شعار الموقع

شرح سورة البقرة من مختصر تفسير ابن كثير 73

00:00
00:00
تحميل
129

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

وقوله: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} هذا من تمام الإرشاد، وهو الأمر بكتابة الحق صغيرًا كان أو كبيرًا، فقال: {وَلَا تَسْأَمُوا} أي: لا تملوا أن تكتبوا الحق على أي حال كان من القلة والكثرة {إِلَى أَجَلِهِ}

وقوله {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} أي: هذا الذي أمرناكم به من الكتابة للحق إذا كان مؤجلا هو {أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} أي: أعدل {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} أي: أثبت للشاهد إذا وضع خطه ثم رآه تذكر به الشهادة، لاحتمال أنه لو لم يكتبه أن ينساه، كما هو الواقع غالبًا {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} وأقرب إلى عدم الريبة، بل ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي كتبتموه، فيفصل بينكم بلا ريبة.

(التفسير)

هذه الآية الكريمة وهي آية الدين -كما سبق- فهي أطول آية في القرآن.

 وفيها: دليل على جواز بيع التقسيط.

وفيها: الرد على من أنكر بيع التقسيط وقال: إنه من الربا، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} وهذا كالإجماع من أهل العلم -كان هناك خلاف ثم انقرض- أن بيع المؤجل جائز، سواء كان التأجيل تأجيل القيمة كاملة، أو تأجيل بعضها، وسواء كانت الأقساط شهرية أو سنوية.

ويدل على ذلك أيضًا قصة بريرة التي اشترتها عائشة رضي الله عنها، وكانت قد كاتبت أهلها على تسع أواق في كل سنة تدفع أوقية، هذا دليل على البيع المؤجل، وهو في الصحيحين.

وفي هذه الآية الكريمة دليل على بيع الدين المؤجل وأنه لا بأس به، ويكون الثمن مؤجلًا، والسلعة معجلة، تدفع السلعة والدراهم مؤجلة.

أو بالعكس وهو ما يسمى بيع السَّلم، يُقدم الثمن وهو الدراهم، والسلعة موصوفة إلى أجل معلوم ووصف معلوم، كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم إلى المدينة وهم يسلفون في الثمار سنة أو سنتين، فقال: «من أسلف في شيء ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم».

وفيه: الأمر بالكتابة.

وفيه: أن الكاتب ينبغي أن يكون عادلاً.

وفيه: أن الكاتب لا يمتنع عن الكتابة، وأن الله قد أنعم عليه بالكتابة فعليه ألا يمتنع، وهذا من نعمة الله عليه وفيه تزكية لهذه النعمة {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ}.

وفيه: دليل على أن من عليه الحق يجب عليه أن يملي ما عليه من الحق، وعليه تقوى الله وألا ينقص من الحق الذي عليه شيئا؛ ولهذا قال الله: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا}.

وفيه: من الأحكام أنه إذا كان المدين الذي عليه الحق سفيهًا، غير رشيد، أو ضعيفًا لصغره أو لكبره أو لضعف عقله، أو لا يستطيع أن يملي الحق الذي عليه، فإن وليه يقوم مقامه بالعدل والقسط {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}.

وفيه: مشروعية الإشهاد، وأنه ينبغي أن يُشهد شاهدين على الدين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، وهذا في المال وما يقوم مقامه إليه.

وفيه: دليل على أنه لا بد أن يكون الشاهد عدل؛ لقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}.

وفيه من الأحكام والفوائد: أن المرأتين أو الشاهدتين ليس للحاكم أن يفرق بينهما؛ لقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}، والقصة المعروفة عن الحافظ ابن حجر رحمه الله أنه شهدت امرأتان عند الحاكم، فأراد أن يفرق بينهما، أن يسأل كل واحدة على حدة، فقالت إحداهما وكانت فقيهة: ليس لك ذلك، فقال: لم؟ قالت: لأن الله يقول: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى}.

وفيه: دليل على أنه لا يجوز للشاهد أن يتأخر عن الشهادة، وأن الإنسان إذا طُلبت شهادته فإن عليه أداء الشهادة، وكذلك أيضًا ليس له أن يتأخر إذا طلبت منه الشهادة {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} فإذا دُعي عليه أن يؤدي الشهادة.

وفي هذا الجزء من الآية التي مضت: أنه ينبغي كتابة الدَّين صغيرًا كان أو كبيرًا ومؤجلًا، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يسأم من كتابة شيء من الدَّين سواء كان صغيرًا أو كبيرًا مؤجلاً؛ لأن هذا فيه ضبط للحقوق، وفيه أيضًا منع المنازعات والخصومات التي ستقوم في المستقبل.

وقوله: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} بين الله الحكمة في ذلك، وأن هذا أقرب للعدل، وأبعد عن الريبة والشك، فإن الإنسان إذا كتب وشهد فإنه بعد ذلك يتذكر كتابته التي كتبها.

وقوله: { وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} هذا فيه بيان الحكمة من الكتابة، وأنه ينبغي للمتداينين أو المتبايعين أن يكتبا ما عليهما من الحقوق سواء كان صغيرًا أو كبيرًا وألا يسئما وألا يَمَلَّا، وأن يكتبَا الأجلَ؛ لأن هذا أقرب إلى العدل وأقوم للشهادة، حيث إن الإنسان يتذكر عندما يرى كتابته، وهذا أبعد عن الشك والريب والنزاع والخصام؛ ولهذا قال سبحانه: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} هذه كلها فوائد وحكم ثلاث للكتابة والعناية بها، {أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} أنه أقسط، يعني أعدل للشهادة، {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} فالشهادة التي كتبها صاحبها ورآها تكون واضحة عنده، {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} وأبعد عن الشك والريبة والنزاع.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

وقوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} أي: إذا كان البيع بالحاضر يدًا بيد، فلا بأس بعدم الكتابة لانتفاء المحذور في تركها.

فأما الإشهاد على البيع، فقد قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}.

وهذا الأمر منسوخ بقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}.

أو محمول على الإرشاد والندب، لا على الوجوب. والدليل على ذلك حديث خُزَيمة بن ثابت الأنصاري، وقد رواه الإمام أحمد:

عن عمَارة بن خزيمة الأنصاري، أن عمه حدثه -وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسًا من أعرابي، فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه، حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي صلى الله عليه وسلم، فنادى الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت مبتاعًا هذا الفرس فابتَعْه، وإلا بعتُه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي، قال: «أو ليس قد ابتعته منك؟» قال الأعرابي: لا والله ما بعتك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل قد ابتعته منك». فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وسلم والأعرابي وهما يتراجعان، فطفق الأعرابي يقول: هَلُم شهيدًا يشهد أني بايعتك. فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي: ويلك! إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول إلا حقًا. حتى جاء خُزَيْمة، فاستمع لمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم ومراجعة الأعرابي يقول: هلم شهيدًا يشهد أني بايعتك. قال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بايعته. فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: «بم تشهد؟» فقال: بتصديقك يا رسول الله. فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شهادة خُزَيمة بشهادة رجلين([1]).

وهكذا رواه أبو داود والنسائي نحوه.

(التفسير)

وهذه الجملة من الآية وهي قوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} يعني: إذا كانت المبايعة حاضرة وليس هناك شيء مؤجل، اشترى سلعة ودفع ثمنها في الحال، فلا يجب الكتابة، ولا يجب الإشهاد؛ لأنها انتهت وليس هناك نزاع محتمل في المستقبل؛ لأن البائع سلم السلعة للمشتري، والمشتري سلم الثمن للبائع، ولم يبق شيء، هذه تسمى: تجارة حاضرة، البيع الحاضر.

فإذا كان البيع حاضرًا وليس هناك شيء مؤجل، فالكتابة ليست واجبة، والإشهاد يكون مستحبًا في هذه الحالة، ليس بواجب.

وقوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} فأصل الأمر للوجوب لكن صرفه عن الوجوب هذه القصة؛ قصة خزيمة، قصة شراء النبي صلى الله عليه وسلم الفرس من الأعرابي.

ففي هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أشهد، لو كان عنده شهود ما أنكر الأعرابي، فالأعرابي باع النبي صلى الله عليه وسلم هذه الفرس، فلما باعه للنبي صلى الله عليه وسلم قال له: الحقْ معي إلى البيت أسلمك الدراهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أسرع، والأعرابي تأخر، فجعل الناس يساومون الأعرابي على الفرس، وما يدرون أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتراه.

النبي صلى الله عليه وسلم أمامه بعيد، والأعرابي خلفه، فجاء بعض الناس، وما يدرون أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتراه، حتى أعطوه زيادة عن ما اشتراه النبي صلى الله عليه وسلم، فطمع الأعرابي فأراد أن يفسخ البيع وينكر أن النبي قد اشتراه منه، فناداه وقال: يا فلان، إن كنت تريد الفرس فاشتريه وإلا بعت على غيرك، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «أو ليس قد ابتعتُه منك؟»، قال: لا، فأخذ الناس يجتمعون، والنبي صلى الله عليه وسلم والأعرابي يتراجعان، فجعل كل من مرَّ يقول له: ويحك! النبي لا يقول إلا حقًّا، حتى جاء خزيمة رضي الله عنه، وقال: أنا أشهد.

فقال له: «بم تشهد؟»، قال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين.

فهذه القصة فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم مَا أَشْهَدَ، فَدَلَّ على أن الإشهاد ليس بواجب وإنما هو مستحب؛ لقوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}، أو أنه منسوخ بقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} لأن ظاهر {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} أنه ليس بإشهاد.

المقصود أن الإشهاد مستحب وكذلك الأمر بالكتابة، فالكتابة أمر الله بها، والأصل في الأوامر الوجوب، وأمر الله بالإشهاد، لكن التجارة الحاضرة رفع الله الجناح في الكتابة.

والتجارة الحاضرة هي البيع الذي ليس فيه تأجيل، البائع يسلم السلعة للمشتري والمشتري يسلم الثمن، ثم يتفرقان وليس بينهما شيء، هذه تسمى التجارة الحاضرة، فلا يجب الكتابة فيها؛ لأنه ليس هناك إشكال، ولا مطالبة في المستقبل؛ ولهذا قال سبحانه: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا}.

وأما التجارة المؤجلة فلا بد من الكتابة؛ لقوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} فكرر الأمر بالكتابة.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

وقوله: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} قيل: معناه: لا يضار الكاتب ولا الشاهد، فيكتب هذا خلاف ما يملي، ويشهد هذا بخلاف ما سمع أو يكتمها بالكلية، وهو قول الحسن وقتادة وغيرهما (3).

وقوله: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} أي: إن خالفتم ما أمرتم به، وفعلتم ما نَهِيتم عنه، فإنه فسق كائن بكم، أي: لازم لكم لا تحيدون عنه ولا تنفكون عنه.

(التفسير)

وهذه الجملة فيها تحريم مضارة الكاتب والشهيد، وأن الكاتب كما أمره الله تعالى أن يكتب ولا يمتنع عن الكتابة، وأن هذه نعمة أنعم الله بها عليه، وعلمه الكتابة، فعليه أن يزكي هذه النعمة ولا يمتنع.

قوله: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} كما علمه الله، ومن عليه بهذه النعمة، فعليه أن يبذلها، ويكتب لإخوانه ما يحتاجون إليه.

وفي مقابل ذلك أمر الله بعدم مضارة الكاتب، فلا يضار الكاتب، فلا يُؤذَى هو، ولا يُؤذِى بأن يترك الكتابة، أو يكتب خلاف ما أملي عليه.

فلا يضار الكاتب أو يُؤذَى من أحد، ولا يلحقه نقص في المستقبل حينما يشهد بالكتابة.

وكذلك الشاهد لا يجوز مضارته ولا إيذائه، والشاهد أيضًا لا يجوز له أن يكتم الشهادة أو يمتنع من أدائها، فيضار غيره، يضار المدين بأن يكتم الشهادة أو يمتنع من أدائها.

وكذلك هو لا يضار ولا يُؤذَى هو في نفسه أو في أهله أو في ماله، فإن المضارة حرام من الجانبين، مضارة الكاتب والشهيد لصاحب الدين حرام، ومضارة صاحب الدين أو من كان قريبا له حرام {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ}.

ومن فعل ذلك فضار الكاتب أو الشاهد فإن هذا من الفسق، ويدل على فسقه ومعصيته لله ورسوله وخروجه عن الطاعة {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}.

