمد، على زانية، لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تُصدق الليلة على غَني! فقال: اللهم لك الحمد على غني، لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تُصدق الليلة على سارق! فقال: اللهم لك الحمد على زانية، وعلى غني، وعلى سارق، فأتي فقيل له: أما صدقتك فقد قُبِلَتْ؛ وأما الزانية فلعلها أن تستعف بها عن زناها، ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته»([9]).

(الشرح)

هذا هو الشاهد أنه قال: «أما صدقتك فقد قُبِلَتْ» فقد قبلت صدقته لأنه ما قصر، اجتهد وضع الصدقة الأولى في يد زانية ما يدري، ما علم، وفي المرة الثانية وضعها في يد غني، وفي المرة الثالثة وضعها في يد سارق، فقيل: «أما صدقتك فقد قُبِلَتْ» لأنه اجتهد ووضعها على حسب غلبة ظنه، فصدقته مقبولة وأيضًا قد يكون فيه فائدة كما في الحديث، «لعل الزانية فلعلها أن تستعف بها عن زناها، ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته».

فوائد مهمة:

الأولى: هل يجب التثبت في أموال الزكاة أم نأخذ بالحديث على ظاهره؟

الجواب: أما الزكاة لابد أن تجتهد، لا تضعها إلا في موضعها، وأما الصدقة تطوع أمرها واسع، الزكاة لابد أن تجتهد وأن تعتني، حتى لا تضعها إلا في موضعها، لكن، والعبرة في غلبة الظن، لكن لو لم تقع في موقعها و أنت اجتهدت ما عليك، صدقتك صحيحة، مقبولة.

الثانية: لو علمَ المتصدقُ أنها زانية هل له أن يعطيها من الصدقة؟

الجواب: إذا كانت الصدقة تطوع فلا بأس، فالصدقة الأمر واسع، لكن الزكاة لا.

الثالثة: وهل يمكن إعطاؤها من باب الهبة والعطية وليس من باب الصدقة؟

الجواب: حسب نيته إذا كانت فقيرة وأعطاها صدقة التطوع فأمرها واسع،  وحتى على الغني، لكن الكلام في الزكاة، والغني أيضًا بهذه النية، يعني لعله يعتبر، وينفق مما أعطاه الله، إذا رأى أن من أعطاه، أعطاه صدقة.

الرابعة: هل السائلون عند المساجد يعطون من الصدقة أم يجب التثبت؟

الجواب: الصدقة لها ثلاثة أحوال:

الحال الأولى أن تعلم أنه غني، فتزجره وتبين له الوعيد الشديد ولا تعطيه إن بدأ يسأل، لكن هذا الذي في الحديث ما سأل ليعطيه، كما جاء في الحديث فمثله مثل الجمرة: «أنه ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم»([10]) ويبلغ عنه.

الحال الثانية: أن تعلم أنه فقير، وفي هذه الحالة تعطيه، فكونه يسأل في المسجد، فقد لا يجد مكان يسأل فيه فوجد هذا المكان.

الحال الثالثة: إذا كنت لا تدري هل هو محتاج أو غير محتاج، لكن لا تتركه، فلو سأل أعطيه حتى لو كان القَدْرُ اليسير.

وفي الجملة لو أعطيته شيئًا قليلًا، فلا بأس فللسائل حق في الجملة.

الخامسة: وهل للغنى حَدٌّ معلوم؟

الجواب: نعم، الغني من يجد ما يكفيه، فإذا وجد ما يكفيه وعنده قُوتُ يومِهِ، فلا يسأل، إلا لو كان عليه دين أو مطالب بالدَّيْن؛ وذلك خشية دخول السجن.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

[من أحق بالصدقة؟]

وقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يعني: المهاجرين الذين انقطعوا إلى الله وإلى رسوله، وسكنوا المدينة وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم و {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} يعني: سفرًا للتسبب في طلب المعاش. والضرب في الأرض: هو السفر؛ قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101]، وقال الله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه} الآية [المزمل: 20].

وقوله: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} أي: الجاهلُ بأمْرهم وحالهم يحسبهم أغنياء، من تعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم. وفي هذا المعنى الحديث المتفق على صحته، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يُفْطَنُ له فَيُتَصَدقَ عليه، ولا يسأل الناس شيئا»([11]). وقد رواه أحمد من حديث ابن مسعود أيضًا([12]).

وقوله: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} أي: بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم، كما قال الله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح: 29]، وقال: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْل} [محمد: 30]

وقوله: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} أي: لا يُلحْون في المسألة ويكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه، فإن من سأل وله ما يغنيه عن السؤال، فقد ألحف في المسألة.

وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: سرحتني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أسأله، فأتيته فقعدت، قال: فاستقبلني فقال: «من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفَّه الله، ومن استكف كفاه الله، ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف». قال: فقلت: ناقتي الياقوتة خير من أوقية. فرجعت فلم أسأله([13]). وهكذا رواه أبو داود والنسائي.([14])

وقوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} أي: لا يخفى عليه شيء منه، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه يوم القيامة، أحوج ما يكونون إليه.

[مدح المتصدقين]

وقوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} هذا مدحٌ منه تعالى للمنفقين في سبيله، وابتغاء مرضاته في جميع الأوقات من ليلٍ أو نهار، والأحوال من سرٍ وجهار، حتى إن النفقة على الأهل تدخل في ذلك أيضًا، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص - حين عاده مريضًا عام الفتح، وفي رواية عام حجة الوداع- : «وإنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجةً ورفعة، حتى ما تجعل في في امرأتك»([15]).

وروى الإمام أحمد([16]) عن أبي مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: «إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة»([17]) أخرجاه.

وقوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي: يوم القيامة على ما فعلوا من الإنفاق في الطاعات {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} تقدم تفسيره. 

(التفسير)

في هذه الآيات الكريمات فضل الصدقة ومكان الصدقة ومحلها، قال سبحانه وتعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} هذه الآية فيها دليلٌ على أن الهداية، هداية التوفيق والتسديد وهي بيد الله، لا يقدر عليها أحد، وأما هداية الدلالة والإرشاد فيقدر عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك المصلحون.

فالهداية هدايتان: الأولى: هداية خاصة بيد الله؛ هداية التوفيق والسداد، وخلق الهداية في القلوب، وجعل إنسان يقول الحق ويختاره، فهذه إلى الله، وليس لأحد.

والثانية: هداية الدلالة والإرشاد والبيان والإيضاح، هذه يقدر عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى في الهداية الأولى لما مات أبو طالب على الشرك، وحرص النبي صلى الله عليه وسلم على هدايته ودعاه إلى الإسلام، ولكنه مات على الشرك أنزل الله على نبيه: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـكِنَّ اللَّـهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص:56]، لأنك لا توفق ما لم يرد الله توفيقه، ولا تجعله يقول الحق والله ما أراد ذلك، ومثل هذه الآية: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} هذه هي هداية التوفيق والتسديد، والنوع الثاني: هداية الدلالة والإرشاد، ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم، كما في قول الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} يعني ترشد وتدل، ومنه أيضًا قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] هذا نوع من أنواع الإرشاد، فقد أرشدهم، وهذا للدلالة والإرشاد، ولكن ما وفقه والدليل على ذلك قوله: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} هداهم يعني دلهم وأرشدهم، وأوضح لهم طريق الحق، في كتبه وعلى ألسنة رسوله، لكنهم لم يقبلوا، {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} يعني دللناهم وأرشدناهم، {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} ثم قال سبحانه وتعالى في بيان فضل النفقة: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّـهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} فيه دليلٌ على أن الإنسان إذا أنفق الخير فلنفسه، إذا كان على الإخلاص ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، فالفائدة تعود عليك أنت، {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّـهِ} هذا فيه الإخلاص، والنفقة المقبولة هي التي تبتغى بها وجه الله، {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} خير كلمة نكرة في سياق النفي، تعم أي خير ولو كان قليلًا، كقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة:7].

وقوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّـهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:273] أي خير ولو كان قليلًا تنفقه لأن الله به عليم وسيجازي على ذلك، المقصود من العلم الجزاء، {لِلْفُقَرَاءِ} هذا مصرف الصدقة، {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} هذا هو وصف الفقراء المتعففين، الفقراء المتعففين الفقراء الذين أحصروا في سبيل الله، مُنعوا، والحصر هو المنع، {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ} الفقراء الذين أحصروا منعوا، لم يحصلوا على المال، وصف بذلك المهاجرون الذين قدموا إلى المدينة، وليس معهم شيء، أحصروا في سبيل الله، وصفهم {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ} لا يستطيعون السفر لكسب المال وطلب الرزق، {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} لأنهم لا يظهرون فقرهم، ولا يبينوه للناس، فتجد هيئتهم وكلامهم ولباسهم هيئة الغني، يحسبهم غني، {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} بصفاتهم {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} هذا هو الفقير الذي ينبغي أن تطلبه، والبحث عنه وقد يموت في بيته ولا يدرى عنه، لشدة حيائه بخلاف الفقير الذي يشحذ هذا الذي لا يعطى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، و التمرة والتمرتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي ليس له غني يغنيه، ولا يفطر له ولا يتصدق عليه، ولا يقوم ليسأل الناس»([18]) الأول مسكين لكن هذا أشد من المسكنة، نفي الشيء عن المسكين ليثبت ما هو أولى منه، فعندنا مسكينان، مسكين أولى من مسكين، مسكين يرفع يده للناس، يقف على أبواب المساجد، هذا مسكين لكن يبحث، هذا يضع في يده ريـال، وهذا يضع في يده خبز وهذا يضع في يده كذا، هذا يضع فيه شيئًا من الطعام، يحصل ما يكفيه لأنه يشحذ، فترده اللقمة واللقمتان ولكن المسكين الذي أشد منه فلا يسأل الناس، ولا يمد يده وليست عليه علامات الفقر، هيأتُهُ ولباسُهُ، ولا يقوم لأنه يستحيي أن يسأل الناس.

ولا يُفْطَن له فَيُتَصَدَّقُ عليه، ما يُظَنُّ أنه فقيرٌ، ولا يقوم فيسأل الناس، ولهذا يموت في بيته وما يدري به أحد، هذا هو الذي ينبغي أن تبحث عنه، هذا أشد من الأول، لكن الأول مسكين.

هذا كثيرًا ما يرد في النصوص، نفي الصفة عن الشيء لإثبات ما هو أعلى منه «ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان»([19]) ومثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب»([20])، ليس القوي الذي يصرع الناس ويطرح الرجال، هذا القوي لكن الأشد منه هو الذي يملك نفسه عند الغضب، نفى عن شديد وكان ذلك الشديد الأولى منه، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب»([21]) ليس القوي الذي يطرح الناس لقوته، ولكن الشديد في الحقيقة هو الذي يملك نفسه عند الغضب، الذي يطرح الناس قوي وشديد؛ لكن الأشد منه الذي يملك نفسه عند الغضب وأولى بهذا الوصف، مثل: «ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان» هذا هو المسكين لكن الأولى عنه في الفقر والمسكنة الذي لا يجد مالًا يغنيه، ولا يخرج فيسأل الناس، ولا يفطن له ولا يتصدق عليه، ولهذا قال الله سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} تعرفهم بصفاتهم، هذا هو محل الصدقة والبحث.

ثم قال سبحانه وتعالى: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّـهَ بِهِ عَلِيمٌ} إذًا: كرر ذلك لبيان أهمية الإنفاق والصدقة وأنها مهما قلَّت وصدرت عن إخلاص وصدق فإن الله يجازي عليها، {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّـهَ بِهِ عَلِيمٌ} ثم مدح المنفقين فقال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} [البقرة:274]، هؤلاء المنفقون الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار في السر والإعلان، يرجون ثواب الله تعالى، ابتغاء وجهه لا رياءٌ ولا سمعة، هؤلاء لهم أجرٌ عظيم وثوابٌ عظيم عند ربهم، يكفيهم العندية، عند ربهم، وما كان عند الله فالله تعالى خير، وما عند الله خيرٌ وأبقى.

ثم قال تعالى: {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} لا خوف عليهم في المستقبل، يأمنون من المخاوف والشدائد والكربات يوم القيامة وعذاب النار، ولا يحزنون على ما خلفوا في الدنيا من أموال وأولاد.

ففي هذه الآيات أن الهداية هي التوفيق والتسديد بيد الله تعالى.

وفيها: أن ما ينفقه الإنسان من خير، فإنما ينفع نفسه.

وفيها: وجوب الإخلاص في النفقة والصدقة.

وفيها: أن الإنسان يوفى عمله كاملًا ولا يُنقص منه شيء، ولهذا قال الله تعالى: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}.

وفيها: أن الصدقة على الفقير المتعفف الذي لا يسأل الناس أفضل من الصدقة للفقير الذي يسأل الناس، والإنفاق بالليل والنهار والسر والجهر، وأن ثوابه عظيم عند الله تعالى، وهو من المغبوطين، حصل له غبطة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «لا حسد إلا في اثنتين، رجل أتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل أتاه الله مالًا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار»([22])، وفي اللفظ الآخر: «لا حسد إلا في اثنتين، رجل أتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها»([23]) والحكمة هي العلم النافع المأخوذ من القرآن والسنة،  هذان الصنفان محسودان حسد غبطة، وحسد الغبطة هو أن تتمنى أن يكون لك مثله من غير أن تنتقل هذه النعمة عنه، أما الحسد المذموم الذي يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، فهو أن تتمنى أن تنتقل النعمة من أخيك إليك ويبقى معدمًا منها، يبقى عاريًا منها، هذا حسد يأكل الحسنات، فقال تعالى: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5]، فالإنسان مثلًا إذا رأى ما أنعم الله عليه من نعمة يتمنى أن تزول عنه، هذا حسد يأكل الحسنات، أما إذا تمنيت أن تكون مثله من غير أن تنتقل، ويبقى هو على ما عليه من الخير والنعمة، فهذا هو حسد الغبطة.

فائدة: الذي يملك الطعام والشراب والسكن ليس بفقير؛ الفقير الذي يعطى من الزكاة هو الذي لا يجد ما يكفيه نفقة لمدة سنة، أو سُكْنة أو كُسْوة؛ لأن الزكاة من السنة إلى السنة، فيعطى من الزكاة ما يكفي لمدة سنة، نفقة وكسوة وإيجار البيت إذا كان مؤجر البيت، أما إذا كان عنده ما يكفيه، مرتب يكفيه شهري يكفي نفقة وكسوة.

وكذلك من عليه دين ولا يستطيع الوفاء، وهو مطالب به، فهو من الغارمين، يعطى من الزكاة ما يسدد به دينه.

مسألة: إذا عَلِمْنَا فقيرًا في بلد آخر وكان متعففًا، ولا يجد من يعطيه، هل الأولى أن نعطيه من الزكاة، أو نعطي الفقير في نفس البلد؟

الجواب: الأصل في الزكاة أن تكون في البلد، هذا هو الأصل، وقال كثير من العلماء: أن الزكاة لا تُنْقَلُ من البلد؛ والسبب قول النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا إلى  أهل اليمن: «فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم»([24]) في البلد نفسها إلا إذا لم يوجد فقراء في البلد فإنه ينتقل بها إلى أقرب بلد.

ولكن ذهب جمع من المحققين، إلى أن الزكاة تنقل لمصلحة راجحة، إذا كان هناك فقير أشد من فقراء هذه البلد، جاز نقلها عند جمع من المحققين، وكذلك لو كان الفقراء من أقاربه، فيجوز أن تنقل الزكاة إلى الأقارب في بلد غير البلد، وكذلك إذا كان الفقير أشد في الحاجة، أما إذا كان الفقير متساوي فلا تنقل الزكاة.

 

([1]) أخرجه أبو داود (1333)، والترمذي (2919)، والنسائي (2561) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال الألباني في صحيح أبي داود (1204): إسناده صحيح.

([2]) أخرجه البخاري (660، 1423، 6806)، ومسلم (1031).

([3]) أخرجه مسلم (1017) من حديث جرير بن عبد الله البجلي.

([4]) سبق تخريجه.

([5]) أخرجه البخاري (6608، 6692، 6693)، ومسلم (1639) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

([6]) أخرجه النسائي في الكبرى (10986)، والحاكم في المستدرك (3128) وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» اهـ.

([7]) ينظر: تفسير ابن أبي حاتم (2861).

([8]) المصدر السابق (2860).

([9]) أخرجه البخاري (1421)، ومسلم (1022).

([10]) أخرجه البخاري (1474)، ومسلم (1040).

([11]) أخرجه البخاري (1479، 4539)، ومسلم (1039) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([12]) أخرجه أحمد (3636).

([13]) أخرجه أحمد (11060)، وأبو داود (1628)، والنسائي (2595)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1440) ، وفي السلسة الصحيحة (1719)

([14]) قال الشارح- حفظه الله-: يعني سأل فقال أبو سعيد: عندي ناقة، عندي وقية وقد ألحفت وعندي ناقة، عدل عن السؤال، وجاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يسأل، أرسلته أمه...

 

([15]) أخرجه البخاري (56، 1295، 3936، 4409، 6373)، ومسلم (1628).

([16]) المسند (17082، 17110).

([17])أخرجه البخاري (55، 5351)، ومسلم (1002).

([18]) سبق تخريجه .

([19]) سبق تخريجه.

([20]) أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([21]) سبق تخريجه.

([22]) أخرجه البخاري (5025، 5026، 7529)، ومسلم (815) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما

([23]) أخرجه البخاري (73، 1409، 7141، 7316)، ومسلم (816) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

([24]) أخرجه البخاري (1395، 1496، 4347)، ومسلم (19) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد