** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
يقول الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}
[لا يبارك في الربا]
يخبر الله تعالى أنه يمحق الربا؛ أي: يذهبه، إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يَحْرمَه بركة ماله فلا ينتفع به، بل يعذبه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة، كما قال تعالى: { قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } [المائدة: 100]، وقال تعالى: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّم } [الأنفال: 37]، وقال: { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّه..} الآية [الروم: 39].
وقال ابن جرير: في قوله: { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا } وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل». رواه الإمام أحمد في مسنده بنحوه .
[إن الله يربي الصدقات كما يربي أحدكم فلوه]
وقوله: { وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } أي: ينميها، وقيل: يُرْبيها. كما روى البخاري: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فَلُوَّه، حتى تكون مثل الجبل». وقد رواه مسلم في الزكاة.
[الكافر الأثيم مبغض عند الله]
وقوله: { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ }؛ أي: لا يحب كفور القلب أثيم القول والفعل، ولا بد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة، وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من التكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل، بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل.
[مدح الشاكرين]
ثم قال تعالى مادحًا للمؤمنين بربهم، المطيعين أمره، المؤدين شكره، المحسنين إلى خلقه في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، مخبرًا عما أعد لهم من الكرامة، وأنهم يوم القيامة من التبعات آمنون، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
(التفسير)
في هاتين الآيتين الكريمتين بيان الربا، وبيان الإحسان، وأنهما ضدان، وبيان عاقبة كل منهما، وحال كل منهما، والله تعالى قارن بينهما؛ بين الصدقات وبين الربا قال تعالى في الآية التي قبل آية الربا: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:274]، وقال سبحانه في هذه الآيات: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:277]، فالربا ظلم وعدوان، والصدقات إحسان وعدل وإيمان، فالربا يمحقه الله؛ بمعنى: أن الله يذهبه بالكلية؛ يذهب من يد صاحبه، فلا يستفيد منه، أو يمحق بركته، فلا يستفيد منه، وهو يعذب عليه في الآخرة، كما قال الله تعالى: { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55] فالمنافقون يعذبون في أموالهم، وأولادهم في الدنيا مع ما أعد الله لهم في الآخرة من العذاب الأليم، والمرابي كذلك يعذب بجمع هذا المال، ثم يذهب هذا المال من يده، أو يمحق الله بركته فلا ينتفع به مع العذاب المعجل له، والوعيد الشديد المؤجل، فالعذاب المعجل: في جمعه، والتعب في حفظه وإبقائه، والمؤجل: الوعيد الشديد لمن أكل الربا، فإن فيه من الظلم والعدوان والبغي، فهذه أوصاف الربا.
وأما الصدقات فإن الله تعالى يربيها وينميها لصاحبها إذا صدرت عن إخلاص لله، ونفع لعباد الله، فالصدقات فيها نفع وإحسان إلى عباد الله، والربا فيه ظلم وبغي وعدوان على عباد الله؛ لأنه أكل أموالهم بغير حق.
ما الذي يبيح للمرابي أن يأخذ زيادة في القرض، أو يأخذ زيادة في البيع – دراهم بدراهم بزيادة - أو يأخذ دراهم بزيادة؟ هذا ظلم وعدوان، وأما المتصدق والمقرض، فهذا محسن، فالعلاقة بينهما ضدية، فالربا ضد الصدقات والإحسان؛ ولهذا فإن الله تعالى يمحق الربا، وأما الصدقات فالله يربيها، وينميها لصاحبها كما في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِها، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ»([1]).
ولما كان المرابي إنما يفعل ما يغضب الله عز وجل، وما لا يحبه الله من البغي والظلم والعدوان، وهو جحود لنعمة الله، فلم يقتصر على ما أباح الله له، وما أحل له من المكاسب، بل حاله حال الكفور الجاحد لنعمة الله؛ أنعم الله عليه، ووسع عليه، وأباح له الكسب المشروع، فتجاوزه إلى الكسب المحرم، الذي فيه بغي وعدوان وظلم، فكان جاحدًا لنعمة الله، آثم في تعديه ما حرم الله، وعدوانه على عباد الله؛ ولهذا ختم الله الآية فقال: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:276]، وكفار: أي جحود.
وإذا استحل المرابي الربا، فإن هذا يكون ردة عن الإسلام، ويكون كفره كفرًا أكبر -والعياذ بالله- وأما إذا لم يستحله فإنه يكون ضعيف الإيمان، وناقص الإيمان، وهو مرتكب لجريمة كبيرة.
وفيه إثبات المحبة لله عز وجل؛ لأن الله يحب، ويوصف بأنه لا يحب، يحب ويبغض؛ يحب المؤمنين، ويحب المحسنين، ويحب التوابين، ولا يحب الظالمين، ولا يحب الكافرين.
والمؤمنون الذين عملوا الصالحات، وأدوا الواجبات، وتركوا المحرمات مع الإيمان بالله ورسوله، ومن العمل الصالح: الصدقات، والإحسان إلى الناس، وأداء الزكوات، فهؤلاء إذا صدرت هذه الأعمال منهم عن إيمان بالله ورسوله وإخلاص، فإن الله تعالى ينمي أجرهم، وثوابهم، ولا يعلم قدره إلا الله؛ ولهذا قال: {أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران:199] هذه العندية تفيد التكثير والتعظيم، وأنه أجر عظيم، لا يعلم قدره إلا الله {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران:199]، وما ظنك بالأجر الذي عند الله؟ هو أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين سبحانه وتعالى .
وقوله: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:277] أمنهم الله من المخاوف في المستقبل من عذاب القبر، وعذاب النار، ونفى عنهم الحزن على ما خلفوا في الدنيا من أموال وأولاد، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، من آتاه الله الإيمان، ووفقه للعمل الصالح، فله هذا الثواب العظيم، له أجر عند الله مضاعف، ويؤمن من المخاوف في المستقبل، ولا يحزن على ما مضى، فإن الملائكة تخلفه في أهله، وماله.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}.
[الأمر بالتقوى واجتناب الربا]
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بتقواه، ناهيًا لهم عما يقربهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه، فقال: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ }؛ أي: خافوه وراقبوه فيما تفعلون { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا }؛ أي: اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال، بعد هذا الإنذار { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }: بما شرع الله لكم من تحليل البيع، وتحريم الربا وغير ذلك.
وقد ذكر زيد بن أسلم، وابن جُرَيج، ومقاتل بن حيان، والسدي: أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير من ثقيف، وبني المغيرة من بني مخزوم، كان بينهم ربا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه، طلبت ثقيف أن تأخذه منهم، فتشاوروا وقالت بنو المغيرة: لا نؤدي الربا في الإسلام فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فقالوا: نتوب إلى الله، ونذر ما بقي من الربا، فتركوه كلهم.
وهذا تهديد ووعيد أكيد، لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار.
[أكل الربا إعلان عن الحرب مع الله ورسوله]
قال ابن جريج: قال ابن عباس: { فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ } أي: استيقنوا بحرب من الله ورسوله (2).وعنه قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب. ثم قرأ: { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ }.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس –رضي الله عنهما-: { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فمن كان مقيمًا على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه.
ثم قال تعالى: { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } أي: بأخذ الزيادة { وَلَا تُظْلَمُونَ } أي: بوضع رؤوس الأموال أيضًا، بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه.
وروى ابن أبي حاتم: عن عمرو بن الأحوص قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: «ألا إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع عنكم كله، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب، موضوع كله» .
[الإحسان إلى المعسر]
قال تعالى: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }: يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء، فقال: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ }، لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي.
ثم يندب إلى الوضع عنه، ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل، فقال: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي: وأن تتركوا رأس المال بالكلية وتضعوه عن المدين.
روى الإمام أحمد عن سليمان بن بُريدة، عن أبيه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من أنظر مُعسرًا فله بكل يوم مثله صدقة»، قال: ثم سمعته يقول: «من أنظر مُعسرًا فله بكل يوم مثلاه صدقة» قلت: سمعتك يا رسول الله تقول: «من أنظر مُعسرًا فله بكل يوم مثله صدقة» ثم سمعتك تقول: «من أنظر مُعسرًا فله بكل يوم مثلاه صدقة»، قال: «له بكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل الدين، فإذا حل الدين فأنظره، فله بكل يوم مثلاه صدقة».
(التفسير)
هذا فضل عظيم، من أنظر معسرًا، فله بكل يوم صدقة قبل أن يحل الدَّينُ، فإذا حل الدَّينُ فله بكل يوم مثلاه صَدَقَة -هذا فضل عظيم لمن أنظر المعسر.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
وروى أحمد عن محمد بن كعب القرظي: أن أبا قتادة كان له دين على رجل، وكان يأتيه يتقاضاه، فيختبئ منه، فجاء ذات يوم فخرج صبي فسأله عنه، فقال: نعم، هو في البيت يأكل خزيرة فناداه فقال: يا فلان، اخرج، فقد أخبرت أنك هاهنا فخرج إليه، فقال: ما يغيبك عني؟ قال: إني معسر، وليس عندي شيء. قال: آلله إنك معسر؟ قال: نعم. فبكى أبو قتادة، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من نَفَّس عن غريمه -أو محا عنه- كان في ظل العرش يوم القيامة»([2]). ورواه مسلم في صحيحه ([3]).
(التفسير)
الحديث السابق جاء مثله عند مسلم ([4]) عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي نَطْلُبُ الْعِلْمَ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَبْلَ أَنْ يَهْلِكُوا، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِينَا أَبَا الْيَسَرِ، صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَهُ غُلَامٌ لَهُ، مَعَهُ ضِمَامَةٌ مِنْ صُحُفٍ، وَعَلَى أَبِي الْيَسَرِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيَّ، وَعَلَى غُلَامِهِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيَّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا عَمِّ إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِكَ سَفْعَةً مِنْ غَضَبٍ، قَالَ: أَجَلْ، كَانَ لِي عَلَى فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ الْحَرَامِيِّ مَالٌ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ، فَسَلَّمْتُ، فَقُلْتُ: ثَمَّ هُوَ؟ قَالُوا: لَا، فَخَرَجَ عَلَيَّ ابْنٌ لَهُ جَفْرٌ، فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ أَبُوكَ؟ قَالَ: سَمِعَ صَوْتَكَ فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي، فَقُلْتُ: اخْرُجْ إِلَيَّ، فَقَدْ عَلِمْتُ أَيْنَ أَنْتَ، فَخَرَجَ، فَقُلْتُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنِ اخْتَبَأْتَ مِنِّي؟ قَالَ: أَنَا، وَاللهِ أُحَدِّثُكَ، ثُمَّ لَا أَكْذِبُكَ، خَشِيتُ وَاللهِ أَنْ أُحَدِّثَكَ فَأَكْذِبكَ، وَأَنْ أَعِدَكَ فَأُخْلِفَكَ، وَكُنْتَ صَاحِبَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُنْتُ وَاللهِ مُعْسِرًا قَالَ: قُلْتُ: آللَّهِ قَالَ: اللهِ قُلْتُ: آللَّهِ قَالَ: اللهِ قُلْتُ: آللَّهِ قَالَ: اللهِ قَالَ: فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ فَمَحَاهَا بِيَدِهِ، فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتَ قَضَاءً فَاقْضِنِي، وَإِلَّا، أَنْتَ فِي حِلٍّ، فَأَشْهَدُ بَصَرُ عَيْنَيَّ هَاتَيْنِ - وَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ عَلَى عَيْنَيْهِ - وَسَمْعُ أُذُنَيَّ هَاتَيْنِ، وَوَعَاهُ قَلْبِي هَذَا - وَأَشَارَ إِلَى مَنَاطِ قَلْبِهِ - رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ» ، هذا قريب من حديث أبي قتادة الذي رواه الإمام أحمد.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتي الله بعبد من عبيده يوم القيامة، قال: ماذا عملت لي في الدنيا؟ قال: ما عملت لك يا رب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها. قال العبد -عند آخرها-: يا رب، إنك كنت أعطيتني فضل مال، وكنت رجلًا أبايع الناس وكان من خلقي الجواز، فكنت أيسر على الموسر، وأنظر المعسر. قال: فيقول الله، عز وجل: أنا أحق من ييسر، ادخل الجنة»([5]).
وقد أخرجه البخاري، ومسلم، وابن ماجه، عن حذيفة. زاد مسلم: وعقبة بن عامر وأبي مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ([6]).
(التفسير)
هذا فيه أن هذا الرجل كان يُيَسِّـرُ على الموسر، وينظر المعسر، حتى الموسر أحيانًا يحتاج إلى التيسير، الموسر الذي يداين الناس يكون له دين على موسر وعلى معسر، فالموسر ييسر عليه، والمعسر ينظره؛ يصبر عليه ييسر عليه؛ لأن الموسر حتى الموسر يكون عنده أموال، لكن أموال متفرقة تحتاج إلى وقت، فيعطيه وقتًا وفرصة أن يجمع أمواله، فقد تكون متفرقة هنا وهناك، فهذا ييسر عليه -ما يشدد على الموسر- ولو كان الموسر ينظره أسبوعًا، أسبوعين، ثلاثة، شهر، كذا حتى يجمع ماله -حتى يأخذ ماله- من مدينيه، أو يجمعه من كذا وكذا، فهو ييسر على الموسر، وينظر المعسر، فقال الله تعالى: نحن أحق بالجواز منك، فتجاوز الله عنه.
هذا فيه فضل عظيم.
ولا بد من الاحتساب والنية، لكن إذا لم يحتسب معناها أنه يطالبه، ويؤذيه، وهذا لا يجوز، فالمعسر لا يجوز إيذاؤه، ولا يجوز حبسه؛ لأنه ماذا يعمل؟ ما عنده حيلة، وما الفائدة من حبسه؟ إذا حبسناه، فماذا يعمل؟ لكن لابد وأن نترك له فرصة ليعمل، فإذا كان معسرًا حقيقة يجب إنظاره، ولا يجب إيذاؤه، ولا حبسه.
إذا حبسناه ماذا تستفيد؟ ومن أين سيأتي بحق الدائن؟
الجواب: لن يستطيع، والله تعالى يقول: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] هذا خبر بمعنى الأمر؛ بمعنى: أَنْظِرُوا.
لكن إذا كان مُمَاطِلًا - هذا هو الذي يحتال- فالمماطل ظالم وعنده أموال الناس، لكن يماطل بها ويسكت عنها، ويخفيها، ويماطل فيؤذي الناس، هذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مطل الغني ظلم، يحل عرضه وعقوبته»([7])، عرضه: شكايته، وعقوبته: حبسه، حتى يؤدي الذي عليه فهذا في حق المماطل، لكن المعسر حقيقة معروف أنه معسر، فهذا يجب إنظاره؛ لأنه لا يستطيع.
تنبيه: قول النبي صلى الله عليه وسلم عند رواية مسلم: «من نفس عن غريمه، أو محا عنه، كان في ظل العرش يوم القيامة» جعلهما في الأجر سواء؟
كل منهما مأجور؛ محا عنه: أسقط عنه بعضَ الدَّين. أو نَفَّسَ عنه؛ أَنْظَره وأَخَّرَه، وإن كان الذي محا عنه أكثر، فقد يظلهم الله، وإن كان أجرهم متفاوتًا، الذي يمحو عنه الدين هذا أفضل من الذي ينفس، والذي ينفس أيضًا على خير، ينفس يعني: يؤَخِّر، يَصبِر عليه في الأداء؛ شهرًا، وشهرين، وثلاثة، وسنة، وسنتين، والذي يمحو يسقط بعض الدين، إن استطاع أن يسقط ربع الدين، نصف الدين، أو الدين كاملًا.
والتنفيس يشمل الأمرين؛ التنفيس يشمل: التيسير على الموسر، وإنظار المعسر يشمل الأمرين فكله تنفيس يشمل الأمرين- تنفيس للموسر بالصبر عليه، وتنفيس للمعسر، كل منهما يحتاج إلى التنفيس، الموسر الذي أمواله ليست حاضرة يحتاج إلى الإنظار فهذا تنفيس له، والمعسر كذلك يحتاج إلى التنفيس حتى يستطيع الكسب حتى ييسر الله له، ويؤدي دينه، وإن كانت حاجة المعسر أشد إلى التنفيس.
*****
** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-
ثم قال تعالى يعظ عباده ويذكرهم زوال الدنيا وفناء ما فيها من الأموال وغيرها، وإتيان الآخرة والرجوع إليه تعالى ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا، ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر، ويحذرهم عقوبته، فقال: { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }.
وقد روي أن هذه الآية آخرُ آية نزلت من القرآن العظيم.
وقد رواه النسائي، عن عبد الله بن عباس، قال: آخر شيء نزل من القرآن: { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}.
وكذا رواه الضحاك، والعَوْفي، عن ابن عباس.
(التفسير)
هذه الآيات الكريمات بين الله تعالى فيها الربا، وعاقبته، وحذر عباده من الاستمرار عليه، وقد سبق في الآيات الأولى أن الله تعالى عفا عمن لم يعلم في تعامله بالربا وانتهى، وأما من عاد فعليه الوعيد، ولهذا قال سبحانه: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة:275] ما مضى معفو عنه، ومن عاد من بعد علمه {فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275] وعيد شديد؛ لأنه ارتكب جريمة عظيمة، فهو متوعد بالنار، والمتوعد بالنار طائفة الكفرة، والعصاة كلهم متوعدون بالنار، فهو بين الكفر إن استحل الربا فهو كافر، وإن لم يستحله فهو مرتكب الجريمة، وكلاهما متوعد بالنار.
في هذه الآيات الكريمات يحذر الله تعالى عباده من التعامل بالربا، ويأمرهم بتقواه، ويبين سبحانه وتعالى أن الإيمان يمنع صاحبه من الاستمرار على التعامل بالربا.
وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278]، إن كنتم مؤمنين فإن الإيمان يزجركم عن التعامل بالربا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة:278] اجعلوا بينكم وبين غضب الله وسخطه وقاية تقيكم بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، واتركوا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين.
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] هذا أعظم وعيد على المعاصي، وذلك أن الله تعالى آذن المرابي بحرب؛ حرب الله، وحرب رسوله؛ ولهذا كما جاء في الأثر أنه يقال للمرابي: «خذ سلاحك للحرب يوم القيامة»([8]) نسأل الله السلامة والعافية {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] آذن الله المرابي بحربه الله، وحرب رسوله، هذا من أعظم - ومن أشد- ما ورد في المعاصي، والكبائر قال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة:279] اقتصر على رأس المال لا تأخذ الزيادة، لا تظلِمون بالزيادة، ولا تُظلَمون بنقص رؤوس أموالكم، لا تظلِمون أنتم، فتأخذوا الزيادة على رؤوس المال، ولا تُظلَمون بنقص رأس المال، بل لكم أن تأخذوا رأس المال؛ أعطيته مائة يرد عليك مائة، أعطيته ألفًا يرد عليك ألفًا، لا تظلم فتأخذ زيادة على الألف، سواء كان قرضًا، أو بيعًا دراهم بدراهم، ولا تنقص فيعطيك أقل من الألف، بل يعطيك ما أعطيته ، أما الألف بزيادة دراهم بدراهم، هذا هو الربا.
ثم قال سبحانه: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] إن كان الذي بايعته معسرًا لا يستطيع، فعليك أن تنظره وتصبر عليه، {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ} [البقرة:280] هذا خبر بمعنى: أَنْظِرُوا؛ يعني: فينظر إلى وقت اليسار، إن كان صاحب الدين معسرًا، فيجب إنظاره إلى وقت اليسار {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة:280] إن كان المدين صاحب عسر، ولا يستطيع الوفاء {فَنَظِرَةٌ} [البقرة:280] والمعنى: فأنظروه إلى وقت اليسار.
وقوله: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:280] وأن تصدقوا بإسقاط بعض المال، أو إسقاط كل الدَّين، فهو خير، فالإنظار واجب، والصدقة نافلة، والصدقة أفضل من الإنظار، وهذا فيه أن النافلة تكون أفضل، والقاعدة: أن الفرائض أفضل من النوافل، صلاة الظهر أفضل من صلاة النافلة، ولكن في هذا النافلة أفضل، النافلة: الصدقة على المعسر بإسقاط بعض الدين، والفريضة - الواجب - إنظاره، والصبر عليه، فإنظار المعسر هذه فريضة، فرض عليك ما دام أنه معسر، لا يجب أن تطالبه وتؤذيه، لأنه لا يستطيع الوفاء الآن، فيجب أن تنظره إلى ميسرة.
وأما الصدقة عليه بإسقاط الدين، أو بعض الدين فهذا نافلة، وهو أفضل من الفريضة {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] خبر بمعنى الأمر؛ بمعنى: فأَنْظِرُوه إلى ميسرة، والأمر للوجوب.
وقوله: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:280]، وأفضل من الواجب، الذي هو الإنظار، والنافلة صدقة وهي الصبر على المدين؛ الصدقة عليه بإسقاط بعض الدين، أو إسقاط كل الدَّين {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:280] يقول تعلمون أن إنظار المعسر واجب، والصدقة خير، فاعملوا بذلك.
وقوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] أمَرَ اللهُ، وكرر التقوى لأهميتها، والتقوى هي: مخافة الله في توحيده، وإخلاص الدين له، وأداء حقوقه، والقيام بأمره سبحانه.
وقوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا} [البقرة:281]، اتقوا يوم القيامة هو اليوم الذي ترجعون فيه إلى الله، اتقوا هذا اليوم الذي ليس هناك قصاص إلا بالحسنات والسيئات {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281]، كل نفس يوفيها الله ما كسبت من خير أو شر .
وقوله: {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] لا يظلمون عند الله لا يُنْقَصُون شيئًا من ثواب أعمالهم.
ففي هذه الآيات الكريمات: أمر من الله تعالى بتقواه، وفيه وجوب ترك الربا، وأن الإيمان الصادق يحملهم على ترك التعامل بالربا، وفيه الوعيد الشديد على المرابي، وأن المرابي محارب لله ولرسوله.
وفيه: أنه يجب على المرابي أن يتوب إلى الله، وذلك بأخذ رأس ماله لا يظلِم، ولا يُظلم لا يظلِم بالزيادة، ولا يُظلم بنقص رأس المال.
وفي هذه الآيات الكريمات: وجوب إنظار المعسر؛ ولهذا قال: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]؛ يعني: فأنظروه، وجوب إنظار المعسر إلى وقت اليسار.
وفيه: أن الصدقة على المعسر بإسقاط بعض الدين، أو جميعه أفضل من الإنظار.
وفيه: تذكير لبعض الناس بيوم القيامة، وإثبات البعث، والجزاء، والحساب، وأن الناس صائرة إلى الله وراجعة إليه.
وفيه: أن الله تعالى يحاسب العباد يوم القيامة، ويوفيهم ما كسبوا، وأنه لا يُظلَم أحد، والله تعالى حرم الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرمًا كما في الحديث القدسي عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا»([9]) وقال سبحانه: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17]، وهنا قال: {لا تُظْلَمُونَ} [البقرة:272] لا تظلمون شيئًا من حسناتكم ووجود ثوابكم، فالله تعالى أعدل العادلين، وهو سبحانه أحكم الحاكمين.
فمن كان مقيمًا على الربا لا ينزع عنه، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضَرِبَ. هكذا روى علي بن طلحة عن ابن عباس.
ضَرَبَ عُنُقَهُ تعزيرًا -التعزير قد يصل إلى ضرب العنق- يعزره، فإن استحله فهو كافر، إن استتابه ولم يتب واستحله فهو كافر، وإن أصر ولم يستحله، فله أيضًا أن يضرب عنقه تعزيرًا دفعًا لشره لئلا ينتشر رباه، ولئلا يقتدى به.
([1]) صحيح البخاري (1410).
([2]) رواه أحمد (5/ 300، 308) والدارمي (2/ 262).
([3]) رواه مسلم (1563) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ، طَلَبَ غَرِيمًا لَهُ، فَتَوَارَى عَنْهُ ثُمَّ وَجَدَهُ، فَقَالَ: إِنِّي مُعْسِرٌ، فَقَالَ: آللَّهِ؟ قَالَ: آللَّهِ؟ قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ».
([4]) صحيح مسلم (3006).
([5]) أخرجه أبو عوانة (3/346).
([6]) صحيح البخاري برقم (2391، 2707، 3451) وصحيح مسلم برقم (1560) وسنن ابن ماجه (2420).
([7]) أخرجه أبو داود (3628) والنسائي (6242).
([8]) تفسير الطبري (5/39).
([9]) صحيح مسلم (2577).