بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال ابن خزيمة –رحمه الله تعالى-:
جُمَّاعُ أَبْوَابِ اللِّبَاسِ فِي الصَّلَاةِ
بَابُ الرُّخْصَةِ فِي الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ
أَخبرنَا أَبُو طَاهِرٍ، قال: حدثنَا أَبُو بَكْرٍ، قال: حدثنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَيُصَلِّي أَحَدُنَا فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ؟
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَوَ لِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ؟» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لِلَّذِي سَأَلَهُ: أَتَعْرِفُ أَبَا هُرَيْرَةَ؟ فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَثِيَابُهُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمِشْجَبِ. هَذَا حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
هذه الترجمة فيها: حكم الصلاة في الثوب الواحد، والمراد بالثوب: القطعة الواحدة، وليس المراد بالثوب القميص، القطعة في اللغة تسمى ثوب، فالإزار مثل المُحرم يلبس ثوبين، الإزار هذا يسمى ثوب، لُفافة يشد بها النصف الأسفل، ولُفافة يضعها على كتفيه، فالفوطة التي يضعها على كتفيه هذا يسمى ثوب، والذي يشد به إزاره يسمى ثوب؛ ثوبان.
فيجوز للإنسان أن يصلي في ثوبٍ واحد في قطعة واحدة يشد بها النصف الأسفل، يستر العورة من السُرة إلى الركبة، ولو كان مكشوف الكتفين.
ولهذا لمَّا قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أيصلي الرجل في الثوب الواحد؟ قال: «أَوَ لِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ؟» هل يستطيع كل واحد ثوبين؟! لا يستطيع كل أحد ثوبين.
ثبت –أيضًا- في الصحيح: أنَّ جابر –رضي الله عنه- كان عليه إزار ورداء، إزار يشد به النصف الأسفل، والرداء على كتفيه، فلمَّا أراد أن يصلي وضع الرداء على كتفيه وصلى بالناس، فقال له أحد التابعين: أتصلي وردائك على المشجب؟ قال: أردت أن يسألني أحمق مثلك –أحمق يعني جاهل- فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: («أَوَ لِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ؟»). يعني ما كل أحد يستطيع الثوبين، وذلك من قلة ذات اليد، كانوا لا يجدون، أهل الصُّفَّة كانوا يعيشون في غرفة في المسجد ما يقرب من سبعين، ليس أحدٌ منهم له إزار ورداء، حتى الإزار كان قصير يجمعه بيده إذا أراد أن يسجد كراهية أن تُرى عورته.
فهذا دليل على جواز الصلاة في الثوب الواحد، والقميص يسمى ثوب، والغُترة تسمى ثوب وهكذا في اللغة العربية، أما في عُرفنا الآن يسمى الثوب القميص، والقميص هذا قطعة، وكان العرب في العادة يلبسون الأُزر والأردية؛ مثل المُحرم، إزار يشد به النصف الأسفل، ورداء عليه، وربما أحيانًا يلبسون القُمص التي نلبسها.
ولهذا لمَّا كسفت الشمس في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، قام النبي مسرعًا يجر ردائه يخشى أن تكون الساعة، فكانوا إذا دخل الواحد البيت وضع الرداء، وإذا أراد أن يخرج وضعه عليه، فلما أراد أن يخرج النبي جر ردائه من العجلة ووضعه على كتفيه، هذا دليل على أنه لابس إزار ورداء –عليه الصلاة والسلام-.
وهذا إذا لم يجد غيره فلا إشكال، لكن إذا وجد غيره، فهل له أن يصلي وكتفاه مكشوفتان؟
قال بعض العلماء بهذا، والجمهور على الجواز لحديث جابر هذا.
وقال آخرون من أهل العلم: إذا وجد ما يستر به كتفيه يجب عليه أن يستر كتفيه؛ لما ثبت في الحديث الصحيح أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَا يُصَلِّي أَحَدكُمْ فِي الثَّوْب الْوَاحِد لَيْسَ عَلَى عَاتِقه مِنْهُ شَيْء».
وهذا هو الصواب: أنه إذا وجد ما يستر الكتفين يسترهما، وإن لم يجد فصلاته صحيحة.
وإذا لم يسترهما مع القدرة قيل: يأثم، وقيل: لا يأثم، ولكن كون الإنسان يصلي في قميص، أو في إزار ورداء، أو في ثوب وسروال، هذا أفضل، ولهذا قال عُمر –رضي الله عنه-: إذا وَسَّع الله فوسعوا، يصلي الإنسان في إزارٍ ورداء، في قميصٍ وقباء، في تُبَّان وكذا، المقصود أنه كلما كان أستر فهو أفضل، لكن مع قلة ذات اليد وعدم الوجود، فالأمر واسع، إذا ستر العورة كفاه.
أَخبرنَا أَبُو طَاهِرٍ، قال: حدثنَا أَبُو بَكْرٍ، قال: حدثنَا بُنْدَارٌ، قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قال: حدثنَا يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ، قال: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي أَنْظُرُ فِي الْمَسْجِدِ مَا أَكَادُ أَنْ أَرَى رَجُلًا يُصَلِّي فِي ثَوْبَيْنِ، وَأَنْتُمُ الْيَوْمَ تُصَلُّونَ فِي اثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ.
يعني يُبين أن الصحابة أصابهم شدة ولا سيمَّا في أول الأمر، يقول: أنظر من في المسجد ما أجد أحد عليه ثوبين، ما أجد إلا قطعة واحدة يشد بها النصف الأسفل، ما في واحد عليه قطعة على الجزء الأسفل، وقطعة على الأعلى، وأنتم الآن تصلون في ثوبين وفي ثلاثة، فإن الله وَسعَّ عليهم فيما بعد.
أَخبرنَا أَبُو طَاهِرٍ، قال: حدثنَا أَبُو بَكْرٍ، قال: حدثنَا عِيسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْغَافِقِيُّ، قال: حدثنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: وَسُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يُصَلِّي فِي قَمِيصٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَيْهِ إِزَارُهُ. فَقَالَ: لَيْسَ بِذَلِكَ بَأْسٌ إِذَا كَانَ يُوَارِيهِ. وَقَالَ ذَلِكَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ.
(إِذَا كَانَ يُوَارِيهِ) إذا كان يستر عورته، لا بأس يصلي بقميص -ثوب- وليس عليه سروال، إذا كان الثوب صغير يستر العورة فلا بأس، ولكن الأفضل إذا كان يجد يلبس سروال، هذا أكمل في السِتر، السروال مع القميص.
وَقَالَ بُكَيْرٌ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: قَدْ كُنَّا نُصَلِّي فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ حَتَّى جَاءَنَا اللَّهُ بِالثِّيَابِ، فَقَالَ: لَا تُصَلُّوا إِلَّا فِي ثَوْبَيْنِ. فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: لَيْسَ فِي هَذَا شَيْءٌ، قَدْ كُنَّا نُصَلِّي فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ وَلَنَا ثَوْبَانِ.
فَقِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَلَا تَقْضِي بَيْنَ هَذَيْنِ -وَهُوَ مَعَهُمْ-؟ قَالَ: أَنَا مَعِي.
يعني كان ابن مسعود يقول: كنا نصلي في ثوب واحد، والآن إذا وَسع الله يلبس الإنسان ثوبين، فقال أُبي: حتى ولو كان هناك ثوبان يكفي واحد، فاحتكموا إلى عُمر.
والمراد بالثوب الواحد: القطعة الواحدة، سواء كان قميص، أو إزار يشد به النصف الأسفل، إذا كان ساتر للعورة فالصلاة صحيحة، ولكن إذا وَسَّع الله على الإنسان وكان عنده سعة، ورَزقه الله ثوب آخر، لبس ثوب آخر أو سروال فهذا هو الأفضل.
بَابُ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ طَرَفَيِ الثَّوْبِ إِذَا صَلَّى الْمُصَلِّي فِي الرِّدَاءِ الْوَاحِدِ أَوِ الْإِزَارِ الْوَاحِدِ
قال: : أَخبرنَا أَبُو طَاهِرٍ، قال: حدثنَا أَبُو بَكْرٍ، قال: حدثنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، أَخْبَرَنَا حَمَّادٌ -يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ-؛ ح وَحَدَّثَنَا بُنْدَارٌ وَيَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ؛ ح وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قال: حدثنَا أَبُو أُسَامَةَ؛ وَحَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ، قال: حدثنَا وَكِيعٌ، كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، ح وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، قال: حدثنَا الْحَسَنُ بْنُ حَبِيبٍ -يَعْنِي ابْنَ نُدْبَةَ- قال: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ قَدْ خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ.
والمراد بالثوب الواحد؛ القطعة كما سبق، (ثَوْبٍ وَاحِدٍ قَدْ خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ) يعني فوطة كبيرة، أو شرشف، يلفه على جسمه ثم يُخالف بين طرفيه، طرف الفوطة على الكتف هذا، وطرف على الكتف هذا، إذا كان ثوب واحد يخالف بين طرفيه حتى يكون أستر له، يَثبُت، لكن إذا ترك الطرفين ربما تنكشف العورة، إذا كانت عنده قطعة واحدة، يعني قطعة واحدة ما عليه سروال ولا فنيلة، شرشف، أو فوطة كبيرة يتجلل بها، ثم يجعل الطرف على الكتف هذا، والطرف على الكتف هذا، إذا كان ثوب واحد يخالف بين طرفيه ليكون أستر له.
أما إذا كان عليه ثوب آخر، أو عليه سروال هذا ما فيه إشكال، هذا الكلام إذا كان قطعة واحدة على عادة العرب، إذا كان قطعة واحدة فإنه يخالف بين طرفيه؛ حتى يكون هذا أستر؛ لأنه إذا خالف بين طرفيه صار مُنضم في ستر العورة، لكن إذا لم يخالف طرفيه ربما انكشفت العورة.
بَابُ إِبَاحَةِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، وَبِحَضْرَةِ الْمُصَلِّي ثِيَابٌ لَهُ غَيْرُ الثَّوْبِ الْوَاحِدِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ
قال: أَخبرنَا أَبُو طَاهِرٍ، قال: حدثنَا أَبُو بَكْرٍ، قال: حدثنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُخَالِفًا بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ، وَثِيَابُهُ عَلَى الْمِشْجَبِ.
وكذلك ثبت أيضًا عن جابر –رضي الله عنه- أنه صلى وثوبه على المشجب، هذا فيه دليل على جواز الصلاة في الثوب الواحد، ولو كان كتفاه مكشوفتين، كما في حديث جابر أنه صلى ورداءه على المشجب، فعل هذا البيان الجواز.
وهذا هو مذهب جمهور العلماء: أنه يجوز للإنسان أن يصلي في الثوب الواحد ولو لم يستر كتفيه، ولو كان عنده ثياب.
وذهب بعض العلماء إلى أنه يجب عليه أن يستر كتفيه إذا كان يجد، جمعًا بينه وبين الحديث الآخر: «لَا يُصَلِّي أَحَدكُمْ فِي الثَّوْب الْوَاحِد لَيْسَ عَلَى عَاتِقه مِنْهُ شَيْء»، وهو حديث صحيح.
بَابُ عَقْدِ الْإِزَارِ عَلَى الْعَاتِقَيْنِ، إِذَا صَلَّى الْمُصَلِّي فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ ضَيِّقٍ
قال: أَخبرنَا أَبُو طَاهِرٍ، قال: حدثنَا أَبُو بَكْرٍ، قال: حدثنَا أَبُو قُدَامَةَ، قال: حدثنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، قال: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كَانَ رِجَالٌ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَاقِدِينَ أُزُرَهُمْ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ كَهَيْئَةِ الصِّبْيَانِ، فَيُقَالُ لِلنِّسَاءِ: لَا تَرْفَعْنَ رُؤُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِي الرِّجَالُ جُلُوسًا.
هذا فيه بيان أنَّ الإنسان إذا لم يجد ثوب إلا قطعة، وكانت القطعة ليست واسعة يعقدها على عاتقه، أو على رقبته حتى تَثبت، حتى يستر بها العورة، كان بعض الصحابة لا يجدون إلا قطعة صغيرة قد لا تستر العورة.
ولهذا قيل للنساء –وكان النساء يصلين مع الرجال خلف الرجال، وليس هناك حاجز بينهم، لا جدار، ولا خباء-، فيقال للنساء: «لَا تَرْفَعْنَ رُؤُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِي الرِّجَالُ جُلُوسًا» لأنه قد يسجد ويبدو شيءٌ من العورة، فتشاهده النساء من بُعد، قيل للنساء: تأخرن حتى يستوي الرجال قيامًا، أو قعودًا، ثم تتبعهم النساء، وهذا عند عدم الحاجة ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾[البقرة:286]، لكن إذا وجد يجب عليه أن يستر العورة، وليس له أن يصلي في ثوبٍ قصير تبدو منه العورة.
قال: أَخبرنَا أَبُو طَاهِرٍ، قال: حدثنَا أَبُو بَكْرٍ، قال: حدثنَا بِنَحْوِهِ سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ، قال: حدثنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَزَادَ قَالَ: مِنْ ضِيقِ الْأُزُرِ.
(مِنْ ضِيقِ الْأُزُرِ) لأنه قصير يَعقده على عاتقه حتى يثبت؛ لأنه إذا تركه بدت العورة.
ثم قال: أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ، قال: حدثنَا أَبُو بَكْرٍ، قال: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ
(الْهَمْدَانِيُّ) بالدال هَمْداني، إذا كان نسبه إلى البلد، وإذا كان بالذال نسبة إلى بلدة في الشرق (هَمَذان).
قال: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنْتُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ، مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ، إِمَّا بُرْدَةٌ أَوْ كِسَاءٌ قَدْ رَبَطُوهَا فِي أَعْنَاقِهِمْ. فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ السَّاقَ وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ، فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ كَرَاهِيَةَ أَنْ تُرَى عَوْرَتُهُ.
وهذا فيه بيان للشدة التي أصابت الصحابة في أول الأمر، حتى كان بعض الصحابة ما له أحد، ما لهم أهل، يسكنون في غرفة تُسمى (الصُّفَّة)، غرفة في المسجد، ما يقرب من سبعين، وليس أحدٌ منهم له قطعتين، قطعة واحدة، ما منهم أحد له إزار ورداء، أكثرهم ما عليه إلا إزار وكان قصير، بعضهم يصل إلى الركبة، بعضهم يصل إلى الساق، بعضهم يصل إلى الكعب، فإذا أراد أن يسجد جمعه بيديه كراهية أن تُرىَ عورته، أصابهم شدة.
وذلك دليل على أن الدنيا ليست مقياس، وهم خيار الناس وأفضل الناس، والدنيا يُعطيها الله من يحب، ومن لا يحب، لكن لم يضرهم ذلك، صبروا، ونشروا دين الله في مشارق الأرض وفي مغاربها، وأفلحوا، وفازوا برضوان الله، ولا يضرهم ما أصابهم من القلة في الدنيا، وُفِّرت لهم حسناتهم في الآخرة.
ولهذا بعض الصحابة لمَّا وسع الله عليهم بعد ذلك خافوا، خافوا أن يكون أكلوا شيئًا من أجرهم وثوابهم، كذلك عبد الرحمن بن عوف وغيره لمَّا قُدم لهم طعام بكوا وقالوا: إنه توفي فلان من الصحابة ولم يُوجد له ما يُكفَّن به.
بعض الصحابة أتي بقطعة ليست طويلة، إن غُطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غُطي به رجلاه بدت رأسه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم- أن يُغطى بها الرأس، ويُجعل على رجليه شيءٌ من الحشائش، ولهذا لما تذكر بعض الصحابه وهو صائم بكي وترك الطعام ذكر هذا –رضي الله عنهم وأرضاهم-.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَبُو حَازِمٍ مَدَنِيٌّ، اسْمُهُ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ الَّذِي رَوَى عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ. وَالَّذِي رَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سَلْمَانُ الْأَشْجَعِيُّ.
بَابُ الزَّجْرِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ الْوَاسِعِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِ الْمُصَلِّي مِنْهُ شَيْءٌ، بِذِكْرِ خَبَرٍ مُجْمَلٍ غَيْرِ مُفَسَّرٍ
قال: أخبرَنَا أَبُو طَاهِرٍ، قال: حدثنَا أَبُو بَكْرٍ، قال: حدثنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ؛ ح وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قال: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ؛ ح وَحَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ، قال: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ». غَيْرَ أَنَّ عَبْدَ الْجَبَّارِ قَالَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ.
وهذا في الصحيح أيضًا، وهو يُعارض الخبر السابق، والمؤلف كان يميل إلى أنه مُجمل، فمن العلماء من أخذ من الحديث الأول -حديث جابر وغيره-: أنه صلى في الثوب الواحد، وأنه يجوز كشف الكتفين مع القدرة.
وقال آخرون من أهل العلم: إنه يُجمع بين الحديثين بأنه يجب ستر الكتفين عند القدرة، أما عند العجز فلا، إذا كان عنده ثياب يجب عليه أن يستر الكتفين مع العورة، وإن لم يكن عنده ثياب فلا حرج، يكفيه ستر العورة.
بَابُ ذِكْرِ الْخَبَرِ الْمُفَسِّرِ لِلَّفْظَةِ الْمُجْمَلَةِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا، وَالدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الزَّجْرَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِ الْمُصَلِّي مِنْهُ شَيْءٌ، إِذَا كَانَ الثَّوْبُ وَاسِعًا، إِذِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَبَاحَ الصَّلَاةَ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ الضَّيِّقِ إِذَا شَدَّهُ الْمُصَلِّي عَلَى حَقْوِهِ
قال: أخبرَنَا أَبُو طَاهِرٍ، قال: حدثنَا أَبُو بَكْرٍ، قال: حدثنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قال: حَدَّثَنَا أَبُو بَحْرٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ الْبَكْرَاوِيُّ، قال: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، قال: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: رَآنِي ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا أُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ: أَلَمْ أَكُنْ أُكْسِكَ ثَوْبَيْنِ؟ قَالَ، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَرْسَلْتُكَ فِي حَاجَةٍ أَكُنْتَ مُنْطَلِقًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَزَّيَّنَ لَهُ. ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِكُمْ إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ فَلْيَشُدَّ بِهِ حَقْوَهُ، وَلَا يَشْتَمِلْ بِهِ اشْتِمَالَ الْيَهُودِ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا الْخَبَرُ أَيْضًا مُجْمَلٌ غَيْرُ مُفَسَّرٍ، أَرَادَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهَذَا الثَّوْبِ الَّذِي أَمَرَ بِشَدِّهِ عَلَى حَقْوِهِ، الثَّوْبَ الضَّيِّقَ دُونَ الْوَاسِعِ. وَالْمُفَسِّرُ لِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ.
أخبرَنَا أَبُو طَاهِرٍ، قال: حدثنَا أَبُو بَكْرٍ، قال: وَهُوَ مَا حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قال: حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ، قال: حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ: أَنَّهُ أَتَى جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، هُوَ وَنَفَرٌ قَدْ سَمَّاهُمْ، فَلَمَّا دَخَلْنَا عَلَيْهِ وَجَدْنَاهُ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُلْتَحِفًا بِهِ قَدْ خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ وَرِدَاؤُهُ قَرِيبٌ مِنْهُ، لَوْ تَنَاوَلَهُ لَبَلَغَهُ، قَالَ: فَلَمَّا سَلَّمَ، سَأَلْنَاهُ عَنْ صَلَاتِهِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ.
فَقَالَ: أَفْعَلُ هَذَا لِيَرَانِي الْحَمْقَى أَمْثَالُكُمْ
(الْحَمْقَى) يعني الجُهال.
فَقَالَ: أَفْعَلُ هَذَا لِيَرَانِي الْحَمْقَى أَمْثَالُكُمْ، فَيُفْشُوا عَنْ جَابِرٍ رُخْصَةٌ رَخَّصَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنِّي خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَجِئْتُهُ لَيْلَةً لِبَعْضِ أَمْرِي فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي وَعَلَيَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ قَدِ اشْتَمَلْتُ بِهِ، وَصَلَّيْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: «مَا السُّرَى يَا جَابِرُ؟» فَأَخْبَرْتُهُ بِحَاجَتِي.
فَلَمَّا فَرَغْتُ، قَالَ: «يَا جَابِرُ! مَا هَذَا الِاشْتِمَالُ الَّذِي رَأَيْتُ؟» فَقُلْتُ: كَانَ ثَوْبًا وَاحِدًا ضَيِّقًا. فَقَالَ: «إِذَا صَلَّيْتَ وَعَلَيْكَ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ».
يعني هذا كأن المؤلف أبو بكر بن خزيمة يرى أن هذا الحديث هو الذي يفسر، وأنه «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» يعني مقصوده: إذا كان واسعًا، إذا كان قطعة واسعة يشد بها إزاره ويضعها على كتفيه طرفها، أما إذا كان قصير يكفي يشد بها النصف الأسفل، كأن أبو بكر بن خزيمة يحمل هذا، أما إذا كان قطعة واحدة فإنه يصلي بها، فيجوز أن يصلي ولو كان كتفيه مكشوفين، لكن إذا كان واسع، إذا كان قطعة واسعة فإنها يستر بها الكتفين مع ستر العورة، وإن كان قطعة قصيرة يستر العورة.
فهو يحمل هذا على حديث «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» إذا كان كبيرًا، إذا كان واسعًا يستطيع أن يستر الكتفين معها، أما إذا كان قطعة واحدة قصيرة يشد بها إزاره، ولا يلزمه هنا أن يأخذ قطعتين؛ قطعة للكتفين، وقطعة للعورة، هكذا المؤلف يحمل على هذا، لكن ليس بظاهر هذا، الأقرب -والله أعلم- أنه إذا كان يجد ما يستر به كتفيه وجب، وإن لم يجد فلا حرج، سواء قطعتين أو قطعة واحدة.
بَابُ الرُّخْصَةِ فِي الصَّلَاةِ فِي بَعْضِ الثَّوْبِ الْوَاحِدِ يَكُونُ بَعْضُهُ عَلَى الْمُصَلِّي، وَبَعْضُهُ عَلَى غَيْرِهِ
توقف.