شعار الموقع

التوضيح المبين لتوحيد الأنبياء والمرسلين 3

00:00
00:00
تحميل
72

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا، قال العلامة السعدي عليه رحمة الله تعالى:

(المتن)

فصل في النوع الثاني من النوع الأول وهو الثبوت

وهذا أشرف القسمين وأجلها، وهو المقصود لذاته، ومجمله ما ذكره المصنف في هذا البيت حيث قال:

هذا ومن توحيد إثبات
 

 

أوصاف الكلام لربنا الرحمن
 

 

أي: بتوحيد الأنبياء والمرسلين واتباعهم، إثبات كل صلة للرحمن وردت في الكتب الإلهية، والنصوص النبوية.

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد؛ قال المؤلف رحمه الله تعالى: فصل في النوع الثاني من النوع الأول وهو الثبوت؛ أي ثبوت الأسماء والصفات الواردة في الكتاب والسنة لربنا U، وهذا النوع الثاني من النوع الأول، والنوع الأول: الصفات السلبية، فإن المؤلف رحمه الله كما سبق قسم التقسيم الأول إلى توحيد فعلي، وتوحيد قولي.

فالتوحيد الفعلي: هو توحيد الألوهية ويأتي الكلام عليه في آخر الكتاب، ثم التوحيد القولي قسّمه إلى قسمين: سلبي، وثبوتي.

السلبي: وهو النفي، أي: نفى وثبوت، والسلبي سبق أن قسم أيضا إلى قسمين، الأول: سلب التشبيه، والتمثيل، والتعطيل، والجحود، والنكران عن صفات الكمال لربنا U، والثاني: سلب النقائص والعيوب، وسلب النقائص والعيوب ينقسم إلى قسمين أيضًا: سلبٌ لمتصل، وسلبٌ لمنفصل.

الآن النوع الثاني من النوع الأول: الكلام في هذا الفصل في النوع الثاني من النوع الأول وهو الثبوت، يعني: إثبات الصفات والأسماء الواردة في الكتاب والسنة لربنا U، نوعان: سلب وثبوت، نفي وإثبات، وعلى هذا سيكون المؤلف رحمه الله تكلم على السلب المفصل والسلب المتصل، وتكلم على سلب التشبيه وسلب التعطيل، وانتهينا من الكلام عن النوع الأول، وهو السلب، بقي النوع الثاني وهو الثبوت.

وهذا الفصل سيطيل فيه المؤلف رحمه الله، يستعرض الأسماء والصفات الواردة لله U في الكتاب والسنة يفصل فيها، ثم بعد ذلك يأتي الكلام على النوع الأول وهو التوحيد الفعلي، توحيد الأنبياء والمرسلين، فيكون الكلام على قسمين أو نوعين من التوحيد، من هذا الفصل إلى آخر الكتاب:

النوع الأول: الثبوت، إثبات الأسماء والصفات لله U.

والنوع الثاني: التوحيد الفعلي.

قال المؤلف: (وهذا أشرف القسمين وأجلّها)، يعني: المراد بالقسمين: الثبوت والسلب، التوحيد القولي ينقسم إلى قسمين: سلبي وثبوتي، أو نفي وإثبات، أيهما أشرف؟ الإثبات؛ لأن الإثبات مقصود لذاته، والسلب مقصود لغيره، فالنفي تخلية، والثبوت تحلية، فهذا مقصود لذاته، المقصود إثبات الأسماء والصفات، وأما المقصود من النفي: تنزيه الرب، وسلب النقائص والعيوب، وما لا يليق بالله U، وإن كان هذا السلب يتضمن إثبات ضدها من الكمال؛ لكن المقصود لذاته هو: ثبوت الصفات والأسماء؛ هذا هو المقصود.

ولهذا قال المؤلف: (فصل في النوع الثاني من النوع الأول وهو الثبوت، وهذا أشرف القسمين وأجلّهما)، وأشرف القسمين: الثبوت، فهو أشرف من النفي؛ لأن النفي مقصود لغيره، والثبوت مقصود لذاته؛ ولهذا قال المؤلف: وهو المقصود لذاته، ومجمله ما ذكره المصنف في هذا البيت حيث قال:

هذا ومن توحيد إثبات
 

 

أوصاف الكلام لربنا الرحمن
 

 

 إذا النوع الثاني من النوع الأول، وهو التوحيد القولي، يعني التوحيد القولي الاعتقادي ينقسم إلى قسمين: نفي وثبوت، سلب وإثبات، فالنوع الثاني هو الثبوت، قال المؤلف رحمه الله: (أي من توحيد الأنبياء والمرسلين وأتباعهم إثبات كل صفة للرحمن وردت في الكتب الإلهية والنصوص النبوية، ثم شرع يفصل شيئًا منها)، وبدأ بالعلو.

(المتن)

قال: ثم شرع يفصل شيئًا منها فقال:

كعلوه سبحانه فوق السمـوات
 

 

العلا بل فوق كل مكان
 

فهو العلي بذاته سبحانه
 

 

إذ يستحيل خلاف ذا ببيان
 

وهو الذي حقًّا على العرش
 

 

استوى قد قام بالتدبير للأكوان
 

 

 (الشرح)

 بدأ المؤلف بصفة العلو، الصفة الأولى صفة العلو لله U، وصفة العلو من الصفات التي اشتد النزاع فيها بين أهل السنة وأهل البدع، وهي من العلامات الفارقة بين أهل السنة وأهل البدع، صفة العلو وصفة الاستواء وصفة الكلام وصفة الرؤية، هذه الصفات اشتد النزاع فيها بين أهل السنة وأهل البدع، وهي من العلامات الفارقة بين أهل السنة وأهل البدع، فمن أثبتها فهو من أهل السنة، ومن نفاها فهو من أهل البدع.

صفة العلو وصفة الاستواء، والاستواء علو خاص، صفة الكلام، صفة الرؤية، هذه الصفات اشتد النزاع فيها بين أهل السنة وأهل البدعة، وهي من العلامات الفارقة بين أهل السنة وأهل البدع، فمن أثبتها فهو من أهل السنة، ومن نفاها فهو من أهل البدع.

وقد نفى هذه الصفات الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، إلا أن الأشاعرة أثبتوا الرؤية، لكن لم يثبتوا الجهة، قالوا: إن الله يُرى لا في مكان، من أين يُرى؟ من أمام؟ فوق؟ قالوا: لا، من الخلف؟ من تحت؟ قالوا: لا. يمين؟ لا. شمال؟ لا. أين يرى؟ قالوا: لا في جهة، وهذا غير معقول؛ لأنهم ينكرون العلو، ينكرون الجهة، فهم أثبتوا الرؤية موافقةً لأهل السنة، أرادوا أن يوافقوا أهل السنة فأثبتوا الرؤية، وأرادوا أن يوافقوا المعتزلة فأنكروا العلو، فآثروا التفريق بينهما، آثروا الجمع بينهما، فلجئوا إلى حجج السفسطائية، ولذا اتهموا أن هذه حجة، وهي ليست حجة، فقالوا: إن الله يرى لا في مكان؛ فقيل لهم: إن هذا غير معقول وغير متصور، كيف يرى لا في مكان؟ الرؤية لابد أن تكون بجهةٍ من الرائي، والرائي لا بد أن يكون مقابلًا للرائي، مواجهًا له، كيف تقولون: لا في جهة؟ كلام يضحك منه الصبيان، فمن حججهم قالوا: إن الإنسان يرى نفسه في المرآة، وليس المرآة بجهة منها، وهذا أيضًا كلام غير صحيح، المقصود أن الأشاعرة نفوا العلو، ونفوا الاستواء، والكلام أثبتوه على أنه معنى، وليس حرفًا ولا صوتًا، والرؤية أثبتوها، لكن أثبتوها لا في جهة، وأما المعتزلة وأمثالهم أنكروا هذه الصفات كلها.

وأدلة العلو كثيرة، والمؤلف ابن القيم رحمه الله استدل عليها بأدلة، وبأنواع من الأدلة وكل نوع تحته أفراد، حتى إن أفراد أدلة العلو تزيد على ألف دليل، ومع ذلك هذه الأدلة كلها ضرب بها أهل التعطيل عرض الحائط، وأبطلوها كلها بنصوص المعيَّة وقالوا إن الرب مختلط بالمخلوقات وممتزج بها، واستدلوا بنصوص العلو، وضربوا النصوص بعضها ببعض، وقالوا: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ }[الحديد/4].

هذا يدل على أن الله مختلط بالمخلوقات وليس بالعلو، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا؛ فالمعية صفة من صفات الله، لكن المعية لا تقبل الاختلاط ولا الامتزاج في لغة العرب، وإنما تقبل المصاحبة والمقاربة في أمر من الأمور، لا تقبل المخالطة ولا المحاذاة، تقول العرب: ما زلنا نسير والقمر معنا، ما زلنا نسير والنجم معنا، وهو فوقك، وتقول: المتاع معي، وهو فوق رأسك، ويقال: فلان زوجته معه، وهي في المشرق، وهو في المغرب، يعني أنها في عصمته، فهي من مطلق المصاحبة، ولا تقبل الاختلاط ولا الامتزاج، ومع ذلك خالفوا اللغة، وخالفوا النصوص، وضربوا النصوص بعضها ببعض، وقالوا: الرب مختلط بالمخلوقات، واستدلوا بنصوص المعية على فهمهم الفاسد، وأبطلوا نصوص العلو والفوقية، التي تزيد أفرادها على ألف دليل، لأنهم من أهل الزيغ والانحراف، نسأل الله السلامة والعافية.

  • والعلو ثلاثة أنواع :
  1. علو الذات.
  2. وعلو القدر والشأن والعظمة.
  3. وعلو القهر والسلطان.

ثلاثة أنواع، وكلها ثابتة لله، فالله تعالى علي بذاته فوق المخلوقات وفوق العرش، بعد أن تنتهي المخلوقات التي سقفها عرش الرحمن، وهو سبحانه وتعالى له علو القدر والشأن والعظمة، وله علو القهر والسلطان، كما قال العلامة ابن القيم في موضع آخر لعله سيأتي:

والفوق أنواع ثلاث كلها
 

 

لله ثابتة بلا نكران
 

 

وقد وافق أهل البدع على نوعين من العلو، وأنكروا نوعًا واحدًا، وافقوا على علو القهر والسلطان، ووافقوا على علو القدر والشأن والعظمة، وأنكروا علو الذات، قالوا: نعم نحن نقول: إن الله له علو القهر والسلطان، يقهر كل مخلوق، وله علو القدر والشأن والعظمة، لكن ننكر أن يكون له علو الذات، فليس فوق العرش من هو مختلط بالمخلوقات، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.

أثبت أهل البدع نوعين، وأنكروا نوعًا ثالثًا، وحملوا النصوص التي وردت على النوعين، قالوا: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم}[البقرة/255] يعني علو القدر والقهر لا علو الذات، {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}[الأعلى/1] علو القدر والقهر، وليس علو الذات، يعني: النصوص حملوها على النوعين، والمؤلف رحمه الله يقول: (كعلوّه سبحانه)، هذا النوع الأول من أنواع الصفات الثابتة لله U، (كعلوه سبحانه فوق السماوات العلى بل فوق كل مكان).

وعلو الذات ثابت في النصوص الشرعية كما سمعتم، الأدلة تدل على ألف دليل، وثابت بالعقل، الأدلة العقلية دلت على أن الله في العلو، وثابت بالفطرة السليمة، فإن الله تعالى فطر المخلوقات والحيوانات على أنها ترفع رأسها إلى السماء إذا أصابها شيء، هذه فطرة، والجارية الأعجمية التي جاءت إلى النبي r وسألها، قال لها: أين الله؟ قالت في السماء، قال: من أنا؟ أنت رسول الله، فقال: «أعتقها فإنها مؤمنة»؛ فهذه الأعجمية الجارية أخبرت عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وكل إنسان يدرك هذا.

ولما كان أبو المعالي الجويني من الأشاعرة، وهو من شيوخ الأشاعرة كان يقرر في الدرس إنكار العلو، ويقرر أن الله ليس في العلو، وقال: إن الله كان ولا مكان، وهو الآن على ما كان، وجعل يقرر نفي العلو، فقام أحد التلاميذ يقال له: الهمداني، وقال له: يا شيخ، دعنا من هذا الكلام الذي تقول، أخبرني عن هذه الضرورة التي يجدها الإنسان في نفسه، ما قال قائل قط: يا الله؛ إلا اتجه إلى العلو، ووجد طلبًا ضروريًّا، لا يتجه إلى غير العلو، كيف ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا؟ فلم يستطع الشيخ أن يجيب، وقال: حيرني الهمداني، وجعل يلطم رأسه، ويقول: حيرني الهمداني، حيرني الهمداني، حيرني الهمداني، تحيّر، فإذًا العلو ثابت بالنصوص التي تزيد أفرادها على ألف دليل، الشرعية، وثابت بالأدلة العقلية بالعقل الصريح، وثابت بالفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.

قال المؤلف رحمه الله: (كعلوه سبحانه فوق السماوات العلى بل فوق كل مكان)؛ فالعلو ثابت بالعقل وبالشرع، أما الاستواء هو ثابت بالشرع، الاستواء على العرش هذا ثابت بالشرع دون العقل، لولا أن الله أخبرنا أنه استوى على العرش؛ ما علمنا ذلك، وهذا هو الفرق بين العلو والاستواء، العلو من الصفات العقلية الشرعية، يعني: ثبتت بالعقل والشرع، والاستواء من الصفات الشرعية، بالدليل والشرع، وأيضًا العلو من الصفات الذاتية الملازمة لذات الرب، التي لا تنفك عن الباري، وأما الاستواء فهو من الصفات الفعلية؛ لأن الله خلق العرش أولًا، ولم يستو عليه، ثم خلق السماوات والأرض، ثم استوى عليه بعد خلق السماوات والأرض، فدلّ على أنه في وقت كان مستويًا وفي وقت ليس مستويًا، دلّ على الصفات الفعلية، فالاستواء من الصفات الفعلية، والعلو من الصفات الذاتية، الاستواء ثابت بالشرع دون العقل، والعلو ثابت بالشرع والعقل والفطرة.

قال المؤلف رحمه الله:

كعلوه سبحانه فوق السمـوات
 

 

العلا بل فوق كل مكان
 

 

فالعلو على جميع المخلوقات، ومنها العرش، أما الاستواء فهو وصف خاص: علو خاص على العرش، الله أعلم بكيفيته، فعل يفعله سبحانه وتعالى، فهذا خاص بالعرش، الاستواء على العرش، ولا يقال: استوى على الأرض، ولا استوى على البحر، ولا استوى على الجبال، الاستواء خاص بالعرش، أما العلو فعلى العرش وعلى غيره، هو سبحانه علي على المخلوقات كلها، وأما الاستواء فهو علو خاص يفعله، علو خاص بالعرش؛ ولهذا قال: بل فوق كل مكان، كعلوه سبحانه فوق السماوات العلا، بل فوق كل مكان، ومن ذلك العرش، فهو العلي بذاته سبحانه، وهذا علو الذات، وهذا الذي أنكره أهل البدع، وهذا هو الذي فيه النزاع بينهم وبين أهل السنة، قال: بذاته، أهل البدع يقولون: علي بقدره وشأنه وعظمته، وعلي بقهره وسلطانه، وليس عليًّا بذاته.

(فهو العلي بذاته) هذا الرد على أهل البدع.

فهو العلي بذاته سبحانه
 

 

إذ يستحيل خلاف ذا ببيان
 

 

(وهو الذي حقًّا على العرش استوى)؛ هذه هي الصفة الثانية، صفة الاستواء (وهو الذي حقًّا على العرش استوى، قد قام بالتدبير للأكوان) الأكوان: المخلوقات، فالمؤلف أثبت في البيت الأول والثاني العلو، والبيت الثالث أثبت الاستواء، صفتان، صفة الاستواء.

(المتن)

 قال عليه رحمة الله: أما علو الباري تعالى فوق جميع المخلوقات، ومباينته لها، فقد دل عليها مع النصوص الكثيرة العقل الصريح، فإنه علي بذاته فوق جميع مخلوقاته، ويستحيل أن لا يكون عليًّا؛ فإنه يستحيل ويمتنع أن يكون هو نفس المخلوقات، ويمتنع أيضًا أن يكون حالًّا فيها، فتعين أن يكون فوقها مباينًا لها.

(الشرح)

هذا الكلام على العلو، أما علو الباري تعالى فوق جميع المخلوقات ومباينته لها، فقد دل عليها مع النصوص الكثيرة العقل الصريح، يعني دل عليها النصوص والعقل الصريح، فإنه سبحانه علي بذاته فوق جميع مخلوقاته، هذا علو الذات، ويستحيل أن لا يكون عليًّا؛ فإنه يستحيل ويمتنع أن يكون هو نفس المخلوقات، كما يقول الاتحادية قبحهم الله، فالاتحادية يقولون: إن الباري هو نفس المخلوقات، وهو نفس السماوات، نفس الأرضين، نفس الآدميين، نفس البحار، نفس الأشجار، الوجود واحد، نعوذ بالله! هذا أغلظ الكفر وأعظم الكفر.

المؤلف يقول: (فهو علي بذاته فوق جميع مخلوقاته، ويستحيل أن لا يكون عليًا، فإنه يستحيل ويمتنع أن يكون هو نفس المخلوقات) هذا مذهب الحلولية، يقولون أنه نفس المخلوقات، ويمتنع أيضًا أن يكون حالًّا فيها، هذا مذهب الحلولية، والفرق بين مذهب الاتحادية والحلولية: الحلولية والاتحادية كلهم كفار، لكن كفر الاتحادية أغلظ؛ لأن الحلولية يثبتون اثنين، أحدهما حل في الآخر؛ كالماء حل في الكوز، وأما الاتحادية فلا يثبتون إلا واحدًا؛ ولهذا لما قيل للاتحادية: إنكم حلولية؛ أنكروا ذلك، وقالوا: أنت لا تعرف المذهب، محجوب عن سر المذهب، الحلولية يقولون باثنين، بالتعدد، ونحن لا اثنينية ولا تعدد، واحد، فالحلولية يقولون: اثنان، الماء حل في الكوز، الماء شيء والكوز شيء آخر، والاتحادية يقولون: هو نفس الكوز، هو نفس الماء، شيء الواحد، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، فلهذا كان الاتحادية مذهبهم أغلظ، كفرهم أغلظ من كفر الحلولية.

والمؤلف أشار إلى المذهبين، قال: (ويمتنع أن يكون هو نفس المخلوقات) مثلما تقول الاتحادية، (ويمتنع أيضًا أن يكون حالًّا فيها) كما تقوله الحلولية، (فتعين أن يكون فوقها مباينًا لها) كما يقول أهل السنة والجماعة، وكما هو مذهب الأنبياء والصحابة والتابعين والأئمة وأهل الحق.

(المتن)

قال رحمه الله: وأما استواؤه على العرش العظيم، فيستفاد من النقل صريحًا، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه/5]، وسئل الإمام مالك رحمه الله عن كيفية الاستواء، فقال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه (أي عن الكيفية) بدعة".

(الشرح)

وهنا انتقل المؤلف إلى الكلام عن الاستواء، الصفة الثانية، الكلام الأول في صفة العلو، هنا الكلام في إثبات صفة الاستواء، قال: (وأما الاستواء على العرش العظيم، فيستفاد من النقل صريحًا)، المراد بالنقل: الأدلة النقلية، ولم يقل: من العقل؛ لأن صفة الاستواء دل عليها النقل، وصفة العلو دل عليها العقل والنقل، ويكون الفرق بين صفة العلو وصفة الاستواء من جهتين، أو من وجهين:

الوجه الأول: أن صفة العلو ثابتة بالنقل والعقل والفطرة، وأما صفة الاستواء فهي ثابتة بالنقل دون العقل هذا الوجه الأول.

الوجه الثاني: أن صفة العلو من الصفات الذاتية التي لا تنفك عن الباري، وأما صفة الاستواء من الصفات الفعلية.

قال المؤلف: (وأما استواؤه على العرش العظيم، فيستفاد من النقل صريحًا) يعني: دون العقل. (قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه/5]) والله تعالى أثبت لنفسه الاستواء في سبعة مواضع من كتابه، أتى بلفظ استوى وعدّاها بـ (على) الدالة على العلو في سورة الأعراف، وفي سورة يونس، وفي سورة طه، وفي سورة الفرقان، وفي سورة السجدة، وفى سورة الحديد، وفي سورة الرعد، سبعة مواضع كلها جاءت بلفظ استوى، وعدّاها بـ (على) التي تدل على العلو صريحة، في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}[الأعراف/54].

وفي سورة يونس كذلك: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ}[يونس/3].

وفي سورة الرعد: {اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}[الرعد/2].

وفي سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه/5].

وفى سورة السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}[السجدة/4].

وفي سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا}[الحديد/4].

كلها جاءت بلفظ استوى، وتعدّت بـ (على)، وكل أعدّت بـ (على) التي تدل على العلو، قال المؤلف رحمه الله: استوى على العرش العظيم، فيستفاد من النقل صريحًا، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} في سورة طه.

(وسئل الإمام مالك رحمه الله عن كيفية الاستواء، فقال: "الاستواء معلوم") يعني: معلوم معناه في اللغة العربية، وله أربعة معانٍ: استقر، وعلا، وصعد، وارتفع، هذه معانيه في اللغة، وعلى هذه المعاني اللغوية الأربعة تدور تفاسير السلف للاستواء، وهو سبحانه وتعالى مستوٍ على العرش حقيقة بهذه المعاني الأربع على كيفية الله أعلم بها سبحانه وتعالى.

(والكيف مجهول) الكيف: يعني كيفية الاستواء مجهول، (والإيمان به واجب) لأن الله أخبر به في كتابه، (والسؤال عنه أي: عن الكيفية بدعة) لأنه لا يمكن الوصول إليه، ولأن فيه مخالفة لما عليه السلف.

(المتن)

قال: فكما أنه تثبت لله صفاته على الوجه اللائق بجلاله وعظمته، فالاستواء من جملة أوصافه الفعلية، فاستوى على العرش، واحتوى على جميع الملك، يدبر الأمر في أقطار العالم العلوي والسفلي، فلا يتحرك متحرك إلا بإذنه، ولا يوجد شيء إلا بمشيئته، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه/5]، وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ}[يونس/3].

(الشرح)

يقول المؤلف رحمه الله: (فالاستواء من جملة أوصافه الفعلية) صرح بأنه من الصفات الفعلية، وليس من الصفات الذاتية، (فاستوى على العرش، واحتوى على جميع الملك)، ففرق بين الاستواء وبين .. البدع، بعض أهل البدع يفسر الاستواء بالملك، استوى على العرش يعني يقول: ملك، وهذا غلط، فالملك غير الاستواء، ولهذا قال المؤلف: (فاستوى على العرش واحتوى على جميع الملك) فاستوى وملك، (فاستوى على العرش، واحتوى على جميع الملك، يدبر الأمر في أقطار العالم العلوي والسفلي، فلا يتحرك متحرك إلا بإذنه، ولا يوجد شيء إلا بمشيئته، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه/5] ، وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ}[يونس/3]) تدبير الأمر غير الاستواء.

(المتن)

قال:

حي مريد قادر متكلم
 

 

ذو رحمة وإرادة وحنان
 

 

 

أي هو تعالى حي حياةً كاملةً جامعةً لجميع صفات الذات، لا تأخذه سنة ولا نوم، قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ}[الفرقان/58].

وهو المريد القادر، أي كامل الإرادة والقدرة، وجمع بينهما لأن جميع الأفعال المتعلقة بذاته: كالاستواء، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء يوم القيامة، ونحو ذلك، والمتعلقة بخلقه: كالإحياء والإماتة والخلق، وجميع أنواع التدبير، وجميع الأقوال تصدر عن القدرة والإرادة، فما وُجِدَ عُلم أن الله أراده وخلقه، وما لم يوجد عُلِم أن الله لم يُرِده، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، واذا كان كامل القدرة والإرادة عُلِمَ أنه ما في الكون من حول وقوة إلا مُستفادة وتابعة لحول الله وقوته.

 متكلم: أي لم يزل ولا يزال موصوفًا بالكلام، فيكلم بما أراد كيف أراد، وحيث أراد، ذو رحمة وحنان؛ أي قد اتصف بالرحمة، وعم خلقه بالنعم والإحسان، والبر والحنان، واللطف والامتنان.

(الشرح)

المؤلف رحمه الله انتقل من الكلام على صفة العلو والاستواء إلى صفة أخرى، قال: (حي مريد قادر متكلم ذو رحمة وإرادة وحنان).

(حي): من أسمائه الحي، قال تعالى: {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}[البقرة/255].

وقال سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ}[الفرقان/58].

(مريد): {وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد}[البقرة/253].

والحي وكل اسم من أسماء الله مشتمل على صفة؛ لأن أسماء الله مشتقة ليست جامدة، حي: مشتمل على صفة الحياة، مريد: مشتمل على صفة الإرادة، قادر: من أسمائه سبحانه وتعالى، من أسمائه سبحانه وتعالى القادر، ومشتمل على صفة القدرة، متكلم: فيه إثبات صفة الكلام، و(متكلم) هذا من باب الخبر، ولا يقال: من أسمائه: المتكلم، لكن من صفاته الكلام، متكلم هذا من باب الخبر، من باب الإخبار، أخبرنا بأنه متكلم، قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[النساء/164].

وقال: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ}[الأعراف/143]، ولا يقال: إن من أسماء الله: المتكلم؛ فهذه صفة عامة، هذا وصف عام لكل من يتكلم، وإنما هذا من باب الخبر.

(ذو رحمة): فيه إثبات الرحمة، ودلت عليها النصوص، قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}[الأحزاب/43]، {وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين}[الأعراف/151].

(وإرادة): كما دلت النصوص على إثبات الإرادة، ومأخوذة من مريد.

(وحنان): الحنان: اللطف والامتنان.

فحي: هذا من الأسماء والصفات، أما المريد والمتكلم من باب الخبر؛ لأنه لم يأت إطلاقهما على الله، هل هناك نص قال: الله متكلم؟ أو الله مريد؟ وإنما هذا من باب الخبر، فالله مريد، وصفة الإرادة ثابتة، والله متكلم، يخبَر عن الله بأنه مريد، وصفة الإرادة ثابتة، ويخبر عن الله بأنه متكلم، وصفة الكلام ثابتة له، لكن ما يقال: من أسماء الله المريد، ويعبد ويقال: عبد المريد، ولا يقال: من أسمائه المتكلم، ويعبد ويقال: عبد المتكلم، لكن الحي من صفات الله، ويقال: عبد الحي اسم وصفة، والقادر كذلك اسم وصفة، يقال: عبد القادر، وعبد الحي، أي يعبد له؛ فالقادر من أسماء الله، والقدرة من صفات الله، والحي من أسماء الله، والحياة من صفات الله.

أما قول: مريد ومتكلم؛ فهذا من باب الخبر، لا يقال: من أسمائه المريد، ولا من أسمائه المتكلم، وإنما يخبر عن الله بأنه مريد وبأنه متكلم، والقاعدة أن باب الخبر أوسع من باب التسمية، فيخبر عن الله بأنه مريد، وبأنه متكلم، وبأنه ذات، وبأنه موجود، هذا من باب الخبر، وبأنه صانع، لكن لا يقال: من أسمائه الصانع والمريد والمتكلم والموجود.

(ذو رحمةٍ وإرادةٍ وحنان)

ذو رحمة: أي من صفاته الرحمة، وإرادة: صفة الإرادة ثابتة، وحنان: من أدلة الحنان قوله تعالى في قصة زكريا ويحيى: {وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا}[مريم/13]، وهل من أسماء الله الحنّان؟ جاء في بعض الآثار أن الله من أسمائه الحنّان، منهم من تكلم فيه، وقد بحثنا عن هذا الاسم، وظهر أنه من أسماء الله، وأن الاسم ثابت.

قال الشارح رحمه الله: (أي هو تعالى حي حياةً كاملةً جامعةً لجميع صفات الذات، لا تأخذه سنة ولا نوم) الحياة الكاملة التي لا يلحقها النقص، بخلاف المخلوق فإن حياته ناقصة، فيلحقه النوم والسِّنة والموت، أما حياة الله فهي كاملة، لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو الحي الذي لا يموت، قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ}[الفرقان/58].

وقال سبحانه: {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}[البقرة/255].

والحي القيوم: اسمان إذا اجتمعا, جمع الله بينهما في ثلاثة مواضع، قال الله تعالى: {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}[البقرة/255] في سورة البقرة.

وقال في سورة آل عمران: {الم (1) اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم}[آل عمران/1-2].

وقال سبحانه في سورة الفرقان: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ}[الفرقان/58].

فجمع الله بين الاسمين، حتى قال بعض العلماء: إنهما اسم الله الأعظم، إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، وجميع الصفات ترجع إلى هاتين الصفتين، ترجع إلى صفة الحياة وصفة القيومية، الحي: ترجع إليه جميع الصفات؛ صفة العلم والقدرة والسمع والبصر كلها راجعة إلى صفة الحياة، وصفة القيومية كذلك، القائم بنفسه، والمقيم لغيره، فجميع الصفات كلها ترجع إلى هاتين الصفتين، ولهذا قال بعضهم: إن الحي القيوم هو اسم الله الأعظم، فهو سبحانه الحي الذي له الحياة الكاملة، وهو القيوم: القائم بنفسه والمقيم لغيره سبحانه وتعالى.

قال المؤلف: (وهو المريد القادر، أي كامل الإرادة والقدرة)، كل من الإرادة والقدرة صفة الله.

(وجمع بينهما لأن جميع الأفعال المتعلقة بذاته: كالاستواء، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء يوم القيامة، ونحو ذلك، والمتعلقة بخلقه: كالإحياء والإماتة والخلق، وجميع أنواع التدبير وجميع الأقوال تصدر عن القدرة والإرادة)؛ فالمؤلف جمع بينهما، قال: (حي مريد قادر)، جمع بين الإرادة والقدرة، جميع الأفعال المتعلقة بذاته والأفعال المتعقلة بخلقه كلها ترجع إلى هاتين الصفتين: الإرادة والقدرة، فالأفعال المتعلقة بذاته مثل الاستواء، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء يوم القيامة، والمتعلقة بخلقه: كالإحياء والإماتة والخلق، وجميع أنواع التدبير، وجميع الأقوال تصدر عن القدرة والإرادة، فما وجد من المخلوقات علم أن الله أراده وخلقه، وما لم يوجد علم أن الله لم يرده، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

كل شيء وجد في هذا الكون من الآدميين، والملائكة، والحيوانات، والطيور، والجمادات، والبحار، والأشجار؛ ما وُجِد عُلم أن الله أراده وخلقه، ما وجد إلا بإرادة الله وخلقه، وما لم يوجد الشيء الذي لم يوجد نعلم أن الله لم يرده؛ لأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وإذا كان الله كامل القدرة وكامل الإرادة؛ علم أن ما في الكون من حول وقوة إلا مستفادة وتابعة لحوله وقوته؛ لأن الله كامل القوة وكامل القدرة؛ وما دام أنه كامل القوة وكامل القدرة؛ فكل ما في الكون ناشئ عن قدرته وإرادته، وكل ما في الكون من حول وقوة مستفاد وتابع لحوله قوته.

وقوله: متكلم: أي لم يزل ولا يزال موصوفًا بالكلام، فيكلم بما أراد كيف أراد وحيث أراد، والكلام من الصفات الذاتية الفعلية، مثل الإحياء والإماتة والخلق، هذه من الصفات الفعلية، والصفات الفعلية قديمة النوع حديثة الآحاد، والمعنى أن الله لم يزل متصفًا بصفة الإرادة والقدرة والحياة والخلق، ولكن أفرادها حادثة، وهو يتكلم إذا شاء، كلم موسى عليه السلام، وكلم نبينا r ليلة المعراج، ويكلم آدم يوم القيامة، ويكلم عباده متى يشاء كيف شاء، وأصل الصفة أصلها قديم، جميع الصفات الإلهية أصلها قديم، الإرادة، والمحبة، كذلك أيضًا الإماتة، والإحياء.

قال المؤلف: وهو متكلم؛ أي لم يزل ولا يزال موصوفًا بالكلام، فيكلم بما أراد كيف أراد وحيث أراد، ذو رحمة وحنان: يعني قد اتصف بالرحمة، وعمّ خلقه بالنعم والإحسان والبر والحنان واللطف والامتنان.

(المتن)

قال:

هو أول هو آخر هو ظاهر
 

 

هو باطن هي أربع بوزان
 

ما قبله شيء كذا ما بعده
 

 

شيء تعالى الله ذو السلطان
 

ما فوقه شيء كذا ما دونه
 

 

شيء وذا تفسير ذي البرهان
 

فانظر إلى تفسيره بتدبر
 

 

وتبصر وتعقل لمعاني
 

وانظر إلى ما فيه من أنواع
 

 

معرفة لخالقنا العظيم الشان
 

 

 (الشرح)

المؤلف رحمه الله ذكر في هذه الأبيات أربعة أسماء ثابتة في الكتاب والسنة، الاسم الأول: الأول، والثاني: الآخر، والثالث: الظاهر، والرابع: الباطن، ودليلها قول الله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم}[الحديد/3].

ودليلها من السنة الحديث الصحيح، وقد فسر النبي r هذه الأسماء الأربعة، فسر الأول بأنه الذي ليس قبله شيء، وفسر الآخر: بأنه الذي ليس بعده شيء، وفسر الظاهر: بأنه ليس فوقه شيء، بالفوقية، وفسر الباطن: بأنه ليس دونه شيء، في الحديث الصحيح يقول النبي r: «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض الدين عني وأغنني من الفقر» حديث صحيح.

فهذا الحديث الصحيح فسر النبي r فيه هذه الأسماء الأربعة، فسر الأول: بأنه ليس قبله شيء، فالله هو الأول الذي لا بداية لأوليته؛ لأنه لو كان له بداية لكان مسبوقًا بالعدم، فهو الأول بلا بداية، وهو الآخر الذي لا نهاية لآخريته؛ لأنه لو كان له آخرية؛ لكان نهايته العدم، وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، فهو فوق العرش، والمخلوقات تنتهي بالعرش، سقفها عرش الرحمن، والله فوق العرش، فهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وهو الباطن الذي ليس دونه شيء: يعني لا يحجبه أحد من خلقه.

ولهذا قال المؤلف: (هو أول هو آخر هو ظاهر هو باطن هي أربع بوزان)، اسمان لأوليته وآخريته، واسمان لعلوه وفوقيته، وعدم حجب شيء من المخلوقات له، اسمان لأوليته وآخريته: فالله هو الأول في الزمان، ليس قبله شيء، والله هو الذي خلق الزمان والمكان، فالله هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهذا فيه الرد على الفلاسفة الذين يقولون: إن المخلوقات مقارنة للخالق، فلا يقول: إن الله هو الأول وليس قبله شيء، بل يقولون: مع المخلوقات، أي مقارنة له، وهو علة لها.

قالوا: إن المخلوقات معلولة، وهو علة لها، فالمخلوقات مقارنة للخالق، فأنكروا أن يكون هو الأول الذي ليس قبله شيء، بل قالوا: إن العالم مقارن لله، وقالوا: إن الله علة للعالم، والعالم معلول، وقالوا: إن الله لم يخلق الخلق بمشيئته وقدرته، ما خلق الخلق باختياره يقولون، بل الخلق ملازم له، لا يستطيع الانفكاك عنه، كما أن النور ملازم للسراج لا يستطيع الانفكاك عنه، فكذلك الرب ملازم للعالم، لا يستطيع الانفكاك عنه، تعالى الله عما يقولون، فلذا كان العالم مقارنًا للرب ليس قبله، وليس الرب قبلها، كما أن النور مقارن للسراج وليس قبله، تعالى الله عما يقولون، فأنكروا أن يكون الله هو الأول، فكفروا بذلك، فهم كفار.

وأما الظاهر معناه: فسره أنه الذي ليس فوقه شيء، وأنكر أهل البدع من الجهمية والمعطلة العلو، وأن يكون الله فوق المخلوقات، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الفلاسفة أنكروا أن يكون الله متقدمًا في الزمان، والجهمية والمعتزلة والأشاعرة أنكروا أن يكون الله متقدمًا في المكان، وكما أن الفلاسفة كفروا بإنكارهم أن يكون الله متقدمًا في الزمان، فكذلك المعطلة كفروا بإنكارهم أن يكون الله فوق المخلوقات، وأن يكون متقدمًا في المكان.

فالفلاسفة أنكروا أن يكون الله متقدمًا في الزمان، فلم يقولوا: إن الله هو الأول، بل قالوا: المخلوقات معه مقارنة له، لم يسبقها، وكذلك المعطلة أنكروا أن يكون الله فوق المخلوقات، بل قالوا: إن الله مختلط بالمخلوقات، ولهذا يقول شيخ الإسلام: كفر المعطلة مثل كفر الفلاسفة سواء، كما أن الفلاسفة أنكروا أن يكون الله متقدمًا في الزمان، فكذلك المعطلة أنكروا أن يكون الله متقدمًا في المكان، والفلاسفة كفار معروف، والمعطلة يزعمون أنهم مسلمون، وكفرهم مثل كفر الفلاسفة، لا فرق، هؤلاء أنكروا أن يكون الله متقدمًا في الزمان، وهؤلاء أنكروا أن يكون الله متقدّمًا في المكان، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.

يقول المؤلف:

هو أول هو آخر هو ظاهر
 

 

هو باطن هي أربع بوزان
 

 

أربع متوازنة، اسمان لأوليته وآخريته، واسمان لفوقيته وعدم حجب شيء من المخلوقات له، قال: (ما قبله شيء)؛ هذا تفسير للأول، ما قبله شيء، (كذا ما بعده)، وهذا تفسير للآخر.

ما قبله شيء كذا ما بعده
 

 

شيء تعالى الله ذو السلطان
 

 

هذا تفسير الأول والآخر، (ما فوقه شيء): هذا تفسير الظاهر، (كذا ما دونه شيءٌ): تفسير الباطن، (وذا تفسير ذي البرهان): أي تفسير الرسول r حينما قال: «وأنت الباطن؛ فليس دونك شيء»، (كذا ما دونه): هذا تفسيره للباطن، هذا تفسير الرسول، قال: «أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء».

(فانظر إلى تفسيره بتدبر): تفسير الرسول r (تفسير ذي البرهان): أي صاحب البرهان وصاحب الحجة الرسول، (انظر إلى تفسيره بتدبر): حينما قال: «أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء».

قال:

فانظر إلى تفسيره بتدبر
 

 

وتبصر وتعقل لمعاني
 

 

فإذا نظرت لتفسير الرسول بتدبر وتبصر، وتعقلت المعاني؛ ظهر واتضح لك.

ثم قال:

وانظر إلى ما فيه من أنواع
 

 

معـرفة لخالقنا العظيم الشان
 

 

يعني: إذا تدبرت هذه الأسماء الأربعة؛ وجدت فيها أنواعًا من المعرفة بالله U، تدلك على الله؛ تعرفك بالله العظيم الشأن سبحانه وتعالى، إذا عرفت أن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، وعرفت أنه الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وعرفت أنه الباطن الذي لا يحجبه شيء من خلقه؛ عرفت عظمته وعلوّه وسلطانه، وأنه المدبر، وأنه بيده أزمة الأمور، وأنك محتاج إليه غاية الحاجة، إذا تدبرت تبصرت.

(المتن)

قال عليه رحمة الله: قال تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم}[الحديد/3].

(الشرح)

هذا الدليل من القرآن لإثبات الأسماء الأربعة: الأول، والآخر، والظاهر، والباطن.

(المتن)

 وقال النبي r في الحديث الثابت عنه: «أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء» الحديث.

(الشرح)

وهذا من السنة، إثبات للأسماء الأربعة، وفيه تفسير لها، تفسير للأول، وتفسير للآخر، وتفسير للظاهر، وتفسير للباطن، وهذا جزء من الحديث، والمؤلف ما ساق الحديث من أوله، هذا حديث الاستفتاح: «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء»، وفى آخره: «اقض عني الدين وأغنني من الفقر».

(المتن)

 قال: ولهذا فسر المصنف هذه الأسماء الأربعة المباركة بما فسرها به النبي r وقال: "وذا تفسير ذي البرهان" أي تفسير الرسول الذي كلامه أعلى مراتب البيان والإيضاح بعد كلام الله تعالى، فإنه مشتمل على إثبات معانيها ونفي ما ينافيها ويضادها، وحثَّ المصنف على تدبر هذه الأسماء الأربعة وتعقل معانيها، وأنها مشتملة على أمور عظيمة من أنواع معرفة الله تعالى التي بها تحيا القلوب وتستنير الأفئدة.

(الشرح)

يقول المؤلف: (وحث المصنف على تدبر هذه الأسماء)، حينما قال: وانظر لما فيها، قال: (فانظر إلى تفسيره بتدبر وتبصر وتعقل لمعان)، فالمؤلف حث على تدبر هذه الأسماء الأربعة، وتعقل معانيها، وأنها مشتملة على أنواع عظيمة من أنواع معرفة الله التي بها تحيا القلوب، وتستنير الأفئدة.

(المتن)

فلنسق كلام المؤلف في "سفر الهجرتين" على هذه الأسماء الأربعة؛ فإن فيه الشفاء والكفاية.

(الشرح)

المؤلف سينقل من كلام المؤلف نفسه، الشيخ عبد الرحمن السعدى سينقل من كلام ابن القيم في كتابه (طريق الهجرتين، وباب السعادتين)، كلامه على هذه الأسماء الأربعة، وقال: (فإن فيه الشفا والكفاية).

(المتن)

 قال رحمه الله على كلام شيخ الإسلام الأنصاري في قوله: الثانية الرجوع إلى فضل الله، ومطالعة سبقه الأسباب والوسائط.

(الشرح)

(الرجوع إلى فضل الله ومطالعة سبقه) يعني: سبق الرب إلى الأسباب والوسائط.

(المتن)

فبفضل الله ورحمته وجدت منه الأعمال والأقوال الشريفة والمقامات العلية، وبفضله ورحمته وصلوا إلى رضاه ورحمته وقربه وكرامته وموالاته.

(الشرح)

يعني: بفضل الله ورحمته وجدت الأعمال والأقوال الشريفة، يعني لولا فضل الله ورحمته؛ ما استطعت أن تأتي بالأقوال والأعمال، الله هو الذي وفقك أيها العبد، وفقك للعمل، وفقك للقول، فلولا فضل الله ورحمته؛ ما أتيت بالأقوال والأعمال، من الذي وفقك لها؟ هو الله، وجدت منه الأعمال والأقوال الشريفة والمقامات العلية، وبفضله ورحمته وصلوا إلى رضاه ورحمته وقربه وكراماته وموالاته؛ يعني المؤمنون.

(المتن)

قال: وكان سبحانه هو الأول في ذلك كله، كما أنه الأول في كل شيء، وكان هو الآخر في ذلك كما هو الآخر في كل شيء، فمن عَبَدَه باسمه الأول والآخر؛ حصلت له حقيقة هذا الفقر.

(الشرح)

أي تعبد الله باسمه الأول، وتعبد الله باسمه الآخر؛ فحينئذ يحصل لك حقيقة الفقر إلى الله U، حينما تعلم؛ تعبد الله بأنه الأول الذي ليس قبله شيء، وبأنه الآخر الذي ليس بعده شيء؛ تحصل لك حقيقة الفقر، وافتقارك إلى الله، وأنك محتاج إلى هذا الرب العظيم الذي هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، محتاج إليه في جميع أمورك، ومحتاج إليه إلى أن يوفقك إلى الأعمال الشريفة، ويوفقك إلى الأقوال الشريفة، محتاج إلى أن يوصلك إلى رضاه ورحمته وقربه وكرامته.

(المتن)

قال: فإن انضاف إلى ذلك عبوديته باسم الظاهر والباطن فهذا هو العارف الجامع لمتفرقات التعبد ظاهرًا وباطنًا.

(الشرح)

إذا انضاف إلى التعبد باسمه الأول والآخر، والتعبد باسمه الظاهر والباطن؛ هذا هو العارف بجميع متفرقات التعبد ظاهرًا وباطنًا، ثم سيفصل رحمه الله.

(المتن)

فعبوديته باسم الأول تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف والالتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضله ورحمته، وأنه هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد؛ إذ لا وسيلة له في العدم قبل وجوده، وأي وسيلة كان هناك؟ وإنما هو عدم محض، وقد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا، فمنه سبحانه الإعداد، ومنه الإمداد، وفضله سابق على الوسائل، والوسائل من مجرد فضله وجوده لم تكن بوسائل أخرى.

(الشرح)

الآن المؤلف رحمه الله بيَّن أن عبودية الله باسمه الأول تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف والالتفات إليها، يعني أن الله تعالى هو الذي بيده كل شيء، والأسباب إنما هي من خلقه، وهو الذي أوجدها، كيف تعتمد على الأسباب وتترك المسبب؟ وإن كانت الأسباب مشروعة، لكن تفعلها على أنها أسباب جعلية، لكن لا تركن إليها كما يركن المعتزلة والطبائعية إلى الأسباب.

وكما قال العلماء: الركون إلى الأسباب شرك في الربوبية، فأنت لا تركن إلى الأسباب؛ لأن الله تعالى هو الذي سبب الأسباب؛ اعتمد على الله، وتجرد من مطالعة الأسباب والركون إليها، وجرد النظر إلى سبق فضله، وأنه المبتدئ بالإحسان، وأنه ليس هناك وسيلة قبل وجود الأسباب، وقبل خلق الأسباب، ليس هناك أحد، ليس هناك أسباب، ليس هناك إلا الله، إذًا عليك بعبودية الله U، والالتجاء إليه سبحانه، ولهذا قال: (وأي وسيلة كان هناك؟ وإنما هو عدم محض، وقد أتى عليه على ابن آدم حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا، فمنه سبحانه الإعداد، ومنه الإمداد)، هو المعد وهو الممد، (وفضله سابق على الوسائل، والوسائل من مجرد فضله وجوده)، نفس الأسباب والوسائل كل هذا من فضله وجوده.

(المتن)

قال: فمن نزَّل اسمه (الأول) على هذا المعنى؛ أوجب له فقرًا خاصًّا وعبوديةً خاصة.

(الشرح)

من نزل اسمه (الأول) على المعنى أوجب له فقرًا خاصًّا وعبوديةً خاصة.

انتقل إلى عبودية اسم الله (الآخر).

(المتن)

وعبوديته باسمه (الآخر) تقتضي أيضًا عدم ركونه ووثوقه بالأسباب، والوقوف معها، فإنها تعدم لا محالة، وتنقضي (بالآخرية)، ويبقى الدائم الباقي بعدها.

(الشرح)

يعني عبودية الله باسمه (الآخر) تقتضي أن الإنسان لا يركن إلى الأسباب، ولا يعتمد عليها، ولا يقف معها، فإن الأسباب تزول، والله تعالى باقٍ؛ فالتعلق بها تعلق بشيء يزول وينقضي، والتعلق (بالآخر) سبحانه وتعالى تعلق بالحي الذي لا يموت.

(المتن)

قال: فالتعلق بها تعلق بما يعدم وينقضي، والتعلق بالآخر سبحانه تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول، فالمتعلق به حقيق أن لا يزول ولا ينقطع, بخلاف التعلق بغيره مما له آخر يفنى به، كما نظر العارف إليه بسبق الأولية، حيث كان قبل الأسباب كلها، فكذلك نظره إليه ببقاء الآخرية، حيث يبقى بعد الأسباب كلها، فكان الله ولم يكن شيء غيره، وكل شيء هالك إلا وجهه.

فتأمل عبودية هذين الاسمين، وما يوجبانه من صحة الاضطرار إلى الله وحده، ودوام الفقر إليه دون كل شيء سواه، وأن الأمر ابتدأ منه وإليه يرجع؛ فهو المبتدي بالفضل، حيث لا سبب ولا وسيلة، وإليه تنتهي الأسباب والوسائل.

(الشرح)

تأمل عبودية هذين الاسمين (الأول، والآخر)، وما يوجبانه من صحة الاضطرار إلى الله، ودوام الفقر إليه، يعني عبودية الله بهذين الاسمين يرجع العبد إلى صحة الاضطرار، وأنه مضطر إلى الله، ولا قوة له إلا بالله، لا قيام له ولا وجود له إلا بالله، ودوام الفقر، وهذا يسمونه الفقر إلى الله، غاية الافتقار دون شيء، دون غيره من المخلوقات، وأن الأمر ابتدأ من الله، ويرجع إلى الله، فهو المبتدي بالفضل قبل وجود الأسباب، وهو الذي تنتهي إليه الأسباب.

(المتن)

فهو المبتدي بالفضل، حيث لا سبب ولا وسيلة، وإليه تنتهي الأسباب والوسائل؛ فهو أول كل شيء وآخره، وكما أنه رب كل شيء وفاعله وخالقه وبارئه، فهو إلهه وغايته التي لا صلاح له ولا فلاح ولا كمال إلا بأن يكون وحده غايته ونهايته ومقصوده، فهو الأول الذي ابتدأت منه المخلوقات، والآخر الذي انتهت إليه عبودياتها وإراداتها، ومحبتها.

(الشرح)

فهو الأول الذي ابتدأت منه المخلوقات، والآخر الذي انتهت إليه عبودياتها، وإراداتها، ومحبتها.

(المتن)

قال: فليس وراء الله شيء يُقصَد ويُعبَد ويتأله، كما أنه ليس قبله شيء يخلق ويُبرِئ.

(الشرح)

ليس وراء الله شيء يقصد ويعبد، كما أنه ليس قبله شيء يخلق ويبرئ، يوجد، الإبراء، الخالق البارئ، فكما أنه سبحانه ليس قبله خالق، ليس قبله شيء يخلق؛ فكذلك ليس وراءه شيء يقصد ويعبد.

(المتن)

قال: فكما كان واحدًا في إيجادك؛ فاجعله واحدًا في تألهك إليه؛ لتصح عبوديتك.

(الشرح)

كما أنه واحد في إيجادك، ما أوجدك إلا الله، تعتقد هذا، فاجعله واحدًا في تألهك، واعبده وحده لا سواه؛ لتصح عبوديتك.

(المتن)

قال: كما ابتدأ وجودك وخلقك منه؛ فاجعله نهاية حبك وإرادتك، وتألهك إليه.

(الشرح)

يعني: كما وحدت الله في الربوبية؛ وحده في الألوهية، كما أنك تعتقد بأنه هو الواحد في إيجادك؛ فاجعله واحدًا في عبادتك وتألهك.

(المتن)

قال: لتصح عبوديته باسم الأول والآخر. وأكثر الخلق تعبدوا له باسمه الأول، وإنما الشأن في التعبد له باسمه الآخر.

(الشرح)

يعني: كما ابتدأ وجودك وخلقك منه، فاجعله نهاية حبك وإرادتك وتألهك به، كما أنك تعتقد أن وجودك وخلقك من الله؛ فاجعله نهاية حبك وإرادتك وتألهك؛ لتصح عبوديتك باسمه (الأول والآخر).

(المتن)

قال: وأكثر الخلق تعبدوا له باسمه الأول، وإنما الشأن في التعبد له باسمه الآخر، فهذه عبودية الرسل وأتباعهم، فهو رب العالمين وإله المرسلين سبحانه وبحمده.

(الشرح)

وأكثر الخلق تعبدوا الله باسمه الأول، يعني: فأثبتوا ربوبيته، (وإنما الشأن في التعبد له باسمه الآخر، فهذه عبودية الرسل وأتباعهم، فهو رب العالمين وإله المرسلين سبحانه وبحمده) أكثر الخلق أثبتوا توحيد الربوبية، ولم يثبتوا توحيد الألوهية، (وإنما الشأن في التعبد له باسمه الآخر) الذي هو المعبود دون سواه، وأن المخلوقات كلها تنتهي وتزول، ولا يبقى إلا الله، فكل شيء هالك إلا وجهه، فأكثر الخلق تعبدوا لله باسمه الأول، ولم يتعبدوا له باسمه الآخر، يعني وحدوا الله في الربوبية، ولم يوحدوه في الألوهية، وإنما الشأن والفرق بين المؤمن وغيره هو التعبد لله باسمه الآخر هو التأله والتعبد.

قال: (فهذه عبودية الرسل وأتباعهم، فهو رب العالمين)، فكما أنه الأول فهو رب العالمين، فاسمه الأول فيه إثبات الربوبية، وأنه رب العالمين، واسمه الآخر فيه إثبات الألوهية، وأنه إله المرسلين وأتباعهم.

انتهى الكلام على الاسمين اسم الأول والآخر، ننتقل إلى اسم الظاهر والباطن، وكل هذا من كلام ابن القيم في طريق الهجرتين.

(المتن)

قال: وأما عبوديته باسمه الظاهر فكما فسره النبي r بقوله: «وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء»، فإذا تحقق العبد علوه المطلق على كل شيء بذاته، وأنه ليس فوقه شيء البتة، وأنه قائم فوق عباده، يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، صار لقلبه أممًا يقصده، وربًّا يعبده، وإلهًا يتوجه إليه، بخلاف من لا يدري أين ربه؛ فإنه ضائع مشتت القلب، ليس لقلبه قبلة يتوجه نحوها، ولا معبود يتوجه إليه قَصْدُه.

(الشرح)

المؤلف رحمه الله تكلم على عبودية الله باسمه الظاهر، يقول: النبي فسر الظاهر بأنه الذي ليس فوقه شيء، قال: (فإذا تحقق العبد علوه المطلق على كل شيء بذاته، وأنه ليس فوقه شيء البتة، وأنه قاهر فوق عباده، يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، صار لقلبه أممًا يقصده) يعني: شيء يؤمه ويقصده، وهو الله سبحانه وتعالى.

(وإلهًا يتوجه إليه)، أما الذي لم يعبد الله، وليس له معبود يعبده؛ فإنه ضائع، لذا قال: (بخلاف من لا يدري أين ربه؛ فإنه ضائع مشتت القلب، ليس لقلبه قبلة يتوجه نحوها، ولا معبود يتوجه إليه قصده) فهو مثل بعض الناس الضائعين، خرج ولا يدري إلى أين يذهب، فهذا ضائع مشتت، لا يؤمن بالرب ولا يؤمن بالميعاد ولا البعث، خرج إلى الدنيا ولا يدري إلى أين يسير نعوذ بالله.

(بخلاف من لا يدري أين ربه؛ فإنه ضائع مشتت القلب، ليس لقلبه قبلة يتوجه نحوها، ولا معبود يتوجه إليه قصده).

(المتن)

قال: وصاحب هذه الحال إذا سلك وتألّه وتعبد؛ طلب قلبه إلهًا يسكن إليه ويتوجه إليه، وقد اعتقد أنه ليس فوق العرش إلا العدم، وأنه ليس فوق العالم إله يعبد ويصلى له ويسجد، وأنه ليس على العرش من يصعد إليه الكلم الطيب ولا يرفع إليه العمل الصالح، جال قلبه في الوجود جميعًا، ووقع في الاتحاد ولا بد، وتعلق قلبه بالوجود المطلق الساري في المعينات، فاتخذه إلهًا من دون إله الحق، وظن أنه قد وصل إلى عين الحقيقة، وإنما تألّه وتعبد لمخلوق مثله، ولخيال نحته بفكره، واتخذه إلهًا من دون الله سبحانه.

(الشرح)

وإله المرسلين وراء ذلك كله، يعني يقول المؤلف رحمه الله: هذا الذي لم يعبد الله، ولم يثبت أنه الأول والآخر، وأنه فوق المخلوقات، يقول: (صاحب هذه الحال إذا سلك وتألّه وتعبد) يريد أن يتعبد, (طلب قلبه إلهًا يسكن إليه ويتوجه إليه) فلم يجد؛ لأنه ما آمن بأن الله فوق العرش، ولا آمن بأن الله هو الأول، يريد أن يسلك ويتأله ويتعبد ويجول، ويطلب قلبه إلهًا يسكن إليه، فلا يجد؛ لأنه (اعتقد أنه ليس فوق العرش إلا العدم)، ليس هناك أحد، ليس فوق العرش إله.

(وأنه ليس فوق العالم إله يعبد ويصلى له ويسجد، وأنه ليس على العرش من يصعد إليه الكلم الطيب ولا يرفع إليه العمل الصالح) فيجول قلبه ويدور، يجول قلبه في الوجود؛ فيقع في الاتحاد ولا بد، فيقول: إنه ليس هناك خالق ولا مخلوق، الخالق هو المخلوق، والمخلوق هو الخالق، هذه السماوات هي الخالق وهي المخلوق، وأن الآدميين أنت الرب وأنت العبد، كما قال بذلك الاتحادية، ورئيسهم ابن عربي الطائي، جال فكره، ولم يثبت أن الله فوق العرش، ولم يجد هناك إلهًا يعبده ويصلي له، فقال: هذه المخلوقات هي الإله، أنت الرب وأنت العبد، وأنت الخالق وأنت المخلوق، وقال فيه قولته المشهورة في بيت:

الرب عبد والعبد رب
 

 

يا ليت شعري من المكلف
 

 

اشتبه الأمر عليه، لا يدري، الرب هو العبد، والعبد هو الرب.

الرب عبد والعبد رب
 

 

يا ليت شعري من المكلف
 

إن قلت عبد فذاك ميت
 

 

أو قلت رب أنى يكلف
 

 

أرأيتم كيف؟ والعياذ بالله، يقول: إن قلت: عبد؛ يموت، وإن قلت: رب؛ كيف يكلف الرب، ويقول: رب مالك، وعبد هالك، وأنتم ذلك، هذا الذي لم يثبت إلهًا فوق العرش، يجول فكره؛ فلا يجد شيئًا يسكن إليه، ولا يثبت إلهًا فوق العرش، فيقع في الاتحاد، فيقول: هذا الوجود هو الله، هذا قول الاتحادية.

(وتعلق قلبه بالوجود المطلق الساري في المعينات)؛ هذا قول الاتحادية، يقولون: إن الله هو الساري في جميع المعينات، الساري في جميع الموجودات، كل موجود فإن الله سارٍ فيه كما يسري النار في الفحم، كما يسري الماء في العود، فيقول: إن الله هو الساري في جميع المخلوقات، فهو الوجود المطلق، الوجود المطلق هذا الذي لم يقيد باسم ولا صفة، فهذا لا يوجد إلا في الذهن، المطلق يعني لم يقيد باسم ولا صفة، كل موجود الآن لا بد له من اسم وصفة، فإذا سلبت الأسماء والصفات عن أي شيء صار وجودًا مطلقًا.

فهؤلاء الملاحدة يقولون أن ربهم وجود مطلق، هذا في الذهن، لا يصفونه بصفة ولا باسم، فهو الوجود المطلق، يقولون: هو الوجود المطلق تلبسه المحدثات وتخلعه، كل موجود يلبسه، وإذا مات يخلعه، ويلبسه غيره، فهو كل شيء تراه، يقول ابن عربي:

 

 

سر حيث شئت فإن الله ثم
 

 

وقل ما شئت فيه فإن الواسع الله
 

 

سر حيث شئت، فكل شيء تراه هو الله، سر حيث شئت فإن الله ثم، وقل ما شئت فيه فإن الواسع الله.

فيقول: هذا معنى قوله الوجود المطلق الساري في المعينات، الساري في المخلوقات، كل مخلوق سارٍ فيه، يسري فيه الرب، حال فيه، تعالى الله عما يقولون.

قال: (فاتخذه إلهًا من دون إله الحق)؛ اتخذ الوجود المطلق إلهًا، اتخذ العدم إلهًا، الوجود المطلق عدم.

(فاتخذه إلهًا من دون إله الحق، وظن أنه قد وصل إلى عين الحقيقة، وإنما تألّه وتعبد لمخلوق مثله)؛ لأنه يقول: إن جميع المخلوقات هي الله، (ولخيال نحته بفكره، واتخذه إلهًا من دون الله سبحانه).

(المتن)

قال: وإله الرسل وراء ذلك كله, قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُون (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُون}[يونس/3-4].

(الشرح)

هذا الرب سبحانه، هو إله الرسل وأتباعهم، قال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} هذا وصفه،  {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} إله الرسل وأتباعهم هو الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي استوى على العرش، وهو الذي يدبر الأمر، وهو الذي إليه مرجع الناس جميعًا، وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو الذي يجازي المؤمنين بالعدل، ويجازي الكفار بالعذاب الأليم.

(المتن)

وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُون (4) يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّون (5)} إلى قوله: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُون} [السجدة/4-9].

(الشرح)

هذا هو إله الرسل وأتباعهم، وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وهو الذي استوى على العرش، وهو الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ثم يعرج إليه في هذا اليوم العظيم، في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون.

(المتن)

فقد تعرف سبحانه إلى عباده بكلامه معرفة لا يجحدها إلا من أنكره سبحانه، وإن زعم أنه مقر به.

(الشرح)

(تعرف سبحانه إلى عباده بكلامه)  أنزل كلامه، هذه الآيات التي أنزلها الله تعالى، وهو القرآن الكريم، على عبده ونبيه محمد r بواسطة جبرائيل، تعرف الله سبحانه إلى عباده بكلامه معرفةً لا يجحدها إلا من أنكره، وإن زعم أنه مقر به.

(المتن)

قال: والمقصود أن التعبد باسمه "الظاهر" يجمع القلب على المعبود، ويجعل له ربًّا يقصده، وصمدًا يصمد إليه في حوائجه، وملجأً يلجأ إليه. فإذا استقر ذلك في قلبه، وعرف ربه باسمه الظاهر، استقامت له عبوديته، وصار له معقل وموئل يلجأ إليه، ويهرب إليه، ويفر كل وقت إليه.

(الشرح)

هذه الخلاصة، خلاصة التعبد لله باسمه الظاهر، (والمقصود أن التعبد باسمه "الظاهر" يجمع القلب على المعبود)؛ إذا تعبدت لله باسمه الظاهر؛ يجمع قلبك على المعبود وهو الله، (ويجعل له ربًّا يقصده، وصمدًا يصمد إليه في حوائجه، وملجأً يلجأ إليه)، هذا خلاصة التعبد باسم الله الظاهر، أنه يجمع قلب العابد على معبوده وهو الله، ويجعل له ربًّا يقصده، وصمدًا يصمد إليه في حوائجه، وملجأً يلجأ إليه.

قال: (فإذا استقر ذلك في قلبه، وعرف ربه باسمه الظاهر، استقامت له عبوديته، وصار له معقل وموئل يلجأ إليه، ويهرب إليه، ويفر كل وقت إليه) هذه الخلاصة.

(المتن)

قال: وأما تعبده باسمه "الباطن" فأمر يضيق نطاق التعبير عن حقيقته، ويَكِلُّ اللسان عن وصفه، ثم تصطلم الإشارة إليه، وتجفو العبارة عنه، فإنه يستلزم معرفة بريئةً من شوائب التعطيل، مخلصة من فرث التشبيه، منزهة عن رجس الحلول والاتحاد، وعبارة مؤدية للمعنى كاشفة عنه، وذوقًا صحيحًا سليمًا من أذواق أهل الانحراف، فمن رزق هذا فهم معنى اسمه "الباطن"، وصح له التعبد به. وسبحان الله كم زلت في هذا المقام أقدام، وضلت فيه أفهام، وتكلم فيه الزنديق بلسان الصديق.

(الشرح)

الصديق الذي قوى إيمانه وتصديقه، الصديق مرتبته فوق مرتبة الشهيد: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا}[النساء/69]؛ الصديقين جمع صديق، الذي قوَّى إيمانه وتصديقه حتى أحرق الشبهات والشهوات، فلا يصر على معصية، وفي مقدمتهم الصديق الأكبر، مرتبتهم بعد مرتبة الأنبياء، وفوق مرتبة الشهداء.

(المتن)

وتكلم فيه الزنديق بلسان الصديق، واشتبه فيه إخوان النصارى بالحنفاء المخلصين، لنُبُوِّ الأفهام عنه، وعزة تخلص الحق من الباطل فيه، والتباس ما في الذهن بما في الخارج، إلا على من رزقه الله بصيرة في الحق، ونورًا يميز به بين الهدى والضلال، وفرقانًا يفرِّق به بين الحق والباطل، ورُزِق مع ذلك اطلاعًا على أسباب الخطأ وتفرق الطرق ومثار الغلط، وكان له بصيرة في الحق والباطل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

(الشرح)

يعني: هذا خلاصة التعبد لله باسمه الباطن، يقول: (وأما تعبده باسمه "الباطن" فأمر يضيق نطاق التعبير عن حقيقته) يعني: أمر عظيم، ما تأتي عليه العبارة، (ويَكِلُّ اللسان عن وصفه، ثم تصطلم الإشارة إليه) تنتهي، (وتجفو العبارة عنه)؛ لأنه أمر عظيم، الكلام على اسم الله الباطن.

قال: (فإنه يستلزم معرفة) يعني معرفة الله (بريئة من شوائب التعطيل) التعطيل والجحود لأسماء الله وصفاته، (مخلصة من فرث التشبيه) التشبيه: تشبيه الله بخلقه، فيقول: إن التعبد باسم الباطن يستلزم أن تتبرأ من التعطيل، وتتبرأ من التشبيه، فالتعطيل كأنه دم، والتشبيه كأنه فرث، الدابة حينما يكون في بطنها شيء من العلف يسمى فرث، في الدم، فهي تنظفها من الفرث ومن الدم، تكون سليمة.

فالتعبد لله باسمه الباطن (يستلزم معرفة بريئة من شوائب التعطيل، مخلصة من فرث التشبيه، منزهة عن رجس الحلول والاتحاد) تكون بريئًا من التعطيل، تتخلص من التشبيه، وتتنزه عن رجس الحلول والاتحاد، الحلولية يقولون: إن الله حل في كل مكان، والاتحادية يقولون باتحاد المخلوقات.

(وعبارة مؤدية للمعنى كاشفة عنه) ويكون عندك ذوق سليم صحيح، يكون سليمًا يعني خاليًا من أذواق أهل الانحراف، قال: (فمن رزق هذا فهم معنى اسمه "الباطن"، وصح له التعبد به. وسبحان الله كم زلت في هذا المقام أقدام، وضلت فيه أفهام) كم حصل من الزلل والانحراف! (وتكلم فيه الزنديق بلسان الصديق) الزنديق: الملحد، تكلم باسم الصديق؛ بسبب الالتباس، التبس الأمر، تكلم الزنديق بلسان الصديق.

(واشتبه فيه إخوان النصارى بالحنفاء المخلصين، لنُبُوِّ الأفهام عنه)؛ لأن الأفهام نبت يعني زلت، زلت عن معرفة اسم الله الباطن.

(وعزة تخلص الحق من الباطل) يعني ندرة وقلة تخلص الحق من الباطل.

(والتباس ما في الذهن بما في الخارج) بعض الناس يلتبس عليه ما في الذهن بما في الخارج، فيظن أن ما في الذهن هو ما في الخارج، الذهن تصور وخيال، لكن الخارج شيء آخر غير الذي في الذهن، بعض الناس يلتبس عليه الأمر، فلا يفرق بين ما في الذهن والخيال وبين ما هو في الواقع، لكن من رزقه الله البصيرة يميز بين هذا وهذا بالحق، ومن رزقه الله نورًا يميز به بين الهدى والضلال، وأعطاه فرقانًا يفرق به بين الحق والباطل، ثم قال: (رزق مع ذلك اطلاعًا على أسباب الخطأ وتفرق الطرق) فكانت له بصيرة في الحق والباطل، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.

نقف على قوله: وهذه المعرفة والتعبد، لا زال الكلام للمؤلف في نقله عن كتاب (طريق الهجرتين).

وفق الله الجميع لطاعته، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد