بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وآله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا ووالدَيه وللحاضرين والمستمعين.
قال ابنُ خُزيمة -رحمه الله تعالى- في صحيحه:
بَابُ الزَّجْرِ عَنِ السَّهَرِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ بِلَفْظٍ عَامٍّ مُرَادُهُ خَاصٌّ.
أخبرنا أبو طاهرٍ قال حدثنا أبو بكرٍ قال حدثنا هِلَالُ بْنُ بِشْرٍ، قال حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، قال حدثنا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَلَا يُحِبُّ الْحَدِيثَ بَعْدَهَا».
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومَن والاه، أما بعد:
مراد المؤلف في الترجمة بلفظٍ عام، ومراده خاص؛ يعني يُستثنى من ذلك، الحديث مع الأهل، والحديث مع الضيف، والحديث مع الزوج، والسهر في طلب العلم، هذا مُستثنى.
هذا مقصد المؤلف بلفظٍ عام، والمقصود به خاص، هنا: «وَلَا يُحِبُّ الْحَدِيثَ بَعْدَهَا»، وفي اللفظ الآخر: «ويكره الحديث بعدها»، وهذه الكراهة للتنزيه عند أهل العلم.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي خَبَرِ شَقِيقٍ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «جَدَبَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- السَّمَرَ بَعْدَ الْعَتَمَةِ».
القارئ: ذكر في الحاشية: (جَدَبَ) بالجيم وآخره باء يعني "ذمَّ وعاب"، وقد تصحَّف عند الطحاوي في شرح معاني الآثار إلى (حَدَثَ) بالحاء والثاء، فجعل الحديث في إباحة السمر بعد العشاء، وذكر أنه معارضٌ لحديث كراهية السمر بعدها، ثم أخذ في التوفيق بينهما، وليس بينهما تعارض لولا التصحيف، وزاد التصحيف تصحيفًا آخر فوقع في كلا طبعتي شرح معاني الآثار المصرية، والطبعة العلمية (حَدَبَ) بالباء.
الشيخ: جَدَبَ: بمعنى ذمَّ وعَاب، يؤيده اللفظ الآخر: «كان يكره النوم قبلها والحديث بعدها».
أخبرنا أبو طاهرٍ قال حدثنا أبو بكرٍ قال حدثنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، قال حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، وحدثنا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، قال حدثنا جَرِيرٌ، كِلَاهُمَا عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أخبرنا أبو طاهرٍ قال حدثنا أبو بكرٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ مَعْمَرٍ يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ الصَّمَدِ: «يَعْنِي بِالْجَدْبِ الذَّمَّ».
بَابُ ذِكْرِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ كَرَاهَةَ السَّمَرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي غَيْرِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُنَاظِرَ فِيهِ، يَسْمُرُ فِيهِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ.
وأخبرنا الشيخ الفقيه أبو الحسن علي بن مسلمٍ السُّلمي قال حدثنا عبد العزيز بن أحمد بن محمدٍ، قال أخبرنا الأستاذ الإمام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني قراءةً عليه قال: أخبرنا أبو طاهرٍ قال حدثنا أبو بكرٍ محمد بن إسحاق بن خزيمة قال حدثنا أَبُو مُوسَى، قال حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، قال حدثنا الْأَعْمَشُ، وَحَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ، قال حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَا: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، جِئْتُ مِنَ الْكُوفَةِ وَتَرَكْتُ بِهَا رَجُلًا يُمْلِي الْمَصَاحِفَ عَنْ ظَهَرِ قَلْبِهِ، فَغَضِبَ عُمَرُ وَقَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَزَالُ يَسْمُرُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ اللَّيْلَةَ كَذَاكَ فِي الْأَمْرِ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ خَبَرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ هَذَا الْجِنْسِ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَدِّثُنَا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى يُصْبِحَ مَا يَقُومُ فِيهَا إِلَّا إِلَى عُظْمِ صَلَاةٍ».
يعني أنه يسهر، مُستثنى هذا لطلب العلم.
أخبرنا أبو طاهرٍ قال حدثنا أبو بكرٍ قال حدثنا بُنْدَارٌ، قال حدثنا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قال حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وحدثنا بُنْدَارٌ، قال حدثنا عَفَّانُ، قال حدثنا أَبُو هِلَالٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمِثْلِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: "فَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ كَانَ يُحَدِّثُهُمْ بَعْدَ الْعِشَاءِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيَتَّعِظُوا مِمَّا قَدْ نَالَهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ لَمَّا عَصَوْا رُسُلَهُمْ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا فَجَائِزٌ لِلْمَرْءِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا يَعْلَمُ أَنَّ السَّامِعَ يَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، إِذِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ كَانَ يَسْمُرُ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي الْأَمْرِ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى مَنْفَعَتِهِمْ عَاجِلًا وَآجِلًا دِينًا وَدُنْيَا، وَكَانَ يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيَنْتَفِعُوا بِحَدِيثِهِ، فَدَلَّ فِعْلُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَنَّ كَرَاهَةَ الْحَدِيثِ بَعْدَ الْعِشَاءِ بِمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ دِينًا، وَلَا دُنْيَا، وَيَخْطِرُ بِبَالِي أَنَّ كَرَاهَتَهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الِاشْتِغَالَ بِالسَّمَرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُثَبِّطُ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اشْتَغَلَ أَوَّلَ اللَّيْلِ بِالسَّمَرِ ثَقُلَ عَلَيْهِ النَّوْمُ آخِرَ اللَّيْلِ، فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ، وَإِنِ اسْتَيْقَظَ لَمْ يَنْشَطْ لِلْقِيَامِ".
جُمَّاعُ أَبْوَابِ صَلَاةِ الْخَوْفِ
بركة، الحاصل: أنَّ الحديث بعد صلاة العشاء مكروه، هذا الأصل، ويُستثنى من هذا ما فيه مصلحة، كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- -كما جاء في الحديث- كان يسمُرُ مع أهله، ويسمُرُ مع الضيف، وكذلك يسمُرُ مع أبي بكر وعمر في التشاور في أمور المسلمين، هذا مستثنى.
كون الإنسان يتحدث مع أهله في البيت قبل النوم، أو مع الضيف، أو كذلك المشاورة في أمور المسلمين، كذلك أيضًا اجتماع رجال الحُسبة والهيئات في مكاتب للتشاور في أمور المسلمين، والقبض على الفسَّاق والعُصاة، كذلك أيضًا السَّمر في طلب العلم.
أمَّا أكثر جلسات الناس اليوم كلها بعد العشاء، كلها في قيل وقال، وأشد من ذلك إذا كانت في غيبة أو في نميمة، وفي سِباب، وفي شِتام، وفي لَعب، لَعب ورق وما أشبه لعب القمار، كل هذا مكروه، وقد يكون محرم إذا كان فيه غيبة أو نميمة.
وذكر المؤلف قال: لم يخطر ببالي أنَّ السَّهر يثبط الإنسان عن قيام الليل لمَن كان يقوم الليل، ومَن كان لا يقوم الليل ثُبِّط عن صلاة الفجر.
السهر هذا إن سَهر ما استطاع أن يقوم لصلاة الفجر، ينبغي ترك عدم الحرص على القيام إلا إذا كان فيه خير، لو كان فيه مصلحة، أو كان فيه مثلا اجتماع في طلب العلم، أو قراءة في كتاب، حتى لا يكون من أمور الدنيا المحضة، فهذا لا بأس.
س: وجه غضب عمر -رضي الله عنه-؟ جاء رجل إلى عمر وهو واقفٌ بعرفة، فقال: "يا أمير المؤمنين، جئت من الكوفة، وتركت فيها رجلٌ يُملي المصاحف عن ظهر قلب"، فغضب عمر.
الشيخ: يعني كأنه يمليها بعد العشاء؛ ما ذكر أنه بعد العشاء، لكي يكون مناسب، ظاهره أنه كان يمليها بعد العشاء، كأن هذه المصاحف يمكن في غير الحديث، مُحتمل، حتى تكون مناسبة يعني أنَّه كان يمليها على الناس بعد العشاء، كأن هذا من القصاصين، القُصاص أو الوُّعاظ، الذين يذكرون الحكايات والأخبار التي لا سند لها ولا أصل يمليها بعد العشاء، فيكون هذا ممنوع، لعل هذا يُحمل على هذا.
هذا الذي يملي قصَّاص، يعني كان في ذلك الوقت قصَّاص، ويسمونهم قُصَّاص أو وعاظ، يعظون الناس بالحكايات ويعظونهم بأشياء من غير الحديث، حكايات لا أصل لها، قد يكون هذا بعد العشاء، فلذلك غضب عمر، ليس ببعيد أن يكون هذا؛ لأنه ما ذكر شيء من هذا.