بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ({إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (٥٦) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨)}.
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ: أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا ارْتَحَلُوا مِنَ العَرَصات فَنَزَلُوا فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ).
العرصات: مواقف القيامة، والعرصة هي المكان الواسع الفسيح.
(يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ: أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا ارْتَحَلُوا مِنَ العَرَصات فَنَزَلُوا فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ أَنَّهُمْ {فِي شُغُلٍ [فَاكِهُونَ} أَيْ: فِي شُغُلٍ عَنْ غَيْرِهِمْ، بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَالْفَوْزِ الْعَظِيمِ.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ: {فِي شُغُلٍ} عَمَّا فِيهِ أَهْلُ النَّارِ مِنَ الْعَذَابِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} أَيْ: فِي نَعِيمٍ مُعْجَبُونَ، أَيْ: بِهِ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فَاكِهُونَ} أَيْ فَرِحُونَ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ المُسَيّب، وعِكْرِمَة، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} قالوا: شغلهم افتضاض الأبكار.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ-: {فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} أَيْ بِسَمَاعِ الْأَوْتَارِ).
الأوتار الغناء؛ لأنه مما يتلذذ به أهل الجنة، فالجنة دار نعيم.
(وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَعَلَّهُ غَلَطٌ مِنَ الْمُسْتَمِعِ، وَإِنَّمَا هُوَ افْتِضَاضُ الْأَبْكَارِ.
وَقَوْلُهُ: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} قَالَ مُجَاهِدٌ: وَحَلَائِلُهُمْ {فِي ظِلالٍ} أَيْ: فِي ظِلَالِ الْأَشْجَارِ {عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، والسُّدِّيّ، وخُصَيْف: {الأرَائِكِ} هِيَ السُّرُرُ تَحْتَ الْحِجَالِ.
قُلْتُ: نَظِيرُهُ فِي الدُّنْيَا هَذِهِ التُّخُوتُ تَحْتَ الْبَشَاخِينِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ).
هذا في زمنهم، ما نعرف أسماء هذه الأشياء، ولعلها مثل الآن مثل السرر الأنيقة وعليها الستائر في العمائر وفي الفنادق وما أشبه ذلك.
(وَقَوْلُهُ: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ} أَيْ: مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا، {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} أَيْ: مَهْمَا طَلَبُوا وَجَدُوا مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْمَلَاذِّ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ الْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ دِينَارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ المَعَافري، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، حَدَّثَنِي كُرَيْب؛ أَنَّهُ سَمِعَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا هَلْ مُشَمِّر إِلَى الْجَنَّةِ؟ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَا خَطر لَهَا هِيَ -وَرَبِّ الْكَعْبَةِ-نُورٌ كُلُّهَا يَتَلَأْلَأُ وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشيد، وَنَهْرٌ مُطَّرد...).
نقل ابن القيم أي: نور يتلألأ بدون كلها، وريحانة تهتز، وهنا كلها، لا بأس.
(...وَثَمَرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ، وَمُقَامٌ فِي أَبَدٍ، فِي دَارِ سَلَامَةٍ، وَفَاكِهَةٍ خَضِرَةٍ وحَبْرَة وَنِعْمَةٍ، وَمَحَلَّةٍ عَالِيَةٍ بَهيَّة». قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا. قَالَ: «قُولُوا: إِنْ شَاءَ اللَّهُ». قَالَ الْقَوْمُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي "كِتَابِ الزُّهْدِ" مِنْ سُنَنِهِ، مِنْ حَدِيثِ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُهَاجر، بِهِ).
الشيخ: الأول يقول: أخرجه بسنده عن من؟
الطالب: (قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ الْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ دِينَارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ المَعَافري، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، حَدَّثَنِي كُرَيْب؛ أَنَّهُ سَمِعَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ).
الشيخ: وأخرجه ابن ماجه؟
الطالب: (وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي "كِتَابِ الزُّهْدِ" مِنْ سُنَنِهِ، مِنْ حَدِيثِ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُهَاجر، بِهِ).
هنا ضعفه الشيخ في الحاشية، قال: سنده ضعيف؛ لأن سليمان بن موسى فيه لين، وقالوا: كذلك إن ابن جريج لم يلقى (...).
الشيخ: على كل حال أهل الجنة لهم من النعيم ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون.
(وَقَوْلُهُ: {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فَإِنَّ اللَّهَ نَفْسَهُ سَلَامٌ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ).
وجاء في حديث أن الله يسلم على أهل الجنة، وراه ابن ماجه، يطلع تعالى عليهم من فوقهم ويقول: السلام عليكم يا أهل الجنة.
(وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الْأَحْزَابِ: ٤٤].
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا حَدِيثًا، وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ العَبَّاداني، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ الرَّقاشيّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِر، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ، إِذْ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فَإِذَا الرَّبُّ تَعَالَى قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}. قَالَ: فَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ، وَيَبْقَى نُورُهُ وَبِرْكَتُهُ عليهم وفي ديارهم»).
الحديث فيه ضعف، لكنه معناه صحيح.
(وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي "كِتَابِ السُّنَةِ" مِنْ سُنَنِهِ، عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وهب، حَدَّثَنَا حَرْمَلة، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حُمَيد قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ القُرَظِي يُحَدِّثُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَقْبَلَ فِي ظُلَل مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةِ، قَالَ: فَيُسَلِّمُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ -قَالَ الْقُرَظِيُّ: وَهَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} -فَيَقُولُ: سَلُونِي. فَيَقُولُونَ: مَاذَا نَسْأَلُكَ أيْ رَبِّ؟ قَالَ: بَلَى سَلُونِي. قَالُوا: نَسْأَلُكَ -أيْ رَبِّ-رِضَاكَ. قَالَ: رِضَائِي أُحِلُّكُمْ دَارَ كَرَامَتِي. قَالُوا: يَا رَبِّ، فَمَا الَّذِي نَسْأَلُكَ، فَوَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ وَارْتِفَاعِ مَكَانِكَ، لَوْ قَسَّمْتَ عَلَيْنَا رِزْقَ الثَّقَلَيْنِ لَأَطْعَمْنَاهُمْ وَلَأَسْقَيْنَاهُمْ وَلَأَلْبَسْنَاهُمْ وَلَأَخْدَمْنَاهُمْ، لَا يَنْقُصُنَا ذَلِكَ شَيْئًا. قَالَ: إِنَّ لديَّ مَزِيدًا. قَالَ فَيَفْعَلُ ذَلِكَ بِهِمْ فِي دَرَجِهِمْ، حَتَّى يَسْتَوِيَ فِي مَجْلِسِهِ. قَالَ: ثُمَّ تَأْتِيهِمُ التُّحَفُ مِنَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، تَحْمِلُهَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ. ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَهَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ، أَوْرَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طُرُقٍ).
هذه الآية الكريمة فيها بيان ما أعد الله تعالى لعباده المؤمنين في الجنة من النعيم الذي لم تره العيون ولم تسمعه الآذان، ولم يخطر على القلوب، قال سبحانه: ﴿إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ﴾[يس:55]، في شغل من النعيم الذي يتنعمون به، يتلذذون، يتفكهون، ﴿هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ﴾[يس:56]، ظلال الجنة، ﴿لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ﴾[يس:57]، جنس عام لجميع أنواع الفواكه، ﴿لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ﴾[يس:57]، لهم كل ما يطلبون، كل ما يطلبون يحصل لهم، ﴿سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾[يس:58]، يسلم عليهم الرب تعالى، والمعنى أن الله تعالى يطلع عليهم ويسلم عليهم، ويردون عليه كما في الحديث، ﴿سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ﴾[يس:58].
طالب: يسلمون، اللهم أنت السلام؟
الشيخ: هذا الرد، ردهم، الرب يقول: السلام عليكم، فهم يردون ويقولون: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
يقال للمخلوق: وعليك السلام، الرد على السلام، أما الله تعالى ليس فوقه أحد، ما يحتاج إلى أحد يسلمه، هو سبحانه وتعالى سالم من كل عيب، ولا يحتاج إلى أحد، وليس فوقه أحد حتى يسلم عليه، وإنما يقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام.
({وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢)}.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا يَؤُولُ إِلَيْهِ حَالُ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَمْرِهِ لَهُمْ أَنْ يَمْتَازُوا، بِمَعْنَى: (٥) يَتَمَيَّزُونَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوْقِفِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} [يُونُسَ:٢٨]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الرُّومِ: ١٤]، {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الرُّومِ: ٤٣] أَيْ: يَصِيرُونَ صدْعَين فِرْقَتَيْنِ، {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصَّافَّاتِ: ٢٢، ٢٣].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}: هَذَا تَقْرِيعٌ مِنَ اللَّهِ لِلْكَفَرَةِ مِنْ بَنِي آدَمَ، الَّذِينَ أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ وَهُوَ عَدُوٌّ لَهُمْ مُبِينٌ، وَعَصَوُا الرَّحْمَنَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أَيْ: قَدْ أَمَرْتُكُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا بِعِصْيَانِ الشَّيْطَانِ، وَأَمَرْتُكُمْ بِعِبَادَتِي، وَهَذَا هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، فَسَلَكْتُمْ غَيْرَ ذَلِكَ وَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا} ، يُقَالُ: "جِبِلا" بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَتَشْدِيدِ اللَّامِ. وَيُقَالُ: "جُبُلا" بِضَمِّ الْجِيمِ وَالْبَاءِ، وَتَخْفِيفِ اللَّامِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَكِّنُ الباء. والمراد بِذَلِكَ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، والسُّدِّيّ، وَقَتَادَةُ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ.
وَقَوْلُهُ: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} ؟ أَيْ: أَفَمَا كَانَ لَكُمْ عَقْلٌ فِي مُخَالَفَةِ رَبِّكُمْ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنْ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وعُدُولُكم إِلَى اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ؟!
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَمَرَ اللَّهُ جَهَنَّمَ فَيَخْرُجُ مِنْهَا عُنق سَاطِعٌ مُظْلِمٌ، يَقُولُ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} امْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ. فَيَتَمَيَّزُ النَّاسُ وَيَجْثُونَ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥)} [الْجَاثِيَةِ: ٢٨].
{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧)}.
يُقَالُ لِلْكَفَرَةِ مِنْ بَنِي آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ برزَت الْجَحِيمُ لَهُمْ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} أَيْ: هَذِهِ الَّتِي حَذَّرَتْكُمُ الرُّسُلُ فَكَذَّبْتُمُوهُمْ، {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} [الطُّورِ: ١٣-١٥].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}: هَذَا حَالُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حِينَ يُنْكِرُونَ مَا اجْتَرَمُوهُ فِي الدُّنْيَا، وَيَحْلِفُونَ مَا فَعَلُوهُ، فَيَخْتِمُ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، وَيَسْتَنْطِقُ جَوَارِحَهُمْ بِمَا عَمِلَتْ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو شَيْبَةَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مِنْجَاب بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُبَيْدٍ المُكتب، عَنِ الفُضَيْل بْنِ عَمْرٍو، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَضْحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَالَ: «أَتُدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟» قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «مِنْ مُجَادَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ: رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى. فَيَقُولُ: لَا أُجِيزُ عَلَيَّ إِلَّا شاهدًا من نفسي فَيَقُولُ: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسيبًا، وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا. فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، ويُقال لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي. فَتَنْطِقُ بِعَمَلِهِ، ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلَامِ، فَيَقُولُ: بُعدًا لَكُنَّ وسُحقًا، فعنكنَّ كنتُ أُنَاضِلُ».
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي بكرِ بنِ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عُبيد اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَشْجَعِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ -هُوَ الثَّوْرِيِّ-بِهِ. ثُمَّ قَالَ النَّسَائِيُّ: [لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ سُفْيَانَ غَيْرَ الْأَشْجَعِيِّ، وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
كَذَا قَالَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي عَامِرٍ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَمْرٍو الْأَسَدِيِّ -وَهُوَ العَقَدِيّ-عَنْ سُفْيَانَ).
الشيخ: ما تكلم على هذا الحديث في الحاشية؟
الطالب: الحديث قال: «فعنكن كنت أناضل»، قال: سنده حسن، وأخرجه مسلم كما سيأتي.
(وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنْ بَهز بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّكُمْ تُدْعَون مُفَدَّمة أَفْوَاهُكُمْ بالفِدَام، فَأَوَّلُ مَا يُسْأَلُ عَنْ أَحَدِكُمْ فَخِذُهُ وَكَتِفُهُ». رَوَاهُ النَّسَائِيُّ] عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، بِهِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ سُهَيل، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْقِيَامَةِ الطَّوِيلِ، قَالَ فِيهِ: "«ُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ فَيَقُولُ: مَا أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَبْدُكَ، آمَنْتُ بِكَ وَبِنَبِيِّكَ وَبِكِتَابِكَ، وَصُمْتُ وَصَلَّيْتُ وَتَصَدَّقْتُ -وَيَثْنِي بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَ-قَالَ: فَيُقَالُ لَهُ: أَلَا نَبْعَثُ عَلَيْكَ شَاهِدَنَا؟ قَالَ: فَيُفَكِّرُ فِي نَفْسِهِ، مِنَ الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيْهِ، فيُختَم عَلَى فِيهِ، وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ: انْطِقِي. فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بِمَا كَانَ يَعْمَلُ، وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ، وَذَلِكَ لِيُعْذَرَ مِنْ نَفْسِهِ. وَذَلِكَ الَّذِي سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ».
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، بِهِ بِطُولِهِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا ضَمْضَم بْنُ زُرْعَة عَنْ شُرَيْح بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ عَظْمٍ مِنَ الْإِنْسَانِ يَتَكَلَّمُ يَوْمَ يُختَم عَلَى الْأَفْوَاهِ، فَخذُه مِنَ الرِّجل الْيُسْرَى»).
الطالب: قال فيه: في سنده ضمضم بن زرعة صدوق يهم، ومدار الحديث متوقف عليه، وفيه مخالفة لرواية الثقات التالية، من قول ابن موسى الأشعري، وورد فيه: أن الفخذ الأيمن هو الذي يشهد.
(وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، بِهِ مِثْلُهُ.
وَقَدْ جَوَّد إِسْنَادَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ ضَمْضَم بْنِ زُرْعَة، عَنْ شُرَيْح بْنِ عُبَيد الْحَضْرَمِيِّ، عَمَّنْ حَدَّثه عَنْ عُقْبَةَ بن عامر؛ أنه سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ عَظْمٍ مِنَ الْإِنْسَانِ يَتَكَلَّمُ يَوْمَ يُختَم عَلَى الْأَفْوَاهِ، فَخذه مِنَ الرِّجْلِ الشِّمَالِ».
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّة، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيد، عَنْ حُمَيد بْنِ هِلَالٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: قَالَ أَبُو مُوسَى هُوَ الْأَشْعَرِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: يُدعى الْمُؤْمِنُ لِلْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَعْرضُ عَلَيْهِ رَبُّه عملَه فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَيَعْتَرِفُ فَيَقُولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ، عملتُ عملتُ عَمِلْتُ. قَالَ: فَيَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ، وَيَسْتُرُهُ مِنْهَا. قَالَ: فَمَا عَلَى الْأَرْضِ خَليقة تَرَى مِنْ تِلْكَ الذُّنُوبِ شَيْئًا، وَتَبْدُو حَسَنَاتُهُ، فَوَدَّ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَرَوْنَهَا، ويُدعى الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ لِلْحِسَابِ، فَيَعرضُ رَبُّه عَلَيْهِ عَمَلَهُ، فَيَجْحَدُ وفيقول: أَيْ رَبِّ، وَعَزَّتِكَ لَقَدْ كَتَبَ عَلَيَّ هَذَا الْمَلَكُ مَا لَمْ أَعْمَلْ. فَيَقُولُ لَهُ الْمَلَكُ: أَمَا عَمِلْتَ كَذَا، فِي يَوْمِ كَذَا، فِي مَكَانِ كَذَا؟ فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ أيْ رَبِّ مَا عملتُه. فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ خُتِم عَلَى فِيهِ. قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: فَإِنِّي أَحْسَبُ أَوَّلَ مَا يَنْطِقُ مِنْهُ الْفَخِذُ الْيُمْنَى، ثُمَّ تَلَا {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}).
هذه الآيات الكريمات فيها بيان حال المجرمين، وأنهم يوم القيامة، ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾[يس:59]، تميزوا عن غيركم، ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾[يس:59]، الذين فعلوا الإجرام من الكفر والمعاصي، يتميزون عن غيرهم، ويوبخون، يقال لهم: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ(62)﴾[يس:60/62]، وجبلًا كثيرًا يعني أممًا كثيرة، ثم يقال لهم: ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾[يس:63]، ويقال لهم توبيخًا وتقريعًا زيادة في العذاب، ﴿اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾[يس:64].
ويختم الله على أفواههم، وتتكلم الأرجل والأيدي، ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[يس:65]، فتقوم عليهم الحجة، ويعذرون من أنفسهم، ويعترفون أنهم مستحقون للعذاب، كما قال تعالى: ﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[الملك:11]، نسأل الله السلامة والعافية.