فيه دليل على أن الكاتب أو الشاهد إذا ضار غيره فهو فاسق، وكذلك أيضا من يضار الكاتب والشهيد فهذا من الفسوق، نعم.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي: خافوه وراقبوه، واتبعوا أمره واتركوا زجره {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} كقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، وكقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 28].

وقوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي: هو عالم بحقائق الأمور ومصالحها وعواقبها، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء، بل علمه محيط بجميع الكائنات.

(التفسير)

وفي ختام هذه الآية الكريمة، آية الدَّين أمر الله تعالى بالتقوى فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} يعني: اجعلوا بينكم وبين غضب الله وسخطه وقاية تقيكم بإخلاص العبادة لله وأداء الحقوق والحذر من الظلم في الدين وفي الشهادة وفي الكتابة، ومن اتقى الله فإن الله يثيبه في الدنيا بالعلم والبصيرة {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} والثواب الجزيل في الآخرة.

فمن اتقى الله علمه الله ما لم يكن يعلم، كما قال سبحانه: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}[الأنفال:29] يعني: هذا وعد من الله أن من اتقى الله قذف الله في قلبه نورًا يفرق به بين الحق والباطل، {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} يفرق بين الحق والباطل {وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ}[الأنفال:29].

فالمتقي موعود بهذا، وفي الآية الأخرى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}[الطلاق:4] وفي الآية الأخرى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}[الطلاق:2].

فمن اتقى الله جعل الله له مخرجًا من المضائق والشدائد، ومن اتقى الله يسر الله له أمره، ومن اتقى الله قذف الله في قلبه نورًا يفرق به بين الحق والباطل، ومن اتقى الله علمه الله ما لم يكن يعلم، ومن اتقى الله كفر عنه سيئاته وغفر له ذنوبه، وهذه كلها من فوئد التقوى.

وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} عليم بحقائق الأمور وبواطنها وظواهرها وما تئول إليه، فاحذروه سبحانه، واتقوه سبحانه، واخشوه، واحتسبوا الأجر عند الله، واحذروا مخالفة أمره، فإنه لا تخفى عليه خافية.

*****

** قال الحافظُ ابنُ كثير رحمه الله فيما اختُصِرَ عنه:-

قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}

[بيان الرهن]

يقول تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ} أي: مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا} يكتب لكم. قال ابن عباس: أو وجدوه ولم يجدوا قرطاسًا أو دواة أو قلمًا فَرُهُن([2]) مقبوضة، أي: فَلْيكن بدل الكتابة رِهَان مقبوضة في يد صاحب الحق.

وقد استدل بقوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} على أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض.

وقد ثبت في الصحيحين، عن أنس، أن رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم تُوفِّي وَدِرْعُه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وَسْقًا من شعير، رهنها قوتًا لأهله. وفي رواية: من يهود المدينة (4).

وقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} روى ابنُ أبي حاتم بإسناد جيد، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: هذه نسخت ما قبلها (5).

وقال الشعبي: إذا ائتمن بعضكم بعضًا فلا بأس ألا تكتبوا أو لا تُشهدوا (6).

وقوله: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} يعنى: المؤتَمن، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من رواية قتادة، عن الحسن، عن سَمُرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه».

وقوله: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} أي: لا تخفوها وتغلوها ولا تظهروها. قال ابن عباس وغيره: شهادة الزور من أكبر الكبائر، وكتمانها كذلك. ولهذا قال: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} قال السدي: يعني: فاجر قلبه، وهذه كقوله تعالى: {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ} [المائدة: 106]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]، وهكذا قال هاهنا: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}.

(التفسير)

هذه الآية الكريمة فيها تكملة للأحكام التي ذكرت في الآية التي قبلها، قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} يعني: إذا تداينتم بدين وكنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فإن الرهن يقوم مقام الكتابة، وإنما خص الله تعالى السفر؛ لأنه في الغالب أنه يفقد الكاتب في السفر، وحتى لو فُقد في الحضر أيضًا فالحكم واحد.

إذا لم يجد كاتبًا في الحضر فالرهن يكون مقامه، وإن كنتم على سفر وتداينتم بدين إلى أجل مسمى فرهان مقبوضة في يد صاحب الحق، فيطلب صاحب الدَّين الرهن من المدين حتى يكون رهنَا وتوثقة لدَينه.

والرهن إما أن يكون سلعة من السلع، كأن يرهن سيارة أو بيت، أي سلعة من السلع تكون توثقة لدينه.

فالرهن عند العلماء هو توثقة دين بعين، فإذا باع عليه سلعة مؤجلة إلى سنة، والتمسوا كاتبًا فلم يجدوه، قال للمدين: أعطني سلعة أقبضها، فيعطيه، من عليه الدين يعطي صاحب الدين سلعة تكون توثقة لدينه يقبضها، فإذا سلمه حقه سلمه الرهن، وإن لم يسلمه حقه فإنهما يترافعان إلى الحاكم، والحاكم يأمر ببيع الرهن، ويستوفي حقه إذا تعذر.

 فالرهن هو توثقة دين بعين.

وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فيه دليل على أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض؛ ولهذا قال سبحانه: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}.

ثم قال سبحانه: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} هذا فيه نسخ للشهادة والكتابة قال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} فإذا أمن بعضهم بعضًا فلا يحتاجان إلى كتابة ولا شهادة، فليؤد الذي اؤتمن أمانته؛ الذي اؤتمن وأُعطي الحق، عليه أن يؤدي هذه الأمانة {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} أمر الله تعالى بتقواه حتى يؤدي ما عليه من الحق.

استدل بعض العلماء على أن الرهن لا يكون إلا في السفر؛ لقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} والصواب أنه يكون في الحضر أيضًا، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير في الحضر، لكن الغالب في الرهن أنه يكون في السفر؛ لأن الغالب أن السفر هو الذي لا يوجد فيه الكاتب، ويحتاج إلى التوثقة، لكن إذا احتيج إلى الرهن في الحضر فلا بأس يكون في الحضر.

ونهى الله عن كتمان الشهادة، قال: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وفيه: تحريم كتمان الشهادة، وكما أن الإنسان لا يجوز له أن يشهد شهادة الزور وهي من الكبائر، فكذلك كتمان الشهادة وإخفاؤها من الكبائر.

كما أن شهادة الزور فيها إضاعة الحق لصاحب الحق، حيث شهد عليه زورًا فضاع الحق على صاحبه، فكذلك كتمان الشهادة وإخفاؤها والسكوت عنها أيضًا فيه إضاعة للحق، فلا يستطيع صاحب الحق أن يصل إلى حقه؛ لأن هذا قد كتم الشهادة.

فكما أن شهادة الزور فيها تضييع للحق على صاحبه، فكذلك كتمان الشهادة.

وفيه: أن من كتم الشهادة فإنه يوصف بأن قلبه فاجر، قال: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} يعني فاجر قلبه،، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ}[المائدة:106].

فكاتم الشهادة فاجر قلبه وآثم، وهذا فيه تنفير من كتمان الشهادة.

وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ختم الآية بأنه سبحانه عليم بكل شيء، فيه إثبات اسمه «العليم» وإثبات صفة العلم، وأن الله عليم بأحوال عباده، لا تخفى عليه خافية، عليم بصاحب الحق، وعليم بمن عليه الحق، وعليم بالشاهد، وعليم بالكاتب، وعليم بالنيات، وأن هذا إنما سكت عن الشهادة كتمانًا لها، وسوف يجازيه على ذلك.

وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فيه: الوعيد لمن كتم الشهادة، وأن الله عليم بحاله وقصده الآثم، وسوف يجازيه على ذلك.

وهنا يرد سؤال: إذا كان الشاهد سيحصل له أذى وضرر بأداء الشهادة؟

فالجواب: سبق قوله تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} فلا يجوز إضرار الشاهد، وقد يكون معذورًا إن لحقه ضرر في أهله وماله، ولكن لا بد أن يؤديه في وقت آخر، أو في وقت يزول عنه الضرر.

 

([1]) أحمد: 5/ 215 وأبو داود: 4/ 31 والنسائي: 7/ 301 .

([2]) قال الشارح -حفظه الله-: هي قراءة ابن كثير.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد