بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بَعْدَ:
فإني أحمد الله إليكم، وأثني عليه الخير كله، وأسأله المزيد من فضله، وأسأله سبحانه وتعالى أن يُصلح قلوبنا، وأعمالنا، ونياتنا، وذرياتنا، كما أسأله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعًا مرحومًا، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقًا معصومًا، وألا يجعل فينا ولا منّا شقيًّا ولا محرومًا، كما أسأله سبحانه وتعالى أن يجعل جمعنا هذا جمع خير وعلم ورحمة، تنزل عليه السكينة، وتغشاه الرحمة، وتحفّه الملائكة، ويذكره الله فيمن عنده، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة t أن النبي r قال: «وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ؛ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ».
فنحمد الله سبحانه وتعالى أن وفقنا لعقد هذه المجالس، ونسأل الله أن يرزقنا جميعًا الإخلاص في العمل، والصدق في القول.
أيها الإخوان، أذكّركم بهذا الخير الذي منّ الله به علينا؛ و هو عقد هذه المجالس؛ مجالس العلم، وحضور هذه المجالس تعلّمًا وتعليمًا، وإفادة واستفادة، فهذه المجالس من أجلّ نعم الله سبحانه وتعالى علينا، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا جميعًا الإخلاص في العمل، والصدق في القول، فإن تعلُّم العلم وتعليمه من أفضل القربات وأجلّ الطاعات؛ إذا حسُنت نية الإنسان، وخلُصت نيته وقصده لله U، وتأدب بآداب التعلّم والتعليم؛ من أعظم هذه الآداب ومن أهمها: النية، وهي أن يكون قصد المسلم في تعلّمه وتعليمه وجه الله والدار الآخرة، لا يريد بذلك رياءً، ولا سمعة، ولا الدنيا، ولا حطامها، ولا المماراة للعلماء، ولا المجاراة للسفهاء، ولا أي قصد من المقاصد.
فهذه منّة عظيمة على المسلم، ولا يخفى فضل العلم والعلماء، وأن الله سبحانه وتعالى قرن شهادة العلماء بشهادته وشهادة ملائكته على أجلّ مشهود به؛ وهو الشهادة لله تعالى بالوحدانية، قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران/18].
ونفى سبحانه وتعالى أن يستوي أهل العلم مع غيرهم، فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[الزمر/9].
وثبت في الصحيحين من حديث معاوية بن أبي سفيان t أن النبي r قال: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»؛ فمن علامات إرادة الله الخير للعبد أن يفقهه الله في الدين، والفقه في الدين يكون بالفقه في أسماء الله وفي صفاته، وهذا هو الفقه الأعظم والفقه الأكبر، ثم الفقه فيما شرع الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا لمّا كتب الإمام أبو حنيفة t كتابات فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته؛ سماه الفقه الأكبر.
فعلى المسلم أن يجاهد نفسه على إخلاص النية، وأن يستشعر هذه النية عند ذهابه وإيابه لحضور الدورات العلمية وحلقات الدروس، يستشعر هذا الأمر العظيم وهذا الإخلاص.
- ثم أيضًا يتأدب بالآداب الأخرى؛ وهي:
- الحرص على حضور الحلقات.
- والحرص على حضور ذهنه.
- والحرص على تقييد الفوائد العلمية.
- والمذاكرة مع إخوانه لهذه الفوائد.
- ومحبة الخير لإخوانه المسلمين ولزملائه، والتذاكر معهم.
- والحذر من الحسد والبغضاء، ومن كل ما يكون سببًا في نُفرة غيره عنه.
والعلوم إنما تُقيّد بالكتابة كما قيل:
العلم صيد والكتابة قيده |
|
قيّد صيودك بالحبال الواثقة |
ومن نِعم الله علينا في هذا الزمن وجود المسجلات والأشرطة، والقنوات التي تُسجل فيها هذه الدروس وتبقى، فطالب العلم يستطيع أن يستدرك ما فاته بالرجوع إليها، ولكن حضوره الدرس والدورة، واستماعه وإنصاته هذا هو الأصل، وهذا هو الأولى؛ لأن طالب العلم إذا حضر الدورات والدروس العلمية؛ يكون على خير عظيم، تحفّه الملائكة، تنزل عليه السكينة، تغشاه الرحمة، ويستفيد خُلقًا وأدبًا من إخوانه ومن معلمه، وكذلك أيضًا يكون قد حصل على الفوائد العلمية بسرعة؛ فإنه إذا تأخر؛ فقد يفوته الدرس، وقد يتأخر عن سماع الدرس مرة أخرى، وقد يتوانى، وقد يسوّف وتمضي الأيام فتفوته الدروس العلمية، لكن إذا بادر، وحضر الدروس بنفسه؛ هذا هو الأصل، حصل على الفوائد العظيمة التي تحصل له حينما يحضر الدرس، ويستفيد من الآداب والفوائد وما يحصل له من كون الملائكة تحفّه، تنزل عليه السكينة، وتغشاه الرحمة، ويذكره الله فيمن عنده، فهذه فوائد تفوت على من تخلّف.
نسأل الله أن يرزقنا جميعًا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا حُسن القصد، وأن يُعيذنا وإياكم من مُضلات الفتن، وأن يتوفانا على الإسلام، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وكما سمعتم؛ في هذه الدورة يكون الدرس الأول في قراءة كتاب "التوضيح المبين في توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية" تأليف الشيخ العلّامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، فالكافية الشافية للإمام ابن القيم رحمه الله قصيدة عظيمة، نظمها الإمام ابن القيم رحمه الله، وهي شهب مرمية تُرمى على أهل البدع، وأهل الكفر والضلال، وأهل التصوّف، وأهل الفلسفة، وغيرهم، فهي قصيدة عظيمة لم يُسبق للشيخ ابن القيم رحمه الله إلى مثلها في بابها.
ومن ضمن فصول هذه الكافية الشافية: توحيد الأنبياء والمرسلين، أبدع فيه الإمام ابن القيم رحمه الله، وهذه القصيدة فيها مباحث لا توجد في شيء من كتب الإمام ابن القيم نفسه.
وتوحيد الأنبياء والمرسلين اعتنى به العلّامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، وكتب عليه شرحًا، ونقل نقولًا من كتب الإمام ابن القيم رحمه الله في توضيح بعض المباحث، فهذه الفصول في توحيد الأنبياء والمرسلين فصول عظيمة، العناية بها وحفظها وفهمها علم غزير، وهو كما سمّاها المؤلف رحمه الله توحيد الأنبياء والمرسلين، فهذا هو الأمر العظيم، هذا هو الأمر الذي خُلق الخلق من أجله.
إذا عرف الإنسان هذا التوحيد وعمل به؛ صار من أهل السعادة، وأهل الخير، وإذا ضيّع هذا التوحيد؛ صار من أهل الشقاوة، فإذًا الحاجة إلى معرفة التوحيد والعمل به أعظم من حاجة الإنسان إلى الطعام والشراب، بل أعظم من حاجته إلى النفَس الذي يتردد بين جنبي الإنسان؛ لأن الإنسان إذا فقد الطعام والشراب وفقد النفس؛ مات الجسد، وموت الجسد لابد منه إن عاجلًا أو آجلًا، ولا يضر الإنسان الموت إذا مات وهو على الخير وعلى التوحيد، لكن إذا فقد التوحيد، ولم يعرف التوحيد، ومات على الجهل أو على الشرك؛ مات قلبه وروحه، وصار إلى النار والعياذ بالله، ومن هنا يتبيّن أن حاجة الإنسان إلى معرفة توحيد الأنبياء والمرسلين أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب، بل أعظم من حاجته إلى النفس الذي يتردد بين جنبيه، من هنا ينبغي أن تشتد عناية المسلم في معرفة وفهم توحيد الأنبياء والمرسلين.
وتوحيد الأنبياء والمرسلين خلاصته أو هيكله الموجود في هذا الكتاب كما يلي:
- توحيد الأنبياء والمرسلين قسمان:
فعلي: هو إفراد الله تعالى بالمحبة، والذل، وسائر أنواع العبادة والتقربات، وهذا التوحيد هو المُسمى بتوحيد الألوهية والعبادة، وهو توحيد الله تعالى بأفعال العبيد، وألا يتخذ شريك ولا ند لله U، هذا هو التوحيد الفعلي، وهذا سيتكلم عليه الشيخ رحمه الله في آخر البحث.
قولي: التوحيد القولي الاعتقادي ويتنوع إلى نوعين:
- إثبات صفات الكمال لله U، المأخوذة من الكتاب والسنة.
- نفي: وهو نوعان:
الأول: تنزيه صفات الله تعالى عن التشبيه والتمثيل وعن التعطيل والجحود والنكران، فصفات الله لا تماثل صفات المخلوقين؛ فهي منزهة عن المماثلة والمشابهة والتنزيه والتعطيل والجحود والنكران، كحال المعطلة الذين جحدوا صفات الله وعطّلوا الله من صفات الكمال.
الثاني: السلب: وهو نوعان:
سلب متصل: ضابطه نفي كل ما يناقض صفات الله تعالى التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله r، نفي ما يناقض ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله r، كنفي الموت، والإعياء، والتعب، والمرض، والنوم، والسِنة، والنسيان، والظلم، والتعب، والعبث، والحاجة؛ هذا كله من السلب.
سلب مفصّل: وهو نفي الشريك، والشفيع، والظهير، والولد، والزوج، والكفء، والولي، وما أشبه ذلك.
هذا هو الهيكل للتوحيد، ولو كان معنا قلم لرسمتها لكم على السبورة على شكل جدول، لهذا يكون الإنسان يتطور، هذه الأنواع هي التي سندرسها إن شاء الله، وهي التي نظمها ابن القيم في هذا الكتاب العظيم، وهي التي شرحها العلّامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي.
نعيد مرة ثانية، التوحيد نوعان: فعلي, وقولي.
فعلي: هو إفراد الله تعالى بالمحبة، والذل، وسائر أنواع العبادة والتقربات، وهذا التوحيد هو المُسمى بتوحيد الألوهية والعبادة.
والقولي يتنوع إلى نوعين: إثبات ونفي، الإثبات هو إثبات صفات الكمال لله U، والنفي يتنوع إلى نوعين: تنزيه وسلب، التنزيه هو تنزيه صفات الله U عن المشابهة والمماثلة وعن التعطيل والجحود والنكران،
والسلب نوعان: سلب متصل, وسلب منفصل.
والسلب المتصل: هو نفي ما يناقض ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله، ضابطه نفي كل ما يناقض ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله من النقائص والعيوب، كالموت، والمرض، والإعياء، والتعب، والنوم، والغفلة، والنسيان، والظلم، والعبث والحاجة إلى الطعام أو غيره، {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ}[الأنعام/14].
والثاني سلب منفصل: وهو سلب الشريك، والشفيع، والظهير، والولد، والزوج، والكفء، والولي، وما أشبه ذلك، نقرأ الآن من أول المقدمة.
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا ولسامعينا.
قال الإمام العلّامة ابن السعدي رحمه الله تعالى في كتابه "التوضيح المبين في توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية":
(المتن)
مقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، الحمد لله العظيم الكبير، الحميد المجيد، الذي له الألوهية وصفًا، كما العبودية وصفًا للعبيد، الموصوف بالأوصاف الكاملة العليا، المدعو بالأسماء الحميدة الحسنى، الذي له كل كمال وجلال وجمال، ولديه كل إحسان ونعمة وإفضال، الذي خلق الخْلق، وأدّر عليهم واسع الرزق؛ ليقوموا بتوحيده ومحبته وعبادته، فيُثيبهم ويُتم عليهم نعمته بأصناف كرامته، أحمده على ما له من وصف عظيم، وإحسان جسيم، وبر وتكريم، وأشهد أنه الإله حقًّا الذي دل على توحيده جميع أدلة العقل والنقل، وأذعن لعبوديته أهل الكمال والفضل، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أفضل العارفين، وأجلّ الموحدين، وواسطة عقد نظام الأنبياء والمرسلين، وهو الإمام الكامل لجميع العابدين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
هو الكامل يعني من المخلوقين، من البشر يعني، قال: (وهو الإمام الكامل لجميع العابدين) يَعْنِي: الكمال البشري، كمال المخلوق؛ وإلا فالكمال لله U، فالله تعالى هو الكامل، فلا أحد يكون له كمال مثل كمال الله؛ ولكن المقصود الكمال البشري، كمال المخلوق، هو الإمام الكامل من المخلوقين r.
قال: (صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين) صلاة الله على عبده أصح ما قيل فيها: ثناء الله على عبده في الملأ الأعلى، وقيل: الرحمة، ولكن أصح ما قيل في التعريف هو هذا، ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي العالية الرياحي أنه قال: "صلاة الله على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى"، فأنت تقول: اللهم صلّ على محمد؛ تسأل ربك أن يُثني عليه في الملأ الأعلى.
(وعلى آله) آله هم أتباعه على دينه، وقيل: أزواجه وذريته، أتباعه على دينه أعم، ويدخل أزواجه وذريته دخولًا أوليًا، (وصحبه) جمع صاحب، والصحابي هو كل من لقي النبي r مؤمنًا ومات على ذلك وهذا أصح ما قيل فيه، وهذا أولى من قول من رأى النبي r؛ ليشمل العميان، كعبد الله ابن أم مكتوم، فإنه لقي النبي ولم يره، فالتعبير بـ (لقي) أولى من (رأى).
(والحمد) هو الثناء على المحمود بصفاته الاختيارية، و(ال) للاستغراق، الحمد لله، بمعنى أن جميع أنواع المحامد كلها لله تعالى مُلكًا واستحقاقًا.
(لله): (اللام) للمُلك والاستحقاق، الله: الاسم الشريف لا يُسمى به غيره، (الله) أصلها الإله، ثم حُذفت الهمزة، فالتقت (اللام) و(اللام) مع (اللام) فأُدغمت فصارت الله، والله هو الإله المألوه، على وزن فعال، بمعنى مفعول، الإله هو المألوه الذي تألهه القلوب محبة، وإجلالًا، وخوفًا، وتعظيمًا، ورجاءً.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين".
قال المؤلف: (العظيم الكبير الحميد المجيد) كل هذه أسماء الله سبحانه، (الذي له الألوهية وصفًا، كما العبودية وصفًا للعبيد)، وصف الله الألوهية، والعبيد وصفهم العبودية.
(الموصوف بالأوصاف الكاملة العليا) التي وصف بها نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله، صفات الله توقيفية، العباد ما يخترعون لله الصفات، إنما يوصف الله بما وصف به نفسه، أو بما وصفه به رسوله r.
(المدعوّ بالأسماء الحسنى)، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[الأعراف/180].
(الذي له كل كمال وجلال وجمال) فهو سبحانه وتعالى له صفات الكمال، وله صفات الجلال، وله صفات الجمال، الصفات الكاملة التي لا نقص فيها، صفات الجلال: العظمة والكبرياء، وصفات الجمال؛ فهو سبحانه وتعالى صفاته أجمل الصفات.
(ولديه كل إحسان ونعمة وإفضال، الذي خلق الخْلق، وأدّر عليهم واسع الرزق؛ ليقوموا بتوحيده ومحبته وعبادته، فيُثيبهم ويُتم عليهم نعمته بأصناف كرامته) هذا كله حمد، (أحمده على ما له من وصف عظيم، وإحسان جسيم، وبر وتكريم) كرر الحمد، (وأشهد أنه الإله حقًّا) يعني: أقر وأعترف أنه الإله المعبود بالحق (الذي دلّ على توحيده جميع أدلة العقل والنقل)، في كل شيء له آية تدل على أنه واحد، (وأذعن لعبوديته أهل الكمال والفضل).
ثم قال: (وأشهد أن محمد عبده ورسوله أفضل العارفين بالله، وأجلّ الموحدين، وواسطة عقد نظام الأنبياء والمرسلين، وهو الإمام الكامل لجميع العابدين)، ثم قال المؤلف: أما بعد.
(المتن)
أما بعد؛ فإن الله تعالى خلق الخْلق لعبادته، وأوجدهم للقيام بمعرفته ومحبته، وبيّن لهم في كتبه المُنزّلة من السماء وعلى ألسنة رُسله تبيينًا كافيًا، وأوضح لهم جميع الطرق المُوصلة إلى هذه الغاية الفاضلة توضيحًا وافيًا، خصوصًا في القرآن العظيم، وعلى لسان محمد النبي الكريم.
(الشرح)
(أما بعد) كلمة يؤتى بها للانتقال من شيء إلى شيء، ينتقل من الخطبة ليبين موضوع الكتاب.
(فإن الله تعالى خلق الخْلق لعبادته) الدليل: قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات/56].
(وبيّن لهم في كتبه المُنزّلة وعلى ألسنة رُسله) يعني الأمر الذي خُلقوا له.
(وأوضح لهم جميع الطرق المُوصلة إلى هذه الغاية) في القرآن وفي السنة.
(المتن)
فإن في القرآن والسنة من تفاصيل معرفة الله بأسمائه وصفاته وتوحيده ما ليس في غيرهما، فتعيّن على العباد الإقبال عليهما، والتدبر والتفّكر فيهما، إذ لا سبيل لهم إلى معرفة ما خُلقوا له إلا بمعرفتهما، ولا طريق لهم إلى الوصول إلى ربهم وإلى دار كرامته إلا بالقيام بحقهما.
(الشرح)
يَعْنِي: سُدت الطرق الموصّلة إلى الله وإلى كرامته إلا من طريق الكتاب والسنة، لا طريق لأحد للوصول إلى الله وإلى دار كرامته وجنته إلا بالعمل بالكتاب والسنة، هذا هو الطريق الموصّل إِلَى الله وطريق السعادة والنجاة، العمل بالكتاب والسنة، وتحكيمهما في كل شأن، هذا هو طريق النجاة وطريق السعادة، طريق السعادة وطريق النجاة العمل بالكتاب والسنة، قراءة الآيات والأحاديث وتفهم معانيهما، والعمل بما فيهما، والإيمان بالمتشابه، والعمل بالمُحكم، وامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، والاتعاظ بالمواعظ، والانزجار بالزواجر، والتحاكم إلى ما جاء في الكتاب والسنة، هذا هو طريق النجاة وطريق السعادة، وهذا هو الطريق الموصّل إلى الله وإلى دار كرامته وجنته.
(المتن)
ولمّا كان الباري تعالى قد امتنّ على هذه الأمة بعلماء ربانين وفضلاء متقنين قد بذلوا نفائس أعمارهم، وأعملوا جواهر أفكارهم في استخراج كنوز الوحي ومعانيه، وحلّ ألفاظه المعصومة ومبانيه؛ فحصل لهم به علم كثير وفضل غزير، وصاروا الهداة للأمة الأئمة، واقتدى بهديهم وسيرهم وطريقتهم جميع أصناف الأمة، وممن له في هذا الشأن القدم العليا، والقدح المُعلّى، والباع الأعلى: الإمامان العظيمان والحافظان الثقتان؛ شيخ الإسلام تقي الدين الإمام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، والإمام أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية، قدّس الله أرواحهما.
(الشرح)
طهّر الله أرواحهما، التقديس هو التطهير، المُقدّس بيت المقدس هو المُطهّر، ولا شك كما قال المؤلف رحمه الله: أن الله منّ على هذه الأمة بالعلماء الربانين، ولمّا كانت هذه الأمة آخر الأمم وليس بعدها نبي؛ منّ الله تعالى على هذه الأمة بعلماء ربانين يجددون للناس دينهم، الأمم السابقة فيها أنبياء، كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وكلما اندثر الدين؛ أرسل الله نبيًّا آخر، فالأنبياء الذين جاءوا بعد موسى عليه السلام كلهم يعملون بالتوراة: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا}[المائدة/44].
داوود وسليمان وزكريا ويحيى، فلما ختم الله الأنبياء بنبينا محمد r، وكانت شريعته هي الشريعة الخاتمة، وكانت عامة وشاملة للثقلين الجن والإنس والعرب والعجم؛ منّ الله تعالى بعلماء ربانين يقومون مقام الأنبياء في الأمم السابقة، يجددون للناس دينهم، كما قال: (علماء ربانين وفضلاء متقنين، قد بذلوا نفائس أعمارهم، وأعملوا جواهر أفكارهم في استخراج كنوز الوحي ومعانيه، وحلّ ألفاظه) فصاروا هداة للناس يعلّمونهم، ويجددون للناس دينهم، ولهذا جاء في الحديث: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا».
ولا شك كما قال المؤلف أن الإمامين شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم منّ الله عليهما بالعلم، وفتح الله قلوبهما، ونوّر بصائرهما، وصار لهما ميزة، لهم ميزة لم تكن لغيرهم، كثير من العلماء لهم عناية بالفروع، بالفقه، لكن ليس لهم عناية بالعقائد، تجد بعضهم يكون عنده خلل في العقيدة وفي الصفات وفي التأويل، ولكن عنده نشاط في الفروع، يُبدع في الفروع، مثلًا في مسائل البيع والشراء والعبادات، يُجيد فيها، لكن في مسائل الاعتقاد عنده ضعف ونقص؛ هذان الإمامان منّ الله عليهما بهذا الخير العظيم، بهذا الفتح الرباني في باب الاعتقاد، وأعطاهم أيضًا ما أعطى غيرهم من العلم في العقائد وفي أصول الدين وفي الفروع.
(المتن)
قال رحمه الله: فإنه قد حصل لهما من العلم والفهم للكتاب والسنة واستخراج علومهما ما فاقا فيه كبار العلماء، وسبقا فيه الجهابذة النبلاء، خصوصًا علم التوحيد والعقائد السلفية، فإن الله منّ على المسلمين بهما، وبيّنا لهم من ذلك ما لم يبينه أحد، ونصرا مذهب أهل السنة والحق نصرًا عظيمًا، ودحضا مذاهب الضالين والمبتدعين، فصنفا في ذلك المصنفات التي سارت في مشارق الأرض ومغاربها، وانتفع بها الموافق والمخالف، ومعرفة كتبهما والوقوف عليها فيه كفاية لمعرفة أقدارهما، وعلو مراتبهما.
(الشرح)
الأمر كما قال الشيخ رحمه الله، هذا الوصف مُنطبق على الإمامين رحمهما الله وأسكنهما فسيح جناته، ورحم الله الشيخ عبد الرحمن، وجميع علماء أهل الحق، وأكثّر في الأمة من العلماء، وأنصار الحق، ودعاته.
(المتن)
قال رحمنا الله وإياه: ولمّا كانت الكافية الشافية لشمس الدين ابن القيم رحمه الله قد اشتملت على ما لم يشتمل عليه كتاب في فن التوحيد والعقائد والأصول، واحتوت على تفاصيل كثيرة لا توجد في سائر الكتب، حتى كتب مؤلفها.
(الشرح)
لمّا كانت الكافية الشافية هي القصيدة هذه، سمّاها الكافية الشافية؛ لرد شبهات أهل البدع والمعطّلة، ويسميها البعض القصيدة النونية، اشتملت كما ذكر المؤلف على ما لم يشتمل عليه كتاب في فن التوحيد والعقائد والأصول، واحتوت على تفاصيل كثيرة لا توجد في سائر الكتب، حتى كتب المؤلف رحمه الله، له مؤلفات كثيرة؛ له "الشفاء العليل"، وله "مدارج السالكين" وله "طريق الهجرتين"، وله كتب كثيرة، لكن النونية وهي الكافية الشافية فيها مباحث لا توجد في كتب المؤلف ولا في غيرها.
(المتن)
قال رحمه الله: حتى كتب مؤلفها، وكان قد تكرر عليّ الطلب من بعض الأصحاب في وضع تعليق عليها، فرأيت ذلك من الأمور المتعسرة عليّ؛ لأنه يستدعي وقتًا كثيرًا ويُشغلني عن ما هو أهم عندي منه، ثم استخرت الله تعالى على وضع شرح لطيف على توحيد الأنبياء والمرسلين منها ومتعلقاته؛ ما هو أهم ما فيها وأحسنه، والحاجة بل الضرورة ماسّة إلى معرفته، وربما كان الاقتصار عليه أولى وأنفع من السعي في شرح جميعها لأمور كثيرة، وأكثرت فيه من النقل لعبارات المؤلف في كتبه التي فيها إيضاح وتبيين يُعين على فهمها؛ لأنه أحسن ما يُشرح كلامه بكلامه، فجاء بحمد الله كتابًا وافيًا بمقصوده، محتويًا على جواهر نفائس علم التوحيد، الذي هو أشرف العلوم على الإطلاق.
وأسأله تعالى أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به النفع العميم، إنه جواد كريم، رءوفٌ رحيم: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[هود/88].
(الشرح)
هذه مقدمة الشارح عبد الرحمن بن السعدي رحمه الله.
(المتن)
قال رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، فصل في بيان توحيد الأنبياء والمرسلين، ومخالفته لتوحيد الملاحدة والمعطّلين.
وهذا التوحيد هو التوحيد على الحقيقة، الذي لا يستحق هذا الاسم غيره، وهو التوحيد الوحيد في ذاته وحقيقته، وأدلته، وبراهينه، وآثاره الفاضلة، هو التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وأقام الأدلة والبراهين على صحته، وتعيّنه طريقًا للنجاة، وأنه لا خير ولا سرور ولا سعادة في الدنيا والآخرة إلا بسببه.
(الشرح)
هذا التوحيد توحيد الأنبياء والمرسلين، وهو التوحيد على الحقيقة؛ لأن أهل البدع يُسمّون ما هم عليه من الاعتقاد توحيدًا، الاتحادية الذين هم أكفر الناس، الاتحادية الذي يقولون بوحدة الوجود، ويقولون: الخالق هو المخلوق، والمخلوق خالق، يسمون أنفسهم أهل التوحيد، وأهل المعرفة وأهل الحقيقة، تسمية باطلة، وكل يدعي وصلا.. الجهمية الذين سلبوا عن الله أسماءه وصفاته يُسمّون ما هم عليه التوحيد، يسمون أهل التوحيد، ومن أثبت الصفات يسمونه مشبّهًا، وكل يدعي وصلًا بليلى، لكن التوحيد على الحقيقة هو توحيد الأنبياء والمرسلين، لا يستحق ولا يوصف غيره.
تسمية الاتحادية لشركهم بالتوحيد هذه تسمية باطلة، من أبطل الباطل، تسمية المعطّلة الجهمية لنفس الصفات توحيد من أبطل الباطل، تسمية الجبرية لما هم عليه توحيد من أبطل الباطل، تسمية المرجئة لما هم عليه من الإرجاء توحيد تسمية باطلة، إذًا كل يُسمي ما هو عليه توحيدًا؛ لكن ما هو التوحيد على الحقيقة؟
التوحيد على الحقيقة الذي لا يستحق هذا الاسم إلا هو؛ هو توحيد الأنبياء والمرسلين، لا يستحق هذا الاسم غيره، وهو التوحيد في ذاته وحقيقته، كما قال الشارح رحمه الله: (هو التوحيد الوحيد في ذاته، وحقيقته، وأدلته، وبراهينه، وآثاره الفاضلة، وهو التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وأقام الأدلة والبراهين على صحته)، وهو المتعيّن طريقًا للنجاة.
(المتن)
قال رحمه الله: وهو الذي أعد الله لأهله ومن قام به أنواع الكرامات، ولمن لم يقم به أنواع العقوبات، وهو الذي عليه المدار والأساس لجميع الأعمال؛ فكل عمل غير مبني على التوحيد فهو باطل مضمحل، وكل بناء بُني على غيره فهو بناء على شفا جرف هار، وهو التوحيد الذي عليه خيار الخلق، وأكملهم عقولًا وأراء، وأجمعهم للمحاسن وهم الأنبياء والمرسلون ومن تبعهم.
(الشرح)
كما قال المؤلف رحمه الله هذا التوحيد لا خير، ولا سرور، ولا سعادة في الدنيا والآخرة إلا بسببه، هذا التوحيد هو الذي أعد الله لأهله، ولمن قام به أنواع الكرامات، فهم أهل جنته سبحانه وتعالى، الموحدون له أهل كرامته وجنته، وهم الذين ينظرون إلى ربهم U، ومن لم يكن من أهل التوحيد أعد الله لهم أنواع العقوبات، وهم أهل النار، من لم يأتي بهذا التوحيد وأتى بما يناقضه الشرك، هذا هو الذي أعد الله لهم جميع أنواع العقوبات، وهم أهل النار والعياذ بالله وهم المحجوبون عن الله، والمحجوبون عن كل كرامة نسأل الله السلامة والعافية.
(المتن)
قال رحمه الله: ونبذه وردّه كل ملحد ومعطّل ممن مرجت أديانهم، وفسدت عقولهم، واكتسبوا شر الأخلاق، وعُطلّت قلوبهم من معرفته ومحبته، وألسنتهم من ذكره، وجوارحهم من طاعته، ممن خالفوا الأنبياء والمرسلين، في توحيدهم وطريقهم، في الدليل والمدلول، فتوحيد الأنبياء والمرسلين.
(الشرح)
لا شك أن هذا وصف الملاحدة، الملاحدة هم الذين نبذوا هذا التوحيد (توحيد الأنبياء والمرسلين) وردّوه؛ لأن أديانهم مرجت، وعقولهم فاسدة، وأخلاقهم شريرة، وقلوبهم مُعطلّة من معرفة الله ومحبته، وألسنتهم مُعطلّة من ذكر الله، وجوارحهم مُعطلّة من طاعته، فخالفوا الأنبياء والمرسلين، في التوحيد، وفي الطريق في الدليل والمدلول.
(المتن)
فتوحيد الأنبياء والمرسلين مُشتمل على الحق والصدق، المُزكي للنفوس، المُطهّر للأخلاق، وأدلته كل دليل عقلي صريح، وكل دليل نقلي صحيح، وتوحيد الملاحدة والمعطّلين مُشتمل على أبطل الباطل، مؤيّد بالشبهة التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع، وهي على جهل أهلها وفساد عقولهم وأفهامهم من أكبر الأدلة.
(الشرح)
كما قال المؤلف رحمه الله: (توحيد الأنبياء والمرسلين مُشتمل على الحق والصدق)، وهو يُذكي للنفوس، ويُطهّر الأخلاق، (وأدلته كل دليل عقلي صريح، وكل دليل نقلي صحيح) يعني: واضح لا لبس فيه سالم خالٍ من الشُبَه، (وكل دليل نقلي صحيح)، فأدلة النقل صحيحة، وأدلة العقل صريحة واضحة، لا لبس فيها، أما (توحيد الملاحدة والمعطّلين مُشتمل على الباطل، مؤيّد بالشُبَه) وهذه الشُبَه والأباطيل تدل (على جهل أهلها وفساد عقولهم وأفهامهم).
(المتن)
ولهذا قال المُصنِف رحمه الله:
فاسمع إذًا توحيد رسل الله ثم |
|
اجعله داخل كفة الميزان |
مع هذه الأنواع وانظر أيها |
|
أولى لدى الميزان بالرجحان |
(الشرح)
هذا أول كلام ابن القيم رحمه الله، هذا أول نظم في توحيد الأنبياء والمرسلين، توحيد الأنبياء والمرسلين فصول خاصة، فصول في وسط الكافية الشافية، في وسط القصيدة، قصيدة طويلة، لكن هذا جزء منها، فصول في توحيد الأنبياء والمرسلين.
بدأها فقال:
فاسمع إذًا توحيد رسل الله ثم |
|
اجعله داخل كفة الميزان |
رُسْل أصلها: رُسُل، لكن سكنت السين لهذا البيت، لأجل النظم حَتَّى لا ينكسر البيت وأصلها رسل.
فاسمع إذًا توحيد رسل الله ثم |
|
اجعله داخل كفة الميزان |
اسمع التوحيد، وأوزنه، أوزنه في أي شيء؟ في ميزان الكتاب والسنة.
(مع هذه الأنواع)؛ أنواع التوحيد الأخرى المخالفة؛ أنواع توحيد المعطّلة والملاحدة، فزن توحيد الأنبياء والمرسلين، وزن توحيد المعطّلة والملاحدة، أيها الذي يرجح؟
مع هذه الأنواع وانظر أيها |
|
أولى لدى الميزان بالرجحان |
يعني يقول زن توحيد الأنبياء والمرسلين، وزن توحيد المعطّلة والملاحدة، اجعل هذا في كفة، اجعل هذا في كفة، أيها الذي يرجح؟ أيها أولى بالرجحان؟ لا شك أن توحيد الأنبياء والمرسلين هو الذي يرجح، وتوحيد الملاحدة والمعطّلة يضمحل ويزول
فالمؤلف رحمه الله:
فاسمع إذًا توحيد رسل الله ثم |
|
اجعله داخل كفة الميزان |
مع هذه الأنواع وانظر أيها |
|
أولى لدى الميزان بالرجحان |
(المتن)
قال رحمه الله: وهذا لأن الشيء يُعرف بضده، والحق يتضح ويبين بمعرفة الباطل.
(الشرح)
يعني: الشيء يظهر بضده، لا يُعرف الشيء إلا بضده، لا يُعرف الخير إلا بالشر، لولا وجود أهل الشرور ما عرفت الخير، والذي لا يعرف الشر؛ ما يعرف الخير، الذي لا يعرف الشرك والبدع؛ ما يعرف التوحيد، لأنه الذي يعرف التوحيد لابد أن يعرف ضده، والذي لا يعرف الشرك؛ يقع في الشرك وهو لا يشعر، ما يدري، يظن أنه على التوحيد.
ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أفضل من أبنائهم الذين وُلدوا بالإسلام، الصحابة رضوان الله عليهم الذين أسلموا، وكانوا في الشرك أولًا، ذاقوا مرارة الشرك، وخبروه وعرفوه فلا يقعون فيه مرة أخرى، لأنهم عرفوه؛ وأما أبنائهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يعرفوه، فمن لا يعرف الشرك؛ يقع في الشرك وهو لا يشعر، ما يدري، ولد في الإسلام لكن ما يعرف الشرك؛ فيقع في الشرك وهو يظن أنه على التوحيد، فلابد من معرفة الشر حتى يسلم منه الإنسان.
ولهذا ثبت في الصحيح، صحيح البخاري عن حذيفة t أنه قال: «كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ r عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ؛ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي»، حذيفة t يسأل عن الشر، لماذا؟ خشية أن يقع فيه، وجاء عن عمر بن الخطاب t أنه قال: "إنما تنقض عرى الإسلام عُروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية"، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية؛ يقع في أمور الجهل ولا يشعر ولا يعرفها، ولكن الذي يعرف أمور الجاهلية يجتنبها، والذي لا يعرفها يقع فيها وهو لا يعلمها، عرفت الشر لا للشر بل لاجتناب الشر.
(المتن)
قال: وهذا لأن الشيء يُعرف بضده، والحق يتضح ويبين بمعرفة الباطل، فإنك إذا وزنت بميزان العقل الحقيقي، والفطرة الأولى التي لم تُغير، والقواطع الدالة على الحقائق توحيد الأنبياء والمرسلين وتوحيد غيرهم؛ وجدت بينها من الفروق ما لا يخفى على من له أدنى مُسكة من عقل.
(الشرح)
(إذا وزنت بميزان العقل الحقيقي) العقل الحقيقي: هو العقل الصريح، والفطرة التي لم تُغير، والأدلة القاطعة من الكتاب والسنة، هذا هو الميزان، الميزان تزن بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة الصحيحة، والأدلة العقلية الصريحة التي ليس فيها شبهة، والفطرة الأولى التي لم تتغير، إذا وزنت بهذه الأمور الثلاثة: (الأدلة النقلية الصحيحة، والأدلة العقلية الصريحة، والفطرة الأولى التي لم تتغير) زن توحيد الأنبياء والمرسلين وتوحيد غيرهم؛ يتبين لك الحق من الباطل.
(المتن)
قال: وكيف يوزن توحيد المعطّلين والملحدين المشتمل على مسبة رب العالمين، ووصفه بكل صفة ناقصة، ونفي حقائق أوصافه الكاملة، والافتراء عليه وعلى رسله وكتبه، وجعل المخلوق الناقص من جميع الوجوه مساويًا للخالق الكامل من جميع الوجوه، بتوحيد الأنبياء والمرسلين، المُشتمل على تعظيم رب العالمين وتقديسه، والثناء عليه بأكمل الثناء، فوصفه بكل صفة كمال، وتنزيهه عن التمثيل والتشبيه، ومشاركة أحد من المخلوقين في خصائص صفاته المقدسة.
(الشرح)
كيف يُوزن هذا بهذا! كيف يُقارن هذا بهذا! كيف يوزن توحيد المعطلّة والملاحدة المشتمل على مسبة رب العالمين، والمشتمل على وصف الله بكل صفة ناقصة، ونفي حقائق أوصافه، والافتراء عليه وعلى رسله وكتبه، وجعل المخلوق الناقص من جميع الوجوه مساويًا للخالق الكامل من جميع الوجوه، كيف يوزن هذا بتوحيد الأنبياء والمرسلين! المُشتمل على تعظيم الله U وتقديسه، (والثناء عليه بأكمل الثناء، ووصفه بكل صفة كمال، وتنزيهه عن التمثيل والتشبيه، ومشاركة أحد من المخلوقين في خصائص صفاته المقدسة).
(المتن)
قال: وكيف يُوزن توحيد يرقى بمن قام به إلى أعلى عليين، بتوحيد ينزل بصاحبه إلى أسفل سافلين.
(الشرح)
توحيد الأنبياء هو شيء يرقى بالعبد حتى يوصله إلى أعلى عليين، وتوحيد الملاحدة ينزل بصاحبه إلى أسفل سافلين.
(المتن)
أم كيف يُوزن توحيد يجعل من اتصف به هاديًا مهديًا، وطاهرًا مرضيًا.
(الشرح)
هذا هو توحيد الأنبياء والمرسلين، من اتصف به يكون هاديًا مهديًا، وطاهرًا مرضيًا.
(المتن)
بتوحيد يكسب أهله الضلال والإضلال، وأرذل الخصال، والشقاء الأبدي والعذاب السرمدي.
(الشرح)
هذا توحيد الملاحدة والمعطّلين.
(المتن)
قال رحمه الله:
توحيدهم نوعان قولي وفعلي |
|
كلا نوعيه ذو برهان |
(الشرح)
الآن، بدأ المؤلف رحمه الله يُقسّم التوحيد، قسم التوحيد إلى نوعين، (توحيدهم) يعني: توحيد الأنبياء والمرسلين.
توحيدهم نوعان قولي وفعلي |
|
كلا نوعيه ذو برهان |
- يعني توحيد الأنبياء والمرسلين ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: توحيد فعلي.
والثاني: توحيد قولي.
وكلا كل من النوعين له براهين، وله أدلة، هما نوعان: قولي وفعلي، والقولي له أدلة وبراهين، والفعلي له أدلة وبراهين، هذا أول تقسيم، التوحيد ينقسم إلى قسمين:
الأول: توحيد فعلي أو عملي.
والثاني: توحيد قولي اعتقادي.
(المتن)
قال رحمه الله: يعني أن توحيد الأنبياء والمرسلين ينقسم قسمين:
أحدهما: التوحيد الفعلي، وهو إفراد الله بالمحبة والذل، وسائر العبادات والتقربات، ويأتي في آخر هذه الفصول وهو المُعبّر عنه بتوحيد العبادة وبتوحيد الألوهية، وسُمي توحيدًا فعليًا؛ لأنه يتضمن أفعال القلوب والجوارح، فهو توحيد الله بأفعال العبيد، وألا يُتخذ له شريك ولا ند.
(الشرح)
هذا التوحيد الفعلي، هذا النوع الأول، (التوحيد الفعلي وهو إفراد الله بالمحبة والذل، وسائر العبادات والتقربات) الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والدعاء، والذبح، والنذر، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والرجاء، والخوف، سائر أنواع العبادات والتقربات يُقصد الله بها، إذا صرف شيئًا منها لغير الله وقع في الشرك، إذا صرف المحبة، أو صرف الذل، أو صرف الخوف، أو صرف الرجاء، أو التوكل، أو الذبح، أو النذر، أو الطواف لغير الله؛ وقع في الشرك، توحيد الله بل إفراد الله بالمحبة والذل وسائر أنواع العبادات والتقربات يُفرد الله بها، يُخصص الله بها، ينوي التقرب بها إلى الله وحده، يريد التقرب من الله وحده، يكون قصده الله وحده، فإذا قصد غير الله مع الله؛ كان مشركًا، فهذا هو الشرك.
(سُمي توحيدًا فعليًا؛ لأنه يتضمن أفعال القلوب والجوارح) أفعال القلوب: التوكل، والخوف، والرجاء، والرغبة، والرهبة، وأعمال الجوارح: الصلاة، والصيام، والزكاة، والدعاء، والذبح، والنذر، ضابطه هو توحيد الله بأفعالك أنت أيها العبد، صلاة، صيام، زكاة، حج، ذبح، نذر، دعاء، رغبة، رهبة، أفعالك أنت التي تتقرب بها، وتتعبد بها تخلصها لله، تتقرب إلى الله بها دون غيره.
أما التوحيد القولي فهو توحيد الأسماء والصفات، ويدخل في توحيد الربوبية، وهذا هو التوحيد القولي الاعتقادي، وهو توحيد الله بأفعاله هو، أفعال الله: الرزق، الخلق، الإماتة، الإحياء، يعني تُضيف هذه الأفعال إلى الله وتعتبر أن الله هو الفاعل، والخالق، والرازق، والمُدبّر، وهو الذي له الأسماء الحسنى، وهو الذي له الصفات العلا.
فإذًا الفرق بين النوعين، ما هو؟
التوحيد الفعلي: هو توحيد الله بأفعالك أنت أيها العبد.
وأما التوحيد القولي: هو توحيد الله بأفعال الرب هو.
(المتن)
قال رحمه الله: والثاني التوحيد القولي المشتمل على أقوال القلوب؛ وهو اعترافها واعتقادها، وعلى أقوال اللسان، والثناء على الله به.
(الشرح)
هذا هو التوحيد القولي المشتمل على أقوال القلوب؛ وهو اعترافها واعتقادها، اعتراف القلب وتصديقه، واعترافه وقوله، القول؛ قول القلب هو اعترافه وتصديقه واعتقاده، وعلى أقوال اللسان، التوحيد القولي مشتمل على: قول القلب، وقول اللسان.
فقول القلب هو: التصديق والاعتراف والاعتقاد، يعتقد أن الله تعالى مُتصف بصفات الكمال، يعتقد أن الله تعالى هو المدبّر، هو الخالق، هو الرزاق، هو المُحي، هو المميت.
وقول اللسان هُوَ: الثناء على الله بما هو أهله، والشهادة لله تعالى بالوحدانية، والنبي بالرسالة، ينطق باللسان.
وهذا هو توحيد الأسماء والصفات وتوحيد الربوبية.
(المتن)
قال رحمه الله: وهذا النوع هو توحيد الأسماء والصفات، والذي يدخل فيه توحيد الربوبية، وكل واحد من النوعين له براهين وأدلة عقلية ونقلية.
(الشرح)
(كل واحد من النوعين) التوحيد الفعلي والتوحيد القولي له أدلة وبراهين عقلية، وأدلة وبراهين نقلية:
الأدلة النقلية: هي أدلة الكتاب والسنة.
والبراهين العقلية: هي أدلة العقل الصريح.
فإذًا التوحيد القولي هو توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، والأصل أنه توحيد واحد، ويقال له: توحيد في المعرفة والإثبات، ويقال له: التوحيد الاعتقادي، وهو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى، وأسمائه وصفاته وأفعاله، هذا هو التوحيد القولي، وهو وسيلة إلى النوع الأول، وسيلة للتوحيد والعبادة، فتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وسيلة إلى توحيد العبادة والألوهية، وذلك أنك أولًا تعرف ربك بأسمائه وصفاته وأفعاله، ثم تعبده.
الأول معرفة المعبود، ثم عبادته، فاعرف ربك الذي تعبده بأسمائه وصفاته، وأنه الرب العظيم الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى، والذي له الإحسان والنعم، ما من العباد من نعمة فمنه سبحانه، إذا عرفت ربك بأسمائه وصفاته وأفعاله، بعد ذلك تعبده وتوحده، فالتوحيد القولي الاعتقادي وسيلة إلى التوحيد الفعلي.
والتوحيد الفعلي: وهو توحيد العبادة، هو الغاية المرضية والمحبوبة لله U، والغاية التي من أجلها خلق الله الخلق؛ فأرسل رسله وأنزل الكتب، الغاية المحبوبة لله والمرضية له، تعبده وتوحده وتخلص له العبادة سبحانه وتعالى.
هذا التقسيم الأول، وافهم معنى كل قسم، فما بعده مبني عليه، التوحيد الفعلي: هو توحيد العبادة والألوهية، وهو الغاية المحبوبة لله والمرضية له، والتوحيد القولي الاعتقادي: معرفة المعبود، ومعرفة الله بأسمائه وصفاته، وهو الوسيلة إلى التوحيد الفعلي، التوحيد القولي الاعتقادي وسيلة، والتوحيد الفعلي غاية.
بعد ذلك سيُقسم المؤلف رحمه الله التوحيد القولي الثاني، التقسيمات كلها للتوحيد الثاني، والأول الفعلي، بعدما ينتهي المؤلف من تقسيمات التوحيد القولي الاعتقادي؛ يتكلم على التوحيد الفعلي في آخر المباحث، بعدما يذكر تقسيمات التوحيد القولي يتكلم عن التوحيد الفعلي.
(المتن)
قال المؤلف رحمنا الله وإياه: فبدأ المُصنف رحمه الله بالتوحيد القولي فقال:
فالأول القولي ذو نوعين أيـضًا |
|
في كتاب الله موجودان |
إحداهما سلب وذا نوعان |
|
أيـضًا فيه مذكوران |
سلب النقائص والعيوب جميعها |
|
عنه هما نوعان معقولان |
يعني أن التوحيد القولي على نوعين موجودين في كتاب الله:
إحداهما: سلب؛ أي نفي للنقائص والعيوب عن الله.
والثاني: إثبات الصفات الكاملة لله.
(الشرح)
هذا التقسيم الأول للقسم الثاني، التوحيد قسمان:
توحيد فعلي.
- وتوحيد قولي؛ وينقسم على قسمين:
- نفي.
- وإثبات.
فالإثبات: إثبات صفات الكمال لله، والصفات الكاملة من أين نأخذها؟ كيف نعرفها؟ يعني نستحسن صفة ونثبتها، فمثلًا واحد يستحسن صفة العقل، العقل من الصفات الطيبة، إذًا نثبتها لله؟ صفة كمال, نقول: صحيح هِيَ صفة كمال للمخلوق، لكن الله ما أثبتها لنفسه، الأسماء والصفات توقيفية، يُوقف بها عند النصوص، الله أثبت لنفسه العلم، ولم يثبت العقل، ما نقول: من صفات الله العقل، بل من صفاته العلم، من صفاته الحكمة، فالله عليم وحكيم، فالأسماء والصفات توقيفية، يُثبت لله صفة الكمال، كيف نعرف صفة الكمال؟ من الكتاب والسنة، ما جاء في الكتاب من الصفات والأسماء مثبتة لله، وما جاء في السنة من الأسماء والصفات مثبتة لله، وما لم يأتي في الكتاب والسنة لا نُثبتها لله، ولو زعم من زعم أنها من صفات الكمال.
إذًا التوحيد القولي ينقسم إلى قسمين: إثبات, ونفي.
فالإثبات: إثبات صفات الكمال لله من الكتاب والسنة.
والنفي: سيأتي تقسيمها أيضًا.
(المتن)
قال رحمنا الله وإياه: يعني أن التوحيد القولي على نوعين موجودين في كتاب الله:
إحداهما سلب؛ أي نفي للنقائص والعيوب عن الله.
والثاني إثبات؛ الصفات الكاملة لله كما سيأتي إن شاء الله.
وبدأ بالسلب؛ لأنه وسيلة ومقصودة لغيره، فإن المقصود إثبات صفات المدح والحمد.
(الشرح)
المقصود هو إثبات صفات الكمال الله، والسلب هو المقصود لغيره، المقصود هو إثبات صفات المدح والكمال لله، والسلب هذا وسيلة، وسيلة إلى الكمال، فأنت تنفي النقائص والعيوب عن الله، حتى تُثبت لله صفات الكمال، والتخلية قبل التحلية يقولون، لماذا بدأ بصفات السلب قبل صفات الإثبات؟ لأن التخلية قبل التحلية، فأنت الآن تتخلى عن الصفات التي لا تليق بالله، تبعدها وتنفيها، صفات النقص والعيب، ثم بعد ذلك تتحلى بصفات الكمال، تتخلى عن صفات النقص، ثم تتحلى بصفات الكمال.
كما في قول كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله) مشتملة على نفي وعلى إثبات، فالنفي: نفي العبادة بجميع أنواعها عن غير الله، والإثبات: إثبات العبادة بجميع أنواعها لله، فالنفي تخلية، تتخلى عن عبادة غير الله، ثم تتحلى بتوحيد الله وعبادته، والإيمان به، تتخلى أولًا بما لا يليق بالله، ثم تتحلى بما يليق بالله، فالتخلية قبل التحلية، ولهذا بدأ المؤلف بصفات السلب للتخلية.
(المتن)
قال رحمه الله: وبدأ بالسلب؛ لأنه وسيلة ومقصود لغيره، فإن المقصود إثبات صفات المدح والحمد، وكل ما نفاه الله عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله من النقائص، فإنه متضمن للمدح والثناء بضد ذلك النقص.
(الشرح)
لأن صفات السلب تُنفى، ويُثبت ضدها من الكمال، فمثلًا في قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}[البقرة/255].
نفى السنة والنوم؛ لإثبات ضدها من الكمال، وهو إثبات الحياة، هو {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}؛ لكونه له الحياة الكاملة، {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}[البقرة/255]؛ أي: لا يُعجزه، نفي العجز لإثبات كمال ضدها، وهو القوة والاقتدار، {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}[البقرة/255] ؛ لكمال حياته وقيوميته، {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}؛ لكمال قوته واقتداره، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}[الكهف/49]؛ نفي الظلم لكمال عدله، {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ}[سبأ/3]؛ لكمال علمه، وهكذا.
فالصفات السلبية التي تُنفى عن الله، ليست نفي محضًا، وإنما هي نفي لإثبات ضدها من الكمال؛ لأن صفات الله أنواعها؛ صفات نفي وصفات إثبات، وصفات النفي تستلزم إثبات ضدها من الكمال، ليس النفي صرفًا محضًا، لأمرين: الأمر الأول لأن الصرف هو النهي لأن النفي المحض لا مدح فيه ولا كمال، ولأن نفي الصرف يوصف بالمعدوم والمعدوم لا يُوصف بالكمال، فلهذا تكون صفات السلب الواردة في أسماء الله؛ لإثبات ضدها من الكمال، ليس النفي الوارد في صفات الله ليس نفيًا صرفًا محضًا؛ ولكنه نفي لإثبات ضده من الكمال، لأن الصرف المحض لا مدح فيه ولا نوصف به المعدوم.
إذًا صفات النفي واردة في صفات الله، ليس النفي فيها محضًا صرفًا، وإنما هو نفي يستلزم إثبات ضده من الكمال.
(المتن)
قال رحمه الله: فإن المقصود إثبات صفات المدح والحمد، وكل ما نفاه الله عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله r من النقائص فإنه متضمن للمدح والثناء لضد ذلك النقص من الأوصاف الحميدة والأفعال الرشيدة، وهذا السلب على قسمين، ذكرها المُصنف بقوله:
سلب لمتصل ومنفصل هما |
|
نوعان معروفان أما الثاني |
سلب الشريك مع الظهير مع |
|
الشـفيع بدون إذن الخالق الديّان |
وكذاك سلب الزوج والولد الذي |
|
نسبوا إليه عابد الصلبان |
وكذاك نفي الكفر أيضًا والولـي |
|
لنا سوى الرحمن ذي الغفران |
(الشرح)
هذا تقسيم للنفي، سبق أن قلت لكم: أن القول نوعان؛ إثبات ونفي، فالإثبات وصف الكمال، والنفي ينقسم إلى قسمين: نفي تنزيه، ونفي سلب.
نفي تنزيه؛ تنزيه الله عن الشبيه والمثيل وعن التعطيل والجحود، نفي صفاته عن المثيل والتشبيه، فليس لها مثيل، ونفيها عن التعطيل والجحود والنكران، هذا نفي تنزيه.
والثاني: سلب، والسلب نوعان، والسلب هو النفي:
سلب لمتصل, وسلب لمنفصل.
كما قال المؤلف:
سلب لمتصل ومنفصل هما |
|
نوعان معروفان أما الثاني |
هو سلب لمنفصل (سلب الشريك) فليس لله شريك في ملكه، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ}[الفرقان/1- 2]، ليس لله شريك.
(مع الظهير)، {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}[سبأ/22]؛ ظهير: يعني معين، (مع الشـفيع بدون إذن الخالق الديّان) يعني: لا يشفع أحد إلا بإذن الله، الله سلب من الشريك، ليس له شريك، وليس له ظهير معين، وليس له شافع شفيع من دون الله، هذه ثلاثة كلها سلب لمنفصل.
وكذلك سلب الزوج، الله مُنزّه عن الزوجة: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا}[الجن/1- 3]؛ الصاحبة: الزوجة والولد، نسبة الزوجة إلى الله من أعظم الكفر وكذلك الولد.
إذًا السلب المنفصل مثّل له المؤلف سلب الشريك، وسلب الظهير: يعني المعين، وسلب الشفيع من دون إذنه، وسلب الزوج، وسلب الولد، وسلب الكفء، ثم يأتي في الأبيات الأخرى السلب المتصل.
(المتن)
قال رحمه الله: يعني أن ما ينزه الله عنه من النقص ويسلب عنه من العيوب نوعان:
سلب لمتصل، وضابطه: نفي ما يناقض ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله r كما سيأتي.
(الشرح)
هذا سلب المتصل وضابطه كما ذكرنا نفي ما يناقض ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله، فكما وصف الله نفسه بالقدرة: {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الأنعام/17].
فالذي يناقض القدرة منفي عن الله، ما الذي يناقض القدرة؟ الضعف، والمرض، المريض لا يقدر، والموت، والإعياء، والتعب، وكل ما يناقض قدرته منفي عن الله، العلم، كل ما يناقض صفة العلم منفي عن الله مثل: النسيان وعزوب الشيء، وكذلك أيضًا الغنى كل ما يناقض صفة الغنى منفي عن الله؛ كالحاجة إلى الغير، والطعام، والشراب، إلى غير ذلك، كل ما يناقض صفات الكمال، كل ما يناقض ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله منفي عن الله.
(المتن)
قال رحمه الله: وسلب لمنفصل، وضابطه: تنزيه رب العالمين أن يشاركه أحد من الخلق في خصائصه التي لا تكون لغيره.
(الشرح)
هذا السلب المنفصل، (وضابطه: تنزيه رب العالمين أن يشاركه أحد من الخلق في خصائصه التي لا تكون لغيره) كالشريك، الله تعالى هو المالك لكل شيء، {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}[المائدة/120]؛ فالشريك هذا معناه أن ينازع الله في خصائصه، هذا منفي عن الله، فلا أحد ينازعه سبحانه في ملكه، الشريك ينازع، إذا كان لك أرض خلاص تملكها، إذا كان لك شريك فنازعك فيما يخصه من هذه الأرض، لست مالكًا لها، إنما مالكًا لبعضها، الشريك، وكذلك الظهير، والشفيع، والزوج، والولد، يتضمن الحاجة، والكفء، والولي، وما أشبه ذلك مما فيه منازعة لله فيما هو من خصائصه، المشاركة في الله.
(المتن)
قال رحمه الله: وسلب لمنفصل، وضابطه: تنزيه رب العالمين أن يشاركه أحد من الخلق في خصائصه التي لا تكون لغيره؛ وذلك كنفي الشريك لله؛ فإن الله متفرد بالملك والقدرة والتدبير، فليس له شريك في الملك، وليس له أيضًا ظهير، أي: عوين يعاونه على خلق شيء من المخلوقات أو تدبيرها.
(الشرح)
فالشريك هذا يشارك الله في خصائصه منفي عن الله، وكذلك الظهير (المعين)؛ لأن من يحتاج إلى من يعينه يعني أن عنده نقص، وهناك من يساعده ويشاركه بقوته، فالظهير والمعين منفي عن الله، كما أن الشريك منفي عن الله، فليس لله شريك وليس له معين؛ لأنه كامل سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى أحد.
(المتن)
قال رحمه الله: وليس له أيضًا ظهير أي عوين يعاونه على خلق شيء من المخلوقات أو تدبيرها؛ لكمال قدرته، وسعة علمه، ونفوذ مشيئته، وعجز المخلوقين، وعدم حولهم وقوتهم إلا بالله؛ فالشريك والظهير منفيان عنه مطلقًا.
(الشرح)
هذا الثالث, إذًا: الشريك, والظهير, والثالث الشفيع.
(المتن)
قال: وأما الشفيع فإنه ينفى عنه أن يشفع أحد عنده على وجه يكون نقصًا في حق الله، كأن يشفع عنده أحد بغير إذنه، كما يشفع الوزراء عند الملوك والسلاطين.
(الشرح)
فالشفعاء يشفعون عند الوزراء والملوك والسلاطين بدون إذنهم، يأتي ويشفع بدون ما يدري، يدخل عليه ويشفع وما يدري عنه، وقد يقبل الشفاعة وهو مُرغم وهو لا يريد، لأنه ينظر إلى المستقبل أنه لو لم يقبل شفاعته يحصل أي نقص في المستقبل، بل قد يقبل شفاعة امرأته أو ولده، يُرغمه فيقبل الشفاعة وهو لا يريد، أما الله فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، لا أحد يُكره الله على شيء.
(المتن)
قال: وأما الشفيع فإنه يُنفى عنه أن يشفع أحد عنده على وجه يكون نقصًا في حق الله، كأن يشفع عنده أحد بغير إذنه، كما يشفع الوزراء عند الملوك والسلاطين، وأما الشفاعة عنده بإذنه فإنها ثابتة، كما أثبتها الله في عدة مواضع من كتابه، وذلك لأنها دالّة على كمال رحمته تعالى وعموم إحسانه، فإنها من رحمته بالشافع والمشفوع له، فالشافع ينال بها الأجر والثناء من الله ومن خلقه.
(الشرح)
فالشافع ينال بها الأجر والثناء على الله ومن خلقه، والمشفوع له يرحمه الله، الشفاعة إذا كانت بإذنه، وهو العدل سبحانه وتعالى، ولا أحد يُكرهه، فهي من رحمته، والفضل يرجع إلى الله، فالله تعالى يكرم الشافع بأن يقبل شفاعته، والمشفوع له أيضًا كذلك، فالله تعالى يعطيه ما طلبه رحمةً منه وإحسانًا.
(المتن)
قال رحمه الله: والمشفوع له يرحمه الله على يد من أمره بالشفاعة فيه، ومع هذا فلا يأذن لأحد بالشفاعة إلا فيمن ارتضى قوله وعمله، وهو من كان مخلصًا متابعًا للرسول r.
(الشرح)
هذا هو الذي يأذن الله له فيشفع؛ المخلص المتابع للرسول.
(المتن)
قال تعالى نافيًا هذه المراتب الثلاثة؛ المُلك، والشركة فيه، والعوين له، والشفاعة بغير إذنه عن كل من عُبد من دونه من أهل السماء وأهل الأرض: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}[سبأ/22-23].
فقطع في هذه الآية كل سبب يُتوسل به المشركون لدعوة غيره، وأن من كان بهذا الوصف لا مُلك له بوجه من الوجوه، ولا شركة في المُلك، ولا معاونة ومظاهرة فيه، وليس له شفاعة بدون إذن الله، لا يستحق من العبادة مثقال ذرة.
(الشرح)
هذه الآية قطعت عروق الشرك، وهي جميع الأسباب التي يتعلق بها المشركون؛ لأن المعبود حينما يعبد معبودًا، إنما يعبده لما يحصل له من النفع، ولأنه يرجو النفع الذي يحصل عليه من المعبود، والنفع الذي يطلبه العابد من معبوده حينما يطلب منه ويدعوه منحصر في أمور أربعة:
- إما أن يكون هذا المعبود الذي يعبده مالكًا لما يريده عابده منه.
- فإن لم يكن مالكًا، كان شريكًا للمالك.
- فإن لم يكن شريكًا للمالك، كان معينًا وظهيرًا.
- فإن لم يكن معينًا وظهيرًا، كان شفيعًا عنده.
والله تعالى نفى هذه المراتب الأربعة نفيًا مرتبًا منتقلًا من الأعلى إلى الأدنى، فنفى الملك في قوله: {لا يَمْلِكُونَ} ونفى الشريك في قوله: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ}، ونفى المظاهرة والمعاونة في قوله: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}، ونفى الشفاعة بدونه في قوله: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}؛ فانقطعت عروق الشرك، وانقطعت جميع الأسباب التي يتعلق بها من عبد غير الله، فتبين بهذا أن من عبد من دون الله لا يملك مثقال ذرة.
هذا ما قاله المؤلف: (فقطع في هذه الآية كل سبب يُتوسل به المشركون لدعوة غيره، وأن من كان بهذا الوصف لا مُلك له بوجه من الوجوه، ولا شركة في المُلك، ولا معاونة، ولا مظاهرة فيه، وليس له شفاعة بدون إذن الله)، هل يستحق العبادة هذا؟ لا يملك، وليس له شركة ولا معاونة ولا شفاعة، يستحق شيئًا هذا؟ (لا يستحق من العبادة مثقال ذرة)، لا فائدة منه، تعبد شخصًا لا يملك ما تطلبه، وليس شريكًا للمالك الذي يملك ما تطلبه، وليس معينًا ولا ظهيرًا، وليس شفيعًا عنده، إذًا ماذا تريد منه؟ لا يستحق من العبادة ولا مثقال ذرة، فانقطعت في هذا جميع الأسباب التي يتعلق بها المشركون.
نقف على هذا، نقف على قوله: وكذلك يسلب.
وفق الله الجميع لطاعته، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.