شعار الموقع

التوضيح المبين لتوحيد الأنبياء والمرسلين 6

00:00
00:00
تحميل
68

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, والعاقبة للمتقين ولا عدوان إِلَّا عَلَى الظالمين, وَأَشْهَدُ ألا إله إِلَّا الله وحده لا شَرِيك له, إله الأولين والآخرين وَأَشْهَدُ أن سيدنا وَنَبِيّنَا محمدًا عبد الله ورسوله, خاتم الأنبياء والمرسلين ورسول رب العالمين, صلى الله وبارك عَلَيْهِ وَعَلَى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إِلَى يوم الدين؛ أَمَّا بَعْد: ...

فَإِني أحمد الله إليكم وأثني عَلَيْهِ الخير كله وأسأله المزيد من فضله, وأسأله سبحانه أن يصلح قلوبنا وأعمالنا ونياتنا وذرياتنا, كما أسأله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا هَذَا اجتماعًا مرحومًا, وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقًا معصومًا وألا يجعل فينا ولا مِنَّا شقيًا ولا محرومًا.

كما أسأله سبحانه أن يجعل جمعنا هَذَا جمع خير وعلم ورحمة تنزل عَلَيْهِ السكينة وتغشاه الرحمة وتحفه الملائكة ويذكره الله فيمن عنده.

فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إِلَّا نزلت عَلَيْهِمْ السكينة وغشيتهم الرحمن وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده».

نحمد الله سبحانه وتعالى أن أعادنا إِلَى مجالس الذكر وحلق التعليم, ونسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في العمل وَالصِّدْق في القول.

أَيُّهَا الإخوان لاشك أن تعلم العلم وتعليمه من أجل القربات وأفضل الطاعات, والقربة والطاعة الَّتِي يتقرب بها اَلْمُسْلِم إِلَى ربه عز وجل؛ لَابُدَّ فِيهَا من الإخلاص وإصلاح النية وحسن القصد؛ لَابُدَّ أن تكون العبادة خالصة لله مرادًا بها وجه الله والدار الآخرة, هَذَا شرط أساسي لصحة العبادة.

لا تكون العبادة نافعة ولا مقبولة عِنْد الله إِلَّا إِذَا كانت خالصة مرادًا بها وجه الله والدار الآخرة, قَالَ تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينة/5].

الْأَمْرِ الثاني: أن تكون هَذِهِ العبادة موافقة لشرع الله, وصوابًا عَلَى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, قَالَ تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[الكهف/110].

قَالَ تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}[لقمان/22].

وإسلام الوجه هُوَ إخلاص الوجه لله, والإحسان هُوَ أن يكون العمل موافقًا للشريعة, فلابد من ملاحظة هَذَا الأصل أو هذان الأصلان في كُلّ عبادة, وفي كُلّ قربة يتقرب بها الإنسان إِلَى ربه عز وجل, لَابُدَّ أن يلاحظ الإخلاص والمتابعة لنبينا صلى الله عليه وسلم.

وَلَابُدَّ من مراعاة الآداب الأخرى وَهِيَ الحرص عَلَى الفائدة العلمية وانتهاز الفرص المناسبة واستغلال الوقت والانتباه, يشد الإنسان انتباهه حَتَّى لا يفوته شيء من العلم, ويقيد الفوائد العلمية ويراجعها, ويتذاكر مَعَ إخوانه وزملائه ويسأل عما أشكل عَلَيْهِ, فالحرص عَلَى الاستفادة من العلوم المتنوعة الَّتِي تلقى يلقيها أهل العلم والحمد لله السبل ميسرة والوسائل متاحة في هَذَا الزمن, فَإِذَا فات الإنسان درس فَإِنَّهُ يستطيع أن يصل إليه في وقت آخر عَنْ طريق الشبكة المعلوماتية الإنترنت أو عَنْ طريق التسجيل مسجل, فَإِن الدروس تسجل, وَعَنْ طريق مراجعة زملائه وإخوانه وهكذا.

فَاَلْمُسْلِم وطالب العلم يستغل الأوقات المناسبة فيستفيد من العلوم المتنوعة ويكون الحرص عَلَى الفوائد العلمية, وينبغي لطالب العلم أن يكون همه الحصول عَلَى العلم والفائدة العلمية؛ حَتَّى يعبد ربه عَلَى بصيرة؛ حَتَّى ينقذ نفسه من الجهل؛ حَتَّى ينقذ غيره من الجهل هَذَا هُوَ المهم.

أَمَّا الأمور الأخرى الشهادات وما أشبه ذَلِكَ أو ما يكون تبعًا لذلك من الوظائف أو المكافئات فإنها تكون وسيلة ولا تكون غاية, الغاية هِيَ تعلم العلم الاستفادة العلمية, أن يتعلم الإنسان وأن يتبصر وأن يتفقه في شريعة الله؛ حَتَّى ينقذ نفسه من الجهل وينقذ غيره من الجهل, هَذَا هُوَ المقصود, هَذَا هُوَ الَّذِي ينبغي أن يكون قصد طالب العلم.

ولا ينبغي له أن يكون قصده الشهادات أو المكافئات بَلْ هَذِهِ الأمور تكون وسيلة ولا تكون غاية؛ حَتَّى يحصل الإنسان عَلَى رضا ربه سبحانه وتعالى وَعَلَى العلم والبصيرة الَّتِي ينقذ بها نفسه من الجهل وينقذ بها غيره, فنسأل الله لنا ولكم العلم النافع والعمل والصالحِ, وأن يرزقنا وإياكم الإخلاص في العلم والبصيرة في شريعة الله, والعلم رزق يرزقه الله من يشاء من عباده, فليسأل ربه هَذَا الرزق وليبذل الوسائل والسبل الموصلة إليه.

ومن جاهد وبذل وسعه فَإِنَّهُ موعود بالهداية قَالَ تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت/69].

قَالَ سبحانه: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[العنكبوت/6].

وفق الله الجميع لطاعته نبدأ الآن.

(المتن)

قَالَ الإمام العلامة عبد الرحمن بْنُ سعدي رحمه الله تعالى في كتابه " التوضيح المبين " :

فصل

وهو المكلم عبده موسى بتكـ
 

 

ـليم الخطاب وقبله الأبوان
 

كلماته جلت عن الإحصاء
 

 

والتعداد بل عن حصر ذي الحسبان
 

لو أن أشجار البلاد جميعها الـ
 

 

أقلام تكتبها بكل بنان
 

والبحر تلقى فيه سبعة أبحر
 

 

لكتابة الكلمات كل زمان
 

نفدت ولم تنفد بها كلماته
 

 

ليس الكلام من الإله بفان
 

 

(الشرح)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام عَلَى نَبِيّنَا محمد وَعَلَى آله وصحبه أجمعين؛ أَمَّا بَعْد: ...

فهذا المبحث مبحث الكلام الفصل عقده المؤلف رحمه الله لشرح كلام العلامة ابْنُ القيم رحمه الله فيما يتعلق بالكلام, والكلام كلام الرب U صفة من صفاته, وَهُوَ من الصفات العظيمة من صفات الكمال؛ الَّتِي تدل عَلَى كماله سبحانه وتعالى, والكلام من الصفات الذاتية الفعلية.

  • صفة الله نوعان:

الأول: صفة ذاتية وَهِيَ الَّتِي لا تنفك عَنْ الباري سبحانه وتعالى, كالعلم والقدرة والسمع والبصر والعلو, هَذِهِ صفات ذاتية لا تنفك عَنْ الباري سبحانه وتعالى .

الثاني: صفات فعلية تتعلق بالمشيئة والاختيار, كالكلام والغضب والرضا والمحبة والنزول والرحمة إِلَى غير ذَلِكَ من الصفات.

فالكلام من الصفات الفعلية, والصفات الفعلية هِيَ الَّتِي تتعلق بالمشيئة والاختيار, ونوع الصفات الفعلية نوعها قديم وأفرادها حادثة.

فالكلام يَقُولُ العلماء: قديم النوع حادث الآحاد, ومعنى قديم النوع يَعْنِي نوع الكلام قديم, يَعْنِي لَمْ يزل الله متكلم هُوَ سبحانه وتعالى لَمْ يزل متصف بالصفات, لَمْ يزل ولا يزال؛ لِأَنَّهُ سبحانه هُوَ الأول بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله هُوَ الأول الَّذِي لا بداية لأوليته؛ لِأَنَّهُ لو كَانَ له بداية لَكِن مسبوقًا بالعدم, فالله ليس له بداية, هُوَ الأول بلا بداية كما قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح؛ لما فسر الأسماء الأربعة, وَهُوَ قوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الحديد/3].

هَذِهِ الأسماء الأربعة أسماء متقابلة اسمان لأبديته وأزليته, وهما الأول والآخر, واسمان لفوقيته وعدم حجب شيء من المخلوقات له وَهُوَ الظاهر والباطن, هَذِهِ أسماء أربعة من أسماء الله, وَهِيَ ثابتة ويعبد يقال: عبد الأول عبد الآخر عبد الظاهر, عبد الباطن, والنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فسر هَذِهِ الأسماء الأربعة في الحديث الصحيح, في حديث الاستفتاح, قَالَ: «اللَّهُمَّ أنت الأول فليس قبل شيء, وأنت الآخر فَلَيْسَ بعدك شيء, وأنت الظاهر فَلَيْسَ فوقك شيء, وأنت الباطن فَلَيْسَ دونك شيء».

وإذا فسر النَّبِيّ r شيئًا من كلام الله وكلام رسوله؛ فلا يعدل عنه, ففسر الأول بأنه الَّذِي ليس قبله شيء, والآخر فسره بأنه الَّذِي ليس بعده شيء, والظاهر بأنه الَّذِي ليس فوقه شيء, والباطن ليس دونه شيء يَعْنِي لا يحجبه أحد من خلقه سبحانه وتعالى.

  • فَهَذِهِ الصفات كما سبق نوعان:
  1. صفات ذاتية.
  2. وصفات فعلية.

فالصفات الذاتية لا تنفك عَنْ الله, والصفات الذاتية نوعها قديم وأفرادها حادثة مثل الكلام, فالكلام الرب لَمْ يزل متكلمًا منذ الأزل, وَلَكِن أفراد الكلمات حادثة, كلم موسى هَذَا فرد من أفراد الكلام حادث, كلم موسى كلم نَبِيّنَا بدون واسطة, وكلم محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج, فرض الصلاة عَلَيْهِ خمسين صلاة, ويكلم آدم يوم القيامة يَقُولُ الله تعالى: «يا آدم أخرج بعث النَّارِ», ويكلم أهل الْجَنَّةَ فَهَذِهِ أفراد, أفراد الكلام حادثة, ونوع الكلام قديم.

وصفة الكلام من الصفات الَّتِي اشتد فِيهَا النزاع بين أهل السُّنَّة وبين أهل البدع, وَهِيَ من العلامات الفارقة بين أهل السُّنَّة وبين أهل البدع, الكلام صفة الكلام صفة العلو وصفة الرؤية, هَذِهِ الصفات الثلاث هِيَ الفارقة بين أهل السُّنَّة وبين أهل البدعة, من أثبتها هُوَ من أهل السُّنَّة, ومن نفاها هُوَ من أهل البدعة.

  1. صفة الكلام.
  2. صفة العلو.
  3. وصفة الرؤية.

فأهل البدع أنكروا كلام الله U وأنكروا علوه واستوائه عَلَى العرش, وأنكروا رؤيته يوم القيامة, وأهل السُّنَّة أثبتوا كلام الله U وأثبتوا علوه وفوقيته واستوائه عَلَى العرش, وأثبتوا رؤيته, رؤية الْمُؤْمِنِينَ له يوم القيامة وفي الْجَنَّةَ.

فالكلام من الصفات الَّتِي اشتد فِيهَا النزاع بين أهل السُّنَّة وبين أهل البدعة, وصفة الكلام صفة ذاتية فعلية, ذاتية بالنسبة إِلَى نوع الكلام, فعلية بالنسبة إِلَى أفراده.

قَالَ العلامة ابْنُ القيم:

وهو المكلم عبده موسى بتكـ
 

 

ـليم الخطاب وقبله الأبوان
 

 

فالله تعالى كلم عبده موسى هَذِهِ الكلمات من الأفراد الحادثة, وقبله الأبوان آدم وحواء, {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}؛ هَذَا من كلام الله له {وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}[البقرة/34-35].

وفي الآية الأخرى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}[الأعراف/22].

هَذَا من كلام الله لآدم هَذَا معنى قول المؤلف: (وقبله الأبوان).

وهو المكلم عبده موسى بتكـ
 

 

ـليم الخطاب وقبله الأبوان
 

 

آدم وحواء كلمهم الله ونادهما.

كلماته جلت عن الإحصاء
 

 

والتعداد بل عن حصر ذي الحسبان
 

 

يَعْنِي كلمات الله لا تحصى لا يستطيع أن نحصي كلام الله, ولا يستطع أحد أن يعد كلام الله, ولا يستطيع حاسبٌ أن يحصر كلام الله U؛ لِأَنَّ كلام الله صفة من صفاته, وصفات الله لا تتناهى بخلاف المخلوق فَإِنَّهُ يتناهى, ثُمَّ قَالَ ابْنُ القيم:

لو أن أشجار البلاد جميعها الـ
 

 

أقلام تكتبها بكل بنان
 

والبحر تلقى فيه سبعة أبحر
 

 

لكتابة الكلمات كل زمان
 

نفدت ولم تنفد بها كلماته
 

 

ليس الكلام من الإله بفان
 

 

يشير إِلَى قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[لقمان/27].

وقوله عز وجل: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}[الكهف/109].

وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ للتقريب هَذَا المثال للتقريب؛ لِأَنَّ الإنسان لا يستطيع أن يدرك صفات الله, ولا يدرك كنهها, وَلَكِن هَذَا تقريب, هَذَا المثال الَّذِي ذكره الله تقريب؛ يَعْنِي لو أن جميع ما في الدنيا من أشجار جعلت أقلام يكتب بها, وجعل البحر مدادًا حبر يكتب فِيهِ, والبحر من بعده سبعة أبحر وكتبت الأقلام لتكسرت الأقلام ونفذت البحار وَلَمْ تنفذ كلمات الله.

{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[لقمان/27].

{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا}؛ حبر يكتب فيه {لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}[الكهف/109].

تصور هَذَا, هَذَا مثال الآن نحن ضعفاء تصور إدراكك الآن, البحر من بعده سبعة أبحر جعل مداد حبر يكتب فِيهِ, والأشجار جعلت أقلام, وجعلت الأقلام تكتب كلام الله, والبحر مداد حبر يكتب فِيهِ تكسرت الأقلام ونفدت البحار وكلمات الله لَمْ تنفد؛ لِأَنَّ كلام الله صفة من صفاته لا يتناهى بخلاف المخلوق فَإِنَّهُ يتناهى, المخلوق ينتهي يتناهى, والخالق لا يتناهى.

ولهذا قَالَ المؤلف رحمه الله: (ليس الكلام من الإله بفاني).

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: يعني أنه تبارك وتعالى متکلم إذا شاء وكيف شاء، ولم يزل ولا يزال بصفة الكلام موصوفًا وبالبر والإحسان معروفًا, وَهُوَ الَّذِي يتكلم بالكلام القدري الَّذِي يوجد بِهِ الأشياء, كما قَالَ تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[النحل/40].

ويتلكم بكلامه الشرعي الديني؛ الَّذِي منه الكتب الَّتِي أنزلها الله عَلَى رسله, فَهُوَ الَّذِي يتكلم بها حقًا, ونزل بها جبريل من عنده صدقًا, ليست بمخلوقة؛ بَلْ هِيَ من جملة صفاته تعالى.

(الشرح)

  • كلام الله نوعان:
  1. كلام قدري.
  2. وكلام شرعي.

الكلام القدري كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]

والكلام الشرعي الديني الكتب الَّتِي أنزلها عَلَى أنبيائه, الْقُرْآن كلام الله كلام شرعي, والتوراة والإنجيل والزبور, وصحف إبراهيم وصف موسى, فهذا كلامٌ شرعي.

  • إذًا الكلام نوعان:
  1. كلام قدري.
  2. وكلامٌ شرعي.

والكلام القدري لا يتخلف إِذَا أراد الله شيئًا لَابُدَّ أن يحصل لَابُدَّ أن يقع, إِذَا أراد الله شيئًا قَالَ له: كن فلابد أن يكون, فلا يتخلف, بخلاف الكلام الشرعي الديني قَدْ يتخلف, فالله تعالى في الكلام الشرعي قَالَ: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}[النور/56].

بعض النَّاس لا يقيم الصلاة, فلا يعمل بكلام الله الشرعي, أَمَّا كلام الله الديني فلا يمكن أن يتخلف, أراد شخص أن يموت فلابد أن يموت, أراد أن يكون عالمًا لَابُدَّ أن يكون عالم, أراد أن يكون تاجرًا لَابُدَّ أن يكون تاجر, فإرادة الله الكونية لا تتخلف, وإذا أراد شيئًا قَالَ له: كن فكان, هَذَا كونًا وقدرًا, أَمَّا الديني الشرعي فقد يتخلف, قَدْ يكون وَقَدْ لا يكون, فالله تعالى أراد من العباد دينًا وشرعًا أن يؤمنوا, فمنهم من آمن ومنهم من لَمْ يؤمن.

إذًا كلام الله نوعان كلام قدري هَذَا لا يتخلف مراده, وكلام شرعي قَدْ يتخلف قَدْ يحصل وَقَدْ لا يحصل, لما قَالَ الله لبني إسرائيل الَّذِينَ اصطادوا الحوت في يوم السبت قَالَ الله: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}[البقرة/65].

فكانوا قردة في الحال, لا يمتنعون ما يمتنعون من كلام الله القدري؛ لَكِن كلام الله الشرعي قَدْ يمتنع الفاسق منه, الفاسق لا يستجيب لكلام الله الشرعي, أمره الله ببر الوالدين فلا يبر والديه, أمره الله بالصلاة بإقامة الصلاة فلا يقيم الصلاة, هَذَا الفرق بين الكلام القدري والكلام الشرعي, الكلام القدري لا يتخلف, والكلام الشرعي قَدْ يتخلف.

(المتن)

قال رحمنا الله وإياه: وتكليمه لعباده نوعان : نوعٌ بلا واسطة كما كلم موسى بن عمران, قَالَ تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[النساء/164].

 وكما كلم الأبوين آدم وحواء {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}[الأعراف/22].

وكما نادى محمد صلى الله عليه وسلم وخاطبه حين أسرى به, وكما يخاطب الله أهل الموقف وأهل الجنة في الجنة حين يرونه, ويكلمهم ويكلمونه.

والنوع الثاني: تكليمه لعباده بواسطة، إما بالوحي الخاص للأنبياء، وإما بإرساله إليهم رسولًا يكلمهم من أمره بما يشاء.

وقد ذكر الله هذه الأنواع في قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}[الشورى/51].

(الشرح)

هَذَا تقسيم آخر للكلام كلام الله, تقسيم آخر من ناحية سماع كلام الله, سماع كلام الله كلام الله من جهة السماع نوعان:

  1. نوعٌ بواسطة.
  2. ونوعٌ بلا واسطة.

نوعٌ بلا واسطة كما كلم الله موسى قَالَ الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[النساء/164].

فكلام الله لموسى بدون واسطة سمع كلام الله, ولهذا لما سمع موسى كلام الله طمع في أن يرى ربه, قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي}[الأعراف/143].

يَعْنِي ما تستطيع ببشريتك الضعيفة تثبت للرؤية, وَلَكِن انظر للجبل فَإِن استقر مكانه فسوف تراني, فَلَمَّا تجلى الله للجبل ماذا حصل؟ تدكدك الجبل وانساخ, {جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا }[الأعراف/143].

إذًا النوع الأول من كلام الله كلام بلا واسطة, مثاله: كلام الله لموسى, قَالَ الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[النساء/164].

مثال آخر: كلام الله للأبوين آدم وحواء, قَالَ الله: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ }[الأعراف/22]؛ هَذَا كلام بلا واسطة.

مثال ثالث: كلام الله لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج, فناداه الله وخاطبه ليلة المعراج وفرض عَلَيْهِ الصلاة خمسين صلاة, ثُمَّ جعل يتردد بين ربه وبين موسى, موسى يطلب من نَبِيّنَا صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه التخفيف وموسى في السَّمَاءِ السادسة والنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بصحبة جبريل فيعلو جبريل بالنبي r إِلَى السَّمَاءِ السادسة؛ حَتَّى يتجاوز السبع الطباق ويسأل ربه التخفيف؛ حَتَّى صارت الخمس صلوات.

مثال آخر: نداء الله لأيوب كما ثبت في الحديث الصحيح في البخاري, أن أيوب عَلَيْهِ السلام كَانَ يغتسل عريانًا فخر عَلَيْهِ جراد من ذهب, فجعل أيوب يحثو فناداه ربه: «ألم أكن أغنيتك عَنْ هَذَا؟ قَالَ: بلى يا رب وَلَكِن لا غنى لي عَنْ بركتك», هَذَا نداء ظاهر الحديث أَنَّهُ بدون واسطة.

 وَكَذَلِكَ أَيْضًا يخاطب الله آدم يوم القيامة, يَقُولُ: «يا آدم أخرج بعث النَّار», بدون واسطة, وَكَذَلِكَ يخاطب الله أهل الموقف يوم القيامة بدون واسطة, ويخاطب أهل الْجَنَّةَ في الْجَنَّةَ حين يرونه ويكلمهم ويكلمونه, هَذِهِ أمثلة لكلام الله بدون واسطة.

النوع الثاني: كلام الله لعباده بواسطة, الواسطة إِمَّا بالوحي الخاص من أنبياء, مثلاً الله تعالى أوحى إِلَى عبده محمد r بالوحي, وَالسُّنَّة وحيٌ ثاني, قَالَ تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النجم/4].

فنحن نسمع كلام الله وَلَكِن بواسطة النَّبِيّ r, النَّبِيّ قَالَ: «إِنَّمَا الأعمال بالنيات وَإِنَّمَا لكل امرئ ما نوى», وَهَذَا بوحي من الله, أوحى الله إليه المعنى, فاللفظ من الرسول r والمعنى من الله.

أو بإرساله رسولًا يكلمهم من أمره ما يشاء, يرسل الله رسولًا يكلم النَّاس وَيَقُولُ: إن الله أمرني بكذا, قَالَ تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}[الشورى/51].

{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا}؛ هَذَا الوحي {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}؛ كما كلم موسى من وراء حجاب, وكلم نَبِيّنَا صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب ليلة المعراج, وكلم أُناس من وراء حجاب {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}[الشورى/51]؛ يَعْنِي يرسل إليهم رسولًا يكلمهم من أمر الله بما يشاء.

(المتن)

قال رحمه الله: واعلم أن صفة الكلام لله تعالى من صفاته الذاتية من حيث تعلقها بذاته واتصافه بها، ومن صفاته الفعلية حيث كَانت متعلقة بقدرته ومشيئته.

(الشرح)

هَذَا التقسيم الأول الَّذِي ذكرت لكم؛ أن الصفات تنقسم إِلَى قسمين:

النوع الأول: صفات ذاتية من حيث تعلقها بذات الله واتصافه بها, فالله تعالى لَمْ يزل يتصف بالكلام, لَمْ يزل ولا يزال, وليس الكلام حادثًا له.

النوع الثاني: صفات فعلية؛ لِأَنَّهَا متعلقة بمشيئته وقدرته, يتكلم متى شاء بما شاء كيف يشاء سبحانه وتعالى.

  • فصارت التقسيمات ثلاثة الآن:

الأول: كلام الله لعباده نوعان: بلا واسطة, وبواسطة.

والثاني: صفات الله ذاتية, وصفاته فعلية.

والثالث: كلام الله نوعان: كلامٌ قدري, وكلامٌ شرعي. ثلاث تقسيمات الآن.

(المتن)

 قال رحمه الله: فإذا كان من المعلوم أن الله لم يزل ولا يزال كامل القدرة نافذ المشيئة، عُلم أنه لم يزل ولا يزال متكلما إذا شاء، لأن الكلام من أجل صفات الكمال التي يستحيل عَلَى الله ألا يوصف بها, وكلماته تعالى غير متناهية فلا تفنى ولا تبيد، فلو أن أشجار الأرض جميعها من عمرانها وقفارها وبحارها أقلام.

(الشرح)

جميعها تأكيد لأشجار؛ فلو أن أشجار الأرض جميعها عمرانها وقفارها وبحارها.

(المتن)

 فلو أن أشجار الأرض جميعها من عمرانها وقفارها وبحارها أقلام, والبحر تمده من بعده سبعة أبحر مدادًا.

(الشرح)

يَعْنِي أن البحر يمده سبعة أبحر مداد يَعْنِي حبر يكتب فِيهِ, البحر يمده سبعة أبحر مداد حبر يكتب فِيهِ.

(المتن)

فكتب بتلك الأقلام بِذَلِكَ المداد لتكسرت الأقلام ونفد المداد, وكلام الله لا يفنى ولا ينفد وذلك أن المخلوق متناه له غاية وحد, وصفات الله ليس لها غاية ولا حد, قَالَ تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}[النجم/42].

وَقَالَ تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[لقمان/27].

وَهَذَا كله من باب تقريب المعنى العظيم الواسع؛ الَّذِي لا تدركه الأذهان إليها بهذا المثال.

(الشرح)

لعله الَّذِي لا تدركه الأذهان إِلَّا بهذا المثال.

(المتن)

قال رحمه الله: الَّذِي لا تدركه الأذهان إِلَّا بهذا المثال؛ الَّذِي يبهر العقول, ولهذا قَالَ المؤلف: ليس الكلام من الإله بفاني.

(الشرح)

إذًا هَذَا تقريب للمعنى العظيم الواسع أَنَّهُ لا تدركه الأذهان إِلَّا بهذا المثال, يَعْنِي ما يستطيع الإنسان أن يدرك صفات الله, ما يستطيع, صفات الله عظيمة ما يدركها, إِلَّا بهذا المثال, هَذَا المثال تقريبي, ما هُوَ المثال: لو جعلت أشجار الدنيا كلها أقلام يكتب فيه, والبحر جعل مدادًا حبر يكتب فِيهِ, والبحر يمده سبعة أبحر, سبعة أبحر تمد البحر, لنفدت الأقلام وتكسرت, نفدت البحار وتكسرت الأقلام وانتهت وكلام الله لَمْ ينتهي, هَذَا تقريب, هَذَا مثال يبهر العقول, أمرٌ باهر, يَعْنِي أشجار الدنيا كلها أقلام, كم عدد أشجار الدنيا؟ صارت أقلام يكتب فيها, البحر صار حبر الأقلام تستقي منه, وليس البحر فقط البحر يمده سبعة أبحر, سبعة أبحر كلها تمد هَذَا البحر ويكون ماؤه حبر يكتب فِيهِ, فالأقلام تأخذ من الحبر وتكتب, كم جلست تكتب هَذِهِ الأقلام؟ ومتى تنتهي البحار هَذِهِ, بحر يمده سبعة أبحر, متى تنتهي؟ متى ينتهي الحبر هَذَا؟ أمرٌ باهر, تنتهي البحار وتتكسر الأقلام وكلمات الله لَمْ تنته هَذَا تقريبي, هَذَا مثال يبهر العقول تقريبي؛ لِأَنَّ البشر لا يدركون كنه صفات الله U, فهذا مثال تقريبي.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: ولم يقدر الله حق قدره من زعم أن كلامه مخلوق من جملة المخلوقات التي تنتهي، وكيف يكون الوصف المضاف إِلَى الله تعالى مخلوقًا؟ يلزم منه أن يكون كلامًا للخلق, فَإِذَا كَانَ علم الله وقدرته ونحو ذَلِكَ من أوصاف يستحيل أن تقوم بغير الله, وأن تكون مخلوقةً فكلامه كَذَلِكَ.

(الشرح)

نعم من زعم أن كلام الله مخلوق ما قدر الله حَقّ قدره وهم المعتزلة, المعتزلة يَقُولُونَ: كلام الله مخلوق, هؤلاء يجعلون كلام الله مخلوق من جملة المخلوقات الَّتِي تنتهي والعياذ بالله, هَلْ قدروا الله حَقّ قدره؟ هَلْ عظموه حَقّ تعظيمه؟ جعلوا الكلام مخلوق والمخلوق ينتهي, المخلوقات تنتهي وصفات الله لا تنتهي.

هَلْ هَذَا عظم الله أو تنقص الله؟ هَذَا تنقص لله U, قَالَ تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[الزمر/67].

فمن قَالَ: إن كلام الله مخلوق من جملة المخلوقات الَّتِي تنتهي فَإِنَّهُ ما عظم الله حَقّ تعظيمه, وما قدر الله حَقّ قدره, كيف يكون وصف مضاف إِلَى الله مخلوقًا ويلزم منه أن يكون كلامًا للخلق؟.

إِذَا كَانَ الكلام مخلوق معناه أَنَّهُ يقوم بالخلق, وإذا كَانَ علم الله وقدرته ونحو ذَلِكَ من الأوصاف يستحيل أن تقوم بغير الله وأن تكون مخلوقة كلامه كَذَلِكَ, هَلْ علم الله يقوم بالمخلوق, هَلْ يَقُولُ عاقل أن علم الله يقوم بالمخلوق؟ مستحيل, علم الله يقوم بالله, قدرة الله تقوم بالمخلوق؟ تعالى الله, قدرته تقوم بِهِ, كَذَلِكَ كلام الله, كلام الله يقوم بِهِ لا يقوم بغيره, والمعتزلة قَالُوا: كلام الله مخلوق إذًا يقوم بغيره, فهذا من التنقص العظيم.

ولهذا تجد أهل البدع ليسوا معظمين لله, ما عظم الله, بينهما الَّذِي يعظم الله أهل السُّنَّة والجماعة؛ الَّذِينَ أثبتوا أسماءه وصفاته؛ كما يليق بجلاله وعظمته, فقد جعلوها قائمةً بذات الرب سبحانه وتعالى.

والأشاعرة بين بين, بين أهل السُّنَّة وبين المعتزلة, أهل السُّنَّة قَالُوا: كلام الله لفظه ومعناه صفةٌ من صفاته, اللفظ والمعنى, والمعتزلة قَالُوا: كلام الله اللفظ والمعنى مخلوق, والأشاعرة قَالُوا: كلام الله نوعان: اللفظ مخلوق والمعنى غير مخلوق, كيف؟.

يَقُولُونَ: كلام الله معنى قائم بالنفس, كلام الله هُوَ المعنى النفسي عِنْد الأشاعرة, قائمٌ بنفسه ليس بحرف ولا صوت, ما هُوَ اللفظ؟ اللفظ ليس هُوَ الكلام عندهم, الكلام معنى قائم بنفس الرب, طيب كيف اللي في الْقُرْآن؟.

قَالُوا: الْقُرْآن هَذَا عبارة عَنْ كلام الله, تأدى بِهِ كلام الله, ليس كلام الله, كلام الله معنى قائم بنفسه ما سمع جبريل من الله كلمة واحدة, كيف؟ قَالُوا: الله تعالى اضطر جبريل اضطرار ففهم المعنى القائم بنفسه, جعلوا الرب أبكم ما يتكلم نعوذ بالله, وقالوا: ما يستطيع الرب أن يتكلم؛ ليش؟ ما هِيَ شبهتهم؟ يَقُولُونَ: لو قُلْنَا: إن الكلام حرف وصوت ولفظ للزم أن تحل الحوادث في ذاته؛ لِأَنَّ اللفظ حادث والحروف حادثة.

ففرارًا من ذَلِكَ, قَالُوا: كلام الله قديم, هُوَ المعنى فقط, معنى قائم في نفسه مثل العلم, ما في فرق بين العلم والكلام, العلم قائم بنفس الرب والكلام قائم بنفس الرب, لا يُسمع, كيف وَهَذَا الْقُرْآن وصل إلينا؟.

قَالُوا: الله تعالى اضطر جبريل اضطرارًا وإلا هُوَ ما يتكلم ما يستطيع, ففهم المعنى القائم بنفسه ولما فهمه عبر عنه بهذا الْقُرْآن, هَذَا تعبير عبارة عَنْ كلام الله, ما يقرأه النَّاس عبارة عَنْ كلام الله وليس كلام الله.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أن الَّذِي عبر عَنْ كلام الله محمد, وَقَالت طائفة ثالثة من الأشاعرة: إن جبريل أخذه من اللوح المحفوظ وَلَمْ يسمع من الله كلمة واحدة, وَهَذَا من أبطل الباطل, قَالَ الله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء/193-195].

 لسان عربي نزل بِهِ من الله, الله تكلم بِهِ بلسان عربي مبين, فَهَذِهِ الأشاعرة مذهبهم أقرب الطوائف إِلَى أهل السُّنَّة, بين المعتزلة وبين أهل السُّنَّة, فأخذوا نصف مذهب المعتزلة ونصف مذهب أهل السُّنَّة.

فقالوا الأشاعرة: الكلام نوعان: المعنى واللفظ, المعنى قديم ليس بمخلوق كما قَالَ أهل السُّنَّة, واللفظ مخلوق كما قَالَت المعتزلة, فصار الكلام له شطرٌ اللفظ مخلوق كما قَالَ المعتزلة, والمعنى غير مخلوق كما قَالَ أهل السُّنَّة {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}[النساء/143].

نسأل الله السلامة والعافية.

وَالْحَقّ أن كلام الله لفظ ومعنى كله كلام الله, سمعه منه جبرائيل ونزل بِهِ عَلَى قلب محمد r, كله كلام الله اللفظ والمعنى, كلام الله بحرف وصوتٍ يُسمع, سمعه جبرائيل وسمعه محمد r, وسمعه موسى ويسمعه آدم يوم القيامة ويسمعه المؤمنون بحرف وصوت, بخلاف الأشاعرة الَّذِينَ قَالُوا: ليس كلامه حرف ولا صوت ولا لفظ, وَإِنَّمَا هُوَ معنى قائم بالنفس.

(المتن)

وهو القدير فليس يعجزه إذا
 

 

ما رام شيئًا قط ذو سلطان
 

وهو القوي له القوى جمعا تعا
 

 

لى رب ذو الأكوان والسلطان
 

 

 (الشرح)

هذان البيتان فيهما إثبات صفة القدرة والقوة واسم القدير والقوي, من أسماء الله القدير, وَقَالَ: ويعبد فيقال: عبد القدير, ومن أسماء الله القوي ويقال: عبد القوي, ومن صفات الله القدرة, ومن صفات الله القوة, كُلّ اسم من أسماء الله مشتمل عَلَى صفة, فالقدير مشتمل عَلَى صفة القدرة والقوي مشتمل عَلَى صفة القوة, والعظيم مشتمل عَلَى صفة العظمة, والرحيم مشتمل عَلَى صفة الرحمة.

والعليم مشتمل عَلَى صفة العلم, والسميع مشتمل عَلَى صفة السمع, والبصير مشتمل عَلَى صفة البصر وهكذا؛ لِأَنَّ أسماء الله مشتقة وليست جامدة.

وَهُوَ قَالَ:

وهو القدير فليس يعجزه إذا
 

 

ما رام شيئًا قط ذو سلطان
 

 

إِذَا أراد شيئًا لا يعجزه شيئًا سبحانه وتعالى؛ لِأَنَّهُ قادر قدير.

وهو القوي له القوى جمعا تعا
 

 

لى رب ذو الأكوان والسلطان
 

 

وَهُوَ القوي له القوى الكاملة, وقوته كاملة, له الكمال له القوة الكاملة وله القدرة الكاملة سبحانه وتعالى.

(المتن)

قال رحمه الله: يَعْنِي أَنَّهُ تعالى القدير كامل القدرة, فكلما أراده فعله من غير عجز ولا معارض له ولا مضاد, فَإِذَا أراد إيجاد شيء أو إعدامه فلو اجتمعت الخليقة كلها عَلَى معارضته في شيء من ذَلِكَ لَمْ يكن لهم قدرة عَلَى معارضته؛ كما قَالَ النَّبِيّ r في الحديث الَّذِي رواه الترمذي وغيره عَنْ ابن عباس رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ لابن عباس: «واعلم أن الخلق لو اجتمعوا عَلَى أن ينفعوك بشيء», أيْ قليل أو كثير «لن ينفعوك إِلَّا بشيء قدره الله لك, ولو اجتمعوا عَلَى أن يضروك بشيء لَمْ يضروك إِلَّا بشيء قدره الله عليك».

وَقَالَ تعالى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}[هود/56].

(الشرح)

هَذَا اسم الله القدير معناه كامل القدرة, معنى القدير أن الله كامل القدرة, (وكلما أراد شيئًا فَإِنَّهُ يفعله من غير عجزٍ ولا معارض ولا مضاد).

هُوَ كامل القدرة إِذَا أراد أن يفعل شيئًا فعله ولا يلحقه عجز, ولا أحد يعارضه ولا أحد يضاده سبحانه وتعالى, لو اجتمع الخلق كلهم عَلَى معارضته ما استطاعوا.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: وَهُوَ القوي الَّذِي له القوة كلها, قَالَ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[الذاريات/58]؛ فلا حول ولا قوة إِلَّا بالله العلي العظيم, فما بالخلق من قوة ظاهرة أو باطنة إِلَّا من الله تعالى.

(الشرح)

إذًا القوي معناه الَّذِي له القوة الكاملة, قوته كاملة بخلاف المخلوق فَإِن له قوة ناقصة, المخلوق قدرته ناقصة وقوته ناقصة والله تعالى قدرته كاملة وقوته كاملة, ولهذا قَالَ سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[الذاريات/58].

ولا حول ولا قوة إِلَّا بالله العلي العظيم, هَذِهِ الكلمة كنز من كنوز الْجَنَّةَ كما في حديث أبي موسى الأشعري أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ألا أخبرك بكنز من كنوز الْجَنَّةَ؟ قلت: بلى يا رسول الله, قَالَ: لا حول ولا قوة إِلَّا بالله كنز من كنوز الْجَنَّةَ».

ومعناها لا تحول من حال إِلَى حال ولا قوة لأي شخص عَلَى شيء إِلَّا بالله, فلا تحول من المرض إِلَى الصحة أو من الجهل إِلَى العلم إِلَّا بالله U, ولا قوة لأحد عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بالله U, فما بالخلق من قوة ظاهرة أو باطنة فَهِيَ من الله.

(المتن)

 قَالَ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة/20].

(الشرح)

{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة/20]؛ عام, كُلّ من ألفاظ العموم, عَلَى كُلّ شيء قدير.

(المتن)

وَقَالَ تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[يس/82].

وَقَالَ تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}[فصلت/15].

(الشرح)

كُلّ هَذَا دليل عَلَى قوة الله وقدرته, {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[يس/82]؛ لا شيء يعجزه, وعاد استكبروا في الأرض وقالوا: من أشد منا قوة؟ افتخروا بقوتهم وهم قوم هود, وَكَانُوا أقوياء أشداء, قَالَ الله ردًا عَلَيْهِمْ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}[فصلت/15].

(المتن)

فمن قوته وقدرته أَنَّهُ خلق السموات العظيمة والأرض وما بينهما في ستة أيام, وَأَنَّهُ خلق الخلق, ثُمَّ يميتهم ثُمَّ يحييهم بَعْدَمَا يفرقهم البلا, بَلْ خلقهم وبعثهم عَلَيْهِ كنفسٍ واحدة, {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}[لقمان/28].

(الشرح)

هَذَا من قوته العظيمة, خلق السموات والأرض في ستة أيام, أولها الأحد وآخرها الجمعة, ويوم السبت ما في خلق, قَالَ تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ}[ق/38].

وَهُوَ قادر عَلَى خلقها في لحظه, لَكِن له الحكمة البالغة, وَهَذَا يَدُلّ عَلَى عظمته سبحانه وتعالى ومن عظمته أَنَّهُ يخلق الخلق ثُمَّ يميتهم ثُمَّ يحييهم؛ بَعْدَمَا يفرقهم البلا؛ لِأَنَّهُ عالم وقادر, {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ}[ق/4].

يعيد الذرات الَّتِي استحالت ترابًا يعيدها؛ لِأَنَّهُ عالم وقادر, {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ}[القيامة/4].

(المتن)

{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}[الروم/27].

(الشرح)

خلق العالم وبعثهم كنفس واحدة.

(المتن)

وَقَالَ تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[غافر/57].

ومن قدرته أَنَّهُ يحيي الأرض الهامدة اليابسة بَعْدَ موتها, قَالَ تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[فصلت/39].

(الشرح)

هَذَا من قدرة الله تعالى أَنَّهُ يحيي الأرض الهامدة الَّتِي يبست بَعْدَ موتها, ينزل عليها المطر فتحيا, تخرج النبات, ولذا قَالَ: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[فصلت/39].

هَذَا دليل عَلَى البعث, فالذي أحي الأرض بَعْدَ موتها دليل عَلَى أَنَّهُ قادر أن يحيي الموتى بَعْدَمَا بليت عظامهم.

(المتن)

قال رحمنا الله وإياه: ومن آثار قدرته ما فعله بالأمم المكذبين من أنواع العقوبات وحلول المثلات, وَأَنَّهُمْ لَمْ يغن عنهم كيدهم ولا مكرهم ولا أموالهم وأولادهم وجنودهم وحصونهم من عذاب الله شيئًا, قَالَ تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[التوبة/70].

وَقَالَ تعالى في سورة الشعراء بَعْدَ كُلّ قصة يذكر فِيهَا نجاة الرسل وأتباعهم وإهلاك من كذبهم: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً}[الشعراء/8]؛ أيْ عَلَى كمال رحمته الَّتِي منها إنجاء الْمُؤْمِنِينَ, وَعَلَى كمال عزته وقدرته حيث أباد المكذبين, ولهذا قَالَ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الشعراء/9].

(الشرح)

كُلّ هَذَا من آثار قدرته, يَعْنِي ما فعله بالمكذبين من العقوبات وحلول المثلات وَأَنَّهُمْ ما استطاعوا ولا أغناهم كيدهم ولا مكرهم ولا جنودهم ولا حصونهم ولا أولادهم, كَذَلِكَ أَيْضًا قدرته سبحانه عَلَى إنجاء الْمُؤْمِنِينَ وكمال عزته وقدرته حيث أهلك المكذبين ونجى الْمُؤْمِنِينَ, ولهذا قَالَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً}[الشعراء/8]؛ أيْ عَلَى كمال قدرته الَّتِي منها إنجاء الْمُؤْمِنِينَ وإهلاك الكافرين, وَعَلَى كمال عزته وقدرته حيث أباد المكذبين وأهلكهم.

(المتن)

قال رحمه الله: ومن تمام قدرته وشمولها أَنَّهُ كما أَنَّهُ هُوَ الخالق للعباد فَهُوَ خالق أعمالهم وطاعاتهم ومعاصيهم, وَهِيَ أَيْضًا أفعالهم, فَهِيَ تضاف إِلَى الله خلقًا وتقديرًا وتضاف إليهم فعلاً ومباشرةً عَلَى الحقيقة من غير منافاة ولا مناقضة, فَإِن الأعمال يضيفها الله إليهم وينسبها لهم, وهم الفاعلون لها, وَهَذَا معروفٌ عقلاً وشرعًا وحسًا.

والله خالق قدرتهم ومشيئتهم الَّتِي لا يوجد فعل إِلَّا بهما وخالق السبب التام خالق للمسبب, قَالَ تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات/96].

وَقَالَ تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[التكوير/28-29]؛ فأثبت لهم مشيئةً وفعلاً وذكر أن مشيئتهم تابعةٌ لمشيئته وإرادته.

(الشرح)

هَذَا من تمام قدرة الله ومشيئته أَنَّهُ سبحانه وتعالى كما أَنَّهُ خلق العباد فَهُوَ خالق أعمالهم ووظائفهم ومعاصيهم, وَهِيَ أفعالهم تضاف إليهم, تضاف الأفعال إِلَى النَّاس؛ لِأَنَّهُم باشروها, وفعلوها مختارين والله تعالى هُوَ الَّذِي خلقهم وخلق قدرتهم, خلق قدرتهم وإرادتهم, خلق العبد وخلق قدرته وإرادته, والعبد هُوَ الَّذِي باشر الفعل.

فَهُوَ ينسب الفعل إِلَى العبد؛ لِأَنَّهُ باشره واكتسبه, وَهُوَ ينسب إِلَى الله لِأَنَّهُ أوجده وخلقه؛ لِأَنَّهُ خلق العبد وخلق قدرته وإرادته, فَهِيَ من الله الأفعال من الله خلقًا وتقديرًا, ومن العباد فعلاً وتسببًا ومباشرة, قَالَ تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات/96]؛ فالله خلق قدرتهم ومشيئتهم وإرادتهم الَّتِي لا يوجد فعل إِلَّا بهما.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: ومن آثار قدرته ورحمته نصره لأوليائه, عَلَى قلة عددهم وعددهم بالنسبة إِلَى أعدائهم, قَالَ تعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}[الصافات/173].

وَقَالَ تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة/249].

وَقَالَ تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}[غافر/51].

(الشرح)

من آثار قدرة الله ورحمته أَنَّهُ ينصر أوليائه وإن كَانُوا قلة, عَلَى أعدائهم وإن كَانُوا كثرة, هَذَا مثال لقدرته ورحمته سبحانه وتعالى بالمؤمنين.

وَهُوَ القوي سبحانه ينصر القلة عَلَى الكثرة؛ لِأَنَّهُ قوي قادر, فهذا من آثار قدرة الله ورحمته, قَالَ تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة/249].

قَالَ الله في قصة جالوت وطالوت لما برز المؤمنون الَّذِينَ عبروا النهر وهم عدة أهل بدر ثلاثمائة وبضعة عشر, {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[البقرة/250].

لما عبروا النهر {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة/249].

قَالَ الله: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}[البقرة/251].

فهذا من آثار قدرته وقوته سبحانه وتعالى, ينصر القلة عَلَى الكثرة, قَالَ تعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}[الصافات/173].

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: ومن آثار قدرته ورحمته ما يحدثه لأهل النَّارِ وأهل الْجَنَّةَ من أنواع العذاب وأصناف النعيم المستمر الكثير المتتابع؛ الَّذِي لا ينقطع ولا يتناهى, وَقَدْ أخبر عَنْ كثير من الأشياء أَنَّهُ قادر عَلَى فعلها ولكنه لا يفعلها؛ لِأَنَّ الحكمة تقتضي عدم إيجادها.

قَالَ تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}[الأنعام/65].

{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[يونس/16].

{وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}[النحل/9].

فقدرة الله تعالى لا تستعصي عليها شيء {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}[هود/107].

(الشرح)

هَذَا من آثار قدرة الله ما يحدثه لأهل النَّارِ وأهل الْجَنَّة, ما يحدثه لأهل الْجَنَّةَ من النعيم, فلا يزال سبحانه وتعالى يحدث في أهل الْجَنَّةَ نعيم بَعْدَ نعيم إِلَى ما لا نهاية, أنواع النعيم الَّتِي يخلقها الله ويحدثها كُلّ هَذَا من آثار قدرته ورحمته, أهل الْجَنَّةَ يتمتعون, لا يزالوا أبد الآباد إِلَى ما لا نهاية دون انقطاع, يتمتعون بأي شيء؟ بأنواع المآكل والمشارب والملابس والمناكح, ثمار يخلقها الله ولا يزال يخلق لهم من أصناف الثمار وأصناف الفواكه والمطعومات إِلَى ما لا نهاية, كَذَلِكَ ما يحدثه لأهل النَّار من أصناف العذاب, لا يزال سبحانه وتعالى يخلق لهم عذابًا بَعْدَ عذاب إِلَى ما لا نهاية.

يخلق من النَّارِ الَّتِي يصلونها والزقوم والغسلين والعياذ بالله لا يزال يخلق عذابًا بَعْدَ العذاب إِلَى ما لا نهاية, هَذَا من آثار قدرته سبحانه وتعالى؛ لِأَنَّ قدرة الله لا يستعصى عليها شيء: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}[هود/107].

(المتن)

وهو العزيز فلن يرام جنابه ... أنى يرام جناب ذي السلطان

وهو العزيز القاهر الغلاب ... لم يغلبه شيء هذه صفتان

وهو العزيز بقوة هي وصفه ... فالعز حينئذ ثلاث معان

(الشرح)

هَذِهِ الأبيات ذكر فِيهَا أنواع العز, الأنواع الثلاثة لمعاني العزيز, العز له ثلاثة معاني:

قَالَ: (هو العزيز فلن يرام جنابه), هَذَا العزيز بمعنى الممتنع؛ الَّذِي لا يرام جنابه لعظمته وسلطانه وجلاله وكبريائه.

ولا يستطيع العباد أن يوصلوا إليه شيء من الضر, فهذا المعنى الأول العزيز معناه الممتنع الَّذِي لا يرام جنابه لعظمة سلطانه؛ لا يستطيع أحد أن يوصل إليه ضررًا, ممتنعًا من أن يصل إليه شيء من الضرر, ولهذا قَالَ الله تعالى في الحديث القدسي: «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني»؛ فهذا العزيز بمعنى ممتنع, الَّذِي لن يرام جانبه.

النوع الثاني: العزيز بمعنى القاهر لكل شيء الغلاب الَّذِي قهر جميع الأشياء جميع المخلوقات, كُلّ دابة آخذ بناصيتها, ولا يمكن التحول من حال إِلَى حال ومن قوة إِلَى قوة إِلَّا بالله, فلا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إِلَّا بمشيئة الله, العزيز بمعنى القوي القاهر الغلاب.

المعنى الثاني العزيز بمعنى القوي الَّذِي له القوة الكاملة الَّتِي لا يلحقها عجز ولا نقص, فصار العزيز له هَذِهِ المعاني الثلاثة, قَالَ:

وهو العزيز فلن يرام جنابه
 

 

أنى يرام جناب ذي السلطان
 

 

هَذَا العزيز بمعنى الممتنع الَّذِي لا يستطيع أحد أن يوصل إليه ضررًا أو نفعًا, ممتنع, والثاني وَهُوَ العزيز القاهر الغلاب, هَذَا القاهر الَّذِي قهر كُلّ شيء.

وهو العزيز القاهر الغلاب ... لم يغلبه شيء هذه صفتان

الصفة الأولى: صفة أَنَّهُ ممتنع.

الصفة الثانية: أَنَّهُ القاهر الغلاب.

والثالث:

وهو العزيز بقوة هي وصفه
 

 

فالعز حينئذ ثلاث معان
 

 

العزيز بمعنى القوي المتين الَّذِي له القوة الكاملة الَّتِي لا يلحقها عجز ولا نقص, وَهَذِهِ الصفات الثلاث كاملة لله U من جميع الوجوه, الممتنع له الكمال فِيهَا, القاهر الغلاب له الكمال, القوي له الكمال.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: هَذِهِ الأبيات الثلاثة مشتملة عَلَى معنى اسمه العزيز, فذكر له ثلاث معاني:

الأول: العزيز بمعنى الممتنع الَّذِي لا يرام جنابه, لعظمة سلطانه وجليل كبريائه, قَالَ تعالى في الحديث القدسي: «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعني فتنفعوني».

والمعني الثاني: أَنَّهُ العزيز بمعنى القاهر لكل شيء؛ الَّذِي قهر جميع الأشياء, فما من دابة إِلَّا هُوَ آخذ بناصيتها, ولا حول ولا قوة بأحدٍ إِلَّا بالله العلي العظيم.

فلا يتحرك متحرك إِلَّا بإذنه ولا يسكن ساكنٌ إِلَّا بمشيئته, فما شاء كَانَ وما لَمْ يشأ لَمْ يكن, فَهُوَ الَّذِي قهر كُلّ شيء وذل له كُلّ حي, ونفدت إرادته في كُلّ شيء.

والمعنى الثالث: أَنَّهُ العزيز بمعنى القوي المتين فله القوة الكاملة الَّتِي لا عجز ولا نقص فِيهَا بوجه من الوجوه, فصار معنى العزيز بمعنى القوي الممتنع القاهر, قَالَ تعالى: {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}[النساء/139].

وَقَالَ: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[إبراهيم/4].

فأل تفيد الاستغراق والعموم لجميع معاني العز, ولهذا قَالَ المؤلف:

وهي التي كملت له سبحانه
 

 

من كل وجه عادم النقصان
 

 

أيْ هَذِهِ المعاني الثلاثة قَدْ كملت لله من جميع الوجوه, فلا نقص في شيء منها.

(الشرح)

العزيز معروف أَنَّهُ من أسماء الله U وله هَذِهِ المعاني الثلاث يعبد عبد العزيز.

(المتن)

وهو الغني بذاته فغناه ذا
 

 

تي له كالجود والإحسان
 

 

 (الشرح)

هَذَا البيت فِيهِ إثبات صفة اسم الغني:

وهو الغني بذاته فغناه ذا
 

 

تي له كالجود والإحسان
 

 

يَعْنِي غناه سبحانه وتعالى غناء ذاتي من ذاته ليس من أحد, ما استفاد الغنى من أحد سبحانه وتعالى بَلْ غناه غناء ذاتي, كالجود والإحسان, فَهُوَ سبحانه الغني متصف بصفة الغنى, فيقال: عبد الغني, وغناه ذاتي, يَعْنِي من ذاته, لَمْ يستفد الغنى من أحد من خلقه, وَلَكِن غناه ذاتي من ذاته سبحانه وتعالى, هُوَ الغني فغناه ذاتي له, كالجود والإحسان.

له الغنى التام المطلق من جميع الوجوه, والاعتبارات؛ لِأَنَّهُ كامل وصفاته كاملة فلا يتطرق إليه نقص بوجه من الوجوه, فلا يكون إِلَّا غنيًا سبحانه وتعالى؛ لِأَنَّهُ من لوازم ذاته, كما أَنَّهُ لا يكون إِلَّا خالقًا فلا يكون إِلَّا غنيًا, ولا يكون إِلَّا جوادًا ولا يكون إِلَّا كريمًا ولا يكون إِلَّا رحيمًا, فلا يكون إِلَّا غني عَنْ الخلق؛ لا يحتاج إِلَى أحد من الخلق بوجه من الوجوه, فغناه من لوازم ذاته لَمْ يستفد من أحد من خلقه سبحانه وتعالى.

(المتن)

قَالَ الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[فاطر/15].

فَهُوَ تعالى الغني الَّذِي له الغنى التام المطلق من كُلّ الوجوه والاعتبارات لكماله وكمال صفاته, بحيث لا يتطرق إليها نقص بوجه من الوجوه, ولا يمكن أن يكون إِلَّا غنيًا, وإن غناه من لوازم ذاته, كما لا يكون إِلَّا خالقًا رازقًا محسنًا جوادًا كريمًا رحيمًا.

فلا يكون إِلَّا غنيًا عَنْ الخلق لا يحتاج إليهم بشيء من الأشياء, بَلْ هم الفقراء إليه في جميع أمورهم لا يستغنون عَنْ إحسانه وكرمه وتدبيره طرفة عين.

(الشرح)

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[فاطر/15] سبحانه وتعالى.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: ومن كمال غناه أن خزائن السموات والأرض بيده وأن جوده عَلَى خلقه متواصل في جميع اللحظات والأنفاس, وأن يديه سحاء الليل والنهار, أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض, فَإِنَّهُ لَمْ يغظ ما في يمينه.

(الشرح)

هَذَا من كمال غناه سبحانه وتعالى, من كمال غناه أن خزائن السموات والأرض كلها بيده, وأن جوده عَلَى خلقه متواصل في جميع اللحظات والأنفاس, وأن يديه سحاء الليل والنهار, فَهُوَ سبحانه وتعالى لَمْ يزل يفضل عَلَى عباده وينعم عَلَى عباده ويجود عَلَى عباده في جميع اللحظات؛ آناء الليل وآناء النهار.

في الحديث «سحاء الليل والنهار», وصف يديه الكريمتين أنهما سحاء الليل والنهار, يَعْنِي أنهما كثيرة العطاء, أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات الأرض؟ فَإِنَّهُ لَمْ يغض ما في يمينه, يَعْنِي لَمْ ينقص ما في يمينه.

سحاء الليل والنهار يَعْنِي أَنَّهُ سبحانه وتعالى جوده متواصل عَلَى عباده ليل نهار وما أنفق منذ خلق السموات والأرض فَإِنَّهُ لَمْ ينقص ما في يمينه سبحانه وتعالى.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: ومن كمال غناه أن يدعو عباده إِلَى سؤاله ويعدهم بالإجابة ويؤتيهم من كُلّ ما سألوه, {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}[إبراهيم/34].

{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}[النحل/53].

(الشرح)

هَذَا من كمال غناه سبحانه وتعالى أَنَّهُ يدعو عباده إِلَى سؤاله, ومن سأله وَهُوَ سبحانه يحب الملحين في السؤال, ومن لَمْ يسأله يغضب عَلَيْهِ, الله يحب السائلين ويحب الملحين في الدعاء, وأحبه إليه أكثرهم إليه سؤالًا, بخلاف الآدمي فَإِنه يكره الَّذِينَ يسألوه, أحب النَّاس إليه الَّذِينَ لا يسألوه, وَالَّذِي يكثر سؤاله يغضب عَلَيْهِ.

وَأَمَّا الله سبحانه وتعالى فَإِن الَّذِي لا يسأله يغضب عَلَيْهِ.

الله يغضب إن تركت سؤاله
 

 

وبني آدم حين يسأل يغضب
 

 

فالله سبحانه وتعالى يحب السائلين يحب الملحين, وأحب الخلق إليه أكثرهم له سؤالًا, وإلحاحًا, أَمَّا الَّذِي لا يدعو الله فَإِنَّهُ مستكبر, {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[غافر/60].

وإن كانت هَذِهِ عامة تشمل دعاء العبادة ودعاء المسألة, أَمَّا الإنسان فَإِنَّهُ يسأم ويمل من السؤال ويكره الَّذِي يكثر سؤاله, فَهُوَ سبحانه يدعو عباده إِلَى سؤاله, {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة/186].

يدعو عباده إِلَى سؤاله ويعدهم بالإجابة, وَكُلّ النعم كلها من الله.

(المتن)

قال رحمه الله: ومن كمال غناه أَنَّهُ لو اجتمع أهل السموات والأرض وأول الخلق وآخرهم وإنسهم وجنهم في صعيد واحد, فسأله كُلّ واحدٍ منهم ما بلغت أمنيته ما نقص ذلك من ملكه شيئًا.

(الشرح)

هَذَا من كمال غناه سبحانه وتعالى لو اجتمعت الخلائق كلهم أولهم وآخرهم وإنسهم وجنهم في صعيد واحد فسأل كُلّ واحد منهم مسألته حَتَّى انقطعت أسألتهم, ثُمَّ أعطاهم سبحانه وتعالى ما نقص ذَلِكَ من ملكه شيء.

(المتن)

قال: ومن كمال غناه وسعة عطاياهم أن يبسطه عَلَى أهل دار كرامته من اللذات المتتابعات والشهوات والمتواصلات, مِمَّا لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر عَلَى قلب بشر, فَهُوَ الغني بذاته المغني لجميع مخلوقاته.

(الشرح)

وَهَذَا من كمال غناه سبحانه ما يبسطه عَلَى أهل كرامته وهم أهل الْجَنَّةَ, ما يعطيهم من النعيم واللذات المتتابعة والشهوات المتواصلة إِلَى ما لا نهاية, لا يزال سبحانه يخلق لهم نعيمًا بَعْدَ نعيم إِلَى ما لا نهاية, من اللذات الَّتِي لَمْ يرها الإنسان في الدنيا, وَلَمْ يسمع بها في أذنه وَلَمْ تخطر عَلَى قلبه, لا يدركها إِلَّا إِذَا دخل الْجَنَّةَ, هَذَا من كمال غناه سبحانه وتعالى لِأَنَّهُ غني بذاته وَهُوَ المغني لجميع المخلوقات.

(المتن)

قال رحمه الله تعالى: ومن غناه أَنَّهُ لَمْ يتخذ صاحبة ولا ولدًا ولا عوينًا, قَالَ تعال: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}[يونس/68].

وَقَالَ تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى}[النجم/48]؛ تبارك وتعالى وتقدس.

(الشرح)

هَذَا من غناه سبحانه أَنَّهُ لا يحتاج إِلَى أحد لَمْ يتخذ صاحبةً ولا ولدًا ولا عوينًا ولا معينًا ولا ظهيرًا؛ لِأَنَّهُ كامل سبحانه وتعالى, ولهذا أنكر الله عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ نسبوا له الولد, {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ}؛ نزه نفسه عَنْ كلامهم {هُوَ الْغَنِيُّ}؛ الولد إِنَّمَا يحتاج إليه المخلوق الضعيف وَلَاسِيَّمَا عِنْد الكبر, أَمَّا الخالق فلا يحتاج إِلَى أحد, ولهذا قَالَ سبحانه: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}؛ ثُمَّ أنكر عَلَيْهِمْ قَالَ: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا}؛ هَلْ عندكم دليل عَلَى نسبة هَذِهِ الفرية العظيمة إِلَى الله؟ قَالَ تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى}[النجم/48]؛ هُوَ سبحانه وتعالى الغني بذاته والغناء من لوازم ذاته المقدسة سبحانه وبحمده.

وفق الله الجميع لطاعته.

 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد