شعار الموقع

سورة النور - 4

00:00
00:00
تحميل
64

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ({لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ‌‌(١٢) لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٣)}.
هَذَا تَأْدِيبٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قصة عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، حِينَ أَفَاضَ بَعْضُهُمْ في ذَلِكَ الْكَلَامِ السَّيِّئِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ شَأْنِ الْإِفْكِ، فَقَالَ: {لَوْلا} بِمَعْنَى: هَلَّا {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} أَيْ: ذَلِكَ الْكَلَامَ، أَيْ: الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} أَيْ: قَاسُوا ذَلِكَ الْكَلَامَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ كَانَ لَا يَلِيقُ بِهِمْ فَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي أَيُّوبَ خَالِدِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَامْرَأَتِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَار، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بَعْضِ رِجَالِ بَنِي النَّجَّارِ؛ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ خالدَ بْنَ زَيْدٍ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ أَيُّوبَ: يَا أَبَا أَيُّوبَ، أَمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَذَلِكَ الْكَذِبُ. أكنتِ فَاعِلَةً ذَلِكَ يَا أُمَّ أَيُّوبَ؟ قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ مَا كنتُ لِأَفْعَلَهُ. قَالَ: فَعَائِشَةُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْكِ. قَالَ: فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ ذَكَرَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، مَنْ قَالَ فِي الْفَاحِشَةِ مَا قَالَ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النُّورِ: ١١]، وَذَلِكَ حَسَّانُ وَأَصْحَابُهُ، الَّذِينَ قَالُوا مَا قَالُوا، ثُمَّ قَالَ: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ} الْآيَةَ، أَيْ: كَمَا قَالَ أَبُو أَيُّوبَ وَصَاحِبَتُهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدَيُّ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَفْلَحَ مَوْلَى أَبِي أَيُّوبَ، أَنَّ أُمَّ أَيُّوبَ قَالَتْ لِأَبِي أَيُّوبَ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ؟ قَالَ: بَلَى، وَذَلِكَ الْكَذِبُ، أَفَكُنْتِ يَا أُمَّ أَيُّوبَ [فَاعِلَةً ذَلِكَ]؟ قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ. قَالَ: فَعَائِشَةُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْكِ. فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ، وَذَكَرَ أَهْلَ الْإِفْكِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} يَعْنِي: أَبَا أَيُّوبَ حِينَ قَالَ لِأُمِّ أَيُّوبَ مَا قَالَ.
وَيُقَالُ: إِنَّمَا قَالَهَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ.
وَقَوْلُهُ: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} أَيْ: هَلا ظَنُّوا الْخَيْرَ، فَإِنَّ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَهْلُهُ وَأَوْلَى بِهِ، هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَاطِنِ، {وَقَالُوا} أَيْ: بِأَلْسِنَتِهِمْ {هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} أَيْ: كَذِبٌ ظَاهِرٌ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ الَّذِي وَقَعَ لَمْ يَكُنْ رِيبَةً، وَذَلِكَ أَنَّ مَجِيءَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَاكِبَةً جَهْرَة عَلَى رَاحِلَةِ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ فِي وَقْتِ الظَّهِيرَةِ، وَالْجَيْشُ بِكَمَالِهِ يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِهُمْ، لَوْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ فِيهِ رِيبَةٌ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا جَهْرَة، وَلَا كَانَا يُقدمان عَلَى مِثْلِ ذلك على رؤوس الْأَشْهَادِ، بَلْ كَانَ يَكُونُ هَذَا -لَوْ قُدر- خُفْيَةً مَسْتُورًا، فتعيَّن أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ أَهْلُ الْإِفْكِ مِمَّا رَمَوا بِهِ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ الْكَذِبُ الْبَحْتُ، وَالْقَوْلُ الزُّورُ، والرّعُونة الْفَاحِشَةُ [الْفَاجِرَةُ] وَالصَّفْقَةُ الْخَاسِرَةُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْلا} أَيْ: هَلَّا {جَاءُوا عَلَيْهِ} أَيْ: عَلَى مَا قَالُوهُ {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} يَشْهَدُونَ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءُوا بِهِ {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} أَيْ: فِي حُكْمِ الله كَذَبَةٌ فاجرون).
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذه الآيات فيها تأديب من ربنا سبحانه وتعالى للمؤمنين، وإرشاد لهم بالإحسان في القول والفعل، القول الإحسان في الباطن والظاهر، أما في الباطن فإن عليهم أن يظنوا بأم المؤمنين خيرًا كما يظنوا بأنفسهم، يقيسون ذلك على أنفسهم، كما أنهم لا يظنون بأنفسهم إلا خيرًا، فأم المؤمنين أولى ألا يظن بها إلا خيرًا، وأما الظاهر فتكذيب هذا الخبر، والقول بأنه كذب وإفك مبين ظاهر، ولهذا قال الله سبحانه: ﴿لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا﴾[النور:12]، هذا هو الإحسان في الباطن، أن يحسنوا الظن في الباطن، يحسنوا الظن بأم المؤمنين، كما يحسنون الظن بأنفسهم، ﴿وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ﴾[النور:12]، هذا تكذيب في الظاهر، هذا تكذيب لهذا الخبر في الظاهر، هذا إفك، وقالوا: الإفك هو أسوء الكذب، إفك مبين ظاهر؛ لأن أم المؤمنين رضي الله عنها جاءت وقت الضحى ووقت الظهيرة على رؤوس الأشهاد راكبة ناقة صفوان، لو كان فيه ريبة لما كان هذا ظاهرًا على رؤوس الأشهاد.
ثم قال الله: ﴿لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾[النور:13]، يعني هؤلاء الذين جاؤوا بالإفك لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء، يعني هؤلاء الذين جاؤوا بالإفك لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء على ما قالوا حتى تكون شهادتهم مقبولة، فإذ لم يأتوا بالشهداء، فأولئك عند الله هم الكاذبون أي: في حكم الله وشرعه ودينه، أن القاذف إذا لم يأت بأربعة شهداء فهو كاذب، يجلد ثمانين جلدة، هؤلاء الذين رموا أم المؤمنين عائشة هلا جاؤوا عليه بأربعة شهداء حتى يصدقونهم، فإذ لم يأتوا بالشهداء الأربعة فهم في حكم الله، وفي شرع الله ودينه كذبة يقام عليهم الحد، كما قال سبحانه في الآيات السابقة، ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾[النور:4]، فبين بهذا بطلان هذا الخبر، وأنه يجب تكذيبه ظاهرًا وباطنًا، ظاهرًا بالتكذيب، وباطنًا بإحسان الظن بأم المؤمنين رضي الله عنها كما يحسن الإنسان الظن بنفسه فأم المؤمنين أولى بإحسان الظن.
({وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‌‌(١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥)}.
يَقُولُ [اللَّهُ]: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أَيُّهَا الْخَائِضُونَ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ، بِأَنْ قَبِلَ تَوْبَتَكُمْ وَإِنَابَتَكُمْ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَعَفَا عَنْكُمْ لِإِيمَانِكُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ}، مِنْ قَضِيَّةِ الْإِفْكِ، {عَذَابٌ عَظِيمٌ}. وَهَذَا فَيَمَنْ عِنْدَهُ إِيمَانٌ رَزَقَهُ اللَّهُ بِسَبَبِهِ التَّوْبَةَ إِلَيْهِ، كمِسْطَح، وَحَسَّانَ، وحَمْنةَ بِنْتِ جَحْشٍ، أُخْتِ زينبَ بِنْتِ جَحْشٍ. فَأَمَّا مَنْ خَاضَ فِيهِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ وَأَضْرَابِهِ، فَلَيْسَ أُولَئِكَ مُرَادِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَا يُعَادِلُ هَذَا وَلَا مَا يُعَارِضُهُ. وَهَكَذَا شَأْنُ مَا يَرِدُ مِنَ الْوَعِيدِ عَلَى فِعْلٍ مُعَيَّنٍ، يَكُونُ مُطْلَقًا مَشْرُوطًا بِعَدَمِ التَّوْبَةِ، أَوْ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ عَمَل صَالِحٍ يوازنُه أَوْ يَرجح عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} قَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَيْ: يَرْوِيهِ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ، يَقُولُ هَذَا: سَمِعْتُهُ مِنْ فُلَانٍ، وَقَالَ فَلَانٌ كَذَا، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ كَذَا).
﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[النور:14]، هذا في بيان رحمة الله -عَزَّ وَجَلَّ- للمؤمنين الذين تكلموا وزلت بهم القدم، الله تعالى رحمهم بسبب إيمانهم، وطهرهم من هذا بالتوبة والحد؛ كمسطح بن أثاثة، ابن خالة أبي بكر الصديق، وحمنة بنت جحش، وحسان، هؤلاء المؤمنون زلت بهم القدم، لكن الله طهرهم بالتوبة وبإقامة الحد، جمع لهم بين الطهارتين، إقامة الحد طهارة، والتوبة طهارة، أما المنافقون فليس عندهم إيمان؛ كعبد الله بن أبي وغيره، ليس عندهم إيمان، فليسوا مرادين بذلك، ولهذا قال: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[النور:14]، ورحمته هذه للمؤمنين، أما المنافقون فليسوا مرادين؛ لأنهم ليس عندهم إيمان، هذا زيادة فيه، فكونهم يتكلمون بالإفك هذا زيادة في كفرهم ونفاقهم، نسأل الله السلامة والعافية، وليس عندهم إيمان، وإنما المراد المؤمنون، ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[النور:14]، لولا أن الله رحمكم، مسطح، وحمنة، وحسان، فيما أفاضوا فيه لمسهم عذاب، فالله رحمهم بالتوبة، وبإقامة الحد، ثم أدبهم فقال: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾[النور:15]، تتلقون، وتتقاذفون هذا الكلام أو تلقونه بألسنتكم، ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾[النور:15]، هذا تأديب من الله تعالى لهؤلاء المؤمنين.
(وَقَرَأَ آخَرُونَ {إِذْ تَلِقُونَه بِأَلْسِنَتِكُمْ}. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا كَانَتْ تَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ وَتَقُولُ: هُوَ مِنْ وَلَق الْقَوْلِ. يَعْنِي: الْكَذِبَ الَّذِي يَسْتَمِرُّ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ، تَقُولُ الْعَرَبَ: وَلَق فُلَانٌ فِي السَّيْرِ: إِذَا اسْتَمَرَّ فِيهِ، وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى أَشْهَرُ، وَعَلَيْهَا الْجُمْهُورُ، وَلَكِنَّ الثَّانِيَةَ مَرْويَّة عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ).
نعم قراءة الجمهور ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾[النور:15]، يعني يتلقى بعضكم عن بعض، والقراءة الثانية: تَلِقُونه.
(قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حدَّثنا أَبُو سَعِيدٍ الأشَجّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، [عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقْرَأُ: «إِذْ تَلقُونَه» وَتَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ وَلَق الْقَوْلِ -والوَلَق: الْكَذِبُ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ]: هِيَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا).
الشيخ: عن نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة، الأقرب نافع بن عمر.
الطالب: نعم، عندي عن ابن عمر.
الشيخ: نافع بن عمر.
(حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، [عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقْرَأُ: «إِذْ تَلقُونَه» وَتَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ وَلَق الْقَوْلِ -والوَلَق: الْكَذِبُ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ]: هِيَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا، وَقَوْلُهُ: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أَيْ: تَقُولُونَ مَا لَا تَعْلَمُونَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} أَيْ: تَقُولُونَ مَا تَقُولُونَ فِي شَأْنِ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَحْسَبُونَ ذَلِكَ يَسِيرًا [سَهْلًا] وَلَوْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَا كَانَ هَيِّنا، فَكَيْفَ وَهِيَ زَوْجَةُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، فَعَظِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يُقَالَ فِي زَوْجَةِ رَسُولِهِ مَا قِيلَ! اللَّهُ يَغَارُ لِهَذَا، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لَا يُقَدِّر عَلَى زَوْجَةِ نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ ذَلِكَ، حَاشَا وكَلا وَلَمَّا [لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ] فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا فِي سَيِّدَةِ نِسَاءِ الْأَنْبِيَاءِ، وَزَوْجَةِ سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟! وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}).
الله تعالى صان فرش الأنبياء وأزواج الأنبياء من الفاحشة، وطهرهن من الفاحشة، ولهذا امرأة نوح، وامرأة لوط إنما حصل لهم الكفر، لكن العرض صانه الله تعالى، ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا﴾[التحريم:10]، في الدين، وليس في العرض، الخيانة في الدين، أما العرض فإن الله تعالى قدر أن تكون أزواج الأنبياء طاهرة سليمة، صيانة لأنبيائه سبحانه وتعالى، أنبياء الله، الله تعالى صان أعراضهم، وطهرهم من أن يحصل فيها شيء مما يدنسها، وإنما الخيانة في الدين، الخيانة من امرأة نوح، وامرأة لوط خيانة في الدين لا في العرض.
(وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَط اللَّهِ، لَا يَدْرِي مَا تَبْلُغ، يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أبْعَد مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا».
{وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ‌‌(١٦) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨)}.
هَذَا تَأْدِيبٌ آخَرُ بَعْدَ الْأَوَّلِ: الْأمْرُ بِالظَّنِّ خَيْرًا أَيْ: إِذَا ذُكِرَ مَا لَا يَلِيقُ مِنَ الْقَوْلِ فِي شَأْنِ الْخِيَرَةِ فَأَوْلَى يَنْبَغِي الظَّنُّ بِهِمْ خَيْرًا).
والخيرة جمع خيار، الأخيار إذا قيل فيهم ما لا يليق بهم ينبغي أن يظن بهم خيرًا، الأخيار من المؤمنين من الرجال والنساء إذا قيل فيهم شيء لا يليق ينبغي أن يظن الإنسان فيهم خيرًا؛ لأنهم أخيار، فلا يظن بهم شرًا، ولهذا جاء في الحديث ما معناه: لا تظن بكلمة خرجت من أخيك شر، وأنت تجد لها من الخير محملًا.
(هَذَا تَأْدِيبٌ آخَرُ بَعْدَ الْأَوَّلِ: الْأمْرُ بِالظَّنِّ خَيْرًا أَيْ: إِذَا ذُكِرَ مَا لَا يَلِيقُ مِنَ الْقَوْلِ فِي شَأْنِ الْخِيَرَةِ فَأَوْلَى يَنْبَغِي الظَّنُّ بِهِمْ خَيْرًا، وَأَلَّا يُشْعِرَ نَفْسَهُ سِوَى ذَلِكَ، ثُمَّ إِنْ عَلِق بِنَفْسِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ -وَسْوَسَةً أَوْ خَيَالًا -فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حدَّثت بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَقُلْ أَوْ تَعْمَلْ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} أَيْ: مَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَفَوَّهَ بِهَذَا الْكَلَامِ وَلَا نَذْكُرَهُ لِأَحَدٍ {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} أَيْ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَنْ يُقَالَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى زَوْجَةِ رَسُولِهِ وَحَلِيلَةِ خَلِيلِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} أَيْ: يَنْهَاكُمُ اللَّهُ متوعِّدًا أَنْ يَقَعَ مِنْكُمْ مَا يُشْبِهُ هَذَا أَبَدًا، أَيْ: فِيمَا يُسْتَقْبَلُ. فَلِهَذَا قَالَ: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَشَرْعِهِ، وَتُعَظِّمُونَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِالْكُفْرِ فَذَاكَ لَهُ حُكْمٌ آخَرُ).
هذا تأديب آخر للمؤمنين، الله تعالى يعظهم أن يعودوا لمثل هذا، وما أشبهه؛ لأن إيمانهم يمنعهم من ذلك، وهو تأديب للمؤمنين بخلاف الكفرة والمنافقين؛ كعبد الله بن أبي وغيره، فهم ليسوا داخلين في هذا؛ لأنهم ليسوا مؤمنين، قال: ﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[النور:17].
(ثُمَّ قَالَ: {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ} أَيْ: يُوَضِّحُ لَكُمُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ والحِكَمَ القَدَريّة، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أَيْ: عَلِيمٌ بِمَا يُصْلِحُ عِبَادَهُ، حَكِيمٌ فِي شَرْعه وقَدَره).
فيه إثبات صفة العلم والحكمة لله، وإثبات اسم الله العليم والحكيم.
({إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (١٩)}.
وَهَذَا تَأْدِيبٌ ثَالِثٌ لِمَنْ سَمِعَ شَيْئًا مِنَ الْكَلَامِ السَّيِّئِ، فَقَامَ بِذِهْنِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَتَكَلَّمَ بِهِ، فَلَا يُكْثِرُ مِنْهُ وَيُشِيعُهُ وَيُذِيعُهُ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} أَيْ: يَخْتَارُونَ ظُهُورَ الْكَلَامِ عَنْهُمْ بِالْقَبِيحِ، {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا} أَيْ: بِالْحَدِّ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْعَذَابِ، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} أَيْ: فَرُدُّوا الْأُمُورَ إِلَيْهِ تَرْشُدُوا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا مَيْمُونُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ المَرَئيّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبّاد الْمَخْزُومِيُّ، عَنْ ثَوْبَان، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تُؤذوا عِبادَ اللَّهِ وَلَا تُعيِّروهم، ولا تطلبوا عَوَرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ طَلَبَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، طَلَبَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، حَتَّى يَفْضَحَهُ فِي بَيْتِهِ»).
هذا تأديب ثالث أيضًا يؤدب الله به عباده،  ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾[النور:19]، المؤمن يحب إشاعة الخير في المؤمنين، ولا يحب إشاعة الفاحشة، الذي يحب إشاعة الفاحشة هذا لمرض في قلبه وضعف في إيمانه، ونقص في دينه، ولهذا توعد بهذا الوعيد، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾[النور:19]، فالمؤمن يحب الخير، هكذا المؤمن، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، رواه البخاري في الصحيح، وهو حديث عظيم، يبين فيه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن الإنسان يجب عليه أن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه، فإن لم يفعل فلم يأت بالإيمان الواجب الكامل، إيمانه ناقص، إيمانه فيه نقص وضعف، «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، ومن ذلك أن المؤمن لا يحب أن تشيع الفاحشة في المؤمنين ولا في المجتمع الإسلامي، ولهذا يجب عليه ألا يذيع الأخبار التي ليس لها زمام ولا خطام، ولا يذيعها ولا يشيعها ولا يتكلم بها، بل يمسك، بل بعض الناس لا يبالي ولا سيما في هذا الزمن عن طريق التواصل الاجتماعي، كل ما سمع خبرًا أشاعه خيرًا كان أو شرًا، ولا يتأكد، لا ينبغي للإنسان أن يشيع الأخبار ويكثر منها، بل عليه أن يمسك، حتى يتبين الأمر، وإذا كان الأمر ليس فيه خير للمؤمنين لا يذيعه ولا يشيعه، لا ينبغي إذاعته وإشاعته، يقلل منه؛ لأن هذا إشاعته فيه إيذاء للمؤمنين، وإتعاب لهم، فلا ينبغي للمسلم أن يفعل هذا، بل عليه أن يقلل هذه الأخبار حتى لا تشيع في المؤمنين، وحتى لا يتعلق بها ضعفاء البصيرة والإيمان، وحتى لا يؤذي المؤمنين ويجرح مشاعرهم، ويسبب لهم الحرج والضيق.
({وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‌‌(٢٠) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‌‌(٢١)}.
يَقُولُ تَعَالَى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} أَيْ: لَوْلَا هَذَا لَكَانَ أَمْرٌ آخَرُ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى رُؤُوفٌ بِعِبَادِهِ، رَحِيمٌ بِهِمْ. فَتَابَ عَلَى مَنْ تَابَ إِلَيْهِ مِنْ هَذِهِ [الْقَضِيَّةِ] وطَهَّر مَنْ طَهَّر مِنْهُمْ بِالْحَدِّ الَّذِي أُقِيمَ عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} يَعْنِي: طَرَائِقَهُ وَمَسَالِكَهُ وَمَا يَأْمُرُ بِهِ، {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}: هَذَا تَنْفِيرٌ وَتَحْذِيرٌ مِنْ ذَلِكَ، بِأَفْصَحِ الْعِبَارَةِ وَأَوْجَزِهَا وَأَبْلَغِهَا وَأَحْسَنِهَا.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}: عَمَلَهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَغَاتِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كُلُّ مَعْصِيَةٍ فَهِيَ مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ. وَقَالَ أَبُو مِجْلَز: النُّذُورُ فِي الْمَعَاصِي مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ.
وَقَالَ مَسْرُوقٌ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إِنِّي حَرَّمْتُ أَنْ آكُلَ طَعَامًا؟ فَقَالَ: هَذَا مِنْ نَزَعَاتِ الشَّيْطَانِ، كَفِّر عَنْ يَمِينِكَ، وكُل.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ فِي رَجُلٍ نَذَر ذَبْح وَلَدِهِ: هَذَا مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ، وَأَفْتَاهُ أَنْ يَذْبَحَ كَبْشًا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: غَضِبْتُ عليَّ امْرَأَتِي فَقَالَتْ: هِيَ يَوْمًا يَهُودِيَّةٌ، وَيَوْمًا نَصْرَانِيَّةٌ، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهَا حُرٌّ، إِنْ لَمْ تُطْلِّقِ امْرَأَتَكَ. فَأَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ: إِنَّمَا هَذِهِ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ. وَكَذَلِكَ قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ أَفْقَهُ امْرَأَةٍ بِالْمَدِينَةِ، وَأَتَيْتُ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ).
خطوات الشيطان ونزغاته وطرائقه وما يأمر به من المعاصي، ومن ذلك ما حصل في قصة الإفك، هذه من نزغات الشيطان ومن خطواته التي زل بها من زل، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾[النور:21]، ولهذا جر هؤلاء الذين تكلموا بالإفك، جرهم للفحشاء والمنكر، نسأل الله العافية.
(ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} أَيْ: لَوْلَا هُوَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ التَّوْبَةَ وَالرُّجُوعَ إِلَيْهِ، وَيُزَكِّي النُّفُوسَ مِنْ شِرْكِهَا وَفُجُورِهَا وَدَسِّهَا وَمَا فِيهَا مِنْ أَخْلَاقٍ رَدِيئَةٍ، كُلٌّ بِحَسَبِهِ، لَمَا حَصَّلَ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ زَكَاةً وَلَا خَيْرًا {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} أَيْ: مَنْ خَلْقِهِ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُرْدِيهِ فِي مَهَالِكِ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ.
وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} أَيْ: سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ {عَلِيمٌ} بِهَمْ، مَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْهُمُ الْهُدَى وَالضَّلَالَ).
فيه إثبات اسمه العليم، من أسماء الله، إثبات صفة السمع والعلم.
 

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد