بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد؛ فسبق بالأمس الكلام على تقسيمات التوحيد، وأنها أربعة أقسام، كل قسم نوعين، وهذا يعطيك تصورًا لأقسام التوحيد، فإذا عرف الإنسان التقسيم، وضبط كل نوع من أنواع التقسيم؛ تصور، وهذه الأقسام والتقسيمات الأربعة والأنواع الثمانية يدور عليها التوحيد كله، ولا يخرج عنها، فينبغي لطالب العلم أن يتصور هذه الأنواع في ذهنه، وتوحيد الأنبياء والمرسلين يدور على هذه الأنواع الثمانية، وعلى هذه التقسيمات الأربعة.
نريد أن نسأل الآن: التقسيم الأول, من يعرف التقسيم الأول للتوحيد؟
التقسيم الأول نوعان، التوحيد نوعان: فعلي وقولي، هذا التقسيم الأول، التوحيد نوعان: فعلي وقولي، ما هو الفعلي؟
إفراد الله بالمحبة والذل والتأله وسائر أنواع العبادات والتقربات، تفريد الله بالتأله والتعبد، بالخضوع والذل والتأله والتعبد، وسائر أنواع العبادات، وهذا هو المسمى بتوحيد العبادة والألوهية، وهو توحيد الله بأفعال العباد، وألا يُتخذ معه شريك ولا ند.
لماذا سمي بالتوحيد الفعلي؟ لأنه يتضمن أفعال القلوب وأفعال الجوارح.
أفعال القلوب مثل: التوكل والخوف والرجاء والرغبة والمحبة والنية والإخلاص والرهبة.
وأفعال الجوارح مثل: الصلاة والصيام والزكاة والحج.
النوع الثاني: التوحيد القولي، ما هو التوحيد القولي؟ لماذا سمي بالتوحيد القولي؟
هو الذي يتضمن قول القلب، وقول اللسان.
يتضمن أقوال القلوب، وأقوال القلوب هي الاعتراف والتصديق والإقرار والمعرفة.
وأقوال اللسان: الثناء على الله بما هو أهله.
القلب له قول، ما هو القول؟ اعترافه وتصديقه وإقراره، واللسان له قول، وهو التلفظ، الثناء على الله بما هو أهله، وهذا هو المسمى بتوحيد المعرفة والإثبات، ويدخل فيه توحيد الربوبية.
- شيخ الإسلام ابن القيم وجماعة يقسمون التوحيد إلى قسمين:
- توحيده في المعرفة والإثبات، وهذا يشمل توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات.
- وتوحيده في الإرادة والقصد والطلب، وهذا توحيد العبادة والألوهية.
طيب هذا التقسيم الأول, التقسيم الثاني تقسيم للقولي، الفعلي قسم واحد، قسموها إلى قسمين: فعلي وقولي، الفعلي قسم واحد، والقولي قسمان: إثبات ونفي أو سلب، النفي والسلب بمعنى واحد، إثبات وسلب، أو إثبات ونفي.
الإثبات ما هو؟ التوحيد القولي في الإثبات؟ إثبات الأسماء والصفات لله.
من أين نثبتها؟ إذا استحسنا اسمًا نثبته لله؟ أو استحسنا صفة نثبتها لله؟ مثلًا وجدنا العقل، صفة حسنة، نثبتها لله؟
إذًا الأسماء والصفات توقيفية، نثبت الأسماء والصفات التي وردت في الكتاب والسنة، التي أثبتها الله لنفسه، أو أثبتها له رسوله r، هذه أطال فيها المؤلف الشيخ ابن القيم رحمه الله لأسباب كثيرة، من ذلك ما جاء في أسماء الله، ما جاء في الحديث: «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسمًا، من أحصاها دخل الجنة»، هل هذا الحديث يفيد حصر الأسماء بالتسعة والتسعين؟ إذًا كيف؟ «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسمًا، من أحصاها دخل الجنة»؛ هل المراد الحصر؟ يعني ليس لله إلا تسعة وتسعين؟ إذًا لماذا ذكرت تسعة وتسعين؟
يعني المعنى: إن لله تسعة وتسعين اسمًا موصوف بهذا الوصف، وأن من أحصاها دخل الجنة، وله أسماء أخرى ليست موصوفة بهذا الوصف حتى قيل: إن لله ألف اسم، ويدل على ذلك الحديث النَّبِيِّ r المشهور: «أسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك»؛ إذا هَذِهِ الأسماء، والصفات كثيرة، كل اسم مشتمل على صفة:
الرحمن مشتمل على صفة الرحمة, العليم مشتمل على صفة العلم, الحكيم مشتمل على صفة الحكمة, البصير مشتمل على صفة البصر, السميع مشتمل على صفة السمع، وهكذا, القدير مشتمل على صفة القدرة, الحي مشتمل على صفة الحياة, القيوم مشتمل على صفة القيومية, الله مشتمل على صفة الألوهية.
وهكذا، إذًا أسماء الله مشتقة، وليست جامدة، إذًا الصفات كثيرة، ابن القيم رحمه الله استعرض في الأبيات وذكر صفات كثيرة، سنذكرها إن شاء الله، وأسماء كثيرة.
هذا النوع الأول من هذا التقسيم: الإثبات.
والنفي أو السلب، الإثبات والنفي، التقسيم الثالث، عرفنا السلب والنفي، النفي: نفي ما لا يليق بالله، وبجلال الله وعظمته؛ من النقائص أو التشبيه أو التمثيل.
يأتي التقسيم الثالث: تقسيم للنفي، الإثبات ليس فيه تقسيم، تقسيم النفي وهو التنزيه والسلب.
أول شيء تقول: سلب التشبيه والتمثيل والتعطيل والنكران عن صفات الكمال، هذا واحد، سلب أو نفي التشبيه والتعطيل عن صفات الكمال لله U.
والثاني: سلب النقائص والعيوب.
هذا التقسيم الثالث: سلب التشبيه والتمثيل عن صفات الكمال لله U، سلب التشبيه والتمثيل، وسلب التعطيل والجحود والنكران.
التشبيه والتمثيل مذهب المشبهة، والتعطيل والنكران مذهب المعطلة، سلب التشبيه والتمثيل، وسلب التعطيل والجحود والنكران.
والثاني: سلب النقائص والعيوب عن الله.
هذا التقسيم الثالث.
التقسيم الرابع: تقسيم لأيها لسلب التشبيه؟ أو لسلب النقص والعيوب؟
- سلب النقائص والعيوب ينقسم إلى قسمين:
- سلب متصل.
- سلب منفصل.
سلب متصل: له ضابط، وهو نفي كل ما يناقض صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه، أو وصفه بها رسوله r.
مثال ذلك: النسيان، والظلم، والموت، والنوم، والسنة: مقدمات النوم، والفقر، والحاجة إلى الطعام خاصة، والعبث، والإعياء، والمرض، وجميع العيوب والنقائص كلها منفية عن الله، كل نقص في كمال صفة من الصفات، مثل: العمى، والخرس، والصمم، والبكم، كل هذه نقائص وعيوب تناقض صفات الكمال لله U.
وسلب منفصل: ضابطه تنزيه رب العالمين أن يشاركه أحد في خصائصه التي لا تكون لغيره.
أمثلة: نفي الولد، نفي الشريك، نفي الظهير يعني: المعين، نفي الكفء، نفي الشفيع، نفي الولي، نفي الزوجة.
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، اللَّهُمَّ اغفر لنا ولشيخنا.
قال المصنف عليه رحمة الله تعالى:
(المتن)
وكذلك يُسلب وينفى عن الله الزوجة والولد الذي نسبه إليه عباد الصلبان، وهم النصارى، حيث قالوا: المسيح ابن الله، وكذلك نسبه إليه عباد الأصنام، حيث قالوا: الملائكة بنات الله، فكذب الله كل من أثبت له زوجة أو ولدًا، فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد (1) اللَّهُ الصَّمَد (2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد(3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَد}[الإخلاص/1-4].
وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ}[المؤمنون/91].
وقال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِين}[الزخرف/81].
وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُون (26) لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون}[الأنبياء/26-27].
وقال تعالى: {وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُون}[التوبة/30].
وقال تعالى: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [المائدة/75].
وقال تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُون (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام/100-101].
(الشرح)
هذه الآيات كلها دليل لسلب الزوجة والولد عن الله، هذا من السلب المنفصل، سلب الزوجة والولد الذي نسبه له عباد الصلبان، عباد الصلبان هم النصارى، سموا عباد الصلبان لأنهم عبدوا الصليب، لماذا عبدوا الصليب؟ لأنهم يزعمون أن نبيهم عيسى صلب، قُتل وصلب، فهم يعبدون الصليب من جهلهم وضلالهم، يعبدون الصليب لماذا؟ فرحًا بقتله؟ هذا كذب، كذبهم الله، المسيح رُفع، قال الله U: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ}[النساء/157].
لكن من جهلهم وضلالهم، فكيف يعبدون الصليب؟ يعني: فرحًا بصلبه؟ الأولى أنهم يكسرون الصليب ولا يعبدونه، يعني يعبدون الصليب لأن نبيهم صلب عليه، فكأنهم فرحوا بصلبه، هذا من جهلهم وضلالهم، يعني إذا كنتم تزعمون أن نبيكم قتل وصلب، وتعبدون الصليب تعظيمًا له، والأولى أن يكسر أم يعبد؟ يكسر، لكن من جهلهم وضلالهم يزعمون أنه صلب، ثم يعبدون الصليب، يعني كأنكم فرحتم بصلبه وتعبدونه.
وكذلك حيث قال: كذلك نسبوا إليه عباد الأصنام، حيث قالوا: والملائكة بنات الله، المشركون الوثنيون من العرب نسبوا الولد إلى الله، والولد في اللغة يشمل الذكر والأنثى، قال: له ولد، وإذا أريد الذكر بالابن، وأريدت الأنثى بالبنت، وإذا قيل: ولد؛ يشمل الاثنين، الصنفين: الذكر والأنثى.
فكذب الله كل من أثبت له زوجة أو ولدًا، فقال: {قلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد (1) اللَّهُ الصَّمَد (2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد(3)}[الإخلاص/1-3] هذا وصف الله، {لَمْ يَلِدْ} يعني: لم يتفرع منه شيء، {وَلَمْ يُولَد}لم يتفرع من شيء، ليس له أصل ولا فرع، ليس له ولد ولا والد سبحانه وتعالى، وهو واجب الوجود لذاته سبحانه وتعالى، وليس له مثيل.
{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ} نفي الولد، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} يعني تنزيه لله، كذب الله النصارى في قولهم لما قال:{ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ}.
{وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ} يعني افتروا، خرقوا يعني: اختلقوا وافتروا،{لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، نزه نفسه {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُون}.
{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}يعني: منشئهما على غير مثال سابق، كيف يكون له ولد وليس له زوجة؟ تعالى الله، أنى يكون له ولد ولم تكن له زوجة، وهذا من أعظم الكفر، نسبة الولد إلى الله من أعظم الكفر وأغلظه، ولهذا بين الله سبحانه أن نسبة الولد إلى الله أمر عظيم، تكاد السماوات تنشق، وتخر الجبال، وتنهد له الأرض.
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا}[مريم/88-89] يعني أمرًا عظيمًا هائلًا، {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم/90-92].
(المتن)
قال: إلى غير ذلك من الآيات النافيات عن الله أن يتخذ صاحبة أو ولدًا؛ لأنه الواحد الأحد الفرد الصمد، الغني الذي لا يحتاج إلى أحد من خلقه بوجه من الوجوه، ولأنه المالك لكل شيء، وكل الخلق مملوكون فقراء إليه، فمن كان كذلك فمن أين يتخذ الصاحبة أو الولد، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوًّا كبيرًا. قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم/88-95].
وقول المصنف: "نسبوا إليه عابدو الصلبان" هذا على لغة من يلحق الفعل المسند إلى الظاهر علامة التثنية والجمع.
(الشرح)
يعني: في قوله: وكذاك سلبوا الزوجة والولد الذي نسبوا إليه عابدو الصلبان.
(المتن)
وقول المصنف: "نسبوا إليه عابدو الصلبان" هذا على لغة من يلحق الفعل المسند إلى الظاهر علامة التثنية والجمع. وهي لغة ضعيفة تحمل عليها الضرورة، واللغة الفصحى أن يفرد الفعل المسند إلى الظاهر، فيقال: "نسب إليه عابدو الصلبان".
(الشرح)
الشارح الشيخ عبد الرحمن بن سعدي عالم رباني من العلماء الكبار، ولكن قوله: إن هذه لغة ضعيفة ليس بصحيح، بل هي لغة صحيحة، ورد بها القرآن، ولكنها لغة قليلة، وهي أن يُجمع بين الظاهر والمضمر، جاء بها القرآن، قال الله تعالى: {لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ}[الأنبياء/3].
الأصل أن يقول: وأسر النجوى، قال: {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} جمع بين الظاهر والمضمر، هذه لغة قليلة، يسمونها لغة أكلوني البراغيث، قصده: أكلني البراغيث، فأتى بالواو، جمع بين الظاهر والمضمر، جاء بها القرآن، الآية تقول: {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ}، وفي السنة يقول النبي r: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ» والحديث صحيح، والأصل أن يقول: يتعاقب فيكم، فهي لغة فصيحة، لكنها قليلة، فقول المؤلف رحمه الله: (إنها ضعيفة) ليس بصحيح، وإن كان الشارح عالمًا كبيرًا، ولكن ليس بمعصوم، فلكل جواد كبوة، فالصواب أنها لغة صحيحة فصيحة؛ إلا أنها لغة قليلة، جاء بها القرآن والسنة، ولم تحمل عليها الضرورة، الرسول ما حمله أن يقول: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ» ليست هناك ضرورة، والآية الكريمة كذلك: {لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ}.
واللغة المشهورة أن يقال: نسب إليه عابدو الصلبان، فلما قال: نسبوا إليه؛ جمع بين الظاهر والمضمر.
(المتن)
وقوله: "كذلك نفي الكفؤ أيضًا" أي يتعين أن ينفي عن الله الكفء، الذي نفاه عن نفسه في قوله: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَد}[الإخلاص/4]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم/65].
(الشرح)
الكفء يعني المثيل، ليس لله كفؤ يعني مكافئ ومماثل، لا يماثله شيء، كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى/11].
الكفء: المماثل، يعني ليس لله مماثل ولا مكافئ، ليس لله مماثل يكافئه في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله سبحانه وتعالى، لا أحد يكافئه، ولا أحد يماثله.
(المتن)
قال: فلا تجعلوا لله الأنداد، ليس كمثله شيء، فليس أحد من الخلق مكافئًا لله، أي مساويًا له في الذات، ولا في الصفات، ولا في الأفعال، لأنه الخالق الكامل من كل وجه، وسواه مخلوق ناقص إن لم يكمله ربه بكماله اللائق به، فليس أحد له صفات تقارب صفات الله، أو له أفعال تشبه أفعال الله، بل ليس لأحد من الخلق استقلال بفعل شيء أصلًا، حتى يعينه الله على أفعاله، ولهذا كانت أفعال العباد تابعة لمشيئته، قال تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين}[التكوير/29]، وقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون}[الصافات/96].
(الشرح)
ولا شك أن الله سبحانه وتعالى ليس له مكافئ ولا مماثل سبحانه وتعالى، وأفعال العباد تابعة لمشيئته، قال تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}[الإنسان/30]، فنفي الكفء هذا من السلب المنفصل.
(المتن)
وكذلك مما ينفى عن الله أن يكون لنا ولي من دونه يحصّل لنا المطالب الدينية والدنيوية، أو يدفع عنا مضار الدين والدنيا، بل ليس لنا ولي إلا هو، فهو الذي تولى خلقنا وتدبيرنا وتربيتنا العامة والخاصة، فالولاية العامة ولاية الخلق والتدبير، الشاملة للبر والفاجر، قال تعالى: {وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير}[البقرة/107].
والولاية الخاصة هي ولايته للذين آمنوا وكانوا يتقون، يخرجهم بها من ظلمات الجهل والكفر والمعاصي إلى نور العلم والإيمان والطاعة، قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُون}[يونس/62-63]، وقال تعالى: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ} [البقرة/257].
(الشرح)
نفي الولي هذا من السلب المتصل، سلب النقائص والعيوب المنفصلة، والولي المنفي هو الذي يحصّل المطالب الدينية أو الدنيوية، أو يدفع المضار الدينية أو الدنيوية، هذا منفي، ليس لنا ولي من دون الله يحصّل لنا المطالب الدينية أو الدنيوية، أو يدفع عنا المضار الدينية أو الدنيوية، بل ليس لنا ولي إلا الله، قال تعالى: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ} فهو الذي يتولى خلقنا وتدبيرنا.
- تربية الله نوعان:
- تربية عامة.
- تربية خاصة.
التربية عامة: شاملة للمؤمن والكافر، بمعنى أن الله يربيهم ويخلقهم ويرزقهم، ويدبر أمورهم، ويحفظهم مما يضرهم في أبدانهم، ويرزقهم، ويعافيهم، ويجيب دعاءهم، هذه تربية عامة، {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين}[الفاتحة/2]؛ فهو رب العالمين سبحانه.
تربية خاصة وولاية خاصة: وهي ولايته للمؤمنين، خاصة بالمؤمنين، يربيهم بمعنى يوفقهم ويسددهم، ويوفقهم إلى الطاعات، ويصدهم عن المعاصي، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، يخرجهم من ظلمات الجهل والكفر والمعاصي إلى نور العلم والإيمان والطاعة، قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُون}[يونس/62-63]؛ هذه ولاية خاصة.
وقال تعالى: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} [البقرة/257]، هذه ولاية خاصة.
والولاية العامة مثل قوله تعالى: {وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير} [البقرة/107].
(المتن)
قال: وكذلك لا يتخذ أحدًا من خلقه وليًا من الذل؛ لكمال اقتداره وعظمته، بل يتخذ منهم أولياء رحمة بهم وإحسانًا منه إليهم، يحبهم ويحبونه، والحاصل أنه ليس أحد من الخلق مساويًا لرب العالمين، أو مماثلًا أو عوينًا أو وزيرًا بوجه من الوجوه.
(الشرح)
والله تعالى كذلك لا يتخذ أحدًا من خلقه وليًّا من الذل؛ يعني: يحتاج إليه؛ لكمال قدرته وعظمته، بل يتخذ وليًّا رحمةً بهم، وإحسانًا إليهم، هو يرحمهم، يتخذ منهم وليًّا ليرحمهم ويحسن إليهم، يحبهم ويحبونه، ولا يتخذ وليًّا من الذل يحتاج إليه؛ لأنه لا يحتاج إلى أحد سبحانه وتعالى، فليس أحد من الخلق مساويًّا لرب العالمين بوجه من الوجوه.
(المتن)
وقال:
والأول التنزيه للرحمن عن |
|
وصف العيوب وكل ذي نقصان |
كالموت والإعياء والتعب الذي |
|
ينفي اقتدار الخالق الديان |
والنوم والسنة التي هي أصله |
|
وعزوب شيء عنه في الأكوان |
(الشرح)
هذا القسم الأول من قسمي السلب المنفي عن الله، هذا من السلب المتصل، الأبيات السابقة سلب لمتصل ومنفصل، هما نوعان معروفان، أما الثاني، الثاني سلب منفصل، وذكر أمثلة السلب المنفصل، ثم ذكر القسم الأول، وهو السلب المتصل، فهذه التي ذكر المؤلف كلها عيوب ونقائص منفية عن الله، وسلب متصل، مثل الموت، مثل بالموت، والإعياء، والتعب، والنوم، والسنة، السنة مبادئ النوم، وكذلك أيضًا عزوب شيء، النفي: الموت والإعياء والتعب والنوم والسنة وعزوب شيء عنه.
(المتن)
قال: هذا القسم الأول من قسمي السلب المنفي عن الله وهو التنزيه لله عن أن يتصف بعيب أو نقص يناقض كمال أوصافه، فهو موصوف بكل صفة كمال منزه عن ضدها وعن نقصها، فهو موصوف بكمال القدرة، منزه عن ما يضادها من الموت والإعياء والتعب واللغوب.
(الشرح)
هذه العيوب كلها تنافي صفة القدرة، الموت، والإعياء، والتعب، واللغوب.
(المتن)
فإنه لو كان موصوفًا بشيء من ذلك لكان ناقص القدرة، قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ}[الفرقان/58].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوب}[ق/38].
(الشرح)
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ} هذا فيه إثبات اسم الحي وصفة الحياة {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوب} يعني: من تعب وإعياء، هذا اللغوب نقص، عيب ينافي كمال القدرة.
(المتن)
وهو تعالى موصوف بالحياة الكاملة التامة، منزه عن ما يضادها من النوم والنعاس الذي هو أصل النوم، قال تعالى: {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}[البقرة/255]، وقال النبي r في الحديث الصحيح: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام».
(الشرح)
فالنوم والنعاس من العيوب المتصلة المنفية عن الله U، وهو ينافي كمال الحياة، الحياة الكاملة ينافيها النوم، خلافًا للمخلوق يعني حياته ناقصة لأنه يأتيها النوم والنعاس فيستريح، أما الله فهو الكامل سبحانه وتعالى، فلا يلحقه نقص، وفي الحديث: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه».
(المتن)
وكذلك هو موصوف بالعلم المحيط بكل شيء، يعلم ما في السموات والأرض، ويعلم ما يسر العباد وما يعلنون: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين} [الأنعام/59].
(الشرح)
هذه صفة العلم له العلم الكامل, الكمال في الصفات.
(المتن)
ومنزه عن كل ما ينافي ذلك، فلا يعزب أي يغيب عن علمه وبصره وسمعه شيء في السماوات والأرض، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء}[آل عمران/5].
وقال تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين}[سبأ/3].
(الشرح)
فنفي عزوب شيء هذا لكمال علمه، هو لا يعزب عنه مثقال ذرة لكمال علمه، بخلاف المخلوق؛ فإنه يعزب عنه ويفوت عليه أشياء لا يعلمها، تعزب عنه لضعف علمه ونقص علمه، أما الله سبحانه فعلمه كامل، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
(المتن)
قال:
وكذلك العبث الذي تنفيه |
|
حكــمته وحمد الله ذي الإتقان |
وكذلك ترك الخلق إهمالًا سدى |
|
لا يبعثون إلى معاد ثان |
كلا ولا أمر ولا نهي |
|
عليهم من إله قادر ديان |
(الشرح)
هذه الصفات من العيوب المتصلة: العبث، ثانيًا: ترك الخلق سدًى، لا يؤمرون ولا ينهون، ولا يبعثون ولا يحاسبون.
(المتن)
قال: وكذلك ينزه الله عن العبث في الخلق والأمر، وأنه خلق شيئًا عبثًا وباطلًا، أو شرع شيئًا عبثًا؛ لأنه حكيم حميد، فمن تمام حكمته وحمده إتقان المخلوقات وإحكامها، وإحسان المأمورات على أكمل وجه وأتمه، وهذا أمر مشهود في الخلق و الأمر، تحير حكمته الألباب، ويستدل بما بان من الحكمة فيها على ما خفي على العباد، ومن تمام الحكمة أنه لم يخلق الخلق سدى لا يؤمرون ولا ينهون، ولا يثابون ولا يعاقبون على تلك الأوامر والنواهي بالبعث بعد الموت.
فالحكمة والحمد دالان على أنه خلق المكلفين؛ لينفذ فيهم أحكامه الشرعية، ثم بعد ذلك يبعثهم بعد موتهم إلى دار تجري فيهم أحكام الجزاء والثواب والعقاب، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُون (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ}[المؤمنون/115-116]، أي عن هذا الظن والحسبان؛ لأنه لا يليق بجلاله.
(الشرح)
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُون (115) فَتَعَالَى اللَّهُ}؛ تعالى الله عن هذا الظن والحسبان الذي لا يليق بجلاله، وهو أن يظن أنه خلق الخلق عبثًا، لا يؤمرون ولا ينهون في الدنيا، ولا يثابون ولا يحاسبون في الآخرة، هذا هو الذي نزه الله نفسه عنه، كونه خلق الخلق إهمالًا سدًى، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا}، {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى}.
(المتن)
وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى}[القيامة/36-38]، فالذي نقله في هذه الأطوار لا يليق به أن يتركه مهملًا سدى، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يثاب ولا يعاقب، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}[القصص/85].
(الشرح)
هذه المتصلة العبث، وكونه خلق الخلق سدًى، لا يكلفون في الدنيا، ولا يبعثون ويحاسبون في الآخرة.
(المتن)
قال:
وكذاك ظلم عباده وهو الغني |
|
فما له والظلم للإنسان |
(الشرح)
وهذا من العيوب السلبية، سلب الظلم، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، كأن يحرم أحدًا من ثواب حسناته، أو يحمله أوزار غيره، هذا هو الظلم الذي تنزه الله عنه، الظلم.. قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد}[فصلت/46] ، {لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر/17].
هو الذي حرمه الله على نفسه، «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا»، فالظلم الذي حرمه الله على نفسه ونفاه، فقال: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا}[طه/112]؛ نفى خوف الظلم، ما هو هذا الظلم؟ وضع الشيء في غير موضعه، وهذا هو المعنى اللغوي، كأن يحرم أحدًا من ثواب حسناته، أو يحمله أوزار غيره، هذا هو الظلم الذي تنزه الله عنه، وهذا هو الصواب الذي دلت عليه النصوص، والذي أقره أهل السنة والجماعة.
- وهناك مذهبان آخران في الظلم:
المذهب الأول: مذهب الجبرية من الأشاعرة والجهمية، قالوا: الظلم الذي تنزه الله عنه هو مخالفة الآمر، أو التصرف في ملك الغير، هذا الظلم، والله ليس فوقه آمر يأمره، ويتصرف في ملكه، مالك السماوات والأرض، إذًا ما هو الظلم على هذا التعريف؟ تعريف الجبرية، الظلم مخالفة الآمر، أو التصرف في ملك غيره، هل يوجد ظلم بالنسبة لله؟ الله ليس فوقه آمر، وهو يتصرف في ملكه، إذًا لا يوجد ظلم، فيكون الظلم مستحيلًا على الله، ما من شك.
وهذا من أبطل الباطل لو كان الظلم مستحيلًا؛ كيف يحرم شيئًا مستحيلًا؟ الظلم مستحيل على الله كالجمع بين النقيضين، لو كان الظلم مستحيلًا؛ لما حرمه الله على نفسه، كيف يحرم على نفسه مستحيلًا؟ ولو كان الظلم مستحيلًا لما أمن الله عباده من الخوف، قال: {فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا}[طه/112]، يخاف المستحيل، هل الإنسان يخاف المستحيل؟ لا يخاف، كيف يقول الله سبحانه وتعالى: {فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا}، وقال: {لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ}[غافر/17]، «إني حرمت الظلم على نفسي» هذا من أبطل الباطل.
ولذلك فإن الجبرية الجهمية والأشاعرة بنوا على هذا التعريف مفاهيم فاسدة، بنوا على ذلك أنه لا توجد حكمة، نفوا الحِكَم، لا توجد حكمة، ولا علة، ولا سبب، ولا طبيعة، ولا غريزة، لا أسباب، ولا طبائع، ولا غرائز، ولا علل، ولا أحكام، ولذلك قالوا: إنه ليس هناك شيء حسن ولا قبيح، ولا علة ولا حكمة، وقالوا: إن المشيئة الإلهية تخبط خبط عشواء، وتجمع بين المختلفات، وتفرق بين المتماثلات، ليس هناك شيء حسن ولا قبيح.
وقالوا: لله أن يقلب التشريعات والجزاءات، فيجعل الشرك توحيدًا، والتوحيد شركًا، والعفة محرمة، والزنا واجبًا، والعياذ بالله، ولله أن يعذب الأبرار والمتقين، ويحملهم أوزار الفجار والكفار، ولا يكون ظالمًا؛ لأنه يتصرف في ملكه، ولا توجد حكمة ولا سبب ولا شيء، وليست الأعمال الصالحة سببًا في دخول الجنة، وليس الكفر والشرك والمعاصي سببًا في دخول النار، بل يدخل هؤلاء.. استدلوا بحديث أنه «قبض قبضة، فقال: هؤلاء للجنة ولا أبالي، وقبض قبضة أخرى، فقال: هؤلاء في النار ولا أبالي»؛ يدخل هؤلاء الجنة بلا سبب ولا علة، ويدخل هؤلاء النار بلا سبب ولا علة، كما يشاء، لا توجد حكمة, أرأيتم كيف يترتب على هذا المذهب الفاسد والعياذ بالله؟ إذًا يتصرف في ملكه، يعذب من يشاء، ويستدلون بقوله تعالى: {يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء}[العنكبوت/21].
وبحديث: «لو أن الله عذب أهل السماوات والأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم» قالوا: هذه النصوص تدل على أنه لا توجد حكم، ولا طبائع، ولا غرائز، ولا أسباب، ولا حسن، ولا قبيح، وأن الله يتصرف في ملكه كما يشاء، يعذب من يشاء، ويرحم من يشاء، ويعذب هؤلاء بدون سبب، وينعم هؤلاء بدون سبب ولا علة، والأعمال لا فائدة منها، وليست أسبابًا، ويستدلون ويتعلقون ببعض النصوص، ويتركون البعض الآخر، {يُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء}، ومثل: «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله» (....) وهكذا.
المذهب الثاني: يقابلهم مذهب القدرية والمعتزلة، مقابل هؤلاء، فقالوا: الظلم من الله كالظلم من العباد ومن الخلق، كل ما كان ظلمًا وقبيحًا من العبد؛ يكون ظلمًا وقبيحًا من الله لو فعله، فمثلوا الله بخلقه، وقالوا: إن ظلم الله مثل ظلم العباد، وهذا مذهب فاسد؛ لأنهم مثلوا الله بخلقه، وشبهوا الله U بالخلق، وجعلوا أفعال الله كأفعال العباد.
وأما أهل الحق وأهل السنة فقالوا: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، كأن يحرم أحدًا من ثواب حسناته، أو يحمل أحدًا أوزار غيره، والظلم مقدور لله، يقدر الله عليه، لكن الله نزه نفسه عنه، وحرمه على نفسه، لم يحرمه عليه أحد، حرمه بنفسه على نفسه، وهو قادر عليه، لكن تنزه عنه، أما الجبرية يقولون: لا وجود للظلم, الظلم مستحيل، كالجمع بين النقيضين، والقدرية قالوا: الظلم من الله كالظلم من العباد سواء بسواء، مثلوا الله بخلقه.
(المتن)
أي وكذلك ينزه الله تعالى عن الظلم للعباد، بأن يزيد في سيئاتهم أو ينقص من حسناتهم، أو يعاقبهم على ما لم يفعلوا، فإن الظلم لا يفعله إلا من هو محتاج إليه، أو من هو موصوف بالجور، وأما الله تعالى، الغني عن خلقه من جميع الوجوه، العادل الحميد، فما له وظلم العباد؟
(الشرح)
واضح هذا؟ الآن تعريف الظلم الذي تنزه الله عنه بأن يزيد في سيئاتهم، أو ينقص من حسناتهم، أو يعاقبهم على ما لم يفعلوا، وهذا الظلم، يعاقب الشخص على شيء لم يفعله، أو يزيد في سيئات العباد، أو ينقص من حسناتهم، هذا الظلم الذي نزه الله نفسه عنه، وهو مقدور لله.
(المتن)
قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد}[فصلت/46].
(الشرح)
فنفى الظلم عن نفسه، فدل على أنه مقدور له.
(المتن)
وقال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا}[النساء/40]، {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا}[طه/112].
(الشرح)
نفي خوف الظلم، فدل على أنه ممكن بمقدور الله، لكن الله تنزه عنه.
(المتن)
وقال تعالى على لسان نبيه محمد r: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا» رواه مسلم من حديث أبي ذر.
(الشرح)
وهو سبحانه حرم الظلم، وهو قادر عليه.
(المتن)
قال:
وكذاك غفلته تعالى وهو |
|
علام الغيوب فظاهر البطلان |
وكذلك النسيان جل إلهنا |
|
لا يعتريه قط من نسيان |
وكذاك حاجته إلى طعم |
|
ورزق وهو رزاق بلا حسبان |
(الشرح)
وهذه كلها من العيوب السلبية المتصلة، الغفلة والنسيان والحاجة إلى الطعام، هذه كلها من الصفات السلبية المنفية عن الله.
(المتن)
أي وكذلك ينزه الله تعالى عن الغفلة والنسيان؛ لأنه عالم الغيب والشهادة، وعلمه محيط، لا يعرض له ما يعرض لعلم غيره، من خفاء بعض المعلومات أو نسيانها أو الذهول عنها، كما قال تعالى: {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى}[طه/52].
(الشرح)
نفى الضلال والنسيان.
(المتن)
وكذلك ينزه تعالى عن احتياجه إلى الطعام والرزق، لأنه تعالى هو الرزاق لجميع الخلق، الغني عنهم، وكلهم فقراء إليه، محتاجون إليه، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُون}[الذاريات/56-57]، وقال تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} [الأنعام/14].
(الشرح)
هذه كلها من والعيوب السلبية المتصلة، الغفلة والنسيان والحاجة إلى الطعام.
(المتن)
قال:
هذا وثاني نوعي السلب الذي |
|
هو أول الأنواع في الميزان |
تنزيه أوصاف الكمال له عن |
|
التشــبيه والتمثيل والنكران |
لسنا نشبه وصفه بصفاتنا |
|
إن المشبه عابد الأوثان |
كلا ولا نخليه من أوصافه |
|
إن المعطل عابد البهتان |
من مثل الله العظيم بخلقه |
|
فهو النسيب لمشرك نصراني |
أو عطل الرحمن من أوصافه |
|
فهو الكفور وليس ذا إيمان |
(الشرح)
- هذا أحد نوعي السلب، قلنا: السلب ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: سلب النقص والعيوب، وهذا ينقسم إلى قسمين: سلب متصل، وسلب منفصل.
القسم الثاني: سلب التشبيه، والتمثيل، والتعطيل، والجحود، والنكران.
سلب التشبيه والتمثيل هو مذهب المشبهة، وسلب التعطيل والجحود والنكران مذهب المعطلة، سلب التشبيه والتمثيل والتعطيل والنكران عن صفات الكمال، سلبها يعني نفي، نفي التشبيه ونفي التعطيل عن صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه، ووصفه بها رسوله، وقدم المؤلف نفي النقائص والعيوب، وقسمه إلى قسمين: متصل ومنفصل، ثم ذكر الثاني، وهو سلب التشبيه وسلب التعطيل عن صفات الكمال، صفات الكمال هي التي وصف الله بها نفسه، ووصفه بها رسوله في القرآن وفي السنة، هذه صفات الكمال، كالعلم والقدرة والسمع والبصر، فأنت تسلب التشبيه، تقول: علم الله وقدرته وسمعه وبصره لا يماثل شيئًا من المخلوقات، وتسلب التعطيل، هذه الصفات ثابتة، فلا نعطلها، ولا ننكرها، ولا نجحدها كما تقول المعطلة.
(المتن)
قال رحمه الله:
هذا النوع الثاني من نوعي السلب الذي ينزه الله عنه الذي هو أول النوعين الثبوتي والسلبي، "في الميزان" أي في هذه القصيدة، وتقدم النوع الأول من قسمي السلب، وهو السلب المتصل والمنفصل، المتضمن لتنزيهه عن النقائص والعيوب، وعن مشاركة أحد من الخلق له في صفاته الخاصة به، وعن ما يناقض كماله. وهذا النوع يرجع إلى حفظ كماله، ونعوت جلاله، عن تشبيهها بصفات الخلق، فلا يقال: علم الله أو قدرته كعلم الخلق أو قُدَرهم، ولا رحمته كرحمة خلقه، ونحو ذلك، فإن هذا كله تشبيه لله بالخلق.
ومن كان بهذه الحال فإنه يمثل بفكره صنمًا ووثنًا يعبده.
(الشرح)
(ومن كان بهذه الحال) حال التشبيه، وهو أن يقول: علم الله كعلم الخلق، أو قدرة الله كقدرة الخلق، أو رحمة الله كرحمة الخلق، من كان بهذه الحال فهو مشبه، يشبه الله بخلقه، يقول: هذا يمثل من فكره صنمًا ووثنًا يعبده، وإلا فالله فوق ما يظنون، وأعلى مما يتوهمون.
(المتن)
ومن كان بهذه الحال فإنه يمثل بفكره صنمًا ووثنًا يعبده.
(الشرح)
(ومن كان بهذه الحال) حال التشبيه، وهو أن يقول: علم الله كعلم الخلق، أو قدرة الله كقدرة الخلق، أو رحمة الله كرحمة الخلق، من كان بهذه الحال التشبيه؛ فهو في الحقيقة ما عبد الله؛ وإنما عبد صنمًا وثنًا تخيله في فكره، تخيل في فكره وثنًا يشابه المخلوقين، علمه كعلم المخلوق، ورحمته كرحمة المخلوق، هذا وثن تصوره في ذهنه فعبده، وإلا فالله فوق ما يتصورون، وأعلى مما يتوهمون، الله لا يماثل أحدًا من خلقه، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، أما هذا المشبه فإنه عبد وثنًا، تصور في ذهنه وثنًا علمه كعلم المخلوق، علمه كعلم الله، قدرته كقدرة الله، فإنه في الحقيقة إنما عبد وثنًا صوره له خياله، ونحته له فكره، فهو من عباد الأوثان، لا من عباد الرحمن.
(المتن)
قال: ومن كان بهذه الحال فإنه يمثل بفكره صنمًا ووثنًا يعبده، كما فعل النصارى بالمسيح ابن مريم، جعلوه إلههم ومعبودهم، فالمشبه نسيب ومشبه للنصارى.
(الشرح)
المشبه نسيب ومشبه للنصارى، وجه الشبه بين المشبه وبين النصارى: النصارى عبدوا المسيح وهو مخلوق، والمشبهة تصوروا في أذهانهم صورة مخلوقة وعبدوه.
نسبة التشبيه بين تشبيه النصارى وتشبيه المشبهة: النصارى عبدوا المسيح، فرفعوا المسيح من مقام العبودية إلى مقام الألوهية، والمشبهة شبهوا الله بخلقه، شبهوا المخلوق، المخلوق الناقص جعلوه مثل الله، تكون النسبة مماثلة أم نسبة عكسية؟ النسبة عكسية، تشبيه النصارى عكس تشبيه المشبهة، بيان ذلك أن النصارى شبهوا المسيح ابن الله، فرفعوا المسيح من مقام العبودية إلى مقام الألوهية، فقالوا: ابن الله، والمشبهة شبهوا الله بخلقه، جعلوا صفات الله لمخلوق ناقص، فتكون نسبة عكسية بين تشبيه النصارى وتشبيه المشبهة، النصارى رفعوا المسيح من مقام العبودية، والمشبهة شبهوا الخالق بالمخلوق.
(المتن)
قال: ومن كان بهذه الحال فإنه يمثل بفكره صنمًا ووثنًا يعبده، كما فعل النصارى بالمسيح ابن مريم، جعلوه إلههم ومعبودهم، فالمشبه نسيب ومشبه للنصارى، ورب العالمين فوق ما يظنون، وأعلى مما يتوهمون، فإنه كما أن ذاته لا تشبهها ذوات المخلوقين، فصفاته لا تشبهها صفاتهم, وعن تعطيل صفاته ونفيها.
(الشرح)
قوله: (وعن تعطيل) معطوف على أي شيء؟ يعني الله منزه عن تشبيه المشبهة، ومنزه عن تعطيل الصفات ونفيها، كما فعلته الجهمية، هذا السلب سلب التشبيه والنفي والتمثيل عن صفات الكمال، وسلب التعطيل والجحود والنكران عن صفات الكمال.
(المتن)
قال: وعن تعطيل صفاته ونفيها كما فعلته الجهمية المعطلة ومن تبعهم من المتكلمين، فإن ذلك رد لنصوص الكتاب والسنة الدالة على اتصافه بصفات الكمال، فيتوهم المعطل أن ظاهر النصوص يدل على التشبيه، فينفيها بوهمه الفاسد، ويصير قلبه متعبدًا للعدم المحض؛ لأنه لا يعقل ذات ليس لها صفة ولا نعت.
(الشرح)
إذًا تعطيل صفات الكمال منزهة عن تعطيل الصفات ونفيها، كما فعل الجهمية، فيتوهم المعطل أن ظاهر النصوص يدل على التشبيه، فيفهم من قوله: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِير}[الروم/54]، أن علم الله مثل علم المخلوق، وقدرته مثل قدرة المخلوق، فيتوهم أن ظاهر النصوص يدل على التشبيه فينفيها بوهمه الفاسد، ويصير قلبه متعبدًا للعدم المحض؛ لأنه حينما ينفي الصفات والأسماء؛ تنتفي الذات، نفي الأسماء والصفات نفي للذات، ولا توجد ذات ليس لها أسماء وصفات، لا توجد، لا وجود للذات إلا بالأسماء والصفات، فلا توجد ذات ليس لها أسماء وصفات أبدًا، بل إذا سَلَبت الأسماء والصفات سُلبت الذات، حتى ولو جماد، هذا ما هو الآن؟ جماد، لها صفات، لها طول، ولها عرض، ولها عمق، وذاتها من حديد أو خشب، لها سمك، فإذا قلت: هناك ماصة أصفها بأن ليس لها طول، ولا عرض، ولا عمق، ولا ذات، لا من خشب، ولا من زجاج، ولا من أي شيء آخر، ولا أصفها بأنها فوق الأرض ولا تحت الأرض، ولا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلة بالعالم، ولا منفصلة عن العالم، ماذا تكون؟ عدم، بل أشد من العدم، مستحيل هذا.
هكذا الملاحدة يصفون معبودهم، يقولون عن معبودهم: إنه ليس له علم، ولا قدرة، ولا سمع، ولا بصر، ولا علم، ولا حياة، وليس فوق الأرض، ولا تحت الأرض، ولا متصل بالعالم، ولا منفصل عن العالم، ولا خارج العالم، ولا داخل العالم، ولا يصفونه بأي صفة، هكذا هؤلاء المعطلة يعبدون عدمًا لا وجود له، ولهذا قال العلماء: المشبه يعبد وثنًا، والمعطل يعبد عدمًا، والموحد يعبد إلهًا واحدًا فردًا صمدًا.
هؤلاء الملاحدة النفاة المعطلة الذين ينفون العلو هكذا، أين ربهم؟ ما يجدونه إلا في الذهن، في الذهن يتصور الإنسان، الذهن يتصور المحال، الذهن يتصور ويتخيل المحال، وأنت تتصور في ذهنك أن بين السماء والأرض بحر، وأن في وسط البحر قصور، وفي القصور، وتسبح في الخيال، لكن هذا هل له حقيقة؟ أنت الآن في خيالك تطوف المشارق والمغارب، لكن لا حقيقة له، خيال، فكذلك هؤلاء الملاحدة يتصورون أن هناك معبودًا ليس له اسم ولا صفة، وهذا خيال، يسبحون في الخيال، عدم، كل شيء تنفيه عن الأسماء والصفات تنتفي الذات، لا وجود للذات إلا بالأسماء والصفات، قاعدة هذه، ولهذا المعطلة لما ينفون الأسماء والصفات يعبدون عدمًا، ولهذا كفرهم -كما قال ابن القيم خمسمائة عالم، خمسمائة عالم كفروا نفاة العلو، قال:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في |
|
عشر من العلماء في البلدان |
يأتي في الأبيات هذا، اضرب خمسين في عشرة، خمسمائة.
واللالكائي الإمام حكاه عنهم |
|
بل قد حكاه قبله الطبراني |
فقال كثير من السلف: إن أقوال الجهمية تدور على أنه ليس فوق العرش إله، وقال عبد الله بن المبارك: إنا لنحكي أقوال اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي أقوال الجهمية؛ لخبثها، وفسادها، وشرها، فهم أخبث من اليهود والنصارى في هذا؛ لأن اليهود والنصارى أثبتوا إلهًا، أثبتوا المعبود، وهؤلاء لم يثبتوا إلا العدم، هؤلاء نفوا، فليس هناك إلا العدم، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.
(المتن)
قال: وعن تعطيل صفاته ونفيها كما فعلته الجهمية المعطلة ومن تبعهم من المتكلمين، فإن ذلك رد لنصوص الكتاب والسنة الدالة على اتصافه بصفات الكمال، فيتوهم المعطل أن ظاهر النصوص يدل على التشبيه، فينفيها بوهمه الفاسد.
(الشرح)
هكذا، يتوهم المعطل أن ظاهر النصوص، إن الله عليم خبير سميع بصير، يقول: هذا معناه مثل المخلوق العليم والسميع والبصير، فإذا توهم ذلك نفاها، هكذا يتوهم، يتوهم أنها تماثل، ولهذا يقول المعطلة: ظاهر النصوص الكفر، نصوص الكتاب والسنة تدل على الكفر، فنحن الآن نريد أن ننزه النصوص عن الكفر والعياذ بالله، يقولون: لو قلنا: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}[الأعراف/54].
لو قلنا: إن الله استوى على العرش؛ لكان كفرًا، فنحن ننزه كلام الله عن الكفر، فننفي الاستواء؛ لأنه يلزم من الاستواء المماثلة، وأن يكون استواء الخالق كاستواء المخلوق، وهذا تشبيه، والتشبيه كفر، فإذًا ننزه القرآن عن الكفر، وننزه النصوص عن الكفر، فننفي الاستواء حتى ننزه ظاهر النصوص عن الكفر.
انظر كيف وصلت بهم الحال إلى أن يقولوا: ظاهر النصوص كفر، نعوذ بالله من زيغ القلوب، من قال لكم: إن تشبيه الخالق هو تشبيه المخلوق، باستواء الخالق واستواء المخلوق، الله له استواء يليق بجلاله وبعظمته، والمخلوق له استواء، وهم قالوا: لا نفهم من استواء الخالق إلا كما نفهم من استواء المخلوق، فالمشبهة يقولون: إن المخلوق إذا استوى على شيء؛ محتاج إليه، فإذا استوى على الدابة؛ فلو سقطت الدابة سقط الراكب عليها، ولو انخرقت السفينة لسقط الراكب عليها، ولو سقطت الطائرة لسقط الراكب عليها.
فقياسًا على ذلك قالوا: لو كان الرب استوى على العرش؛ قياسًا على ذلك لو سقط العرش لسقط الرب، تعالى الله عما يقولون، فلذلك نفوا الاستواء، نقول: من قال لكم هذا؟ هذا استواء المخلوق، فالله ليس كمثله شيء، المماثلة منفية عن الله، هذا استواء المخلوق، أما استواء الخالق يليق بجلاله وعظمته، لا نعلم كيفيته، كما قال الإمام مالك رحمه الله لما سئل عن الاستواء، قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
الإمام مالك إمام دار الهجرة، جاءه رجل وهو يحدث في مجلسه، فقال: يا مالك، الرحمن على العرش استوى، كيف استوى؟ فأطرق مالك رحمه الله، حتى علته الرحضاء، تصبب العرق تعظيمًا لله U، ثم قال: أين السائل؟ فقال: الاستواء معلوم؛ يعني معلوم معناه في اللغة العربية، له أربعة معانٍ: استقر وعلا وصعد وارتفع، هذه المعاني الأربعة التي تدور عليها تفاسير الاستواء، والكيف مجهول؛ كيفية استواء الله مجهولة، لا نعلمها؛ لأنه لا يعلم كيفية استوائه إلا هو، والإيمان به واجب؛ لأن الله وصف به نفسه، والسؤال عنه بدعة؛ لأنه لا يمكن الوصول إليه، ولأنه خلاف قول السلف، ثم قال للرجل: ما أراك إلا رجل سوء، وأمر به فأخرج.
هكذا، وهذا تلقته الأمة بالقبول من الإمام مالك، فيقال هذا في جميع الصفات، إذا قال لك شخص: ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا؟ كيف النزول؟ تقول: النزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
{رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}[التوبة/100]، كيف رضاه؟ تقول: الرضا معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. يقال هذا في جميع الصفات، تلقته الأمة هذا القول من الإمام مالك بالقبول، وروي هذا المقال عن ربيعة الشيخ الإمام مالك، وروي عن أم سلمة، لكن السند فيه لين لا يثبت عن أم سلمة.
(المتن)
قوله: فيتوهم المعطل أن ظاهر النصوص يدل على التشبيه، فينفيها بوهمه الفاسد، ويصير قلبه متعبدًا للعدم المحض؛ لأنه لا يعقل ذات ليس لها صفة ولا نعت، ولا يعقل من قول الجهمية ومن تبعهم: (إن الله ليس بداخل العالم ولا خارجه) إلا العدم المحض والنفي الصرف.
(الشرح)
هل الذي لا داخل العالم ولا خارجه موجود؟ لا داخل العالم ولا خارجه، العالم سقفه عرشه الرحمن، والله فوق العرش (....)، فيقولون: شيء لا داخل العالم ولا خارجه ماذا يكون؟ لا يمكن، لا يمكن شيء ليس موجودًا داخل العالم ولا خارجه، هذا العدم المحض والنفي الصرف.
(المتن)
فإنه كفر بآيات الله وتكذيب للرسل، ورد لما جاءوا به، ولهذا قال المصنف: "فهو الكفور وليس ذا إيمان".
(الشرح)
(فهو الكفور وليس ذا إيمان) في قوله:
أو عطل الرحمن من أوصافه |
|
فهو الكفور وليس ذا إيمان |
قال في الأول قبل ذلك:
لسنا نشبه وصفه بصفاتنا |
|
إن المشبه عابد الأوثان |
كلا ولا نخليه من أوصافه |
|
إن المعطل عابد البهتان |
من مثل الله العظيم بخلقه |
|
فهو النسيب لمشرك نصراني |
أو عطل الرحمن من أوصافه |
|
فهو الكفور وليس ذا إيمان |
لأنه جحد أوصاف الله U.
(المتن)
قال: ولكن سيأتي إن شاء الله في كلام المصنف حكم الجهمية وغيرهم من المعطلة، والتمييز بين من يكفر منهم ومن يعذر بتأويله.
(الشرح)
سيأتي الكلام في حكم الجهمية، وأنه يكفرهم خمسمائة عالم، التمييز بين من يكفر، وهو العالم، والذي لا يكفر هو الجاهل ذو الجهالة، مثل جهالة الشيء، وليس له طريق إلى المعرفة.
(المتن)
قال: وبالجملة فالناس في هذا المقام ثلاثة أقسام: مؤمن موحد، ومشبه، ومعطل.
(الشرح)
الناس ثلاثة أقسام: مؤمن موحد، والثاني مشبه، والثالث معطل.
(المتن)
قال: فالمؤمن الموحد يصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، من صفات الكمال، على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته، من غير تمثيل ولا تشبيه، ومن غير تحريف ولا تعطيل لشيء من أوصاف الله.
(الشرح)
هذا المؤمن الموحد، هو يصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله من صفات الكمال، صفات الكمال التي وردت في الكتاب والسنة، على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته من غير تمثيل بصفات المخلوقين، ومن غير تحريف ولا تعطيل يعني نفي لها، لشيء من أوصاف الله.
(المتن)
والمشبه هو الذي يشبه صفات الخالق بصفات المخلوقين، أو يتعرض لمعرفة كنهها وحقيقتها التي لا يعلمها غير الله.
(الشرح)
هذا المشبه الذي يشبه صفات الخالق بصفات المخلوقين، يقول: لله علم كعلمي، واستواء كاستوائي، وقدرة كقدرتي، ويد كيدي، هذا المشبه، يعبد صنمًا ووثنًا، أو يتعرض لمعرفة الكنه، والحقيقة التي لا يعلمها غير الله، يقول: إن صفات الله كصفات المخلوقين، كنهها كذا، حقيقتها كذا، هي مثل كذا.
(المتن)
والمعطل هو من نفى شيئًا من صفات الله.
(الشرح)
والمعطل من نفى شيئًا من صفات الله، نفى العلم، نفى القدرة، نفى السمع، نفى البصر، مثل المعتزلة، نفوا الصفات وأثبتوا الأسماء، ومثل الأشاعرة، أثبتوا سبع صفات، ونفوا بقية الصفات، قالوا:
له الحياة والكلام والبصر |
|
سمع إرادة وعلم واقتدر |
(المتن)
قال: وكل من المشبه والمعطل قد حرم الوصول إلى معرفة ربه على وجهها، وابتلي بالتكلف والتحريف لنصوص الوحي.
(الشرح)
كل من المشبه والمعطل حرم الوصول إلى معرفة ربه على وجهها، ما وصل إلى معرفة الله، ابتلي بالتكلف والتحريف لنصوص الوحي، ابتلاه الله بأن يكون متكلفًا يحرف نصوص الوحي.
(المتن)
قال: وكما أنه مناقض للوحي فهو مناقض لما دلت عليه الفطر التي لم تغير، والعقول المستقيمة، فلا معقول لديهم ولا منقول.
(الشرح)
كل من المشبه والمعطل ابتلي بالتكلف وتحريف النصوص، وكما أنه مناقض للوحي فهو مناقض لما دلت عليه الفطر التي لم تغير، والعقول المستقيمة، فلا معقول لديهم ولا منقول. لا عندهم عقل ولا نقل، لا عندهم دليل عقلي ولا دليل نقلي، العقول الصريحة توافق الأدلة الصحيحة، وهؤلاء ليست عندهم نقول صحيحة ولا عقول صحيحة.
(المتن)
قال: وهدى الله أهل السنة والجماعة لاتباع الحق المنقول عن الله وعن رسله، والمعقول لذوي الألباب، وذلك يظهر بتدبر ما عليه هذه الطوائف من المسائل والدلائل وتحقيقها، ونسأله الهداية لأقوم الطرق وأهداها.
(الشرح)
الحمد لله، هدى الله أهل السنة والجماعة لاتباع الحق المنقول عن الله وعن رسله، والمعقول لذوي الألباب؛ فكانوا وسطًا بين المشبهة والمعطلة، فتجنبوا فأثبتوا ونزهوا، فهم أثبتوا فأخذوا الحق الذي مع المشبهة، وردوا الباطل، وأخذوا الحق الذي مع المعطلة، وردوا الباطل، فخرج مذهب أهل السنة، المشبهة أثبتوا الصفات، وزادوا فقالوا أنها تشبه صفات المخلوقين، والمعطلة نزهوا الله عن مماثلة المخلوقين، وزادوا في نفي التعطيل حتى نفوا الصفات.
فكل من المشبهة معه حق وباطل، فالحق الذي مع المشبهة الإثبات، أخذه أهل السنة، والباطل تشبيه صفات الله بصفات المخلوقين، والمعطلة معهم حق وباطل، الحق الذي مع المعطلة التنزيه، ومعهم باطل، وهو الغلو في هذا التنزيه، حتى عطلوا، وأهل السنة أخذوا الحق الذي مع المشبهة وهو الإثبات، وأخذوا التنزيه من المعطلة، وهو نفي المماثلة، فخرج مذهب أهل السنة من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين.
والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه.