شعار الموقع

التوضيح المبين لتوحيد الأنبياء والمرسلين 5

00:00
00:00
تحميل
72

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام عَلَى أشرف الأنبياء والمرسلين, نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين, اللَّهُمَّ اغفر لنا ولشيخنا والسامعين.

(المتن)

قَالَ العلامة ابْنُ سعدي رحمه الله تعالى في كتابه التوضيح المبين:

وهو السميع يسمع ويرى كل ما
 

 

في الكون من سر ومن إعلان
 

ولكل صوت منه سمع حاضر
 

 

فالسر والإعلان مستويان
 

والسمع منه واسع الأصوات لا
 

 

يخفى عليه بعيدها والداني
 

وهو البصير يرى دبيب النملة السـ
 

 

ـوداء تحت الصخر والصوان
 

ويرى مجاري القوت في أعضائها
 

 

ويرى نياط عروقها بعيان
 

ويرى خيانات العيون بلحظها
 

 

ويرى كذاك تقلب الأجفان
 

 

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك عَلَى عبد الله ورسوله نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين؛ أَمَّا بَعْد: ...

فَهَذِهِ الأبيات فِيهَا إثبات اسم السميع لله U وصفة السمع, وَفِيهَا إثبات اسم البصير لله U وصفة البصر, ومن أسماء الله البصير ومن أسماء الله السميع, ويعبد يقال: عبد السميع وعبد البصير.

ويقال: الله تعالى متصف بالسمع ومتصف بالبصر, وسمع الله سبحانه وتعالى نوعان:

النوع الأول: سمع لجميع الأصوات الظاهرة والباطنة والخفية؛ ولهذا قَالَ المؤلف:

وهو السميع يسمع ويرى كل ما
 

 

في الكون من سر ومن إعلان
 

ولكل صوت منه سمع حاضر
 

 

فالسر والإعلان مستويان
 

 

يَعْنِي سبحانه يعلم السر وأخفى.

النوع الثاني: السمع بمعنى الاستجابة, ومنه قول المصلي: سمع الله لمن حمده؛ يَعْنِي استجاب الله لمن حمده, السمع بمعنى الاستجابة, فالله تعالى موصوف بالسمع بنوعيه, وَهُوَ سبحانه يسمع الأصوات الظاهرة والخفية السر والإعلان, وَهُوَ سبحانه وتعالى يستجيب لمن حمده, وجاء في الأحاديث أَيْضًا السمع بمعنى الاستجابة, جاء في أحاديث منه جاء في الآيات الكريمة: {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}[الانشقاق/3-5].

أذنت بمعنى استمعت بمعنى الاستماع, في الحديث: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يجهر بِهِ», ما أذن يَعْنِي ما استمع بمعنى الاستماع.

يَقُولُ المؤلف:

والسمع منه واسع الأصوات لا
 

 

يخفى عليه بعيدها والداني
 

 

يَعْنِي هُوَ سبحانه يسمع الأصوات الخفي والقريب, الداني هُوَ القريب, ثُمَّ ذكر البصر قَالَ:

وهو البصير يرى دبيب النملة السـ
 

 

ـوداء تحت الصخر والصوان
 

 

يرى يَعْنِي بصر سبحانه, دبيب النملة السوداء تَحْتَ الصخر الصوان, الصخور والجبال.

ويرى مجاري القوت في أعضائها
 

 

ويرى نياط عروقها بعيان
 

 

يرى مجاري القوت في أعضاء النملة والنملة صغيرة وَهُوَ سبحانه يرى مجاري القوت في أعضائها, ويرى نياط عروقها, دقيقة نياط عروق النملة؛ يَعْنِي نحن لا نبصر نياط العروق, والله تعالى يبصر نياط عروقها.

ويرى خيانات العيون بلحظها
 

 

ويرى كذاك تقلب الأجفان
 

 

الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؛ يَعْنِي العين إِذَا خانت باللحظ وأشارت إشارةً خفية, الإنسان قَدْ يشير بعينه إشارة خفية وتكون هَذِهِ الإشارة إشارة إِلَى شيء محرم, الإشارة محرمة, كأن يلحظ بإشارته إِلَى ما حرم الله عَلَيْهِ, يفضي إِلَى امرأة أو ما أشبه ذَلِكَ, فالله تعالى يرى خيانة العيون بلحظها.

ويرى تقلب الأجفان سبحانه وتعالى لا يخفى عَلَيْهِ خافية ولا يحجبه شيء من خلقه سبحانه وتعالى.

(المتن)

قال رحمه الله: هَذِهِ الأبيات في شرح هَذَيْنِ الاسمين الكريمين السميع البصير, وكثيرًا ما يقرن الله بينهما؛ كمثل قوله: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}[النساء/134]؛ فَكُلُّ من السمع والبصر محيط بجميع متعلقاته الظاهرة والباطنة, فالسميع هُوَ الَّذِي أحاط سمعه بجميع المسموعات, فَكُلُّ ما في العالم العلوي والسفلي من الأصوات يسمعها سرها وعلانيتها؛ حَتَّى كأنها لديه صوت واحد.

لا تختلط عَلَيْهِ الأصوات ولا تغلطه اللغات, والقريب منها والبعيد والسر والعلانية كلها عنده سواء؛ قَالَ تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}[الرعد/10].

(الشرح)

بخلاف المخلوق؛ المخلوق تختلط عَلَيْهِ الأصوات, وتخلطه اللغات, ولا يستطيع أن يسمع عدد من النَّاس في وقت واحد, إن تكلم اثنان أو ثلاثة أو أربعة أصواتهم مختلطة لا يميز بينهم, ولو كلمني ثلاثة أو أربعة في وقت واحد ما أستطيع, أقول: واحد واحد, يتكلم واحد ثُمَّ أسمع منه.

أَمَّا الله سبحانه وتعالى له الكمال لا تختلط عَلَيْهِ الأصوات, واختلاف اللغات, كم في هَذَا العالم ممن يدعو الله ومن يتضرع إليه ومن يسأله حوائجه في وقت واحد بلغات متعددة.

كما أَنَّهُ سبحانه وتعالى يوم القيامة يحاسبهم في وقت واحد, لا يلهيه شأن عَنْ شأن, ويفرغ منهم سبحانه بقدر منتصف النهار, كما أَنَّهُ يخلقهم في وقت واحد ويرزقهم ويعافيهم يحاسبهم يوم القيامة في وقت واحد, ويحاضر كُلّ واحد منهم محاضرة؛ دون الآخر في وقتٍ واحد, سبحانه وتعالى.

أَمَّا المخلوق ما يستطيع, ما يستطيع أن يكلم اثنين في وقت واحد أو ثلاثة أو أربعة, أو يقضي حاجة أشخاص متعددة في وقتٍ واحد, يقضي حاجة هَذَا ثُمَّ يقضي حاجة هَذَا ثُمَّ يقضي حاجة هَذَا, ما يستطيع أن يقضي حاجتهم في وقت واحد, ولا يستطيع أن يكلمهم في وقتٍ واحد, أو يتفاهم معهم في وقتٍ واحد ما يستطيع؛ لِأَنَّهُ ضعيف.

أَمَّا الله سبحانه فلا يلهيه شأن عَنْ شأن ولا تغالطه اللغات, جميع الخلائق في وقتٍ واحد يوم القيامة يحاسبهم, وَكُلّ واحد يخلو بربه دون الآخر, ويحاسبهم جميعًا في وقتٍ واحد, كما أَنَّهُ يخلقهم ويرزقهم ويعافيهم في وقتٍ واحد, ويفرغ منهم بمقدار منتصف النهار يفرغ الله من حسابهم.

وإذا جاء وقت القيلولة فَإِن أهل الْجَنَّةَ يصلون إِلَى الْجَنَّةَ, يدخلونها يقيلون فِيهَا, قَالَ تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}[الفرقان/24].

سبحانه لا إله إِلَّا هُو, كم لله من مصلي في العالم, والله تعالى يسمع تضرعهم ودعائهم ويستجيب لهم, كم من صائم؟ كم من معتمر؟ كم من داعي؟ كم من متضرع؟ وَهُوَ سبحانه وتعالى يخلق ويرزق ويعافي ويستجيب الدعاء ويرفع ويخفض ويسعد ويشقي ويعز ويذل؛ كُلّ يوم هُوَ في شأن سبحانه وتعالى, لا يلهيه شأن عَنْ شأن سبحانه لا إله إِلَّا هُوَ.

(المتن)

وَقَالَ تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[المجادلة/1].

قَالَت عائشة رضي الله عنها: تبارك الَّذِي وسع سمعه الأصوات, قَدْ جاءت المجادلة تشتكي إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في جانب الحجرة وإنه ليخفى عليَّ بعض كلامها, فأنزل الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[المجادلة/1].

وسمعه تعالى نوعان:

أحدهما: سمعه لجميع الأصوات الظاهرة والخفية, وإحاطته بها إحاطة تامة.

الثاني: سمع الإجابة منه للسائلين والعابدين والمتضرعين, فيجيبهم ويثيبهم, ومنه قول العبد في صلاته: سمع الله لمن حمده؛ أيْ استجاب الله لمن حمده وأثنى عَلَيْهِ وعبده.

ومنه قول إبراهيم عَلَيْهِ السلام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}[إبراهيم/39].

ثُمَّ قَالَ المصنف: وَهُوَ البصير؛ أيْ الَّذِي أحاط بصره بجميع المبصرات في أقطار الأرض والسموات؛ حَتَّى أخفى ما يكون منها, فيرى دبيب النملة السوداء عَلَى الصخرة الصماء في الليلة الظلماء, ويرى جميع أعضائها الظاهرة والباطنة, حَتَّى أَنَّهُ يرى سريان القوت في أعضائها الصغار جدًا.

ويرى سريان الماء في الأشجار وأغصانها وعروقها وجميع النباتات ويرى نياط عروق النملة والبعوضة وأصغر من ذَلِكَ, فتبارك من تنبهر العقول عِنْد التأمل لبعض صفاته المقدسة, وتشهد البصائر كماله وعظمته ولطفه.

وخبرته بالغيب والشهادة والحاضر والغائب والخفي والجلي, ويرى تعالى خيانات العيون بلحظها, أيْ حين يلحظ العبد منظرًا يخفيه على جليسه, والله تعالى يراه في تلك الحالة؛ الَّتِي يحرص عَلَى إخفاء ملاحظته عَنْ كُلّ أحد, ويرى تقلب الأجفان حين يقلبها الناظر من آدمي أو ملك أو جني أو حيوان.

وحين يطبقها ويفتحها, قَالَ تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ}[الشعراء/218].

{وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}[الشعراء/219].

قَالَ تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر/19].

وَقَالَ تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[المجادلة/6]؛ أيْ مطلع ومحيط علمه بجميع المعلومات, وسمعه بجميع المسموعات, وبصره بجميع المرئيات, ما نبصره وما لا نبصره.

(الشرح)

انتهى الكلام عَلَى هَذَيْنِ الاسمين, ينتقل المؤلف إِلَى اسم الله العليم.

(المتن)

وقال رحمنا الله وإياه:

وهو العليم أحاط علما بالذي
 

 

في الكون من سر ومن إعلان
 

وبكل شيء علمه سبحانه
 

 

فهو المحيط وليس ذا نسيان
 

وكذاك يعلم ما يكون غدًا وما
 

 

قد كان والموجود في ذا الآن
 

وكذاك أمر لم يكن لو
 

 

كان كيف يكون ذا إمكان
 

 

(الشرح)

هَذِهِ الأبيات فِيهَا إثبات صفة العلم لله U, إثبات اسم العليم وصفة العلم, وَهُوَ العليم ومن أسماء الله العليم ويعبد له ويقال: عبد العليم، والعليم مشتمل عَلَى صفة العلم, ففيه إثبات صفة العلم لله U؛ لِأَنَّ أسماء الله مشتقة, وليست جامدة.

فَكُلُّ اسم مشتمل عَلَى صفة, فالعليم مشتمل عَلَى صفة العلم, القدير مشتمل عَلَى صفة القدرة, الحليم مشتمل عَلَى صفة الحلم, الحي مشتمل عَلَى صفة الحياة, القيوم مشتمل عَلَى صفة القيومية, الخبير مشتمل عَلَى صفة الخبرة, الله مشتمل عَلَى صفة الألوهية, الرحمن مشتمل عَلَى صفة الرحمة, وهكذا.

لَكِن الصفات ما يشتق منها اسم فلا تشتق من صفة الرضا تقول: اسم الراضي, ولا من صفة الغضب اسم الغاضب, ولا من صفة السخط اسم الساخط, {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ},اسم الكاره لا, ما يشتق من الصفات, وَإِنَّمَا الأسماء مشتملة عَلَى الصفات.

يَقُولُ المؤلف رحمه الله: (وَهُوَ العليم), ثُمَّ فسر العليم فَقَالَ:

وهو العليم أحاط علما بالذي ... في الكون من سر ومن إعلان

علمه أحاط بهذا الكون, الكون العلوي والسفلي, أحاط الله بِهِ علمًا ما كَانَ سرًا وما كَانَ علنًا, أحاط بهَذَا الكون هَذَا العالم العلوي والسفلي الله تعالى أحاط بِهِ علمًا سره وإعلانه.

ثُمَّ قَالَ:

وبكل شيء علمه سبحانه
 

 

فهو المحيط وليس ذا نسيان
 

 

علمه في كُلّ شيء هُوَ سبحانه فوق العرش, وعلمه في كُلّ مكان, كُلّ شيء يعلمه؛ لِأَنَّهُ محيط سبحانه وتعالى بكل شيء محيط.

قَالَ:

وكذاك يعلم ما يكون غدًا وما ... قد كان والموجود في ذا الآن

وكذاك أمر لم يكن لو  ... كان كيف يكون ذا إمكان

هَذِهِ أنواع المعلومات, يعلم ما يكون غدًا, ويعلم ما قَدْ كَانَ في الماضي, ويعلم الموجود الآن, ويعلم ما لَمْ يكن لو كَانَ كيف يكون.

  • كم نوع؟ أربعة:

الأول: يعلم ما يكون غدًا؛ أَمَّا العبد فلا يدري ما يكون غدًا, هَذَا من مفاتيح الغيب الَّتِي لا يعلمها إِلَّا الله, {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}[لقمان/34].

ما تدري إيش يحصلها غدًا؛ لَكِن الله يعلم, (وما قَدْ كَانَ), يعلم ما قَدْ كَانَ في الماضي, في الأزل إِلَى ما لا نهاية؛ لِأَنَّ الله تعالى هُوَ الأول بذاته وأسمائه وصفاته, فَهُوَ سبحانه الأول الَّذِي لا بداية لأوليته في ذاته وأسمائه وصفاته؛ لِأَنَّهُ لو كَانَ له بداية لكان سبق بالعدم؛ إذًا يعلم ما يكون في الأزل بلا بداية.

الثاني: ويعلم الموجود الآن هَذَا الثاني, يعلم الموجود الآن.

الثالث: ويعلم ما لَمْ يكن لو كَانَ كيف يكون, ولهذا قَالَ المؤلف:

وكذاك أمر لم يكن لو
 

 

كان كيف يكون ذا إمكان
 

 

يعلم ما لَمْ يكن لو كَانَ كيف يكون, مثال ذَلِكَ: أن الكفار طلبوا الرجعة إِلَى الدنيا, {أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}[فاطر/37].

الله تعالى أخبر أَنَّهُمْ لا يرجعون, وأخبر عَنْ حالهم لو ردوا, قَالَ: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[الأنعام/28].

هَذَا علم الله بما لَمْ يكن لو كَانَ كيف يكون, وما ردوا؛ لَكِن الله يعلم ماذا يحصل منهم لو ردوا, فهذا علمه بما لَمْ يكن لو كَانَ كيف يكون, ومن ذَلِكَ قول الله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}[الأنفال/23].

لو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم هُوَ ما أسمعهم, لكنه يعلم أَنَّهُمْ ليس فيهم خير, ولو أسمعهم ماذا يحصل؟ لتولوا وهم معرضون.

ومن ذَلِكَ علمه سبحانه وتعالى بحال المنافقين الَّذِينَ تخلفوا عَنْ غزوة تبوك, فَإِن المنافقين تخلفوا عَنْ غزوة تبوك؛ وبين الله تعالى المفاسد الَّتِي تحصل من خروجهم لو خرجوا, هم لَمْ يخرجوا, قَالَ الله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ}, أيْ إِلَى الجهاد {لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}[التوبة/46].

قعدوا ثُمَّ بين سبحانه ماذا يحصل لو خرجوا, هم ما خرجوا, {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا}؛ يَعْنِي شرًا وفسادًا {وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ}؛ يسعون بينكم بالفساد {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}[التوبة/47].

أربع مفاسد تحصل من خروجهم لو خرجوا, فهذا ثبطهم الله, {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}[التوبة/47].

فلهذه المفاسد الأربع الَّتِي يعلمها سبحانه ثبطهم الله, فالله سبحانه وتعالى يعلم ما كَانَ في الماضي, وما يكون في الحاضر وما يكون في المستقبل, وما لَمْ يكن لو كَانَ كيف يكون, يعلم ما كَانَ في الماضي إِلَى ما لا بداية, ويعلم ما يكون في الحاضر, ويعلم ما يكون في المستقبل, ويعلم ما لَمْ يكن لو كَانَ كيف يكون.

سبحانه ولا إله إِلَّا هُوَ, ما هُوَ الشيء الَّذِي يعلمه؟ وكتب هَذَا في اللوح المحفوظ, كتب سبحانه في اللوح المحفوظ ما كَانَ في الماضي وما يكون في الحاضر وما يكون في المستقبل كله مكتوب.

ما الَّذِي علمه؟ وما الَّذِي كتبه؟ كُلّ شيء, يعلم الذوات والصفات والأفعال والحركات والسكنات والسعادة والشقاوة والعز والذل والفقر والغنى والرطب واليابس؛ حَتَّى العجز والكيس, الكيس النشاط والعجز الكسل كله مكتوب.

قَالَ الله تعالى في كتابه العظيم: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ}[الحج/70]؛ وَهُوَ اللوح المحفوظ.

قَالَ تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ}[الحديد/22]؛ ما هُوَ هَذَا الكتاب؟ اللوح المحفوظ.

وَقَالَ تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام/59]؛ ما هُوَ هَذَا الكتاب؟ اللوح المحفوظ.

وَقَالَ سبحانه: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}[يس/12]؛ هُوَ اللوح المحفوظ, وكتب في الذكر كُلّ شيء وَهُوَ اللوح المحفوظ

وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة, وَكَانَ عرشه عَلَى الماء», رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بْنُ عمرو بْنُ العاص رضي الله عنهما.

وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «أول ما خلق الله القلم قَالَ له: اكتب, قَالَ: يا ربي وماذا أكتب؟ قَالَ: اكتب مقادير كُلّ شيء حَتَّى تقوم الساعة, وفي لفظٍ: «فجرى في تلك الساعة بما هُوَ كائن إِلَى يوم القيامة».

والإيمان بالعلم والكتابة لَابُدَّ منه في صحة الإيمان, وهما المرتبتان الأوليان من مراتب الإيمان بالقدر.

  • مراتب الإيمان بالقدر أربع:

الأولى: العلم.

الثانية: الكتابة.

الثالثة: الإرادة والمشيئة.

الرابعة: الخلق والإيجاب.

أَمَّا المرتبتان الأوليان العلم والكتابة فلابد منهما, من لَمْ يؤمن بالعلم والكتابة فَلَيْسَ بمؤمن, والقدرية الأولى الَّذِينَ ظهروا في عصر الصحابة أنكروا العلم والكتابة, وأول من تكلم في القدر معبد الجهني في البصرة, وغيلان الدمشقي, وَكَانُوا يطلبون العلم, فتكلموا ففزع زملاءهم، أنكروا القدر وقالوا: إن الْأَمْرِ مستأنف وجديد, وأن الله لا يعلم الأشياء حَتَّى تقع.

ففزع زملاءهم إِلَى الصحابة, كما في حديث حميد الطويل ويحيى بْنُ يعمر قالا: كان أول من تكلم بالقدر معبد الجهني بالبصرة ففزعوا إلى الصحابة, فذهبنا إِلَى الحج, فَقُلْنَا: لو وفق لنا أحدٌ من أصحاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فسألناه, قَالَ: فوفق لنا عبد الله بْنُ عمر داخل المسجد الحرام, فَقُلْنَا له: أبا عبد الرحمن يَعْنِي نحن من أهل البصرة وإنه ظهر قبلنا أُناسٌ يتقفرون العلم, يَعْنِي يطلبون العلم ويزعمون أن الْأَمْرِ أُنف أيْ مستأنف وجديد, لَمْ يسبق بِهِ علم الله.

فَقَالَ عبد الله بْنُ عمر: إِذَا لقيت هؤلاء فأخبرهم أني برئ منهم وَأَنَّهُمْ برآء مني, وَالَّذِي نفس ابْنُ عمر بيده لو كَانَ لأحد مثل أحدٍ ذهبًا ثُمَّ أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه؛ حَتَّى يؤمن بالقدر, ثُمَّ ساق حديث عمر بْنُ الخطاب في سؤالات جبرائيل للنبي صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ سأله عَنْ الإسلام فأخبره بأركان الإسلام الخمسة, سأله عَنْ الإيمان, قَالَ: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره.

وسأله عَنْ الإحسان ثُمَّ سأله عَنْ الساعة, ثُمَّ سأله عَنْ أشراطها عَنْ أماراتها.

فابن عمر قَالَ: لو أنفق أحدٌ مثل أحد ذهبًا ما قبله الله منه, هَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمْ كفار؛ لِأَنَّ الَّذِي لا تقبل أعماله هُوَ الْكَافِر, قَالَ تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ}[التوبة/54].

 وَهَذَه الطائفة القدرية الأولى انقرضت, وهم الَّذِينَ قَالَ فيهم الشافعي t: ناظروا القدرية بالعلم فَإِن أقروا بِهِ خصموا وإن أنكروا كفروا.

وبقيت الطائفة الثانية المتوسطة الَّذِينَ أثبتوا العلم والكتابة وأنكروا عموم المشيئة وعموم الخلق, فقالوا: إن كُلّ شيء في هَذَا الوجود أراده الله إِلَّا أفعال العباد ما أرادها, وَكُلّ شيء في هَذَا الوجود خلقه الله إِلَّا أفعال العباد ما خلقها, هم الَّذِينَ خلقوها لأنفسهم.

هم الَّذِينَ خلقوها مستقلين وإن كَانَ الله هُوَ الَّذِي خلقهم وخلق قُدْرَهم إِلَّا أَنَّهُمْ هم الَّذِين خلقوا أفعالهم, لشبهة عرضت لهم وَهِيَ أَنَّهُمْ ظنوا أن الله إِذَا قدر المعاصي وعذب عليها صار ظالمًا, فرارًا من ذَلِكَ قَالُوا: إن الله ما قدر المعاصي ولا الطاعات, ولهذا قَالُوا: يَجِبُ عَلَى الله أن يعذب العاصي, وليس له أن يعفوا عنه ولا أن يرحمه؛ لأنت الله توعده والله لا يخلف الميعاد.

كما أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الله عقلاً أن يثيب المطيع, والمطيع يستحق الثواب عَلَى الله كما يستحق الأجير أجرته؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خلق فعله وأوجده, تعالى الله عما يَقُولُونَ.

(المتن)

قال رحمه الله: فهذا تفسير للعلم بأحسن تفسير وأجمعه, فَهُوَ تعالى العليم الَّذِي له علم العام, العام للواجبات والممتنعات والممكنات, فيعلم نفسه الكريمة وصفاته المقدسة, ونعوته العظيمة, وَهِيَ الواجبات الَّتِي لا يمكن إِلَّا وجودها.

(الشرح)

نعم هَذِهِ الواجبات يعلم الواجبات؛ يَعْنِي أن الله تعالى واجب الوجود بذاته, وجوده واجب من ذاته سبحانه لا من غيره, وصفاته المقدسة ونعوته العظيمة واجبة, هَذَا يعلم الوجبات, فَهُوَ سبحانه يعلم نفسه ويعلم صفاته.

(المتن)

قال رحمه الله: ويعلم الممتنعات حال امتناعها ويعلم ما يترتب عَلَى وجودها لو وجدت, كما قَالَ تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الأنبياء/22].

وَقَالَ تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}[المؤمنون/91].

 فهذا ونحوه من ذكره للممتنعات الَّتِي يعلمها وإخباره بما ينشأ عنها لو وجدت عَلَى وجه الفرض والتقدير.

(الشرح)

هَذِهِ الممتنعات, الممتنع أن يكون في السموات وفي الأرض إلهٌ غير الله, هَذَا مستحيل, مَعَ ذَلِكَ يعلم سبحانه يعلم ما يكون, يَعْنِي يعلم المستحيل, المستحيل أن يكون في السموات والأرض إلهٌ غير الله, وَمَعَ ذَلِكَ يعلم سبحانه وتعالى أَنَّهُ لو كَانَ فيهما آلهة غير الله لفسدتا.

ففساد السموات والأرض لازمٌ من تعدد الآلهة, وصلاحهما إِنَّمَا يكون بألوهية الله U, وَكَذَلِكَ {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ}؛ هَذَا مستحيل {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ}؛ لو كَانَ معه إله هَذَا مستحيل أن يكون معه إله, لو كَانَ معه إله لذهب كُلّ إله بما خلق {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ}؛ يَعْنِي لو كَانَ هناك آلهة متعددة فلابد أن يغلب أحدهما الآخر, فَإِن لَمْ يستطع أحدهما أن يغلب الآخر انحاز كُلّ واحد بملكه وسلطانه, كما ينحازون في الدنيا.

أو تكون هَذِهِ الآلهة المتعددة تَحْتَ إله واحد يقهرهم, وانتظام أمر السموات والأرض من أدل دليل عَلَى أن خالقها وإلهها ومعبودها واحد سبحانه وتعالى.

(المتن)

قال رحمه الله: ويعلم تعالى الممكنات وَهِيَ الَّتِي يجوز وجودها وعدمها, ما وجد منها وما لَمْ يوجد ما لَمْ تقتضي الحكمة إيجادها.

(الشرح)

يَعْنِي الممكنات الَّتِي يجوز عليها العدم ويجوز عليها البقاء, مثل الآدميين, الآدمي يجوز وجوده ويجوز عدمه, إِذَا أراد الله إيجاده وجد وإذا أراد الله إعدامه عُدم, مثل البحار والأشجار والأنهار, باقية ببقاء الله.

وإذا أراد الله إعدامها تعدم يوم القيامة إِلَّا من كتب الله لها البقاء, هَذِهِ يقال لها ممكنات, يجوز بقاءها ويجوز عدمها.

والمستحيلات مثل تعدد الآلهة من المستحيل, والممكنات ذات الرب سبحانه, وصفاته ونعوته.

(المتن)

فَهُوَ العليم الَّذِي أحاط علمه بالعالم العلوي والسفلي, بحيث لا يخلو من علمه مكانٌ ولا زمان, ويعلم الغيب والشهادة, والظواهر والبواطن والجلي والخفي, قَالَ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[العنكبوت/62]؛ وفي غيرها.

وَقَالَ تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[الحشر/22].

{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[لقمان/34].

وَقَالَ تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام/59].

وَقَالَ تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}[طه/7].

وَقَالَ تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[التغابن/4].

وَقَالَ تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[هود/5].

وَقَالَ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}[آل عمران/5].

{عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[سبأ/3].

وَقَالَ تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ}[فصلت/47].

(الشرح)

كُلّ هَذِهِ أدلة لإثبات العلم وأن الله يعلم السر والجهر.

(المتن)

إِلَى غير ذَلِكَ من النصوص الدالة عَلَى شمول علم الله لكل شيء, وَأَنَّهُ لا يخفى عَلَيْهِ ظاهر ولا باطن, ولا بعيد ولا قريب, ولا يغفل عنه ولا ينساه, ولا يعرض لعلمه ما يعرض لعلم غيره.

فَإِن علم المخلوق يعرض له عدم الإحاطة, ويعرض له النسيان لما علمه, والله تعالى كما قَالَ المصنف هُوَ المحيط وليس ذا نسيان, كما قَالَ تعالى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى}[طه/52].

وَقَالَ الخضر الَّذِي قَدْ علمه الله من لدنه علمًا كثيرًا وخصه من علم الباطن بما ليس لموسى ولا لغيره, لموسى كليم الرحمن أعلم الخلق عَلَى الإطلاق بَعْدَ محمد وإبراهيم عَلَيْهِمْ السلام, لما لقي الخضر ليتعلم منه مر عَلَى البحر فنقر عصفور من البحر بمنقاره فَقَالَ الخضر لموسى: «ما نقص علمي وعلمك وعلم سائر الخلق من علم الله إِلَّا كما نقص هَذَا العصفور من هَذَا البحر».

(الشرح)

وَهَذَا الحديث متفق عَلَيْهِ من حديث ابْنُ عباس رضي الله عنهما, يَقُولُ: «لما نقر عصفورٌ بمنقاره بماء البحر, قَالَ الخضر لموسى: ما نقص علمي وعلمك وعلم سائر الخلق من علم الله إِلَّا كما نقص هَذَا العصفور من هَذَا البحر».

بحر متلاطم عصفور أخذ بمنقاره هَلْ ينقص؟ ما نسبة هَذِهِ النقرة الَّتِي أخذها بمنقاره من البحر المتلاطم الَّذِي لا نهاية لأطرافه؟!.

أرأيتم كيف نسبة علم الخلائق كلها ومعهم الأنبياء إِلَى علم الله مثل نسبة نقرة العصفور من الماء إلى البحر المتلاطم, البحر المتلاطم لو تقسمه عَلَى نقاط كم يأتي, لا يحاط بِهِ, والآية الأخرى بين الله تعالى أن كلام الله لا ينفذ, لو كَانَ البحر يمده من بعده سبعة أبحر وجعل مداد يكتب بِهِ وجعلت أشجار الدنيا أقلام يكتب بها لنفدت البحار وتكسرت الأقلام وَلَمْ ينفذ كلام الله{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}[الكهف/109]؛ سبحانه لا إله إِلَّا هُوَ.

(المتن)

قال رحمه الله: ولما ذكر المصنف رحمه الله إحاطة علم الله بجميع الأكوان, ذكر إحاطته بجميع الأزمان الحاضرة والماضية والمستقبلة, فَقَالَ: وَهُوَ العليم بما يكون غدًا أيْ المستقبلات, وما قَدْ كَانَ أيْ مضى من جميع الأمور الماضيات والموجود في ذا الآن أيْ الحاضرات كلها, دقيقها وجليلها قَدْ أحاط الله بها علمًا, ولما خلق الله القلم قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة, قَالَ له: «اكتب, قَالَ: ما أكتب, قَالَ: اكتب ما هُوَ كائن إِلَى يوم القيامة», فجرى بما هُوَ كائن إِلَى يوم القيامة, ولهذا يجمع الله كثيرًا بين علمه المحيط وكتابته المحيطة بالأشياء, كما قَالَ تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[الحج/70].

وَقَالَ تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}؛ أيْ من الأمور الماضية {وَمَا خَلْفَهُمْ}؛ أيْ من الأمور المستقبلة {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}[البقرة/255].

وَقَالَ فرعون لموسى: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى(51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى}[طه/51-52].

وحين تستكمل خلقة الآدمي يرسل الله إليه الملك ويأمره بأربع كلمات:

يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد, فما أصاب العبد لَمْ يكن ليخطئه, وما أخطأه لَمْ يكن ليصيبه, جفت الأقلام وطويت الصحف», وإذا مات الخلق وتفرقوا في جهات الأرض وفلوات القفار ولجج البحار وبطون الطيور والسباع وصاروا رفاتًا واضمحلت أوصالهم, وتلاشت أعظامهم فعلم الله محيطٌ, {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ}[ق/4].

فَإِذَا نفخ في السور أرسل الله كُلّ روحٍ إِلَى جسدها الَّذِي كانت تعمره, ثُمَّ يوقفهم عَلَى كُلّ ما عملوا من خير وشر, أحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}[المجادلة/6].

فيعلم مقادير أعمالهم ومقادير ثوابهم ومقادير ثوابها وعقابها, ثُمَّ إِذَا استقر أهل الْجَنَّةَ بالجنة وأهل النَّارِ بالنار, وجرت عَلَيْهِمْ أحكام الجزاء فعلم الله محيطٌ بتفاصيل أحوالهم, وما هم فِيهِ من النعيم والعذاب فتبارك الله رب العالمين, ما أعظمه وأجله وما أوسع صفاته وأكملها وأجلها.

فقول المؤلف:

وكذاك أمر لم يكن لو
 

 

كان كيف يكون ذا إمكان
 

 

أيْ وَكَذَلِكَ يعلم تعالى الأمور؛ الَّتِي لَمْ تكن ولا تكون من الممكنات؛ الَّتِي لَمْ يوجدها الباري ولن يوجدها, يعلم لو وقعت كيف تكون وكيف ينشأ عنها, مثل قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[الأنعام/28].

فردهم لا يكون ولو كَانَ عَلَى الفرض والتقدير لعادوا لما نهوا عنه, فَإِن أخلاقهم الَّتِي اكتسبوا فِيهَا الشر معهم, وَقَدْ عمرهم الله عمرًا, يتذكر فِيهِ من تذكر, وجاءهم النذير, فسؤالهم هَذَا لا محل له, وهم كذبةٌ أَيْضًا في هَذَا السؤال, لَمْ يكن قصدهم إِلَّا دفع العذاب الَّذِي حتم عَلَيْهِمْ.

(الشرح)

يَعْنِي سؤالهم الرجعة إِلَى الدار الدنيا كذبة هم.

(المتن)

فقالوا ما قَالُوا مثل قوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}[الأنعام/111].

وَقَالَ تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا}[الإسراء/95].

ونحو ذَلِكَ من الآيات الَّتِي فِيهَا الإخبار عَنْ أمر لَمْ يكن أَنَّهُ لو كَانَ لكان كذا وكذا.

(الشرح)

نعم وَهَذَا واضح كما سبق أن الله يعلم ما لَمْ يكن لو كَانَ كيف يكون.

(المتن)

قال رحمنا الله وإياه: فصل

وهو الحميد فكل حمد واقع
 

 

أو كان مفروضًا مدى الأزمان
 

ملأ الوجود جميعه ونظيره
 

 

من غير ما عد ولا حسبان
 

هو أهله سبحانه وبحمده
 

 

كل المحامد وصف ذي الإحسان
 

 

(الشرح)

هَذَا الفصل عقده المؤلف رحمه الله في اسم الله الحميد, فالحميد من أسماء الله, كما قَالَ تعالى: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}[هود/73].

فمن أسماء الله الحميد كما أن من أسمائه المجيد, والحميد يشتمل عَلَى صفة الحمد, وَهُوَ متصف بالحمد سبحانه وتعالى, والحمد ذكر المؤلف أَنَّهُ من وجهين:

الأول: من جهة حمد المخلوقات له, ولهذا قَالَ:

ملأ الوجود جميعه ونظيره
 

 

من غير ما عد ولا حسبان
 

 

من جهة حمد المخلوقات له, وذلك أن كُلّ حمد وقع من أهل السموات والأرض الأولين والآخرين في الدنيا والآخرين؛ وَكُلّ حمدٍ لَمْ يقع من الخلق فالله سبحانه وتعالى  يستحقه وأهله.

الثاني: من جهة المحامد والمدائح الجليلة والجميلة هِيَ أوصاف الله, فله كُلّ صفة كمال؛ لِأَنَّ حمد المخلوقات ما وجد منه وما لَمْ يوجد فالله أهله ومستحقه.

ومن جهة أخرى أن المحامد والمدائح والنعوت الجليلة هِيَ أوصاف الله U, فله كُلّ صفة جمال, ولهذا قَالَ المؤلف:

وهو الحميد فكل حمد واقع
 

 

أو كان مفروضًا مدى الأزمان
 

ملأ الوجود جميعه ونظيره
 

 

من غير ما عد ولا حسبان
 

هو أهله سبحانه وبحمده
 

 

كل المحامد وصف ذي الإحسان
 

 

كُلّ حمدٍ واقع أو مفروض سيقع في المستقبل فالله مستحق له, مستحق الحمد, كُلّ حمد موجود وَكُلّ حمد في المستقبل, كُلّ حمد واقع الآن وَكُلّ حمد سيحصل في المستقبل فالله أهله ومستحقه.

والوجه الثاني: أن المحامد والمدائح والنعوت هِيَ وصف الله U, ولهذا قَالَ:( كل المحامد وصف ذي الإحسان), موصوف بجميع المحامد والمدائح والنعوت الجليلة.

(المتن)

قال رحمه الله: عقد المصنف رحمه الله لهذا الاسم المبارك هَذَا الفصل عَلَى حدته, لشدة الاعتناء بِهِ وسعته وعظمته, وذكر أَنَّهُ الحميد من وجهين:

أحدهما: من جهة حمد المخلوقات له, ذَلِكَ أَنَّهُ كُلّ حمدٍ وقع من أهل السموات والأرض الأولين والآخرين, وَكُلّ حمد يقع منهم في الدنيا وفي الآخرة, وَكُلّ حمدٍ لَمْ يقع من الخلق بَلْ كَانَ مفروضًا ومقدرًا؛ حيثما تسلسلت الأزمان وتوالت الأوقات حمدًا يملأ الوجود كله, العالم العلوي والسفلي ويملأ نظير الوجود من غير عدٍ ولا حسبان, فالله سبحانه أهله ومستحقه من وجوه كثيرة.

منها أن الله هُوَ الَّذِي خلقهم ورزقهم وأسدى إليهم النعم الظاهرة والباطنة, الدينية والدنيوية, وصرف عنهم النقم والمكاره, فما للعباد من نعمةٍ إِلَّا منه, ولا يدفع المكروهات إِلَّا هُوَ, فيستحق منهم أن يحمدوه في جميع الأوقات,  ويثنوا عَلَيْهِ ويشكروه بعدد اللحظات.

والوجه الثاني: من جهة أن المحامد والمدائح والنعوت الجميلة الجليلة أوصافٌ لله تعالى, فله كُلّ صفةٍ كمال, وله من تلك الصفة أكملها وأعظمها, فَكُلُّ صفةٍ من صفاته يستحق عليها أكمل الحمد والثناء؛ فكيف بجميع الأوصاف المقدسة؟!.

فله تعالى الحمد لذاته وله الحمد لصفاته؛ لِأَنَّهَا كلها مدائحه وكمالاته, وله الحمد لأفعاله؛ لِأَنَّهَا دائرة بين الفضل والإحسان, وبين العدل والحكمة.

(الشرح)

إذًا الله سبحانه وتعالى هُوَ الحميد من هَذَيْنِ الوجهين, من جهة حمد المخلوقات له في الحاضر وفي المستقبل, الموجود وَالَّذِي سيحصل في المستقبل كله الله تعالى أهله والمستحق له.

الثاني: أن المحامد والمدائح والنعوت الجليلة هِيَ أوصاف الله U.

والنوع الأول قَالَ: أَنَّهُ كُلّ حمدٍ واقعٌ أو كَانَ مفروضًا ملأ الوجود من غير عدٍ هُوَ أهله.

والنوع الثاني قَالَ: كُلّ المحامد وصف إِلَى الإحسان وصف الله.

(المتن)

قَالَ المصنف رحمه الله في كتابه " سفر الهجرتين وباب السعادتين " لما ذكر الحكمة والقدرة.

(الشرح)

المؤلف ينقل من كتب المؤلف, الكافية والشافية تأليف الشيخ ابْنُ القيم وسفر الهجرتين كتاب لابن القيم, فالمؤلف ينقل منه؛ ليفسر كلامه بكلامه, خير ما يفسر كلام إنسان بكلامه هُوَ, ولهذا يضم الكلام بعضه لبعض ويتبين.

فكلام الله يضم بعضه إِلَى بعض, ويفسر كلام الله بكلام الله, فالمجمل في مكان يفصل في مكان آخر, والعام في مكان يخصص في مكان آخر, والمطلق في مكان في موضع يقيد في موضع آخر, وكذا كلام النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يضم بعضه إِلَى بعض يفسر بعضه بعضًا.

وَكَذَلِكَ كلام أهل العلم يضم بعضه إِلَى بعض يفسر بعضه بعضًا, كَذَلِكَ ابْنُ القيم رحمه الله كلامه في كتبه الأخرى يبين كلامه في النونية, فهذا النقل عَنْ كتاب ابْنُ القيم سماه " سفر الهجرتين وباب السعادتين " لما ذكر الحكمة والقدرة ذكر هَذَا الكلام.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: فصل

ويجمع هَذَيْنِ الأصلين العظيمين أصل ثالثا هُوَ عقد نظامها وجامع شملهما وبتحقيقه وإثابته عَلَى وجهه يتم بناء هَذَيْنِ الأصلين, وَهُوَ إثبات الحمد كله لله رب العالمين؛ فَإِنَّهُ المحمود عَلَى ما خلقه وأمر بِهِ ونهى عنه.

فَهُوَ المحمود عَلَى طاعات العباد ومعاصيهم وإيمانهم وكفرهم, وَهُوَ المحمود عَلَى خلق الأبرار والفجار والملائكة والشياطين, وَعَلَى خلق الرسل وأعدائهم, وَهُوَ المحمود عَلَى عدله في أعدائه, كما هُوَ المحمود عَلَى فضله وإنعامه, فَكُلُّ ذرةٍ من ذرات الكون شاهدةٌ بحمده, ولهذا سبح بحمده السموات السبع والأرض ومن فيهن, وإن من شيء إِلَّا يسبح بحمده.

وكما في قول النَّبِيّ r عِنْد الاعتدال من الركوع: ربنا ولك الحمد, ملء السَّمَاءِ وملء الأرض وملء ما بينهما, وملء ما شئت من شيء بَعْد, فله سبحانه الحمد حمدًا يملأ المخلوقات والفضاء الَّذِي بين السَّمَاءِ والأرض, ويملأ ما يقدر بَعْدَ ذَلِكَ مِمَّا يشاء الله أن يملأ بحمده.

  • وذاك يحتمل أمرين:

أحدهما: أن يملأ ما يخلقه الله بَعْدَ السموات والأرض؛ والمعنى أن الحمد ملء ما خلقته وملء ما تخلقه بَعْدَ ذَلِكَ.

(الشرح)

يَعْنِي الله سبحانه وتعالى له الحمد مستحق لجميع أنواع المحامد, الموجودة والمستقبلة, يَقُولُ المؤلف: أن هَذَا يحتمل أمرين:

الْأَمْرِ الأول: المعنى يملأ ما يخلقه الله بَعْدَ السموات والأرض, الله تعالى خلق السموات والأرض وما يخلق بَعْدَ السموات والأرض يملؤه, والمعنى أن الحمد ملء ما خلقته وملء ما تخلقه في المستقبل, وَهَذَا الحمد كله بأنواعه الله تعالى مستحقه وَهُوَ أهله.

(المتن)

قال: والمعنى أن الحمد ملء ما خلقته وملء ما تخلقه بَعْدَ ذَلِكَ.

الثاني: أن يكون المعنى ملء ما شئت من شيء بَعْدَ, يملؤه حمدك, أيْ يقدر مملوءًا بحمدك إن لَمْ يكن موجودًا, وَلَكِن يقال المعنى الأول أولى؛ لِأَنَّ قوله: ما شئت من شيء بَعْد يقتضي أَنَّهُ شيء يشاؤه, وما شاء كَانَ, والمشيئة متعلقة بعينه لا بمجرد ملء الحمد له.

(الشرح)

الأول: المعنى ملء ما شئت من شيء بَعْد يملؤه حمدك, أيْ يقدر مملوء بحمدك, وإن لَمْ يكن موجودًا, وَلَكِن المعنى الأول أولى والمراد الحمد الموجود, أن يملأ ما خلقه الله, ملء السموات والأرض والمعنى أن الحمد ملء ما خلقته وملء ما تخلقه بَعْدَ ذَلِكَ.

(المتن)

قال: والمشيئة متعلقة بعينه لا بمجرد ملء الحمد له فتأمله,  لكنه إِذَا شاء كونه فله الحمد ملئه فالمشيئة راجعة إِلَى المملوء بالحمد؛ فلابد أن يكون شيئًا موجودًا يملؤه حمده, وَأَيْضًا فَإِن قوله: من شيء بَعْد يقتضي أَنَّهُ شيءٌ يشاؤه سبحانه بَعْدَ هَذِهِ المخلوقات, كما يخلقه بَعْدَ ذَلِكَ من مخلوقاته من القيامة وما بعدها, ولو أريد تقدير خلقه لقيل: وملء ما شئت من شيء مَعَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ المقدر يكون مَعَ المحقق.

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمْ يقل ملء ما شئت أن يملؤه الحمد, بَلْ قَالَ: ما شئت, والعبد قَدْ حمد حمدًا أخبر بِهِ وأنشأه, ووصفه بأنه يملأ ما خلقه الرب سبحانه, وما شاء بَعْد ذَلِكَ.

وَأَيْضًا فقوله: وملء ما شئت من شيء بَعْد يقتضي إثبات مشيئة تتعلق بشيء بَعْدَ ذَلِكَ, وَعَلَى الوجه الثاني قَدْ تتعلق المشيئة بملء المقدر, وَأَيْضًا فَإِذَا قِيلَ: ما شئت من شيء بَعْد ذَلِكَ كَانَ الحمد مالئًا لما هُوَ موجود.

(الشرح)

النوع الأول: يكون ملء ما شئت من شيء يملؤه في المستقيل.

النوع الثاني: أن المشيئة تتعلق بملء المقدر ما قدره الله, قوله: ما شئت من شيء بَعْد؛ أيْ بَعْدَ ذَلِكَ, فالحمد مالئًا له.

الحاصل أن الوجه الأول أن يتعلق الحمد بما يكون في المستقبل, والوجه الثاني أن يتعلق بالشيء الموجود.

(المتن)

قال: وَعَلَى الوجه الثاني قَدْ تتعلق المشيئة بملء المقدر, وَأَيْضًا فَإِذَا قِيلَ: ما شئت من شيء بَعْد ذَلِكَ؛ كَانَ الحمد مالئًا لما هُوَ موجود, يشاؤه الرب دائمًا, ولا ريب أَن له الحمد دائمًا في الدنيا والآخرة, وَأَمَّا إِذَا قدر ما يملؤه الحمد وَهُوَ غير موجود فالمقدرات لا حد لها.

(الشرح)

وَأَمَّا إِذَا قدر ما يملؤه الحمد يَعْنِي هَذَا راجع إِلَى المعنى الأول, فالمعنى الأول تتعلق المشيئة بملء المقدر, والمعنى الثاني: تتعلق المشيئة بالحمد الموجود, بما هُوَ موجود.

(المتن)

فالمقدرات لا حد لها, وما من شيء منها إِلَّا يمكن تقدير شيء بعده, وتقدير ما لا نهاية له, كتقدير الأعداد, ولو أريد هَذَا المعنى لَمْ يحتج إِلَى تعليقه بالمشيئة, بَلْ قِيلَ: ملء ما لا يتناهى, فأما ما يشاؤه الرب فلا يكون إِلَّا موجودًا مقدرًا, وإن كَانَ لا آخر لنوع الحوادث أو بقاء ما يبقى منها.

(الشرح)

هَذِهِ مسألة تسلسل الحوادث, لا يكون إِلَّا موجودًا مقدرًا, ما يشاءه الله لا يكون إِلَّا موجودًا مقدرًا, فَإِذَا شاء الله, وما تشاءون إِلَّا أن يشاء الله, فَإِذَا شاء الله إيجاد هَذَا الشيء يقع, شاء الله إزالة هَذَا الشيء يزول, فلا يكون يَعْنِي ما يشاءه الرب سبحانه وتعالى ما يكون إِلَّا موجودًا مقدرًا.

وإن كَانَ لا آخر لنوع الحوادث؛ لِأَنَّ ما شاء الله لا يكون إِلَّا موجودًا مقدرًا, وإن كَانَ لا آخر لنوع الحوادث, أو بقاء ما يبقى منها, يَعْنِي الحوادث الَّتِي تقع على المخلوقات لا آخر لها مستمرة متسلسلة, فلا يزال الله يعطي لأهل الْجَنَّةَ نعيمًا بَعْدَ نعيم إِلَى ما نهاية, كما أن الحوادث المتسلسلة في الماضي, وَهُوَ أن الله تعالى لَمْ يزل خلاق, وَلَمْ يزل يخلق خلقًا بَعْدَ خلق في الماضي من غير بداية؛ لِأَنَّ لو كَانَ له بداية لكان رب معطل من الخلق, معطل من وصف الكمال.

وَلَكِن كُلّ نوعٍ من أنواع الحوادث مسبوق بالعدم كائنًا بَعْدَ أن لَمْ يكن, موجودٌ بَعْدَ أن كَانَ عدمًا ويكفي هَذَا.

أَمَّا القول بإيجاد فترة كما يقوله أهل البدع أن هناك فترة معطل فِيهَا الرب من الفعل والخلق؛ فهذا باطل, أهل البدع يَقُولُونَ: إن الحوادث غير متسلسلة في الماضي, وأن هناك فترة كَانَ الرب معطلاً فِيهَا عَنْ الفعل وَعَنْ الكلام, قَالُوا: ما يستطيع, أعوذ بالله.

ثُمَّ انقلب فجأةً فصار ممكنًا بَعْدَ أن لَمْ يكن ممكنًا, كيف انقلب فجأة؟ ما سبب هَذَا الانقلاب؟ وما من وقتٍ يقدر إِلَّا والإمكان حادث ممكن قبله, يَقُولُ: الإمكان حصل كَانَ الكلام والفعل ممتنع عَلَى الله ثُمَّ انقلب فجأة فصار ممكنًا, متى؟ ومتى بدايته؟ وما من وقتٍ يقدر إِلَّا والإمكان ثبت قبله, فهذا باطل.

(المتن)

وإن كَانَ لا آخر في نوع الحوادث أو بقاء ما يبقى منها, فهذا كله مِمَّا يشاؤه بعده, وَأَيْضًا فالحمد هُوَ الإخبار بمحاسن المحمود عَلَى وجه الحب له, ومحاسن المحمود تعالى إِمَّا قائمةٌ بذاته وَإِمَّا ظاهرةٌ بمخلوقاته.

فأما المعدوم المحض الَّذِي لَمْ يُخلق ولا خُلق قط فذاك ليس فِيهِ محاسن ولا غيرها, فلا محامد فِيهِ البتة, فالحمد لله الَّذِي يملأ المخلوقات.

(الشرح)

المعدوم المحض الَّذِي لو خلق ما في محاسن معدوم لا محامد فِيهِ, إِنَّمَا المحامد في الموجود, وَكَذَلِكَ ما يقدر وجوده في المستقبل.

(المتن)

قال رحمنا الله وإياه: ومحاسن المحمود تعالى إِمَّا قائمة بذاته وَإِمَّا ظاهرةٌ بمخلوقاته, فأما المعدوم المحض الَّذِي لَمْ يخلق ولا خلق قط فذاك ليس فِيهِ محاسن ولا غيرها, فلا محامد فِيهِ البتة, فالحمد لله الَّذِي يملأ المخلوقات ما وجد منها ويوجد, هُوَ حمد يتضمن الثناء عَلَيْهِ بكماله القائم بذاته, والمحاسن الظاهرة في مخلوقاته, وَأَمَّا ما لا وجود له فلا محامد فِيهِ ولا مذام, فجَعل الحمد مالئًا له.

(الشرح)

جعله مالئًا لما لا حقيقة له.

(المتن)

فجعل الحمد مالئًا له جعله مالئًا لما لا حقيقة له, وَقَدْ اختلف النَّاس في معنى كون حمده يملأ السموات والأرض وما بينهما, فقالت طائفة عَلَى وجه التمثيل: أيْ لو كَانَ أجسامًا لملأ السموات والأرض وما بينهما.

(الشرح)

هَذَا قول طائفة عَلَى جهة التنزيه, قَالُوا: لو كانت أجسامًا لملئت السموات والأرض, قَالُوا: فَإِن الحمد من قبيل المعاني والأعراض الَّتِي تملأ بها الأجسام ولا تملأ الأجسام إِلَّا بالأجسام هَذِهِ صفاتهم.

(المتن)

  فقالت طائفة عَلَى وجه التمثيل: أيْ ولا لكان أجسامًا لملأ السموات والأرض وما بينهما, قَالُوا: فَإِن الحمد من قبيل المعاني والأعراض الَّتِي لا تملأ بها الأجسام, ولا تملأ الأجسام إِلَّا بالأجسام.

والصواب أَنَّهُ لا يحتاج إِلَى هَذَا التكلف البارد, فَإِن ملء كُلّ شيء يكون بحسب المالئ والمملوء, فَإِذَا قِيلَ: امتلأ الإناء ماءً وامتلأت الجفنة طعامًا فهذا الامتلاء نوع.

وإذا قِيلَ: امتلأت الدار رجالًا وامتلأت المدينة خيالًا ورجالًا فهذا نوع آخر, وإذا قِيلَ: امتلأ الكتاب سطورًا فهذا نوعٌ آخر.

وإذا قِيلَ: امتلأ مسامع النَّاس حمدًا وذمًا لفلان فهذا نوع آخر, كما في أثر معروف, أهل الْجَنَّةَ من امتلأت مسامعه من ثناء النَّاس عَلَيْهِ, وأهل النَّار من امتلأت مسامعه من ذم النَّاس له.

(الشرح)

يَعْنِي المؤلف رحمه الله يَقُولُ: النَّاس اختلفوا بمعنى كون الحمد هِيَ ملء السموات والأرض, قالت طائفة هَذَا عَلَى جهة التمثيل, بمعنى أَنَّهُ لو كَانَ أجسامًا لملئت السموات والأرض.

قَالُوا: الحمد من قبيل المعاني معنى ما هُوَ أجسام, فقوله: ملء السموات والأرض يَعْنِي لو كَانَ أجسامًا لملئت السموات والأرض.

المؤلف يَقُولُ: هَذَا التأويل ليس بصحيح, لا يحتاج إِلَى هَذَا التكلف, وأن ملء الشيء يكون في كُلّ شيء بحسبه, كُلّ شيء يكون بحسبه, فَإِذَا كَانَ الْأَمْرِ حسي معناه امتلأ حسي, عَلَى حسب المالئ والمملوء.

فَإِذَا قِيلَ: امتلأ الإناء ماءً معناه امتلاء حسي, امتلأ الجفنة طعامًا هَذَا نوع, وإذا قِيلَ: امتلأت الدار رجالًا المراد بِهِ الكثرة, وامتلأت المدينة بخيل ورجال هَذَا نوع آخر, وإذا قِيلَ: امتلأ الكتاب سطورًا فهذا نوع آخر.

يغني لو كتم وامتنع عَنْ الكتابة وَقِيلَ: امتلأت مسامع النَّاس حمدًا وذمًا لفلان, فهذا نوع آخر, هم يذكرون أحاديث «أهل الْجَنَّةَ من امتلأت مسامعه من ثناء النَّاس عَلَيْهِ, وأهل النَّار من امتلأت مسامعه من ذم النَّاس له».

(المتن)

قال رحمنا الله وإياه: وَقَالَ عمر بْنُ الخطاب في عبد الله بْنُ مسعود رضي الله عنهم: كنيفٌ ملء علمًا, ويقال: فلان علمه قَدْ ملأ الدنيا, وَكَانَ يقال: ملء ابْنُ أبي الدنيا ؛ الدنيا علمًا, ويقال: صيت فلان قَدْ ملأ الدنيا وضيق الآفاق, وحبه قَدْ ملأ القلوب وبغض فلان قَدْ ملأ القلوب, وامتلأ قلبه رعبًا, وَهَذَا أكثر من أن يستوعب.

(الشرح)

يَعْنِي الامتلاء يكون كُلّ شيء بحسبه, إِذَا كَانَ حسي بمعنى (....) وإذا كَانَ معنوي كذا كُلّ ابتلاء بحسبه, ولهذا قَالَ عمر بْنُ الخطاب في عبد الله بْنُ مسعود: كنيف ملأ علمًا, كيف ملأ علمًا؟ هَلْ العلم يملأ؟ نعم كل شيء بحسبه.

فَإِذَا كَانَ الشيء أجسامًا فامتلاءه معناه يوضع هَذَا الشيء ويمتلأ المكان, وإذا كمان الشيء معنوي فالامتلاء بحسب (....) عبد الله بن مسعود كنيف ملأ علمًا, المعنى أن الله أعطاه العلم عنده علم غزير, وَهُوَ يقال: فلانٌ ملأ الدنيا, هَذَا امتداد بحسبه, كونه ملأ عملًا هَذَا امتلاء معنوي, فلان ملأ الدنيا علمًا هَذَا أمر ليس محسوس, وَكَانَ يقال: ملأ ابْنُ أبي الدنيا علمًا الدنيا علمًا.

ويقال: صيت فلان قَدْ ملأ الدنيا وضيق الآفاق, وحبه قَدْ ملأ القلوب وبغض فلان قَدْ ملأ القلوب, هَذَا الابتلاء كُلّ شيء بحسبه, إن كَانَ أمر حسي توضع أجسام فِيهِ فيمتلأ كالماء وغيره, وإن كَانَ الْأَمْرِ معنوي المراد أن الله أعطاه علمًا غزيرًا.

(المتن)

قال: وَهَذَا أكثر من أن يستوعب شواهده وَهُوَ حقيقة في بابه, وجعل الملء والامتلاء حقيقةٌ للأجسام خاصةٌ تحكم باطل ودعوة لا دليل عليها البتة, والأصل الحقيقة الواحدة, والاشتراك المعنوي هُوَ الغالب عَلَى اللغة والأفهام والاستعمال, فالمصير إليه أولى من المجاز والاشتراك, وليس هَذَا موضع تقرير المسألة.

(الشرح)

المؤلف يبين أن امتلاء كُلّ شيء بحسبه, وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ محسوسًا امتلأ بالأمور المحسوسة, وإذا كَانَ معنويًا المراد أن الله أعطاه هَذَا الْأَمْرِ المعنوي, أعطاه الحلم أعطاه العلم, وَقَالَ: إِذَا كَانَ الْأَمْرِ حسي فيكون حقيقة في بابه, وجعلوا الملأ والامتلاء حقيقة للأجسام خاصة تحكم باطل, يَعْنِي يَقُولُ: الامتلاء ما هُوَ خاص بالأجسام, اللي يَقُولُ الامتلاء لا يكون إِلَّا للأجسام ليس بصحيح, بَلْ الامتلاء يكون للأجسام ويكون لغير الأجسام, ولهذا قَالَ المؤلف رحمه الله: (جعل الملء والامتلاء حقيقة للأجسام الخاصة تحكمٌ باطل), بَلْ الامتلاء يكون للأجسام ولغير الأجسام, وَهِيَ دعوى لا دليل عَلَيْهِا.

قَالَ: (والأصل الحقيقة الواحدة, والاشتراك المعنوي هُوَ الغالب عَلَى اللغة والأفهام والاستعمال).

يَعْنِي الاشتراك المعنوي هُوَ أن يكون المعنى يدخل تحته أنواع, فيكون دعوة أن الامتلاء خاص بالأجسام لا دليل عَلَيْهِا, والأصل الحقيقة, والاشتراك المعنوي يَقُولُ: هُوَ الغالب عَلَى اللغة والأفهام والاستعمال.

قَالَ: (فالمصير إليه أولى من المجاز والاشتراك, وليس هَذَا موضع تقرير المسألة), المعنى أن الامتلاء يكون حسًا ومعنى, فحسًا للأجسام ومعنًى هَذَا ما يقتضيه السياق.

(المتن)

قال عفا الله عنه: والمقصود أن الرب أسماؤه كلها حسنى, ليس فِيهَا اسم سوء, وأوصافه كلها كمال, ليس فِيهَا صفة نقص, وأفعاله كلها حكمة ليس فِيهَا فعلٌ خالٍ عَنْ الحكمة والمصلحة.

(الشرح)

الخلاصة يَقُولُ: (والمقصود أن الرب أسماؤه كلها حسنى, ليس فِيهَا اسم سوء, وأوصافه كلها كمال, ليس فِيهَا صفة نقص), وله المثل الأعلى يَعْنِي الوصف الكامل, الرب سبحانه أسماؤه كله حسنى ليس فِيهَا اسم سيء وأوصافه كلها كمال ليس فِيهَا صفة نقص, وأفعاله كلها حكمة ليس فِيهَا فعلٌ خالٍ عَنْ الحكمة والمصلحة.

 هَذِهِ الخلاصة, الخلاصة: أن أسماء الرب كلها حسنى ليس فِيهَا اسم سوء, وأن أوصافه كلها كمال ليس فِيهَا صفة نقص, وأن أفعاله كلها حكمة ليس فِيهَا فعل خارج عَنْ الحكمة والمصلحة, وله المثل الأعلى يَعْنِي الوصف الكامل, في السموات والأرض.

(المتن)

والمقصود أن الرب أسماؤه كلها حسنى ليس فِيهَا اسم سوء, وأوصافه كلها كمال ليس فِيهَا صفة نقص, وأفعاله كلها حكمة ليس فِيهَا فعل خالٍ عَنْ الحكمة والمصلحة, {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الروم/27].

موصوف بصفة الكمال منعوت بنعوت الجلال, منزه عَنْ الشبيه والمثال, ومنزه عما يضاد صفات كماله, فمنزه عَنْ الموت المضاد للحياة وَعَنْ السنة والنوم والسهو والغفلة المضادة للقيومية, وموصوف بالعلم ومنزه عَنْ أضداده كلها؛ من النسيان والذهول وعزوب شيء عَنْ علمه.

(الشرح)

منزه عَنْ النسيان والذهول والعزب هَذَا تعرض للمخلوق.

(المتن)

موصوف بالقدرة التامة منزه عَنْ ضدها من العجز واللغوب والإعياء, موصوف بالعدل منزه عَنْ الظلم, موصوف بالحكمة منزه عَنْ العبث.

(الشرح)

المعنى أَنَّهُ ينفى أضدادها, صفات الكمال تنفى أضدادها.

(المتن)

موصوف بالسمع والبصر منزه عَنْ أضدادها من الصنم والبكم, موصوف بالعلو والفوقية منزهٌ عَنْ أضداد ذَلِكَ, موصوف بالغنى التام منزهٌ عما يضاده بوجه من الوجوه ومستحق للحمد كله, فيستحيل أن يكون غير محمود, كما يستحيل أن يكون غير قادرٍ ولا خالق ولا حي, وله الحمد كله, واجبٌ لذاته فلا يكون إِلَّا محمودًا كما لا يكون إِلَّا إلهًا وربًا وقادرًا.

فَإِذَا قِيلَ: الحمد كله لله.

(الشرح)

نعم الله سبحانه وتعالى مستحق للحمد كله, يستحيل أن يكون غير محمود, كما أَنَّهُ يستحيل أن يكون غير قادر ولا خالق ولا حي, فَكَذَلِكَ يستحيل أن يكون غير مستحق للحمد.

الحمد واجب لله فيستحل أن يكون غير محمود, كما أَنَّهُ يستحيل أن يكون غير قادر, ويستحيل أن يكون غير خالق, ويستحيل أن يكون غير حي, فَكَذَلِكَ يستحيل أن يكون غير محمود.

والحمد واجبٌ لذاته سبحانه, فلا يكون إِلَّا محمودًا, كما لا يكون إِلَّا إلهًا وربًا وقادرًا, وصفاته سبحانه كلها كمال منزهٌ عَنْ أضدادها, فالله تعالى من صفاته السمع منزه عَنْ ضدها وَهِيَ الصمم, وَهُوَ موصف بالبصر منزه عَنْ ضدها وَهِيَ العمى, موصوف بالقدرة منزه عَنْ ضدها وَهِيَ العجز, موصوف بالحياة منزه عَنْ ضدها وَهُوَ الموت, موصوف بالعلم منزه عَنْ ضدها وَهِيَ الجهل, وهكذا جميع الصفات.

(المتن)

قال: فَإِذَا قِيلَ: الحمد كله لله فهنا له معنيان: أحدهما: أَنَّهُ محمود عَلَى كُلّ شيء, وبكل ما يحمد بِهِ المحمود التام, وإن كَانَ بعض خلقه يحمد إذًا, كما يحمد أنبياءه ورسله وأتباعهم, فذاك من حمده تبارك وتعالى بَلْ هُوَ المحمود بالقصد الأول بالذات, وما نالوه من الحمد فإنما نالوه بحمده, فَهُوَ المحمود أولًا وآخرًا, وظاهرًا وباطنًا, وَهَذَا كما أَنَّهُ بكل شيء عليم قَدْ علم غيره من علمه ما لَمْ يكن يعلمه بدون تعليمه, وفي الدعاء المأثور: «اللَّهُمَّ لك الحمد كله ولك الملك كله, وبيدك الخير كله, وإليك يرجع الْأَمْرِ كله, أسألك من الخير كله وأعوذ بك من الشر كله».

(الشرح)

وَهَذَا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده عَنْ حذيفة بْنُ اليمان.

(المتن)

وَهُوَ سبحانه له الملك وَقَدْ آتى من المملكة بعض خلقه, وله الحمد وَقَدْ آتى من الحمد ما شاء.

(الشرح)

يَعْنِي يعطي, الله سبحانه وتعالى له الملك ويعطي الملك بعض خلقه, هؤلاء الملوك من الَّذِي أعطاهم الملك؟ الله, كما قَالَ تعالى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ}[آل عمران/26].

فالله تعالى له الملك ويؤتي من المملكة بعض خلقه, يعطي بعضها شيء يسير, الملوك الآن هَلْ ملكوا كُلّ شيء؟ لا, الملك متعدد وكلٌ له ملكٌ خاص ومملكته الخاصة, وَأَيْضًا لا يملك كُلّ شيء, عنده ضعف ونقص, الملك والرئيس عنده ضعف في بدنه وفي حاجته إِلَى غيره, فَهُوَ سبحانه له الملك ويؤتي من مملكته بعض خلقه شيئًا, وله الحمد ويؤتي من الحمد ما شاء, فيعطي من الحمد ما شاء فيحمد, فلذلك نَبِيّنَا صلى الله عليه وسلم يُحمد أعطاه من الحمد, آتاه من الحمد ما شاء, وَالْمُؤْمِنِينَ يحمدون؛ لِأَنَّ الله أعطاهم وهكذا, أعطاهم الله شيء وإلا الحمد كله لله.

وَهُوَ سبحانه له الملك وَقَدْ آتى, آتى يَعْنِي غيره من المملكة, وله الحمد وَقَدْ آتى.

(المتن)

قال: وَهُوَ سبحانه له الملك وَقَدْ آتى من المملكة بعض خلقه, وله الحمد وَقَدْ آتى من الحمد ما شاء, كما أن ملك المخلوق داخل في ملكه, فحمده أَيْضًا داخل في حمده, فما من محمود يحمد عَلَى شيء مِمَّا دق أو جل إِلَّا والله المحمود عَلَيْهِ بالذات والأولوية أَيْضًا.

وإذا قَالَ: اللَّهُمَّ لك الحمد, فالمراد بِهِ أنت المستحق لكل حمد, ليس المراد بِهِ الحمد الخارجي فقط.

والمعنى الثاني أن يقال: لك الحمد كله, أيْ الحمد التام الكامل, فهذا مختص بالله ليس لغيره فِيهِ شركة, والتحقيق أن له الحمد بالمعنيين جمعيًا.

فله عموم الحمد وكماله وَهَذَا من خصائصه سبحانه, فَهُوَ المحمود عَلَى كُلّ حال, وَعَلَى كُلّ شيء أكمل حمدٍ وأعظمه, كما أن له الملك التام والعام, فلا يملك كُلّ شيء إِلَّا هُوَ, وليس الملك التام الكامل إِلَّا له.

وأتباع الرسل يثبتون له كمال الملك وكمال الحمد, فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ خالق كُلّ شيء وربه ومليكه, لا يخرج عَنْ خلقه وقدرته ومشيئته شيءٌ البتة, فله الملك كله.

(الشرح)

نعم له الملك التام وله سبحانه وتعالى عموم خلقه وكماله, وَهَذَا من خصائصه وهُوَ المحمود عَلَى كُلّ حال, وَعَلَى كُلّ شيء أكمل الحمد وأعظمه, كما أن له الملك التام فلا يملك كُلّ شيء إِلَّا هُوَ, وليس الملك التام الكامل إِلَّا له, وَأَمَّا غيره فَإِن الله يعطي غيره من الحمد ولهذا حُمد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ محمد, وحمد الْمُؤْمِنِينَ هَذَا شيء أعطاهم الله, والحمد التام له.

كما أن الله أعطى الملك بعض خلقه, أعطاهم شيئا والملك التام لله U؛ لِأَنَّهُ خالق كُلّ شيء وربه ومليكه, ولا يخرج عَنْ خلقه وقدرته ومشيئته شيءٌ البتة فله الملك كله.

(المتن)

قال: إِلَى أن قَالَ: فصل والمقصود بيان شمول حمده سبحانه وحكمته لكل ما يحدثه من إحسان ونعمة وامتحان وبلية, وما يقتضيه من طاعة ومعصية, والله تعالى محمود عَلَى ذَلِكَ مشكور حمد المدح وحمد الشكر.

(الشرح)

إِذًا المقصود شمول الحمد, شمول حمد الله سبحانه وشمول حكمته, فله سبحانه الحمد الشامل وله الحكمة لكل ما يحدث من إحسان ونعمة وامتحان وبلية, كُلّ شيء يحدثه الله سواء إحسان أو نعمة أو بلية فالله تعالى له الحكمة في ذَلِكَ.

ما يقضيه من طاعة ومعصية له الحكمة عَلَى ذَلِكَ, المعاصي الَّتِي قدرها الله لها حكم وأسرار, خلق إبليس له حكم وأسرار, لولا خلق إبليس ما وجدت المعاصي ولا الكفر؛ وَلَكِن الله خلقه لحكمة حَتَّى توجد المعاصي, والمعاصي الآن خلقها الله وأوجدها, فالله أراد وجودها لا لذاتها؛ بَلْ لشيء آخر, فالأشياء الَّتِي يريد الله إيجاده قَدْ يكون مراد بذاته هُوَ كالطاعة, وَقَدْ يراد لما يكون في شيء آخر في المعاصي والكفر, أراد الله إيجادها لحكم, من هَذِهِ الحكم حصول العبودية المتنوعة, لولا خلق إبليس ووجدت المعاصي والكفر لما عرف فضل الإيمان, ولما وجدت العبودية المتنوعة, عبودية التوبة, لو كَانَ ما في معاصي أين عبودية التوبة؟ أين عبودية الولاء والبراء؟ أين عبودية الجهاد في سبيل الله؟ أين عبودية الْأَمْرِ بالمعروف والنهي عَنْ المنكر؟ أين عبودية الحب في الله والبغض في الله؟ كُلّ هَذِهِ العبوديات الَّتِي يحبها الله مترتبة عَلَى خلق المعاصي والكفر.

(المتن)

قال: والمقصود بيان شمول حمده سبحانه وحكمته؛ لكل ما يحدثه من إحسان ونعمة وامتحان وبلية, وما يقتضيه من طاعة ومعصية, والله تعالى محمود عَلَى ذَلِكَ مشكور, حمد المدح وحمد الشكر.

أَمَّا حمد المدح فالله محمودٌ عل كُلّ ما خلق إذ هُوَ رب العالمين, فالحمد لله رب العالمين.

وَأَمَّا حمد الشكر فلأن ذَلِكَ كله نعمةٌ في حَقّ الْمُؤْمِن إِذَا اقترن بواجبه, والإحسان والنعمة إِذَا اقترنت بالشكر صارت نعمة, والامتحان والبلية إِذَا اقترنا بالصبر كَانَ نعمة, والطاعة من أجل نعمه.

وَأَمَّا المعصية فَإِذَا اقترنت بواجبها من التوبة والاستغفار والإنابة والذل والخضوع فقد ترتب عليها من الآثار المحمودة والغايات المطلوبة ما هُوَ نعمةٌ أَيْضًا, وإن كَانَ سببها مسخوطًا مبغوضًا للرب سبحانه, ولكنه يحب ما يترتب عَلَيْهِ من التوبة والاستغفار, إِلَى أن قَالَ: والمقصود أن الملك والحمد في حقه متلازمان, فكلما شمله ملكه وقدرته شمله حمده.

(الشرح)

يَعْنِي الملك والحمد متلازمان, كُلّ ما ملكه الله يشمله حمده, فَهُوَ محمود في ملكه سبحانه وتعالى, كُلّ ما شمله الملك يشمله الحمد, فَهُوَ محمود عَلَى كُلّ شيء سبحانه.

(المتن)

قال رحمنا الله وإياه: إِلَى أن قَالَ: والمقصود أن الملك والحمد في حقه متلازمان, فكلما شمله ملكه وقدرته شمله حمده, فَهُوَ محمود في ملكه, وله الملك والقدرة مَعَ حمده, فكما يستحيل خروج شيء من الموجودات عَنْ ملكه وقدرته يستحيل خروجها عَنْ حمده وحكمته, ولهذا يحمد سبحانه نفسه عِنْد خلقه وأمره.

إذ ينبه عباده عَلَى أن مصدر خلقه وأمره عَنْ حمده, فَهُوَ محمودٌ عَلَى ما خلقه وأمر بِهِ حمد شكر وعبودية, وحمد ثناء ومدح, ويجمعها التبارك, فتبارك الله يشمل ذَلِكَ كله, ولهذا ذكر هَذِهِ الكلمة عقيب قوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف/54].

(الشرح)

تبارك يشمل الْأَمْرِ والخلق فَهُوَ محمود عَلَى ما خلقه ومحمود عَلَى ما أمر بِهِ, ويجمعها التبارك, ولهذا قَالَ: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}؛ ثُمَّ قَالَ: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف/54].

(المتن)

قال: فالحمد أوسع الصفات وأعم المدائح والطرق إِلَى العلم بِهِ في غاية الكثرة والسبيل إِلَى اعتباره في ذرات العالم وجزئياته, وتفاصيل الْأَمْرِ والنهي واسعةٌ جدًا؛ لِأَنَّ جميع أسمائه تبارك وتعالى حمد, وصفاته حمد, وأفعاله حمد وأحكامه حمد وعدله حمد وانتقامه من أعدائه حمد, وفضله وإحسانه إِلَى أولياءه حمد, والخلق وَالْأَمْرِ إِنَّمَا قاما بأمره بحمده, ووجد بحمده وظهر بحمده, وَكَانَ الغاية هِيَ حمده.

فحمده سبب ذَلِكَ وغايته ومظهره وحامله, فحمده روح كُلّ شيء وقيام كُلّ شيء بحمده, وسريان حمده في الموجودات وظهور آثاره فِيهِ أمرٌ مشهود بالأبصار والبصائر, ثُمَّ ذكر الطرق الدالة عَلَى سريان حمده وشموله بتدبر أسمائه وصفاته وأفعاله ونعمه.

وأطال في ذَلِكَ جزاه الله عَنْ الإسلام وَالْمُسْلِمِين خيرًا.

(الشرح)

كلام عظيم, تأمل الملك والحمد متلازمة, كُلّ شيء ملكه وَكُلّ شيء محمود عَلَيْهِ, محمود عَلَى كُلّ شيء, أهل النَّارِ إِذَا دخلوا النَّارِ اعترفوا بذنوبهم, {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك/11].

فحمدوا لله واعترفوا بأنهم مستحقون للعذاب, وأن ذواتهم فاسدة, وَأَنَّهُمْ عصوا عَلَى بصيرة, وأن الله محمود عَلَى تعذيبهم والانتقام منهم؛ لِأَنَّ ذواتهم فاسدة لَمْ تعمل بطاعة الله وَقَدْ خلقها وأوجدها وأعطاها الأدوات والأسباب.

فَهُوَ محمود سبحانه وتعالى يحمده أهل الْجَنَّةَ ويحمده أهل النَّارِ, فَهُوَ محمود عَلَى آلائه ونعمه وَهُوَ محمود عَلَى ملكه, وَهُوَ محمود عَلَى ما خلقه وقدره, وَهُوَ محمود عَلَى ما أمر بِهِ ونهى عنه سبحانه لا إله إِلَّا فله الحمد عَلَى كُلّ حال, الحمد لله عَلَى كُلّ حال, والحمد لله الَّذِي لا يحمد عَلَى مكروه سواه, فهذا اسم الله الحميد رأيتم الأسرار العظيمة في اسم الحمد وصفات الحمد؟ كلام عظيم, كلام المؤلف رحمه الله في النونية وفي " طريق الهجرتين وباب السعادتين " .

لعل نقف عَلَى هَذَا إن شاء الله, يكون الموقف إن شاء الله فصل وَهُوَ المكلم عبده, تكون إن شاء الله في الدورة الآتية إن شاء الله, مبدأنا هَذَا الفاصل, وَهُوَ المكلم عبده موسى, صفة الكلام وما فِيهَا من المعاني والأحكام, ونسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح.

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد